شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

أن هذه الإرادات كلها مختلفة لتغاير متعلقاتها.

وأما في المتضادات ؛ فإن القدرة متعلقة بها ، ولكن لا يصح من القادر الجمع بين الضدين في محل واحد ، وإنما يوجد أحدهما بدلا من الآخر. ولا يمكن المنع من تعلق القدرة بهما وإلا كان يجب صحة أن يتحرك أحدنا عنه وإن كان لا يمكنه التحرك يسرة ، حتى يتأتى منه أن يقطع من هذه الجهة مسافة ولا يمكنه أن يتحرك في تلك الجهة أصلا ، ومعلوم خلافه.

ومتى قيل إن القدرة على الحركة في هذه الجهة غير القدرة على الحركة في الجهة الأخرى. قلنا : فيجب أن لا يصح منه إيجاد إحدى الحركتين بدلا من الأخرى. ألا ترى أن الفعلين إذا احتاج كل واحد منهما إلى الآلة ، فإنه لا يمكنه أن يفعل بإحدى الآلتين كل واحد من الفعلين على طريقة البدل؟ كذلك في مثلنا.

وبعد ، فلو لم تعلق القدرة بالضدين لوجب في الواحد منا إذا قدر على الضدين أن يكون حاصلا على صفتين ضدين ، ولو ارتكبوا ذلك في الواحد منا قيل لهم : فكان يجب في القديم تعالى وهو قادر على الضدين أن يكون حاصلا على صفتين ضدين ، ومتى قالوا : إنما وجب ذلك في الشاهد لأن إحدى القدرتين تضاد القدرة الثانية وليس كذلك في القديم تعالى لأنه قادر لذته ، قيل لهم : إن الصفتين إذا تضادتا لم يفترق الحال بين أن تكونا مستحقتين للنفس وبين أن تكونا مستحقتين لمعنى ، ألا ترى أن كونه عالما وجاهلا لما تضادتا لم يفترق الحال بين أن يكون مستحقا للنفس وبين أن يكون كذلك لمعنى ، حتى لم يجز في القديم تعالى أن يكون عالما بالشيء جاهلا به دفعة واحدة كما في الواحد منا كذلك هاهنا ، وهذا لأن تضاد الصفتين لأمر يرجع إليهما لا إلى ما يوجبهما ، كذلك هاهنا.

فصل : واتصل بهذه الجملة الكلام في البدل عن الموجود

ووجه اتصال هذا بما قبله ، أنا لما ألزمنا المجبرة على القول بالقدرة الموجبة أن يكون تكليف الكافر كتكليف العاجز ، قالوا : إن الكافر يصح منه الإيمان بشرط أن لا يكون كان فيه الكفر وكان بدله الإيمان بخلاف العاجز فجوزوا البدل عن الموجود وذلك لا يجوز عندنا ؛ إذ لو جاز تجويز البدل عن الموجود لجاز مثله في صفات الأجناس ، وكان يجوز في الجوهر أن يكون سوادا بشرط أن لا يكون كان جوهرا وكان بدله سوادا ، بل في صفات القديم تعالى ، فيقال : إنه جلّ وعزّ يجوز أن يكون عاجزا

٢٨١

بشرط ألا يكون كان قادرا وكان بدله عاجزا ، ويجوز أن يكون جاهلا بشرط أن لا يكون كان عالما وكان بدله على صفة أخرى مضادة له ؛ ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد فقد ارتكب عظيما.

وأيضا ، فلو جاز البدل عن الموجود جاز البدل عن الماضي ، فيقال : أكلت الآن بدل الأكل الواقع بالأمس ، والمعلوم خلافه. ويبين هذه الجملة ، أن البدل كالشرط في أن لا يدخل إلا في المستقبل المنتظر ، فأما في الواقع الموجود فلا يصح ، فكيف ما قالوه؟.

إذا جاز أن يكلف الله الكافر بالإيمان مع علمه أنه لا يؤمن ولا يقبح ذلك من جهة الله فهلا جاز أن يكلفه مع العلم بأنه لا يقدر عليه ولا يقبح منه :

ثم إنه رحمه‌الله سأل نفسه فقال : إذا جاز أن يكلف الله الكافر بالإيمان مع علمه أنه لا يؤمن ، ولا يقبح منه ، فهلا جاز أن يكلفه مع العلم بأنه لا يقدر عليه ، ولا يقبح منه.

والمجبرة يتعلقون بهذه الشبهة على هذا الوجه ؛ وربما يوردونه على وجه آخر ، فيقولون : إن القدرة على خلاف المعلوم محال ، وأتم فقد جوزتم التكليف به ، فكيف منعتم من أن يكلف الله تعالى الكافر وإن لم يقدر عليه؟.

والأصل في الجواب عن الأول ، هو أن نقول : إن بين الموضعين فرقا ، لأن تكليف الكافر مع العلم بأنه لا يؤمن إنما يحسن ، لأن الله تعالى أقدره على الإيمان ، وأزاح علته ، وقوى دواعيه ، ومكنه من ذلك ، وفعل به كل ما يحتاج إليه في التكليف ، ثم إنه اختار الكفر لسوء اختياره لنفسه. وليس كذلك من المعلوم من حاله أنه لا يقدر على الإيمان ، لأن تكليفه بالإيمان تكليف بما لا يطيقه لا يقدر عليه لا يمكنه الانفكاك من ضده الذي هو الكفر ، ففارق أحدهما الآخر.

وأما الجواب عن الثاني ، فهو أن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، فالكافر إذا قدر على الكفر وجب أن يكون قادرا على الإيمان ، ومعلوم أنه تعالى لم يعلم من حاله الضدين جميعا ، وإنما علم أحدهما دون الآخر ، ففسد إذا قولهم إن القدرة على خلاف المعلوم مما لا يثبت.

وبعد ، فلو كان كذلك ، لوجب أن يكون القديم تعالى غير قادر على أن يقيم

٢٨٢

القيامة الآن لعلمه أنه لا يقيمها ، ومعلوم خلافه.

وعند هذا الإلزام افترقوا فمنهم من ارتكب ذلك وقال : إنه تعالى لا يقدر ومنهم من لم يرتكب ، فزعم أنه قادر على ذلك.

فمن لم يرتكب ذلك ، لم يمكنه القول بأن القدرة على خلاف المعلوم محال ، لأنه لا فرق في هذه القضية بيننا وبين الله تعالى.

ومن ارتكب ذلك ، يلزمه القول أن يكون الله تعالى غير قادر على خلق البياض في الزنجي بدلا من السواد ، والسواد في الرومي بدلا من البياض ، وذلك يوجب أن لا يكون القديم تعالى مخيرا في أفعاله ، وقد علمنا خلاف ذلك.

قالوا : القدرة على خلاف المعلوم قدرة على تجهيل الله تعالى. قلنا : إن الجهل هو ما به يصير الذات جاهلا ، والذات إنما يصير جاهلا بالجهل ، والإيمان ليس من الجهل في شيء ، فكيف يصح قولهم : إن الكافر لو كان قادرا على الإيمان لوجب أن يكون قادرا على تجهيل الله تعالى.

