شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

ضدين أن الله تعالى يريد أحدهما ، ثم كونه مريدا لأحدهما يحيل كونه مريدا لضده.

هذا هو الكلام على النجارية.

الكلام على الأشعرية :

وأما الكلام على الأشعرية حيث قالت : إنه تعالى مريد بإرادة قديمة فهو أن نقول :

لو كان القديم تعالى مريد بإرادة قديمة ، لوجب أن تكون هذه الإرادة مثلا لله تعالى ، لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها يوجب التماثل ، ألا ترى أن السود لما كان سوادا لذاته ، وجب في كل ما شاركه في كونه سوادا أن يكون مثلا له ، ولأنه كان يجب أن يكون هذا المعنى عالما قادرا حيا مثل القديم تعالى ، لأن الاشتراك في القديم يوجب الاشتراك في سائر صفات النفس ، وقد عرف فساده.

وبعد ، فإن تلك الإرادة القديمة كالإرادة المحدثة ، في أن لا تتعلق بأزيد من متعلق واحد مع طريق التفصيل ، فكان يجب أن لا يكون لله تعالى إلا مراد واحد.

يحقق ذلك أنه لا يخلو ، إما أن يكون القديم تعالى مريدا بإرادة واحدة ، أو بإرادات منحصرة ، أو بإرادات لا نهاية لها.

لا يصح أن يكون مريدا بإرادات لا نهاية لها ، لأن وجود ما لا يتناهى محال.

وإذا كان مريدا بإرادة واحدة أو بإرادات منحصرة لزم أن تكون مراداته منحصرة ، حتى لا يصح أن يريد أزيد من ذلك ، وقد عرف خلافه.

وعلى الجملة ، فكل ما ألزمناه النجارية على القول بأنه تعالى مريد لذاته من اجتماع الضدين وغير ذلك من الوجوه ، فهو لازم لهؤلاء أيضا.

لم لا يكون الله مريدا بإرادة معدومة؟

فإن قيل : قد علمتم أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا لذاته ولا لمعنى قديم ، فما دليلكم على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا بإرادة معدومة.

قلنا : الذي يدل على ذلك هو أن العدم لا اختصاص له ببعض المرادات دون البعض ، فكان يجب أن يكون القديم تعالى مريدا لسائر المرادات لمكان ذلك المعنى المعدوم ، ومعلوم خلافه ، لأن في العدم كراهة ، كما أن فيه إرادة ، فلو جاز أن يكون

٣٠١

الله تعالى مريدا بإرادة معدومة ، لجاز أن يكون كارها بكراهة معدومة ، وهذا يوجب أن يكون مريدا للشيء كارها له دفعة واحدة ، وهذا محال.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون مريدا لا لذاته ولا لمعنى؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون مريدا لسائر المرادات ، كما في كونه مدركا فإنه تعالى لما استحق هذه الصفة لا لذاته ولا لمعنى لم يختص ببعض المدركات دون البعض ، وقد بينا أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا لسائر المرادات عند الكلام على النجارية ، فثبت بهذه الجملة أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفة لذاته ولا لما هو عليه في ذاته ولا لمعنى قديم ، فلم يبق إلا أن يستحقها لمعنى محدث وهو الإرادة على ما نقوله.

ثم إن تلك الإرادة لا تخلو ، إما أن تكون حالة في ذات القديم تعالى ، أو في غيره ، أو لا في محل.

لا يجوز أن تكون حالة في ذاته تعالى وإلا كان يجب أن يكون محلا للحوادث ، وذلك يقتضي تحيزه وكونه محدثا ، وقد ثبت قدمه.

وإذا كان حالا في غيره ، فذلك الغير لا يخلو : إما أن يكون حيا أو جمادا ، لا يجوز أن يكون حالا في الحي وإلا كان بإيجاب الحكم له أولى ، ولا أن يكون حالا في الجماد ، إذ لو صح حلولها في الجماد لصح حلولها في بدن الحي أيضا ، لأنه ما من عرض من الأعراض يصح حلوله في الجماد إلا ويصح حلوله في الحي ، وإن كان فيما يوجد في الحي ما لا يصح حلوله في الجماد فكان يجب صحة أن توجد الإرادة في يد الواحد منا مثلا ، حتى يجد في بعض الحالات هذه الصفة كأنها من ناحية يده ، والمعلوم خلافه فليس إلا أن الإرادة موجودة لا في محل.

شبه المخالفين :

وللمخالف في هذا الباب شبه ، وشبههم نوعان :

أحدهما : يشترك فيه كلا الفريقين ، والآخر يتعلق به أحد الفريقين دون الآخر.

شبه يشترك فيها الفريقان :

فالأول ، نحو قولهم : لو كان الله تعالى مريدا بإرادة محدثة ، لكان لا يخلو حال تلك الإرادة من أحد وجوه :

٣٠٢

إما أن تكون حالة في ذات القديم ، وذلك لا يجوز ، لأن الحلول إنما يصح في المتحيز ، والله تعالى ليس بمتحيز.

وإما أن تكون حالة في الغير وقد أبطلتم ذلك.

وإما أن توجد لا في محل ، وذلك لا يصح لأن وجود الأعراض لا في محل محال.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنا لا نقول : إن هذه الإرادة تحل في ذات القديم أو في غيره ، بل نقول : إنها توجد لا في محل ، فلم لا يجوز ذلك؟ فإن قالوا : لأنه عرض ، ووجود العرض لا في محل محال ، واعتبر ذلك بالألوان والأكوان وغيرهما من أجناس الأعراض ، قلنا : هذا قياس بعض الأعراض على البعض من غير علة تجمعها وذلك لا يصح ، على أن الفناء من جملة الأعراض ، ثم إنه يوجد لا في محل.

وربما قالوا : إن في الأعراض ما لا يصح وجوده إلا في محل بالاتفاق ، وإنما لا يصح ذلك فيها لكونها عرضا ، فكل ما شاركه في ذلك وجب أن يشاركه في الحكم ، قلنا : إنا لا نسلم أن ما لا يصح وجوده إلا في محل من الأعراض إنما لا يصح لأنه عرض فبينوا ذلك ، فلا يجدون إلى تصحيح ذلك سبيلا.

ثم يقال لهم : ما أنكرتم أن هذه الأعراض إنما لا يصح وجودها إلا في محل ، لأنه لو وجد شيء منها لا في محل أدى إلى انقلابه عما هو عليه في ذاته ، أو إلى انقلاب غيره.

بيان هذه الجملة ، أن السواد والبياض لو وجدا لا في محل لكان لا يخلو ، إما أن يتضادا أو لا ، فإن لم يتضادا مع أن وجود أحدهما على حد وجود الآخر لم يصح لأن ذلك يقدح في تضادهما أحلا ويخرجهما عما هما عليه في أنفسهما وإذا تضادا كان يجب أن يكون تضادهما على مجرد الوجود ، فكان يجب استحالة أن يوجد لونان في العالم ، وقد عرف فساده. وهكذا الكلام في الحركة والسكون وغيرهما من الأعراض لو وجدت لا في محل.

يبين ذلك ، أنهما إذا وجدا لا في محل ، فإما أن يوجبا الحكم أو لا ، لا يجوز أن لا يوجبا الحكم لأن إيجابهما الحكم لما هما عليه في ذاتهما ، فلو وجدا على حد

٣٠٣

لا يصدر عنهما الإيجاب لكان يكون قد انقلب جنسهما ، وإذا أوجب مع أنهما وجدا لا في محل لكان لم يكونا بأن يوجبا الحكم لهذا المحل ، أولى من أن يوجبا لغيره من المحال لعدم الاختصاص ، فكان يجب أن يوجبا كون الجواهر كلها متحركة ساكنة في وجهة واحدة ، وذلك يوجب انقلابهما عما هما عليه في أنفسهما ، لأن الجوهرين لأمر يرجع إليهما لا يصح وجودهما في جهة واحدة ، فبان بهذه الجملة صحة ما ادعيناه ، من أن هذه الأعراض إذا لم توجد إلا في محل ، فإنما لا يصح ذلك فيها ، لأنها إذا وجدت لا في محل أدى إما إلى انقلابها عما هي عليه في ذاتها ، أو إلى انقلاب غيرها ، وليس كذلك الإرادة ، فإن الذي يقتضيه ما هي عليه في ذاتها هو أن توجب الحكم للحي ، وتضاد ضدها عليه ، وهي مع أنها موجودة لا في محل ، توجب الحكم لله تعالى وتضاد ضدها عليه ، ولا تنقلب عما هي عليه في ذاتها.

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : إن الله تعالى لو كان مريدا بإرادة محدثة موجودة لا في محل ، لكان لا تختص تلك الإرادة بالله تعالى ، وحالها مع الله تعالى كحالها معنا ، فإما أن توجب الحكم لنا وله جميعا أو لا توجب الحكم لأحد أصلا ، فإما أن توجب لأحدهما دون الآخر فلا.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الإرادة علة ، ومن حق العلة أن تختص بالمعلول غاية الاختصاص بطريقة الحلول إذا كان ممكنا ، وطريقة الحلول فينا ممكنة ، فمتى لم تحلنا انقطع اختصاصها بنا ، وإذا انقطع اختصاصها بنا وجب أن تختص بالله سبحانه وتعالى ، سيما إذا كان وجودها على حد وجود القديم ، وإلا خرجت عن كونها علة موجبة واختصت به دوننا وصارت بإيجاب الحكم له أولى وصار الحال فيها كالحال في جنس من الأجناس المقدورات ، إذا ثبت كونه مقدورا ، وثبت أنه غير مقدور لنا فإنه والحال هذه لا بد من أن يكون مقدورا لله تعالى ، وإلا خرج عن كونه مقدورا ، كذلك في مسألتنا.

وشبهة أخرى لهم في المسألة ، وهي أنهم قالوا : لو كان اختصاص الإرادة بالقديم من حيث إن وجودها على حد وجود القديم لوجب في الفناء أن يختص به ، لأن وجوده على حد وجود القديم تعالى فيجب أن ينفيه تعالى الله عن ذلك كما ينفي الجواهر والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لان الفناء إنما ينفي الجواهر.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأن الفناء إنما ينفي الجواهر

٣٠٤

لا لأن وجوده على حد وجود الجواهر بل لأنه ضد له ، وهذا غير ثابت في القديم إذ القديم لا يضاد الفناء فلا يجب أن ينفيه وإن كان وجوده على حد وجوده ، وصار الحال في ذلك كالحال في السواد والحلاوة إذا وجدا في محل واحد وطرأ عليهما بياض ، فكما أنه لا يجب في البياض أن ينفيهما جميعا وإن كان وجوده على حد وجودهما لما لم يكن ضدا لهما وإنما يجب أن ينفي ما يضاده وهو السواد ، كذلك هاهنا.

شبهة أخرى لهم في المسألة ، وهي أنهم قالوا : لو كان القديم تعالى مريدا بإرادة محدثة ، لكان لا بد لتلك الإرادة من محدث وفاعل ، فلا يخلو إما أن يكون فاعلها الواحد منا ، وذلك إما أن يفعله في نفسه أو في غيره ، وإذا فعله في نفسه ، فبأن توجب الحكم له أولى ، وإذا فعله في غيره لم يصح ، لأن تعدية الفعل عن محل القدرة لا يمكن إلا بالاعتماد ، والاعتماد مما لاحظ له في توليد الإرادة ، وإما أن يكون فاعلها القديم تعالى ، وذلك يوجب أن يكون مريدا لتلك الإرادة ، والكلام في تلك الإرادة كالكلام في هذه فيتسلسل.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا لا يصح ، لأن الإرادة جنس الفعل وجنس الفعل لا يحتاج إلى الإرادة ، فيصح من الله تعالى أن يريد ما يريد ، وإن لم يرد إرادته. يبين ذلك أن الإرادة لا تقع مقصودة ، وإنما تقع تبعا ، ألا ترى أن الآكل إذا أراد الأكل فإن إرادته تابعة للأكل لا أنها مقصودة ، بل المقصود هو الأكل ثم ما يدعو إليه يدعو إلى إرادته ، فكذلك الحال في غير الأكل ، فكيف يجب أن يريد الإرادة حتى يلزم عليه ما لا يتناهى.

على أن في البغداديين من أصحابنا من أحال الإرادة ، وزعم أنها كالقديم والماضي في أنها لا يصح إرادتها ، ونحن وإن صححنا إرادة الإرادة فلم نوجبه ، وليس يلزم على الجواز ما يلزم على الوجوب.

ثم يقال لهم : أليس أحدنا إذا اكتسب فلا بد من أن يريد الاكتساب بإرادة أخرى مكتسبة وإلا لزم وجود ما لا نهاية له من الإرادة المكتسبة ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، أن يقال : إن الله تعالى يريد ما يريده بإرادة محدثة ، ثم لا يريد تلك الإرادة بإرادة أخرى حتى لا ينقطع.

ومتى قالوا : انتهى ذلك في الواحد منا إلى إرادة ضرورية ، قلنا لهم : فكان يجب

٣٠٥

أن يكون الواحد منا في بعض الحالات مضطرا إلى الإرادة وغير مختار فيها ، وأن يجد ذلك الاضطرار من نفسه ، ومعلوم خلافه.