ثم يقال لهم : يلزمكم على هذا القول إذا أقدر الله الكافر على الإيمان أن يكون قد أقدره على تجهيل نفسه ، وإذا أمره بالإيمان ورغبه فيه ووعده بالثواب الجزيل عليه أن يكون قد أمره بتجهيل نفسه ورغبه فيه ، وذلك كفر من مرتكبه.

ويلزمهم أيضا ، أن يكون قد بعث الله الرسل إلى الكفرة ليجهلوه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

قالوا : لو قدر الكافر على خلاف ما علمه الله تعالى من حاله لصح وقوعه منه لأن هذا هو الواجب في القادر على الشيء ، ولو صح وقوعه منه لوجب وقوعه في بعض الحالات ، وذلك يوجب كون القديم تعالى جاهلا.

قيل له : لم وجب إذا صح منه خلاف المعلوم أن يقع في بعض الحالات ، أليس أحدنا مع قدرته على السفر لا يسافر البتة ، بل يقي طول عمره؟.

فإن قال : لو قدرنا أن يقع منه خلاف ما علمه الله تعالى ولا يمكنكم المنع من هذا التقدير للزم أن يصير جاهلا وأن يكون قد تغير حاله في كونه عالما ، لأنه كان يعلم أن هذا الفعل لا يوجد ، والآن فلا بد من أن يعلم وجوده ، وهذان الاعتقادان متضادان.

٢٨٣

وجوابنا ، أن هذا التقدير محال ، فلا جرم أن الجواب عنه أيضا محال. فنقول : خطأ قول من يقول : إنه يدل على كونه جاهلا ، وخطأ قول من يقول : لا يدل على ذلك ، وهذا أولى مما يقوله مشايخنا البغداديون : أنه تعالى يعلم وجود الإيمان منه ، لأن هذا والحال هذه تجويز البدل على صفات الله تعالى ، وذلك شر مما تجوزه النجارية ، فالأولى ما قلناه.

وصار الحال في ذلك ، كالحال فيما إذا دلت الدلالة على أنه تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح ، ودلت الدلالة أيضا على أن الظلم يدل على جهل فاعله ، ثم يقدر فيقال : لو وقع من جهة الله تعالى الظلم ، هل يدل على جهله وحاجته أم لا يدل؟ فكما أنا نحيل السؤال ولا نجيبه بلا ولا بنعم ، بل نقول خطأ قول من يقول : إنه يدل على جهله وحاجته ، وخطأ قول من يقول : لا يدل ، كذلك في مثلنا.

ويمكن أن يكون لذلك مثال في الشاهد فيقال : لو أخبرنا صادق بأن هذا البيت لا يدخله قرشي فإنا نعلم ذلك ، فلو قال قائل : لو قدرنا أن يدخله قرشي ، أفتعلمون أنه لا يدخله قرشي أم لا تعلمون ذلك؟ قلنا : إن هذا التقدير محال فنحيل السؤال عنه ، ولا نجيب بلا ولا بنعم ، بل نقول : خطأ من يقول : نعلم أنه لا يدخله ، وخطأ قول من يقول : لا نعلم أنه لا يدخله ، كذلك في مسألتنا.

شبه المخالفين :

وللمخالف في هذا الباب شبه :

من جملتها ، هو أنهم قالوا : إن الفعل كما يحتاج عند الصحة إلى أمر ، يجب أن يحتاج عند الوقوع إلى أمر. كما أن كون الجوهر متحركا لما احتاج إلى أمر عند الصحة وهو الحيز ، وجب احتياجه عند الوجوب إلى أمر وهو الحركة.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما ، فلا يصح.

ثم يقال لهم : لو وجب ما ذكرتموه في الواحد منا ، لوجب مثله في القديم تعالى ، والمعلوم أنه تعالى لا يحتاج في إيقاع الفعل إلى أمر زائد على ما يحتاج إليه في صحة الفعل. فإن قالوا : إنه يحتاج إلى أمر زائد وهو الإرادة ، قلنا : لو كان كذلك لوجب قدم العالم ، لأنه تعالى مريد لذاته عندكم أو بإرادة قديمة ، فيلزم قدم العالم.

٢٨٤

فإن قالوا : إنه تعالى يريد فيما لم يزل أن لا يخلق العالم ، قلنا : أن لا يخلق نفي ، والإرادة لا تتعلق بالنفي على ما سيجيء في موضعه إن شاء الله تعالى. وبعد لو صح تعلق الإرادة بالنفي لصح تعلقها بالإثبات ، فكان يصح أن يريد خلق العالم فيما لم يزل ، وإذا صح ، وجب قدم العالم.

ثم يقال لهم : لا جاز فيما أثر في الصحة أن يكون هو الذي أثر في الوقوع وهو كونه قادرا ، فلا يحتاج إلى أمر زائد. وكيف يجوز خلافه وذلك يقدح في كون الواحد منا متحيزا في أفعاله ، ويوجب بطلان المدح والذم ، وذلك محال.

وأحد ما يتعلقون به في هذا الباب ، هو أنهم قالوا : إنا نجد تفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، ولا يمكن أن نرجع بهذه التفرقة إلا إلى أن أحدهما قد فارقته القدرة ، بخلاف الأخرى.

وجوابنا : أن هذه الطريقة لا تستقيم على أصولكم على ما سبق القول فيه. ثم يقال لهم : ما أنكرتم أن هذه التفرقة راجعة إلى أن أحدهما قد تقدمتها القدرة بخلاف الأخرى. ولا يجوز غير هذا ، لأن في خلافه إخراج الواحد منا عن التحيز في الأفعال ، وإبطال استحقاق المدح والذم على ما بيناه من قبل.

وبهذا نجيب إذا قالوا : إنا نجد تفرقة بين الفعل الذي يستحق عليه المدح والذم ، وبين الفعل الذي لا يستحق عليه ذلك ولا يمكن أن نرجع بهذه التفرقة إلا إلى أن أحدهما قد فارقته القدرة ، والآخر لم تفارقه القدرة ؛ فإنا نقول لهم : إن هذه التفرقة مع أنها لا تثبت على قولكم إن سائر الأفعال متعلقة بالقديم تعالى على سائر وجوهها وحقائقها ، يمكن أن نرجع بها إلى أن أحدهما متعلق بالواحد منا لتقدم قدرته عليه دون الآخر ، ففسد ما ذكرتموه.

ومما يتعلقون به ، قولهم : إن عند عدم القدرة يستحيل وقوع الفعل فيجب عند وجودها أن يكون واجبا ، لأن الاستحالة والوجوب في طرفي نقيض.