ومما يتعلقون به ، قولهم : لو كان الله تعالى مريدا بإرادة محدثة لكان قد حصل على هذه الصفة بعد إن لم يكن عليها ، فيجب أن يكون قد تغير.

وجوابنا ، ما تريدون بالتغير؟ فإن أردتم به أنه حصل على هذه الصفة بعد إن لم يكن عليها فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به أنه صار غير ما كان فليس يجب إذا حصل الذات على صفة من صفات لم يكن عليها قبل ذلك أن يتغير ، ألا ترى أنه تعالى لم يكن فاعلا فيما لم يزل ، ثم حصل فاعلا بعد أن لم يكن ، ولم يجب أن يكون قد تغير ، كذلك في مسألتنا.

فأما قولهم في المحل إذا ابيض بعد أن كان أسود : إنه قد تغير ، فذاك على اعتقادهم أنه صار غير ما كان ، والأسامي تتبع اعتقاداتهم.

فهذا هو الكلام على ما يتعلق به كلا الفريقين.

وأما ما يتعلق به أحد الفريقين دون الآخر ، فقولهم : إنه تعالى لم يكن ساهيا.

أفعال العباد

وأما أفعال العباد فعلى ضربين : أحدهما صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه ، والآخر ليس له صفة زائدة على ذلك ، وما هذا سبيله فإنه تعالى لا يريده ولا يكرهه.

وما له صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه فعلى ضربين : أحدهما قبيح والآخر حسن فما كان قبيحا فإنه لا يريده البتة بل يكرهه ويسخطه.

وما كان حسنا فهو على ضربين : أحدهما له صفة زائدة على حسنه ، والآخر ليس له صفة زائدة على حسنه.

وهذا الثاني إنما هو المباح ، والله تعالى لا يجوز أن يكون مريدا له على ما سنبينه من بعد إن شاء الله تعالى.

وأما الأول ، وهو ما يكون له صفة زائدة على حسنه فهو الواجب والمندوب إليه ، وكل ذلك مما يريده الله تعالى ، بدليل أن غاية ما يعلم به مراد الغير إنما هو الأمر ، وقد صدر من جهة الله الأمر وما يكون أكبر من الأمر ، لأنه تعالى كما أمر بذلك فقد

٣٠٦

رغب فيه ووعد عليه بالثواب العظيم ، ونهى عن خلافه وزجر عنه وتوعد عليه بالعقاب العظبم ، فيجب أن يكون تعالى مريدا له على ما نقوله.

وبعد ، فإذا كان العبد مطيعا لله تعالى بفعل الواجبات والنوافل وجب أن يكون الله تعالى مريدا لها ، لأن المطيع هو من فعل ما أراده المطاع ، بدليل قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] أي لا يفعل ما أراده ، ويدلك على ذلك أيضا قول سويد بن أبي كاهل :

رب من أنضحت غيظا صدره

قد تمنى لي موتا لم يطع

أي لم يفعل له ما أراده.

وكذلك قد روي ، أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب بعقبه الأرض بين يدي عمه العباس فنبع الماء ، فقال له عمه العباس : يا ابن أخ إن ربك ليطيعك ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وأنت يا عم ، لو أطعت الله لأطاعك.

فإن قيل : هلا كان المطيع هو من فعل ما أمر به الغير؟ قلنا : إن الأمر إذا تجرد عن الإرادة لم يتميز عن النهي أو ما في معناه من التهديد ، فكان يجب أن يكون العصاة كلهم مطيعين لله تعالى بأن يفعلوا ما شاءوا لقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠]. وكان يجب أن يكون إبليس مطيعا لله تعالى بأن يستفزّ من استطاع ، وبأن يجلب على المكلفين بخيله ورجله لقوله : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ) [الإسراء : ٦٤] الآية ، ومعلوم خلافه.

وبعد ، فإن العبد إذا فعل ما أراد السيد يكون مطيعا له وإن لم يصدر من جهته أمر ، بأن بكون السيد ساكتا بل أخرس ، والذي يوضح هذه الجملة ما قدمناه من قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] استعمل الطاعة حيث لا يتصور الأمر ، وكذلك فقول سويد يدل على ما ذكرناه.

وأما المناجاة ، فإنه تعالى لا يريدها ولا يكرهها لا في الدنيا ولا في الآخرة عند شيخنا أبي علي لأنه لا فائدة في ذلك ، وحمل قوله تعالى لأهل الجنة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) [الطور : ١٩] على الإباحة ولم يجعله أمرا.

وأما عند أبي هاشم فإنه تعالى يريدها في دار الآخرة ، قال : لأنه يتضمن هناك فائدة ما يتضمن في دار الدنيا ، وهو أن أهل الآخرة إذا عرفوا أن الله تعالى يريد تلك المباحات منهم كان ذلك أهنى لهم وأطيب لهم ، فصار سبيلهم سبيل الضيف إذا علم

٣٠٧

من حال المضيف أنه يريد معه تناول ما قدمه إليه ، فكما أن ذلك يزيد في لذته كذلك في مسألتنا ، وأجرى قوله عزوجل : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) [الطور : ١٩] على ظاهره وقال : إنه أمر على الحقيقة.

وهذه الجملة كلها عارضة في الكلام ، إذ المقصود بيان أنه تعالى لا يريد القبائح ولا يشاؤها ، بل يكرهها ويسخطها ، الذي يدل على ذلك أن غاية ما به يعرف كراهة الغير إنما هو النهي ، وقد صدر من جهة الله تعالى النهي وما هو أكبر النهي ، لأنه تعالى كما نهى عن القبيح فقد زجر عنه وتوعد عليه بالعقاب الأليم وأمر بخلافه ورغب فيه ووعد عليه بالثواب العظيم ، كل ذلك منه أدلة على أنه تعالى لا يريد هذه القبائح بل يكرهها.

آيات في هذا الباب

وقد استدل رحمه‌الله بعد هذه الجملة ، بآيات من القرآن في هذا الباب تنبيها على أن كتاب الله المحكم يوافق ما ذكرناه من القول بالتوحيد والعدل.

وما الله يريد ظلما للعباد

فمن جملتها ، قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ووجه الاستدلال به ، هو أن قوله ظلما نكرة ، والنكرة في النفي تعم ، فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى لا يريد شيئا مما وقع عليه اسم الظلم ، فصار ذلك بمنزلة قول القائل : ما رأيت رجلا ، فكما أن ظاهره يقتضي أنه لم ير أحدا ممن يقع عليه اسم الرجل ، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل : أكثر ما في هذا أنه تعالى لا يريد أن يظلم العباد ، فمن أين أنه لا يريد أن يتظالموا ، قلنا : من حيث أن الآية عامة في سائر ما يقع عليه اسم الظلم ، فيجب القضاء بأنه لا يريد شيئا منه.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)

ومما يدل على أنه تعالى مريد للطاعات من الواجبات والنوافل قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦] وهذه اللام لام الغرض والإرادة ، فكأنه قال : ما خلقتهم وأردت منهم إلا العبادة.

٣٠٨

والله لا يحب الفساد

وقوله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] يدل على أنه لا يريد الفساد ولا يحبه سواء كان من جهته أو من جهة غيره ، وسواء كان متعديا أو غيره.

وأيضا ، لو أراد هذه المعاصي والقبائح والكفر لوجب أن يكونوا مطيعين لله تعالى بمعاصيهم ، لأنهم فعلوا ما أراده الله تعالى.

متى قالوا : إن الله تعالى لم يأمرهم بهذه المعاصي فلذلك لم يكونوا مطيعين له ، قلنا : قد أجبنا عنه فلا يلزمنا الإعادة.

واعلم أن الظلم كما يقع على الضرر الذي يتعدى فقد يقع على ما لا يتعدى ، وعلى هذا حمل قوله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وقوله تعالى : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] وقال : (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [آل عمران : ١١٧] إلى غير ذلك.

وإن كان على الحقيقة اسم لضرر متعد على الشرائط المذكورة ، فالآية متناولة للقسمين المتعدي وغير المتعدي.

كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها

وأحد ما يدل عليه من جهة السمع ، قوله تعالى بعد عده الفواحش والمعاصي (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)) [الإسراء : ٣٨] بيّن أن المعاصي كلها مكروهة عنده ، ولن تكون كذلك إلا وهو كاره لها ، ولا يكون كارها لها إلا وهو غير مريد لها ، إذ لو كان مريدا لها مع الكراهة لكان حاصلا على صفتين ضدين وذلك مستحيل.

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يريد القبائح ، هو أنه تعالى لو كان مريدا للقبيح لوجب أن يكون فاعلا لإرادة القبيح ، وإرادة القبيح قبيحة ، والله تعالى لا يفعل القبيح لأنه عالم بقبحه ومستغن عنه.

فإن قيل : إن هذا ينبني على أنه تعالى مريد بإرادة يفعلها ونحن لا نسلم ذلك ، قلنا : إنا قد بينا أنه تعالى مريد بإرادة محدثة موجودة لا في محل وتكلمنا عليه ، فلا نعيده.

فإن قيل : ومن أين أن إرادة القبيح قبيحة؟ قلنا ، هذا معلوم على الجملة بالاضطرار ، لأنا لا نشك في أن الأمر بالقبيح قبيح ، فيجب في كل ما يؤثر فيه ويوجبه

٣٠٩

أن يكون بمثابته في القبح ، والذي يؤثر في كون الكلام أمرا وخبرا ليس إلا الإرادة.

فإن قيل : يلزم على هذا أن تكون القدرة على القبيح قبيحة ، لأنها تؤثر في ذلك.

قلنا : إن بينهما فرقا ، فإن القدرة مصححة ، وتأثيرها على طريق التصحيح ، خلاف الإرادة.

فإن قيل : هلا انقسمت إرادة القبيح إلى ما يكون قبيحا وإلى ما يكون حسنا كما تنقسم إرادة الحسن إلى ما يكون حسنا وإلى ما يكون قبيحا؟

قلنا : إن إرادة القبيح إنما تقبح لكونها إرادة للقبيح ، بدليل أنها متى عرف كونها على هذه الصفة عرف قبحها وإن لم يعلم أمر آخر ، ومتى لم يعرف كونها على هذه الصفة جوز أن تكون حسنة وجوز أن تكون قبيحة ، فلم يجز انقسامها إلى قبيح وحسن ، وليس كذلك إرادة الحسن ، فإنها لا تحسن لكونها إرادة للحسن ، فلم تمتنع تلك القسمة التي ذكرناها. ولهذا فإن المستحق للعقوبة ، لو أراد من الله تعالى أن يعاقبه فإن إرادته قبيحة والعقوبة حسنة.

فإن قيل : لو وجب في الإرادة المتعلقة بالقبيح أن تكون قبيحة كلها ، لوجب في الإرادة المتعلقة في الحسن أن تكون حسنة كلها ، لأنهما في طرفي نقيض.

قلنا : غير ممتنع في فعل من الأفعال إذا كان قبيحا كله أن لا يكون نقيضه حسنا كله ، فإن الكذب قبيح كله ، ثم ليس يجب في الصدق أن يكون حسنا كله ، فإنك تعلم أن من الصدق المتضمن لدلالة على نبي قد توارى عن عدوه يكون قبيحا ، وكذلك فإن تكليف ما لا يطاق قبيح كله ، ولا يجب في تكليف ما يطاق أن يكون حسنا كله.

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للعاصي ، هو أنه تعالى لو كان مريدا لها لوجب أن يكون حاصلا على صفة من صفات النقص وذلك لا يجوز على الله تعالى ، وبهذه الطريقة نفينا الجهل عن الله تعالى.

فإن قيل : ولم قلتم إذا كان مريدا للمعاصي وجب أن يكون حاصلا على صفة من صفات النقص؟

قلنا : الدليل على ذلك الشاهد فإن أحدنا متى كان كذلك ، كان حاصلا على صفة من صفات النقص ، وإنما وجب ذلك لكونه مريدا للقبيح ، فيجب مثله في الله تعالى.

فإن قيل : إنما وجب ذلك في الواحد منا لأنه مريد بإرادة محدثة يستحق بفعلها

٣١٠

الذم إذا تعلقت بالقبيح ، والقديم تعالى مريد لذاته ، فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟

قلنا : إن هذا لا يصح ، لأن الصفة إذا كانت من صفات النقص فلا يفترق الحال بين أن تكون مستحقة للنفس وبين أن تكون مستحقة للمعنى ، ألا ترى أن كونه جاهلا لما كانت من صفات النقص ، لم يفترق الحال بين أن تكون مستحقة للنفس ، وبين أن تكون صادرة عن علة في أنه في كلا الحالين يقتضي النقص.

فإن قيل : إن الله تعالى إنما يريد القبائح والمعاصي أن تكون متناقضة فاسدة ، لا أنه يريدها على الحد الذي يريدها. قلنا : وأي مانع من أن يريدها على هذا الحد أيضا وهو مريد لذاته أو بإرادة قديمة ، والإرادات غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض ، على أن الإرادة لا تتعلق بقبح القبيح وفساد الفاسد ، ولهذا لا يختلف الحال في القبح وفساده بالإرادة وعدمها.