والأصل في الجواب ، أن نقيض الاستحالة إنما هو الصحة لا الوجوب. ألا ترى أن عند عدم المحل يستحيل حلول السواد فيه ، ثم إن عند وجود المحل لا يجب ، وكذلك فإن عند عدم الذات يستحيل فيها التعلق ، وعند وجوده لا يجب ، فإن في الذات ما لا يتعلق. وكذلك فلو قدرنا أن يكون القديم تعالى غير قادر يستحيل عليه الفعل ، ثم إذا كان قادرا لا يجب منه الفعل ، وكذلك في مسألتنا.

٢٨٥

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : لو جاز الفعل بقدرة متقدمة لجاز بالقدرة المعدومة ، بل كان يجوز في حالة العجز ، ومعلوم خلافه.

والأصل في الجواب عن ذلك ، ما تريدون بقولكم : إنه لو جاز الفعل بقدرة متقدمة لجاز بالقدرة المعدومة؟ فإن أردتم به أن الفعل يصح بقدرة لم تكن موجودة قط ، فإن ذلك لا يجب ، وإن أردتم به أنه يصح بقدرة كانت موجودة ثم عدمت ، فإن ذلك مما نرتكبه ونلتزمه فلا مانع لهذا الإلزام ، وهذا ظاهر في أفعالنا ، المباشر منها والمتولد.

أما في المباشر ، فلأن الفعل إنما يحتاج إلى القدرة لخروجه من العدم إلى الوجود ، فلو لم تتقدمه ، بل توجد في حالة وقوع الفعل ، فإنه لا يحتاج إليها بل يستغنى عنها.

وأما في المتولدات فأظهر ، ألا ترى أن الرامي ربما يرمي ويخرج عن كونه قادرا قبل الإصابة ، بل عن كونه حيا.

وأما قولهم : بل كان يصح في حالة العجز ، فإن أرادوا به أنه كان يصح في العجز ولما تقدمته القدرة فإن ذلك مما لا يجب ، وإن أرادوا به وقد تقدمته قدرة فإنا نجوزه ، ألا ترى أن الرامي قد يرمي ويعجز قبل مصادفة السهم رميته ، فبطل كلامهم.

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : لو جاز أن تكون القدرة متقدمة لمقدورها في وقت واحد لجاز أن تكون متقدمة في أوقات كثيرة ، وهذا يقتضي أن ينفك لواحد منا من الأخذ والترك ويوجب أن يكلف ويخترم ، وإن لم يستحق مدحا ولا ذما ولا ثوبا ولا عقابا بأن لا يفعل بما فيه من القدرة شيئا ، وذلك يوجب أن يعيده الله تعالى في عرصات يوم القيامة ولا شيء له ولا عليه ، وهذا خرق الإجماع وترك الكتاب ، فقد قال تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧].

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن لنا في هذا الباب مذهبين :

أحدهما : مذهب أبي علي ، وهو أنه لا يجوز خلو القادر بالقدرة من الأخذ والترك إلا عند مانع ، ومذهبه مفارق لمذهب هؤلاء المجبرة ، فإنهم لا يجوزون ذلك البتة من حيث اعتقدوا أنها موجبة.

والثاني : مذهب أبي هاشم ، وهو أنه يجوز خلو القادر بالقدرة من الأخذ

٢٨٦

والترك ، وهو الصحيح الذي اخترناه.

فعلى المذهب الأول لا يلزم ما ذكروه ، وعلى هذا المذهب لا يلزم أيضا.

إلا أنه عند شيخنا أبي هاشم : أن لا يفعل ، جهة في استحقاق الثواب والعقاب كما أن الفعل جهة لذلك ، ألا ترى أن أحدنا لو لم يرد الوديعة مع التمكن من ذلك فإنا نعلم استحقاقه للذم وإن لم نعلم شيئا آخر ، ولو لم يطالب الغريم بالدين فإنا نعلم استحقاقه للمدح وإن لم يفعل شيئا آخر. يبين ذلك ويوضحه ، أنا متى نعلم ذلك من حاله جوزنا أن يستحق الذم وأن لا يستحق ، فوجب أن يكون استحقاقه للذم ، وإن لم نعلم شيئا آخر ، ومتى لم نعلم ذلك من حاله جوزنا أن يستحق الذم ، وأن لا يستحق ، فوجب أن يكون استحقاقه للذم مصروفا إلى أنه لم يفعل ما وجب عليه على ما نقوله ، وهكذا الكلام في استحقاق المديح ، فبطل ما أوردوه وسقط تعلقهم.

شبهة أخرى لهم في المسألة : وهي أنهم قالوا : الفعل كما يحتاج إلى القدرة فقد يحتاج إلى الآلة ، ثم إن الآلات يجب فيها المقارنة ، فكذلك القدرة.

وقد مر ما هو جواب هذا ، فإنا قد بينا أن الآلات تنقسم : إلى ما يجب تقدمها ، وهو كل ما يكون وصلة إلى الفعل نحو القوس وغيرها ، وإلى ما يجب مقارنتها ، وهو كل ما يتمخض محلا ، نحو صلابة الأرض وما شاكل ذلك ، وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين ، وذلك كل ما يكون وصلة إلى الفعل ، ويكون مع ذلك محلا ، نحو اللسان في الكلام والسكين في الذبح.

وبينا أن القدرة إن ردت إلى شيء فإنما يجب ردها إلى ما هو كالوصلة إلى الفعل ، فإنها إنما يحتاج إليها لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود ، فسقط كلامهم.

وأحد ما يقولونه ، إن القول بتقدم القدرة لمقدورها يوجب انقطاع الرغبات عند الله تعالى ، وذلك بخلاف ما عليه المسلمون ، لأن رغبات المسلمين لا تنقطع ، بل تكون ممتدة نحو الباري.

وجوابنا : إنما كان يلزم ما ذكرتموه إن لو لم يجز انتفاء القدرة بعد وجودها ، فأما ومن المجوز انتفاؤها بأدنى تعب ، لفقد ما تحتاج في الوجود إليه فلا.

وبعد ، فإذا لم يلزم على القول بتقدم اليد والرجل على البطش والمشي ، انقطاع رغبة من له هاتان الآلتان عن الله تعالى ، فكذلك في القدرة.

٢٨٧

والعجب من هؤلاء أنهم يوردون علينا مثل هذا الكلام ، ومن مذهبهم أن الطريق منسدة إلى تخليص المكلف نفسه من عقاب الأبد والفوز بالنعيم السرمدي ، لأنه إذا عصب الكفر بناصيته في الأزل وجرى العلم بذلك ، كيف يمكنه إخراج نفسه عنه ، وكيف ينفك عنه؟ فأي رغبة تثبت إلى الله تعالى والحال هذه ، ولو لا فرط جهلهم وقلة عقولهم ، وإلا فما وجه الميل إلى التشيع لمثل هذا الكلام.