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي ، هو أنه نهى عن ذلك ، فلو كان مريدا لها لم يجز ذلك ، ألا ترى أن العاقل في الشاهد لو فعل ذلك لسخر منه وهزئ به ، وإذا لم يجز ذلك فيما بيننا فلأن لا يجوز على الله تعالى وهو أحكم الحاكمين وأعدل العادلين أولى وأحق.

وأيضا ، فلو كان مريدا لها مع أنه نهى عنها لكان يجب أن يكون حاصلا على صفتين ضدين ، إذ النهي لا يصير نهيا إلا بالكراهة ، وذلك محال.

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي ، هو أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون مختارا لها ، لأن الاختيار والإرادة واحد.

ومتى قيل : إن الاختيار إنما يستعمل في الإرادة المتعلقة بفعل نفسه فكيف يصح هذا الكلام؟ قلنا : أليس من مذهبكم أن هذه المعاصي كلها من فعل الله تعالى ، فجوزوا ما ألزمناكم.

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي ، هو أنه لو كان مريدا لها لوجب أن يكون محبا لها وراضيا بها ، لأن المحبة والرضا والإرادة من باب واحد ، بدلالة أنه لا فرق بين أن يقول القائل أحببت أو رضيت ، وبين أن يقول أردت ، حتى لو أثبت أحدهما ونفى الآخر لعد متناقضا. فهذا جملة الكلام في ذلك.

٣١١

شبه المخالفين

والقوم يتعلقون في هذا الباب بشبه.

ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس

من جملتها ، قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩] ووجه تعلقهم به هو أنهم يقولون : إن هذه اللام لام الغرض ولها نظائر كبيرة في اللغة فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى خلق كثيرا من الجن والإنس ليعاقبهم في نار جهنم ، ولن يكون كذلك إلا ويريد منهم ما استوجبوا به لعقوبة ، وفي ذلك ما نريده.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن أول ما في هذا أنه لا يمكنكم الاستدلال بالسمع ، لأن صحة السمع تنبني على كونه تعالى عدلا حكيما ، وأنتم لا تقولون بذلك بل سددتم على أنفسكم طريقة العلم بإثبات الصانع على ما مر فكيف يمكنكم الاحتجاج به؟ ثم نقول : قولكم أن هذه اللام لام الغرض لا يصح ، لأن لام الغرض مما لا يدخل في الأسماء الجامدة وإنما تدخل على المصادر والأفعال المضارعة ، وعلى هذا لا يقال : دخلت بغداد للسماء والأرض كما يقال دخلت بغداد للعلم أو لطلب العلم ، وجهنم اسم جامد ، فكيف تدخله لام الغرض؟

ومتى قالوا : الغرض به المعاقبة بجهنم كان ذلك عدولا عن الظاهر ، وإذا عدلوا عن الظاهر فليسوا بالتأويل أولى منا فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والسمع ، فنقول : إن هذه اللام لام العاقبة ، ولها نظائر كثيرة في القرآن وفي اللغة ، قال الله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، ومعلوم أنهم لم يلتقطوه لهذا الوجه بل التقطوه ليكون لهم قرة عين على ما حكى الله تعالى عنهم ذلك بقوله : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ) [القصص : ٩] وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) [يونس : ٨٨] وعاقبتهم يضلون عن سبيلك وقوله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] أي وعاقبتهم أن يزدادوا إثما قال الشاعر :

له ملك ينادي كل يوم

لدوا للموت وابنوا للخراب

وقال آخر :

وللموت تغذوا الوالدات سخالها

كما لخراب الدهر تبنى المساكن

٣١٢

وقال آخر :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها

ويقال في المثل :

رب ساع لقاعد ، آكل غير حامد

يوضح هذه الجملة ، أن الآية وردت مورد الذم ، ولا يستحق أحدنا الذم على أنه تعالى خلقه للمعاقبة ، فليس إلا أن تحمل على ما قلنا لتوافق دلالة العقل ، ولا يناقض قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦].

وأحد ما يولعون بإيراده في هذا الباب ، قولهم : لو وقع في العالم ما لا يريده الله تعالى ، أو لم يقع ما أراده ، لدل على عجزه وضعفه ، كما في الشاهد ، فإن الملك إذا أراد من جنده ورعيته أمرا من الأمور ثم لم يقع ، أو وقع ما لم يرده دل على عجزه وضعفه ، كذلك يجب مثله في الغائب.

والأصل في الجواب عن ذلك من طريق العلم ، هو أن نقول : ما يريده الله تعالى لا يخلو ، إما أن يكون من فعل نفسه ، أو من فعل غيره ، فإن كان من فعل نفسه ثم لم يقع دل ذلك على عجزه وضعفه ، لأن من حق القادر على الشيء إذا خلص داعيه إليه أن يقع لا محالة حتى إن لم يقع دل على أنه غير قادر عليه وإن كان ما يريده من فعل غيره ، فإما أن يريده على طريق الإكراه والحمل أو على طريق الاختيار فإن أراده على طريق الإكراه ثم لم يقع دل على عجزه عن السبب الذي يوصله إلى الحمل والإكراه ، فأما إذا أراده على طريق الاختيار من دون أن يعود نفعه أو ضرره إليه ثم لم يقع لم يدل على عجزه ونقصه ، لأن المرجع بالعجز زوال القدرة ، وليس يجب إذا لم يقع أمر من الأمور من الفاعل المختار أن يدل على عجزه.

وأما الجواب على ما ذكروه في الملك فقد دخل فيما تقدم ، لأنه إما أن يريد ما يريده منهم على سبيل الإكراه أو على سبيل الاختيار ، فإن أراده على سبيل الإكراه ثم لم يقع دل على عجزه ونقصه وأنه غير قادر على السبب الذي يلجئهم إلى ذلك الفعل ، فأما إذا أراده على طريق الاختيار ، كأن يريد منهم أن يعبدوا الله تعالى ويطيعوه ليسعدوا بذلك ويفوزوا بالثواب الجزيل ثم لا يقع ، لا يدل على عجزه وضعفه إذ لا يعود إليه نفع ولا ضرر.

يزيد ما ذكرناه وضوحا ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد من أبي لهب الإيمان على طريق

٣١٣

الاختيار لكي لا يستحق من الله تعالى العقوبة ، ثم إنه لشقاوته وسوء اختياره إذا لم يختر ذلك ، لم يدل على عجز الرسول عليه‌السلام ، وكذلك فإن المسلمين إذا أرادوا من النصارى واليهود أن يتركوا المضي إلى الكنائس والبيع وأن يدخلوا في الإسلام على طريق الاختيار ، فإذا لم يتركوا ذلك لم يدل على عجز المسلمين وضعفهم ، وإنما يدل على عجزهم أن لو رجع إليهم بنفع أو ضر ، فأما إذا خلا عن هذين فلا.