وأحد ما يتعلقون به ، هو أن من حق الدلالة أن تكون مقارنة للمدلول ، ألا ترى أن صحة الفعل لما كانت دلالة على كونه قادرا وجب فيها المقارنة ، وكذلك القدرة يجب أن تقارن مقدورها.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذه الشبهة مع ركتها مبنية على أصل لا يصح ، وهو أن من حق الدلالة أن تكون مقارنة للمدلول عليه ، وليس كذلك ، فإن المعجز دلالة على النبوة ، ثم لا بد من أن يتقدمه المدلول ، إذ لو لم يتقدمه لكان في ذلك ظهور المعجز على من ليس بصادق في دعواه. إن المعجز لا بد من أن يكون عقب دعوى المدعي للنبوة ، لا بد من أن يكون نبيا حتى يدعيه ، وإلا كان كاذبا في الدعوى.

وأما قولهم في الفعل ، فلا يصح ، لأن الفعل إنما يدل على أن فاعل كان قادرا ، فقد تقدم المدلول وتبعته الدلالة ، فكيف أوجبوا في ذلك المقارنة؟ ثم يقال لهم : ومن أين وجب إذا كانت هذه الطريقة واجبة في الدلالة أن تكون واجبة في القدرة أيضا؟ وله هذا إلا فرط الجهل الذي لا دواء له.

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : إن القدرة لو كانت صالحة للضدين لكان لا يكون أحدهما بالوقوع أولى من صاحبه إلا بأمر ومخصص ، كما في الجوهر ، فإنه لما صح أن يكون كائنا في هذه الجهة ، وصح أن يكون كائنا في غيرها ، ثم لم يختص ببعض الجهات دون بعض إلا بأمر ومخصص وهو الكون ، فكان يجب مثله في مسألتنا.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا إنما كان يلزم إن لو كان تأثير القدرة على سبيل الإيجاد ، فأما وتأثيرها فيما تؤثر فيه على طريق الصحة والاختيار ، فلا يمتنع أن يختار أحد الضدين دون الآخر ، وإن لم يكن هناك أمر زائد على كونه قادرا ألا ترى أنه إذا قرب إليه طبق وعليه جملة من الرطب فإنه يتناول من ذلك بعضها دون البعض ، مع أن الذي له ولأجله تناول هذا ثابت في الباقي ، ثم لا يطلب لذلك أمر

٢٨٨

زائد على كونه قادرا ، كذلك في مسألتنا ، وهكذا فلو خير بين دينارين وهما في الجودة والرداءة على سواء فإنه يختار أحدهما ، ثم لا يقال : إنه لا بد هنا أمر زائد على كونه قادرا ، فكذلك في مسألتنا.

وأما قياس ذلك على الجوهر وكونه كائنا فلا يصح ، إذ لدلالة قد دلت على أن التحيز غير كاف في اختصاصه ببعض الجهات دون البعض ، لأنه ليس بأن يختص بهذه الجهة لتحيزه أولى من أن يختص بالجهة الأخرى ، إذ لا يفعل في تأثيره سوى طريقة الإيجاب ، وليس كذلك كونه قادرا ، فإن تأثيره في الفعل على طريق الصحة ، ففارق أحدهما الآخر.

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : إن القدرة لو استحال الفعل بها في الحال ، لكان لا يخلو : إما أن تكون هذه الاستحالة راجعة إلى القدرة أو إلى المقدور ، وأي ذلك كان فهو ثابت في الحالة الثانية ، فإما أن يقال : إنه يستحيل الفعل بها على كل حال ، أو يقال : بمقارنتها للمقدور وصحة الفعل بها في الحال ، على ما نقوله.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنا نعلم هذا الحكم ولا نعلله ، لأنا بأي شيء عللناه فسد ، وليس يجب في الأحكام كلها أن تكن معللة ، بل الأصل فيه أن يعرض على وجوه التعليل ، فإن قبل التعليل علل ، وإن لم يقبل لم يعلل.

ثم يقال لهم : ليس في هذا إلا استحالة الفعل بالقدرة في الحال ، وليس يجب إذا استحال الفعل بها في الحال أن يستحيل أيضا في المستقبل ، فإنك تعلم أن الاعتماد يستحيل أن يولد في الحال ثم يصح توليده في الثاني ، وكذلك فالنظر يستحيل أن يولد العلم في الحال ويصح منه في الثاني.

ثم يقال لهم : أليس أنه تعالى يستحيل أن يكون فاعلا فيما لم يزل؟ فلا يخلو ، إما أن يكون ذلك لأمر يرجع إلى القدرة ، أو لأمر يرجع إلى المقدور ، وأي ذلك كان فهو ثابت فيما لا يزال ، فيجب استحالة الفعل منه فيما لا يزال ، فكما أنه لا بد من أن يقول إن هذا حكم لا يعلل ، وكذلك نقول نحن.

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : إن المتعلقات بالأغيار على اختلافها واختلاف أجناسها مشتركة في أنها لا تتعلق بالضدين ، والقدرة من جملة المعاني المتعلقات بالأغيار فيجب أن لا تتعلق بالضدين ، وكل من قال بأنها لا تتعلق بالضدين قال بأنها مقارنة للمقدور على ما نقوله. والأصل في الجواب عن ذلك ، أن هذا باطل بالعجز ،

٢٨٩

فإنه من المتعلقات بالأغيار ، وعندكم أنه يتعلق بالضدين ، حتى إن العجز عن الشيء عجز عن ضده ، ومن هاهنا استدل بعض مشايخنا على أن القدرة صالحة للضدين متقدمة للمقدور ، فقال : قد ثبت أن العجز عن الشيء عجز عن ضده فيجب مثله في القدرة لأنهما ضدان ، ومن حق الضدين أن يتعلق أحدهما بما يتعلق به صاحبه ، ويكون تعلق أحدهما على العكس من تعلق الآخر. إذا ثبت هذا ، فلو كان العجز صالحا للضدين والقدرة غير صالحة لهما ، لكان لا يمتنع أن يطرأ أحدهما على الآخر فينفيه من وجه دون وجه ، وذلك حال. وإذا صح كونها صالحة للضدين ، وجب تقدمها للمقدور والإلزام وجود الضدين جميعا.

ثم يقال لهم : وكيف أجريتم المتعلقات بالأغيار مجرى واحدا مع أن الشهوة والعلم يشتركان في التعلق ، ثم إن من حق الشهوة أن لا تتعلق إلا بالمدركات بخلاف العلم والإرادة ، فإنهما يتعلقان بالمدركات وقد لا يتعلقان بذلك.

وأحد ما يتعلقون به ، قولهم : إن القدرة عون على الفعل ، فكان يجب أن تكون مقارنة له. قلنا : لا نسلم أن القدرة بمجردها عون ، وإنما العون هو التمكين من الفعل وإرادة الفعل ، حتى لو يمكن غيره من قتل آدمي بأن يدفع إليه سكينا ولا يريد منه قتله ، وإنما دفع إليه ذلك لأن يذبح به بقرة ، فإنه متى قتل آدميا لم نقل : إنه أعانه على قتله لما لم يرد منه قتله فلا يصح ما ذكرتموه. وإذ قد صح أن العون ليس هو مجرد القدرة ، لم يمكن قياس أحدهما على الآخر. وفي شبههم كثرة ، وأكثرها يرجع إلى بعض ما تقدم فاقتصرنا بها.

فصل : في أنه تعالى لا يجوز أن يكون مريدا للمعاصي

الإرادة فعل :

واتصال هذا الفصل بباب العدل ظاهر ، فإن الإرادة فعل من الأفعال ، ومتى تعلقت بالقبيح فتجب لا محالة ، وكونه تعالى عدلا يقتضي أن تنفي عنه هذه الإرادة.

وقبل البيان في المسألة نبين حقيقة : الإرادة ، والكراهة ، والمريد ، والكاره. ثم نتكلم على إثبات هذه الصفة لله عزوجل ، وفي كيفية استحقاقه له. ثم نتكلم من بعد ، فيما يجوز أن يريده الله وما لا يجوز.

فالإرادة هو ما يوجب كون الذات مريدا ، والكراهة ما يوجب كونه كارها.

٢٩٠

والواحد منا إذا رجع إلى نفسه فصل بين أن يكون على هذه الصفة وبين أن يكون على غيرها من الصافات ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه.

فإن قيل : قد دخلتم فيما عبتم على الكلابية حيث قالت في حد العلم : هو ما يوجب كونه عالما.

قيل له : فرق بيننا وبينهم ، فإنهم فسروا العلم بما يوجب كون الذات عالما ، والعالم بمن له العلم ، فأحالوا بأحد المجهولين على الآخر ، وليس كذلك ما ذكرنا ، فإنا فسرنا الإرادة بما يوجب كون الذات مريدا ، ثم لما سئلنا عن حقيقة المريد أحلناه إلى نفسه ، ففارق حالنا حالهم.

هذا هو حقيقة الإرادة وكراهة.

وأما المريد ، فقد قيل في حده : هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل على وجه دون وجه. وهذا وإن كان كذلك ، إلا أن إيراده على طريق التحديد لا يصح ، لأن قولنا مريد أظهر منه ، ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود ، ولهذا لم يحد الموجود بشيء ، لأن كل ما يذكر في حقيقته فقولنا موجود أظهر منه ، فيجب إذن أن لا نحد المريد أصلا ، لأن أي ما يذكر في حده فقولنا مريد أظهر منه ، وهكذا الكلام في الكاره.

وإذ قد علم ذلك فاعلم ، أن أحدنا إنما يريد ما يريده لمعنى هو الإرادة.

والطريق إلى إثبات الإرادة نحو الطريق إلى إثبات الأكوان على ما مر في إثبات الأعراض. وتحريرها هاهنا ، هو أن الواحد منا حصل مريدا مع جواز أن لا يحصل مريدا والحال واحدة والشرط واحد ، فلا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل على هذه الصفة ، وإلا لم يكن بأن يحصل عليها أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى وهو الإرادة. والكلام في أنه لا بد هاهنا من معنى قد سلف ، وإنما الذي يجب أن نذكره هاهنا أن ذلك الأمر ليس إلا الإرادة والكراهة.

الإرادة والكراهة لا يرجعان إلى الشهوة والنفار :

والذي يشتبه الحال فيه من المعاني فيقال : إن المرجع بالإرادة إنما هو الشهوة فيجب أن نميز بين الجنسين ، والذي يقع به هذا التمييز ، هو أن أحدنا قد يريد ما لا يشتهيه ككثير من الأدوية الكريهة ، ولهذا قالوا : من محن الدنيا أن الله تعالى جعل الداء

٢٩١

في اللوزينج ، والشفاء في الإهليلج ، وقد يشتهي ما لا يريده كالزنا وشرب الخمر وكالماء البارد في الحر الشديد وهو صائم ، فصح أنه لا يمكن أن يرجع بالإرادة إلى الشهوة ، وكما لا يمكن ذلك فكذلك لا يمكن أن يرجع بالكراهة إلى النفار ، فإن الحي قد يكره ما لا ينفر طبعه عنه وهو الزنا وشرب الخمر ، وقد ينفر طبعه عما لا يكرهه وهو الدواء الكريه ، فإذن لا يمكن أن يرجع بهما إلى الشهوة والنفار ولا يشتبه الحال فيما عداهما ، فخلصتا معنيين.

إذا ثبت هذا ، فاعلم أن الطريق إلى معرف هذه الصف في الشاهد إنما هو الضرورة ولا يمكن معرفتها استدلالا لأن كل دلالة تدل عليها فمبنية على العدل والحكمة ، ولا يثبت كون أحدنا عدلا حكيما : ولهذا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ثبتت حكمته جاز أن يعرف مراده استدلالا كما يجوز أن يعرف ضرورة ، ومن هاهنا قلنا : إن من لم يثبت كونه عدلا حكيما ، لا يمكنه أن يعلم كونه مريدا.

قولنا : الله مريد لا يعني كونه قادرا لا عالما :

ونحن إذا قلنا : إن تعالى مريد فلا نعني به كونه قادرا ولا عالما ، لأنه قد يريد ما لا يقدر عليه وقد يقدر على ما لا يريده ، وهكذا في العلم وإنما مرادنا أنه حاصل على مثل صفة الواحد منا إذا كان مريدا.

وقد خالفنا في ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي والنظام ، وقالا : إنا إذا قلنا : إنه تعالى مريد لفعل نفسه فمرادنا أنه يفعله لا على وجه السهو والغفلة ، وإذا قلنا إنه مريد لفعل غيره فغرضنا أنه آمر به ناه عن خلافه ، فلم يثبتا معنى هذه الصفة في القديم تعالى البتة. ونحن إذا أردنا إثباته لله تعالى فبأن نبين أولا صحته عليه جلّ وعزّ ، لأن إثبات الصفة تترتب على صحتها. والذي يدل على أن هذه الصفة تصح على الله تعالى ، هو ما قد ثبت أن المصحح لها إنما هو كونه حيا ، بدليل أن من كان حيا صح أن يريد ، ومتى لم يكن حيا لم يصح أن يريد ، فيجب أن يكون المصحح لهذه الصفة إنما هو كونه حيا.

إذا ثبت هذا والقديم تعالى حي ، وجب صحة أن يريد ويكره.

فإن قيل : ما أنكرتم أن المصحح لهذه الصفة في الواحد منا كونه ذا قلب؟ لأن هذه الصفة راجعة إلى الجملة ، فالمصحح لها لا بد أن يكون راجعا إلى الجملة ، والقلب فليس كذلك فكيف يصححها.

٢٩٢

ومتى قيل : أليس أنه إذا كان ذا قلب صح أن يريد ، ومتى لم يكن كذلك لم يصح؟ قلنا : إنه وإن كان كذلك إلا أنه ليس يجب في القلب أن يكون مصححا لها ، لأن ذلك إنما وجب من حيث إن الإرادة تفتقر في وجودها إلى محل مبني بنية مخصوصة نحو بنية القلب ، لا لأن القلب مصحح لها.