ثم يقال لهم : أليس الله تعالى أمر عباده بالطاعة ثم لم يقع ، لم يدل على ضعفه وعجزه ، مع أن الملك في الشاهد لو أمر جنده بأمر من الأمور ثم لم يقع ، لكان ذلك أدخل في عجزه وضعفه من أن لو أراد منهم ذلك الأمر ثم لم يقع ، فهلا فرقتم بين الشاهد والغائب في هذا الغاب.

فإن قالوا : فرق بين الموضعين ، لأن أحدنا لا يأمر إلا مع الإرادة فلهذا يدل على عجزه وضعفه ، وليس كذلك القديم تعالى فإنه قد يأمر بما لا يريده ، فلا يجب ما ذكرتموه ، قلنا لهم : هذا لا يصح لأن الله تعالى لا يأمر بما لا يريده.

وبعد ، فلو كان كذلك لكان يجب إذا أمر الملك بأمر من الأمور من دون الإرادة ثم لا يقع بأن لا يلتفت إليه أن لا يدل على عجزه ونقصه ، والمعلوم خلافه ، على أنا قد بينا أن الأمر لا يصدر أمرا إلا بالإرادة ، وأن هذه القضية تختلف شاهدا وغائبا ، ففسد ما قالوه.

ثم إنا نقول لهم لو وجبت هذه الطريقة في الإرادة لوجبت أيضا في المحبة والرضى ، فكان يجب في الملك إذا أحب فعلا من الأفعال من الرعية ثم لا يقع دل على عجزه ونقصه ، ومعلوم خلافه ، إلا أن هذا مما يلتزمه الأشعري فلا معنى لإلزامه إياه ، وإنما يجب أن نلزمه النجارية ، فإنهم يرومون الفرق بين الإرادة والمحبة والرضى ولا يتأتى ذلك لهم ، فقد بينا فيما تقدم أن هذه الإرادة والمحبة والرضى كلها من باب واحد ، ودللنا عليه بما لا طائل في إعادته.

فإن قالوا : كيف يصح قولكم إن الإرادة والمحبة والرضى من باب واحد مع أن القائل يقول : أحب جاريتي ولا يقول أريدها ولا أرضاها ، فلو كان معنى هذه الألفاظ واحدا لكان يجب جواز استعمال بعضها مكان البعض ، كما في القعود والجلوس وغير ذلك.

قلنا لا شك في أنها متفقة في المعنى حقيقة ، ولا يمتنع في اللفظتين المتفقتين في

٣١٤

المعنى أن تستعمل إحداهما مجازا حيث لا تستعمل الأخرى ، وعلى هذا فإن الغائط والمكان المطمئن كان في الأصل واحدا ، ثم استعمل أحدهم في الكناية عن قضاء الحاجة ولم يستعمل الآخر ، كذلك في مسألتنا.

فهذه جملة ما يقال في هذه الشبه من طريق العلم.

فأما إذا سلكنا معهم طريقة الجدل ، فالأصل فيه أن نقول : ومن أين يجب إذا لم يقع ما أراده الله تعالى أن يدل على عجزه؟ فإن قالوا : لأن في الشاهد إذا لم يقع ما أراده الملك من جنده دل على عجزه ، وكذلك في الغائب ، قلنا : وبأية علة جمعتم بين الشاهد والغائب؟ فلا يجدون إلى تصحيح ذلك سبيلا.

ثم يقال لهم : ما أنكرتم أن هذه القضية إنما وجبت في الشاهد لأن الملك يتقوى بما يريده من جنده ويعود نفعه وضره إليه ، وليس كذلك القديم تعالى ، فإن المنافع والمضار مستحيلة عليه ، يوضح ذلك ، أن الملك لو أراد من جنده ما لا يتقوى به ، كأن يريد منهم أن يصلوا بالليل ويصوموا بالنهار ليستفيدوا بذلك ويستحقوا به عند الله المنزلة ثم لم يقع لم يدل على عجزه وضعفه ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟

ومما يتعلقون به ، قولهم : أجمعت الأمة على أن قولهم : ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، وهذا يدل على أن كل ما وقع في العالم من الكفر والمعاصي فبمشيئة الله تعالى وفي ذلك ما نريده.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن دعوى الإجماع فيها غير ممكن لأنا نخالف فيه ، وإنما هو من إطلاقات المجبرة ، على أن الاستدلال بالإجماع على هذه المسألة غير ممكن ، لأن كون الإجماع حجة إما أن يستند إلى الكتاب أو إلى السنة ، وكلاهما إنما يثبت حجة إذا ثبت عدل الله وحكمته ، وأنه لا يفعل القبيح ولا يختاره ولا يشاؤه ، فكيف يصح هذا الإجماع.

ثم يقال لهم : إن مراد الأمة بهذا القول لا يعلم ضرورة ، فمتى لم يعلم مرادهم بهذا القول ضرورة فلا بد من أن يصار إلى التأويل كما في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ، لأن الإجماع إن لم ينقص عن الكتاب والسنة لا يزيد عليهما وإذا اشتغلوا بالتأويل ، فليسوا به أولى منا ، فنتأوله على وجه يوافق دلالة العقل والسمع ، فنقول :

إن مرادهم بذلك ما شاء الله من فعل نفسه كان ، وما لم يشأ من فعل نفسه لم يكن ، ولا يجوز غير هذا ، لأن مراد الأمة بذلك وصف اقتدار الله تعالى وبيان

٣١٥

امتداحه ، ولا يتم ذلك إلا على الحد الذي قلناه.

يوضح ذلك ، أنه لا يمتنع ضعف المريد وقوة من أريد منه الفعل ، فكيف يدل وقوع ما وقع من العباد على اقتدار الله تعالى؟

ثم يقال لهم : أليس الأمة قد اتفقت على قولهم لا مرد لأمر الله ثم لا يقدح في ذلك إصرار الكفرة على الكفر وإقدام الفسقة على الفسق ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟

فإن قالوا : إنما لا يقدح ذلك في الإجماع ، لأن المراد بذلك لا مرد لما يريده الله تعالى من فعل نفسه لا من فعل غيره ، قلنا : فارضوا منا بمثل هذا الجواب.

ثم نعارضهم بقول الأمة : أستغفر الله من جميع ما كره الله ، فنقول : لو كان الأمر على ما ذكرتم لكان الاستغفار واقعا عما يريده الله تعالى ، وكان يجب أن يصح قولهم فيه : أستغفر الله من جميع ما أراده الله بدل قولهم من جميع ما كره الله ، وقد عرف خلافه.

وأحد ما يتعلقون به في هذا الباب ، قولهم : قد ثبت أن الله تعالى فاعل للقبائح وخالق له فيجب أن يكون مريدا لها ، لأن العالم بما يفعله لا بد من أن يريده ، كما في الشاهد ، فإن الواحد منا إذا كان فاعلا للقبيح عالما به كان مريدا له ، وكذلك القديم تعالى.

قلنا : وبأية علة جمعتم بين الشاهد والغائب؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا.

ثم نقول لهم : أليس الواحد منا يفعل الإرادة والكراهة ثم لا يجب أن يكون مريدا لهما وإن علمهما ، فهلا جاز مثله في القديم تعالى؟ على أن هذه الشبهة مبنية على أن الله تعالى فاعل للقبائح وخالق لها ، ودون تصحيح ذلك خرط القتاد.

شبهة أخرى لهم في المسألة ، قالوا : إن القديم تعالى إذا كان عالما بما في العالم من الكفر والمعصية ثم لا يمنع من ذلك مع أن له المنع منه ، دل على أنه مريد له ، والذي يدل عليه الشاهد ، فإن الملك إذا علم من جنده ورعيته أمرا من الأمور ثم لا يمنعهم من ذلك مع أن له المنع منه ، دل على أنه مريد لذلك الأمر ، كذلك في مسألتنا.

وجوابنا ، أن هذا باطل بالإمام والمسلمين إذا علموا بمضي اليهود والنصارى إلى الكنائس والبيع ، لأنهم مع علمهم بذلك إذا لم يمنعوا لم يدل على أنهم أرادوا

٣١٦

مواظبتهم على ذلك.

فإن قالوا : إنا قد احترزنا من ذلك بقولنا وله المنع ، وليس للإمام أن يمنع الذمي من المضي إلى البيعة ، فلا يلزم. قلنا : هذا احتراز لمجرد دفع الإلزام فلا يقبل ، لو لا هذا وإلا كان لا يعجز أحد من المبطلين عن دفع ما ألزم ، ففسد ما ظنوه بهذا الجنس من الاحترازات.

وبعد ، فإنا نعرض الكلام في الحربي فيسقط هذا الاعتراض.

ثم يقال لهم : إنا لا نسلم أن للقديم تعالى أن يمنع الكفار عن الكفر مع أنه يريد تبقية التكليف عليهم ، لأن في ذلك رفع التكليف أصلا وإبطال استحقاق المدح والذم ، فكيف يصح ما قالوه.

ومما يحتجون به في هذا الباب ، قولهم إن الله تعالى لو كان مريدا للطاعات ، لوجب إذا حلف الواحد منا ليأتين بعض الطاعات ، وعلقه بمشيئة الله تعالى كأن يقول : والله لأصومن غدا إن شاء الله تعالى ، أن يحنث إن لم يأت بتلك الطاعة ، وقد أجمعت الأمة على خلافه ، فدل على أنه تعالى إنما يريد الواقعات كفرا كان أو إيمانا لا الطاعات على ما تقولونه.

والأصل في الجواب عن ذلك على ما ذكره شيخنا أبو علي ، هو أن هذا الكلام لا يراد به حقيقة الشرط ، وإنما يورد لقطع الكلام عن النفاذ ، وليعلم أنه شاك متردد في ذلك غير قاطع عليه كما يقتضيه العرف ، وإذا كان كذلك لم يجب أن يحنث ، وهذه الطريقة سلكها شيخنا أبو هاشم.

فأما شيخنا أبو عبد الله البصري ، فقد أجاب بجواب آخر ، فقال : إن هذا الكلام وإن كان يراد به حقيقة الشرط ، فإن غرض القائل بذلك : أفعل إن وفق الله تعالى لذلك وسهل إليه سبيلي ، وإذا لم يحصل ذلك دل على أنه لم يوفق إليه ، لأنه لم يكن له في المعلوم لطف يختار عنده الملطوف فيه لا محالة ، ولهذا لا يحنث.

إلا أن ما ذكره شيخنا أبو علي أسلم وأصح.

وأبو علي لما ذكر في الجواب ما حكيناه ، قيل له : فلو أراد به حقيقة الشرط كيف يكون الحال؟ قال : إنه كان يحنث ، فقيل له : خرقت الإجماع ، فقال : لا ، لأن الإجماع لم ينته إلى ما انتهينا إليه ، فلو انتهوا إلى هذا الموضع لما أجابوا إلا بمثل ما

٣١٧

أجبت.

وبعد ، فإن دعوى الإجماع في ذلك غير ممكن ، لأن عامة الزيدية على خلافه ، حتى أنهم نصوا في كتبهم على أن رجلا لو قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله ، فإنه ينظر ، فإن كان ممسكا لها بالمعروف لم يقع الطلاق ، لأن الإمساك على هذا الوجه مباح ، والله تعالى لا يريد المباح ، وإن لم يكن ممسكا بالمعروف وقع الطلاق ، وهكذا قالوا في العتق ، فقد نصوا على أن السيد إذا قال لعبده أنت حر إن شاء الله ، ينظر فإن كان العبد خيرا عفيفا صالحا بحيث يتقرب إلى الله تعالى بإعتاقه وتخليته لعبادة ربه عتق ، وإن لم يكن كذلك لم يعتق ففسد قولهم من سائر الوجوه.

وأحد ما يوردونه في هذا الباب ، قولهم : قد ثبت الله تعالى أمرنا بمجاهدة الكفار ، ولن يكون ذلك كذلك إلا وهو مريد لما لا تتم المجاهدة إلا به ، وهو الكفر.

والأصل في الجواب عن ذلك ، قلتم : إنه تعالى إذا أمرنا بمجاهدة الكفار لا بد أن يكون مريدا للكفر الذي لا تتم المجاهدة إلا به ، أليس أن الرسول عليه‌السلام إذا أمر الزناة بالاغتسال من الجنابة والتوبة من الزنا لا يجب أن يكون مريدا منهم الزنا ولا يجب أن يكون مريدا لما لا يتم الاغتسال والتوبة إلا به وهو الزنا ، كذلك في مسألتنا ، وأيضا فإن الحال فيه كالحال فيما لو أراد إقامة الحد على الزاني والسارق وشارب الخمر ، فلا يجب أن يكون مريدا للزنا والشرفة وشرب الخمر الذي لا تجب إقامة هذه الحدود إلا عندها ، كذلك في مسألتنا ، فصح لك فساد ما يعتمدونه في هذا الباب.