وصار ذلك كما نقول في كون عالما أنه لا يصح ما لم يكن ذا قلب ، ثم لا يقال : إن كونه ذا قلب هو المصحح له ، لأن احتياجه إلى القلب هو من حيث إنه لا يكون عالما إلا بعلم ، العلم في وجوده يحتاج إلى محل مبني بنية مخصوصة نحو بنية القلب فكيف يصح ما قالوه ، وهل هذا إلا كما يقال : لما لم يصح في الواحد منا أن يكون عالما قادرا إلا إذا كان جسما ، وجب في كونه جسما أن يكون هو المصحح لهاتين الصفتين ، فكما أن ذلك لا يجب لأن احتياج كونه عالما قادرا إلى كونه جسما هو من حيث إنه عالم بعلم وقادر بقدرة ، والعلم والقدرة يحتاجان في وجودهما إلى محل مبني بنية مخصوصة ، والمحل المبني بنية مخصوصة لا يكون إلا جسما ، لا من حيث إن كونه جسما يصحح هاتين الصفتين ، كذلك في مسألتنا.

وإذ قد صحت هذه الصفة لله تعالى ، فالذي يدل على ثباتها له ، هو أن في أفعاله تعالى ما وقع على وجه دون وجه ، والفعل لا يقع على وجه دون وجه إلا لمخصص هو الإرادة.

بيان ذلك ، أن خلق القديم تعالى الحياة فينا إذا جاز أن يكون نعمة وجاز أن يكون نعمة ، لم يكن بد من أمر ومخصص له ولمكانه يصير نعمة ، وإلا لم يكن بأحد الوجهين أحق منه بالآخر ، وليس ذلك الأمر إلا الإرادة.

وإن شئت فرضت الكلام في شهوة القبيح ونفرة الحسن فقلت : إنه إذا جاز أن يكون تكليفا وتعريضا للمكلف إلى درجة الثواب ، وجاز أن يكون إغراء على القبيح ، لم يختص بأحد الوجهين دون الآخر إلا لمخصص هو الإرادة.

وقد فرض مشايخنا الكلام في الأمر والخبر ، لأن الأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة ، وكذلك الخبر.

وتحرير ذلك ، أن قولنا : محمد رسول الله ، يجوز أن يكون خبرا عن محمد بن عبد الله ، ويجوز أن يكون خبرا عن المحمدين ، وإذا كان كذلك ، لم يكن بأن يكون خبرا عنه أولى من أن يكون خبرا عن غيره إلا بأمر ومخصص ، وليس ذلك الأمر إلا

٢٩٣

الإرادة.

فإن قيل : ومن أين أن قولنا محمد رسول الله كما يجوز أن يكون خبرا عن محمد بن عبد الله يجوز أن يكون خبرا عن غيره من المحمدين؟ قلنا : لأنه لو لم يجز ذلك لارتفع التجوز عن الكلام وبطل ، لأن التجوز هو أن يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في الأصل ، فمتى لم يجز استعمال اللفظ إلا على وجه واحد فقد بطل المجاز أصلا.

فإن قيل : ولم قلتم : إن ذلك الأمر ليس إلا الإرادة؟ قلنا : لأنه لا يخلو ، إما أن يكون راجعا إلى ذات الخبر وصفاته ، وذلك لا يجوز ، وإلا كان لا يجوز أن يقع مرة فيكون خبرا ويقع مرة أخرى فلا يكون كذلك ، لأن هذا هو الواجب في الصفة التي تستحقها الذات لنفسها ولما هو عليه في نفسه كما قلنا في السواد ، ألا ترى أن السواد لما استحق كونه سوادا لذاته ، لم يجز أن يوجد مرة فيكون سوادا وأخرى فلا يكون سوادا.

وبعد ، فإن ذات الخبر وما هو عليه حاله مع هذا المخبر كحاله مع غيره من المخبرين ، فكان يجب أن يكون خبرا عن سائر المخبرين ، أو لا يكون خبرا عن واحد منهم ، أما أن يكون خبرا عن البعض دون الثاني فلا.

وبعد ، فإن صفة الذات ترجع إلى الآحاد والأفراد دون الجمل ، فكان يجب في كل حرف من هذه الحروف أن يكون خبرا ، وقد عرف خلافه.

وهذه الوجوه التي ذكرناها كما تدل على أن الخبر لا يكون خبرا لذاته ولا لما هو عليه في ذاته ، فإنها تدل على أنه لا يجوز أن يكون خبرا لوجوده أو لعدمه أو حدوثه ، لأن حال هذه الأوصاف مع المخبر كحاله مع غيره ، ولأنها ترجع إلى الآحاد والأفراد فكان يجب في كل حرف أن يكون خبرا على ما مر ، ومعلوم خلافه.

وفي العدم وجه آخر ، وهو أنه يحيل الحكم ، وما أحال الحكم لا يجوز أن يكون مؤثرا فيه ، ألا ترى أن الموت لما أحال كونه عالما لم يجز أن يكون مؤثرا فيه ، كذلك في مسألتنا ، أو يكون راجعا إلى غيره ، ثم لا يخلو إما أن يكون تأثيره على طريق الإيجاب فهو المعنى ، وذلك المعنى إما أن يكون موجودا أو معدوما ، وأي ذلك كان فإنه لا يجوز أن يؤثر فيه ، لأن حاله مع بعض المخبرين كحاله مع سائرها.

٢٩٤

وبعد ، فإن المعدوم مما لا يوجب الحكم ، لأن الإيجاب إنما يصدر عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات ، وهي مشروطة في سائر الذوات بالوجود ، أو يكون تأثيره على طريق التصحيح فهو الفاعل ، وصفات الفاعل المتعلقة منها ـ فإن ما لا يتعلق لا يؤثر في الغير ـ محصورة معدودة كونه قادرا عالما مريدا كارها مشتهيا نافرا ظانا ، وأي ذلك كان فلا يجوز أن يؤثر فيه.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في كون الكلام أمرا وخبرا إنما هو كونه قادرا؟ قلنا : لأن تأثير القادر لا يتعدى طريقة الإحداث ، وكون الكلام أمرا وخبرا أمر زائد على ذلك.

وبعد ، فإن كونه قادرا ثابت في حال السهو ، ثم لا يصح منه الإخبار في تلك الحال.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في ذلك إنما هو كونه عالما؟ قيل : لأن حال كونه عالما مع هذا المخبر كحاله مع غيره مع المخبرين ، فيجب أن يكون خبرا عن سائرهم أو لا يكون خبرا عن واحد منهم ، فأما أن يكون خبرا عن واحد منهم دون ما عداه ، فلا. إلا أن هذا إنما يجب في ما يكون تأثيره على طريق الإيجاب ، فأما ما يؤثر على طريق التصحيح فإن ذلك لا يجب ، وكونه عالما إنما يؤثر على طريق التصحيح ، فالأولى أن نقول : إن العلم يتبع المعلوم ويتعلق به على ما هو عليه ولا يؤثر فيه ، إذ لو أثر العلم في المعلوم لوجب في المعلومات كلها ، نحو القديم والجوهر والأعراض أن تكون متعلقة بعلومنا ، حتى إن زال العلم زال وإن ثبت ثبت ، وقد عرفنا فساده.