ومما يتعلقون به في هذا الباب ، قولهم : لو لم يكن القديم تعالى مريدا للمعاصي وكان كارها لها ، لكان يصح أن يقال : إن هذه المعاصي وقعت شاءها القديم أم أباها رضيها أم سخطها ، ومن ارتكب هذا فليس يلتبس كفره على أحد.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الإباء يذكر ويراد به كراهة الشيء مع المنع منه ، كما يقال فلان أبي الظلم ، أي يمنعه ، فقد يذكر ويراد الكراهة فقط ، إذا ثبت هذا ، فقولهم : إن هذه المعاصي وقعت شاءها الله أم أباها لا يخلو ، إن أردتم به أن هذه المعاصي وقعت مع كراهة القديم تعالى فهذا ليس بمستبعد وليس بكفر ، وإن أردتم به أنها وقعت وهو غير قادر على المنع من ذلك فإن ذلك ليس يجب ، فإنه تعالى قادر على أن يمنع منها ، وإنما لم يفعل ذلك لكي لا يرتفع التكليف ولكي لا يبطل استحقاق الثواب والعقاب ، ففسد كلامهم ، وبطلت شبهاتهم.

٣١٨

شبهة أخرى لهم في المسألة ، وهو أنهم قالوا : أو ليس أن إبليس يريد موت الأنبياء ويقبح منه والقديم تعالى يريده ولا يقبح ذلك منه ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، أن يريد القديم تعالى هذه المعاصي ولا يكون حاله في النقص كحالنا إذا أردناها.

والأصل في الجواب عن ذلك أن بين الموضعين فرقا ، لأنه تعالى إنما يريد إماتتهم لينقلهم من دار الفناء إلى دار البقاء ، ومن دار الإهانة إلى دار الكرامة ولما علم في ذلك من الصلاح واللطف ، وليس كذلك إبليس ، فإنه لا يريد هذا الذي يريده على الحد الذي ذكرناه ، ففسد ما ظننتموه ، وإنما يريد على وجه يقتضي ضعف الإسلام والمسلمين.

فإن قيل : إنه تعالى إذا أخبر أن فلانا يقتل ظلما فلا بد من أن يريد قتله ظلما ، وإلا كان مريدا لأن يكون كاذبا تعالى عن ذلك وفي ذلك ما نريده. قيل له : ليس يجب في أن أخبر عن أمر من الأمور أن يكون مريدا وقوع ما أخبر به لا محالة ، فمعلوم أن أحدنا قد يخبر عن أن بعض أعزته يموت أو يموت هو ، وإن كان كارها لذلك أشد الكراهة ، وقولهم إنه لو لم يرد وقوع ما أخبر عن وقوعه كان قد أراد كونه كاذبا مما لا أصل له ، بل إنما يكون قد أراد كونه كاذبا في ذلك أن لو أراد الإخبار عن وقوع ما يعلمه أنه لا يقع ، فحينئذ يكون قد أراد تكذيب نفسه ، لأن الكذب خبر مخبره لا على ما هو به ، فأما إذا أخبر عن وقوع ما يعلمه أنه يقع غير أنه غير مريد وقوعه ، فإنه لا يكون مريدا لأن يكون كاذبا ، ولهذا يصح أن يكره كونه كاذبا مع إرادته للأخبار عما يعلم وقوعه ، ولو كان الأمر على ما ظننتم لكان في هذه الحالة حاصلا على صفتين ضدين.

يزيد ذلك وضوحا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبر أن حسينا يقتل ولم يرد أن يقتل حسين ، وكره أشد الكراهة حتى روي أنه بكى ولم يرد كونه كاذبا ، فكيف يصح قولكم أنه إن لم يرد قتله أراد كونه كاذبا.

الاستدلال على قولهم بالقرآن

وقد تعلقوا بآيات من كتاب الله تعالى فيها ذكر المشيئة ، نحو قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ) [البقرة : ٢٥٣] وقوله : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأنعام : ١١١] وقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠] وأشباه ذلك.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنا نمنعهم من الاستدلال بالسمع أصلا ، فنقول :

٣١٩

إن إثبات محدث في الغائب ينبني على إثبات محدث في الشاهد ، وأنتم لا تثبتون في الشاهد محدثا ، فكيف أثبتم في الغائب محدثا حتى استدللتم بكلامه واحتججتم به؟

وأيضا فإن صحة السمع تنبني على كون القديم تعالى عدلا حكيما لا يكذب لا يظلم ، وأنتم قد جوزتم على الله ما هو أظهر وأعظم ، فكيف يمكنكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، ولأنا لم نعرف هذه المسألة ، لا يمكننا أن نعرف صحة السمع ، وكل مسألة هذا سبيلها فالاستدلال عليها بالسمع متعذر.

ووجه آخر في منعهم عن الاستدلال بهذه الآيات ، أنها لا توافق مذهبهم في هذا الباب. لأن في الآية الأولى أن في الواقعات ما لا يريده الله تعالى ، ألا ترى إلى قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ) [البقرة : ٢٥٣] وهذا ينبئ عما ذكرناه ، وذلك يقدح فيما أصلوه من أنه تعالى مريد لذاته.

وكذلك ففي الآية الثانية لفظ : أن ، وأن إذا دخلت على الفعل المضارع أفدت الاستقبال ، وذلك يوجب أن لا يكون كان القديم تعالى مريدا فيما لم يزل ، فلا بد من تأويل ، فنتأولها على وجه يوافق دلالة العقل ، ونقول : إن المراد بالمشيئة المذكورة في هذه الآيات مشيئة الإلجاء والإكراه ، ولها نظائر في كتاب الله عزوجل ، قوله تعالى : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤)) [الشعراء : ٤] وقال أيضا : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)) [يونس : ٩٩] مبينا على أنه لو شاء أن يكرههم على الإيمان ويحملهم على ذلك أمكنه غير أنه أمهلهم ووكلهم إلى اختيارهم ، حتى إن أحسنوا الاختيار بأنفسهم استحقوا من الله الكرامة ، وإن أساءوا الاختيار استحقوا الإهانة ، فيبقى التكليف ولا يبطل الاستحقاق أصلا ورأسا.

الاستدلال بالقرآن على عكس قولهم

ثم بعد هذه الجملة نعارضهم بما في كتاب الله تعالى مما يدل على فساد مذهبهم في هذا الباب ، وهو قوله : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ) [الأنعام : ١٤٨] وحسبك هي دلالة في هذا الباب. قال تعالى حاكيا عنهم : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الأنعام : ١٤٨] الآية. حكى الله تعالى صريح مذهب هؤلاء القوم عن المشركين ، ثم كذبهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ، وقال بعده (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) والبأس هو

٣٢٠