ولا شبهة في أن كونه مشتهيا ونافرا وظانا مما لا يؤثر في كون الكلام أمرا خبرا ، أو كما لا يجوز أن يكون المؤثر فيه هذه الأوصاف ، وفكذلك لا يجوز أن يكون المؤثر فيه كونه كارها ، لأن الكراهة تمنع الفعل ، فضلا عن أن تكون مؤثرة فيه.

فهذا هو الكلام في الإرادة.

وأما الكلام في الكراهة فكمثل ، لأن كل ما ذكرناه في باب كونه مريدا يعود هاهنا ، وكما أن الدلالة العقلية تدل هاهنا على هذه الجملة التي مضت ، فالدلالة السمعية توافقها. قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة :

٢٩٥

١٨٥] وقال في الكراهية : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة : ٤٦] وقال بعد عده المعاصي : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)) [الإسراء : ٣٨] ، فهذه جملة الكلام في ذلك.

وللمخالفين في هذا الباب شبه نستقصي القول فيها من بعد إن شاء الله عزوجل.

ونذكر هاهنا ما لا بد من ذكره ونتكلم عليه. فمن جملة ما نذكره هاهنا ، هو أنهم قالوا : لو كان القديم تعالى مريدا وكارها لوجب أن يكون مشتهيا ونافرا ، لأن المرجع بالإرادة والكراهة إلى الشهوة والنفار ، ونحن قد أجبنا عن ذلك وفصلنا بين هذه الأوصاف فلا نعيده.

وأحد ما يوردونه في هذا الباب ، هو أنهم قالوا : لو كان الله تعالى مريدا ومعلوم أنه لم يكن كذلك أبدا وإنما حصل على هذه الصفة بعد أن لم يكن عليها ، لوجب أن يكون قد تغير حاله ، والتغير لا يجوز على الله تعالى ، فليس إلا أنه تعالى لا يكون مريدا أصلا. قلنا ما تريدون بالتغير؟ فإن أردتم به أنه حصل مريدا بعد أن لم يكن فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به أنه حصل غير ما كان فلم وجب ذلك؟ فلا يجدون إلا ما يريدون سبيلا.

فصل : في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفة

الله مريد بإرادة محدثة لا في محل :

واعلم أنه مريد عندنا بإرادة محدثة موجودة لا في محل.

وقد ذهبت النجارية إلى أنه تعالى مريد لذته ، وذهبت الأشعرية إلى أنه تعالى مريد بإرادة قديمة ، وذهبت الكلابية إلى أنه تعالى مريد بإرادة أزلية ، ونحن إذا أفسدنا هذه المذاهب كلها صح لنا ما قلناه.

فساد قول النجارية :

والذي يدل على فساد ما ذهب إليه النجار ، هو أنه تعالى لو كان مريدا لذاته لوجب أن يكون مريدا لجميع المرادات ، لأن المرادات غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض ، فما من مراد يصح أن يريده زيد إلا ويصح أن يريده عمرو وغيره من المريدين ، فيجب أن يكون مريدا لسائر المرادات. كما أنه تعالى لما كان عالما

٢٩٦

لذاته ، وكانت المعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، كان عالما بجميعها ، كذلك هاهنا.

فإن قيل : أو ليس أنه تعالى قادر لذاته ثم لا يجب أن يكون قادرا على جميع المقدورات ، فهلا جاز مثل في مسألتنا؟.

قلنا : إن بين الوضعين فرقا ، لأن المقدورات مقصورة على بعض القادرين دون بعض ، حتى لا يجوز في مقدور زيد أن يكون مقدورا لعمرو ، إذ لو جاز ذلك لكان يجب إذا خلص داعي أحدهما إلى الإيجاد وداعي الآخر إلى أن لا يوجد ، أن يوجد وأن لا يوجد دفعة واحدة.

وليس كذلك المرادات فإنها غير مقصورة على بعض المريدين دون بعض ، حتى ما من مراد إلا وكما يصح أن يريده زيد يصح أن يريده عمرو وغيره من المريدين ، فنظير المرادات المعلومات ، فإن المعلومات أيضا غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، حتى ما من معلوم يصح أن يعلمه زيد إلا ويصح أن يعلمه عمرو غيره من العالمين ، فالفرق بين المرادات والمقدورات ظاهر.

فإن قيل : إنا نرتكب ذلك ونقول : إنه تعالى مريد لسائر المرادات فما الذي يلزم عليه؟ قلنا : يلزم عليه أشياء كثيرة ووجوها من الفساد لا قبل لكم بها.

من جملتها ، أنه كان يجب إذا أراد الواحد منا أن يرزقه الله تعالى الأموال والأولاد أن يكون الله تعالى مريدا له ، وإذا كان مريدا له وجب وجوده ، سيما على مذهبهم أنما يريده الله تعالى يجب حصوله سواء كان من فعله أو من فعل غيره وإلا اقتضى الضعف والعجز.

ومنها : أنه كان يجب أن يوجد من المرادات أكثر مما أوجد لأنه تعالى يصح أن يريد أكثر ، وإذا صح أن يريده وجب أن يريده ، وإذا وجب أن يريده وجب حصوله لا محالة.

فإن قيل : إرادة ما لا يقع تمنّ ، وليس يجب إذا كان الله تعالى مريدا للمرادات أن يريد المتمنيات أيضا.

قلنا : إن التمني ليس من الإرادة في شيء ، وإنما هو من أقسام الكلام ، ولهذا يعده أهل اللغة في ذلك فيقولون : الكلام أمر وخبر واستخبار وعرض وتمن.

٢٩٧

وبعد ، فإن أحدنا قد يريد وجود الحلاوة واللون في محل فيحصل أحدهما ولا يحصل الآخر ، ولو جاز أن يقال إن أحدهما تمن لجاز مثله في الآخر ، إذ لا يمكن الفصل بينهما.

ومما يلزمهم على القول بأنه تعالى مريد لسائر المرادات ، قدم العالم ، لأنه تعالى إذا كان مريدا لذاته صح أن يريد وجود العالم فيما لم يزل ، وإذا صح أن يريده وجب أن يريده ، وإذا وجب أن يريده وجب حصوله لا محالة ، فيلزم قدم العالم ويقدح في حدوثه.

إلا أن الأولى أن يقال : يلزمهم أن يكون الله تعالى قد خلق العالم قبل الوقت الذي خلقه ، وقبل ذلك ، وقبله ، فيكون أحسم للأشياء ، فإن حدوث العالم فيما لم يزل مستحيل ، فلا يصح وجوده.

ومما يلزمهم ، وجود الضدين ، لأن الضدين يصح أن يكونا مرادين لمريدين بل لمريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما ، وإذا صح أن يكون مرادا لنا صح أن يكون مرادا لله تعالى لأنه مريد لذاته ، وإذا صح وجب ، وإذا وجب ، وجب حصول الضدين.

فإن قيل : أليس أنه تعالى عالم لذاته ثم لا يجب أن يكون عالما بوجود الضدين ، فهلا جاز أن يكون مريدا لذاته ولا يجب أن يكون مريدا للضدين.

والجواب عن ذلك ، أن بين الوضعين فرقا ، لأن وجود الضدين في محل واحد يستحيل أن يكون معلوما لعالم واحد ولعالمين ، وليس كذلك في الإرادة ، لأن الضدين مما يصح أن يكونا مرادين لمريدين بل لمريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما على ما مر.

فإن قيل : إرادة حدوث الشيء تتبع العلم به ، والعلم بوجود الضدين مستحيل فلا يجب أن يكون مريدا لهما.

والأصل في الجواب ، أن الضدين يصح أن يكونا مرادين لمريدين بل لمريد واحد إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما ، لأن إرادة الشيء تابع لصحة حدوثه ، وصحة الحدوث ثابتة في كل واحد من الضدين ، فصح أن يعلم الله تعالى ذلك من حال كل واحد منهما ، وإذا صح ذلك صح أن يريدهما ، وإذا صح وجب لأن صفة الذات إذا صحت وجبت ، فيجب حصولها كما ألزمنا.

٢٩٨

ومتى قلتم : إن على هذا يجب أن يكون القديم تعالى عالما بوجود الضدين وذلك محال ، قلنا : إن مذهبكم في الإرادة يقتضي ذلك ويؤدي إليه ، فاتركوه كي لا يقتضيه فلا يلزمكم.

وأحد ما يلزمهم على القول بأنه تعالى مريد لذاته ، أن يكون مريدا لسائر القبائح ، فكان يجب أن يكون حاصلا على صفة من صفات النقص وذلك فاسد.

فإن قيل : وما تعنون بالنقص؟ قلنا : التفرقة التي يجدها الواحد منا من نفسه إذا رجع إليها بين أن يريد القبيح وبين أن لا يريده بل يريد الواجب.

فإن قيل : إن هذا إنما يجب في الشاهد لأن أحدنا يستحق هذه الصفة لمعنى هو الإرادة ، والقديم تعالى يستحقها لذاته فلا يجب ذلك فيه.

قلنا : الصفة إذا كانت من صفات النقص لم يختلف الحال بين أن تكون مستحقة للذات وبين أن تكون مستحقة لمعنى ، ألا ترى أن كونه جاهلا لما كانت من صفات النقص ، لم يختلف الحال بين أن تكون مستحقة للذات أو مستحقة لمعنى ، كذلك هاهنا.

فإن قيل : قولكم إنه تعالى إذا كان مريدا لذاته يجب أن يكون مريدا للضدين مما يصح ، لأنه يعلم أن وجود الضدين في محل واحد دفعة واحدة مستحيل ، وإنما يعلم أين أحدهما دون الآخر ، فما المعلوم من حاله أنه يقع فهو مراد ، وما المعلوم من حاله أنه لا يقع فهو متمنّى ، والقديم تعالى إذا كان مريدا لذاته لا يجب أن يكون متمنيا.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنه لا فرق بين ما المعلوم من حاله أنه يقع وبين ما المعلوم من حاله أنه لا يقع في صحة الإرادة ، ولهذا فإن أحدنا قد يريد الضدين إذا اعتقد ارتفاع التضاد بينهما ، مع أن المعلوم وقوعه من ذلك أحدهما دون الآخر ، وكذلك فقد يريد الحلاوة والسواد في محل واحد ، بحيث لا يفصل بين إرادتيهما ثم يقع أحدهما دون الآخر ، ففسد ما ظنوه.

وبعد ، فلو كان كذلك لوجب أن لا يكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مريدا لإيمان أبي لهب ، وإنما يكون متمنيا لأنه قد علم بإخبار الله تعالى إياه أنه لا يؤمن ، وقد اتفقت الأمة على خلاف ذلك.

وبعد ، فإن التمني من أقسام الكلام ، والمرجع به إلى قول القائل ليت كان كذا

٢٩٩

أو ليت لم يكن كذا ، وإن كان يعتبر فيه الإرادة أن يكون هو الإرادة نفسها ، كما في الخبر لأنه مما يعتبر فيه الإرادة ثم لا يقال هو الإرادة نفسها ، كذلك في مسألتنا.

وبعد ، فكان يجب على ما قالوه أنه لا يصل أحدنا إلى متمناه البتة ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : إنا نقول : إرادة الله تعالى تتعلق بالضدين ولكن على الوجه الذي يصح دون الوجه الذي يستحيل ، فيريد أحد الضدين أن يكون ، والآخر بأن لا يكون.

قيل له : الإرادة لا يصح تعلقها بالنفي ، لأنها لو تعدت في التعلق من وجه الحدوث إلى ما زاد عليه ولا حاصر ، لوجب تعديها في التعلق إلى سائر الوجوه كالاعتقاد ، فتعلق بالقديم والماضي والباقي ، وقد علم تعذر ذلك ، وأما إرادة أن لا يقوم زيد فهي متعلقة بضد القيام وهو القعود ، ولذلك لا يصح أن يريد من الميت أن لا يقوم ، لما لم يتأت منه القعود.

وبعد ، فلو كان القديم مريدا لذاته والمرادات غير مقصورة ، فالواجب أن يريد كل واحد من الضدين على كل وجه يصح أن يراد عليه ، فيريد كل واحد منهما أن يكون وأن لا يكون ، فيلزم اجتماع الضدين لا محالة.

وبعد ، فليس بأن يريد أحد الضدين أن يكون والآخر أن لا يكون أولى من خلافه ، فيجب أن يريد كل واحد منهما أن يكون وأن لا يكون لأنه مريد لذاته لا بإرادة محدثة تختص أحدهما دون الآخر.

فإن قيل : يريد أحدهما ، ثم كونه مريدا له يحيل كونه لضده.

وقيل له : كيف يكون بإرادة أحدهما أحق من إرادة الآخر مع كونه مريدا لذاته؟.

وبعد ، فإن هاهنا أضدادا لم يرد الله تعالى شيئا منها ، ألا ترى أنه لم يرد خلق فعل بحضرتنا إذ لو أراده يحصل فكنا ندركه ، ولا أراد ضده أيضا وهو الفناء إذ لو أراده لفنيت الأجسام كلها ، لأن فناء بعض الأجسام فناء لسائرها ، وكذلك فلم يرد تحريك هذا الجسم ولو أراده لتحرك فكنا نعلمه متحركا ، ولا أراد تسكينه أيضا وإلا كان يتعذر علينا تحريكه ، لأن مراد الله تعالى بالوجود أولى ، وأيضا فلم يرد الله تعالى زيادة شهوتنا للطعام ، وإلا ازدادت فكنا نجدهما من أنفسنا ونتبينها ، ولا أراد ما يضادها من النفار وإلا كنا نجد أنفسنا نافرين عن الطعام ، فكيف يصح أن يقال في كل

٣٠٠