شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

كالواسطة فيه ، ولا يقع أخرى بأن لا يختار الفاعل ما هو كالواسطة فيه.

يزيد ذلك توضيحا ، أن السبب لا يمتنع حصوله ثم لا يحصل المسبب ، بأن يعرض عارض فيمنعه من التوليد ، ومتى وجب حصوله عند حصول السبب وزوال الموانع فإن حاله كحال المبتدأ عند تكامل الدواعي ، فإنه يحصل لا محالة ، فمن أين الفرق بينهما؟.

وبعد ، فإن المتولد إذا كان مما يثبت لأحوالنا فيه تأثير حتى يقف على قصدنا ودواعينا ويثبت فيه المدح والذم كما في المبتدأ سواء فما وجه الفرق؟ وكيف يعلق المراد بالطبع والإرادة باختيار الفاعل مع أن الحالة فيهما على سواء. فإما أن يعلقا جميعا بالطبع ، أو يضافا إلى الفاعل. فأما أن يجعل أحدهما واقعا بالطبع ، والآخر باختيار الفاعل فلا.

وبعد ففي تعليق هذه الحوادث بالطبع تعليق لها بما لا يعقل على ما أبطلنا به قول أصحاب الطبائع ، وإن كانوا عند التحقيق أدخل في العذر من هؤلاء ، لأنهم حين نفوا الصانع لم يكن لهم بد من أن يعلقوا ذلك بأمر موجب ، فأما هؤلاء فقد أثبتوا الفاعل المختار ، فما عذرهم في تعليق هذه الأمور بالطبع.

على أن هذا يوجب عليهم أن لا تقع لهم الثقة بالنبوات لتجويزهم حصول المعجزات بطبع الحل ، ويوجب عليهم القول : بأن هذه الأعراض التي هي أصول النعم من الحياة والقدرة الشهوة كلها حاصلة بطبع المحل ، وفي ذلك إخراج القديم تعالى عن أن يكون مستحقا للعبادة ، بل يلزمهم إضافة هذه القبائح التي تشتمل عليها المتولدات إلى الله ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

من جعل المتولدات حدثا لا محدث له :

وأما من جعل هذه الحوادث حدثا لا محدث له فقد أبعد ، فيلزمه القول بذلك في جميع الحوادث ، لأنه لا فرق بين بعضها والبعض في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، ولئن راعى الجواز واعتبره ، فإن ذلك ثابت في المتولدات ثباته في المبتدأ ، لما قد بينا أنه لا يمتنع حصل السبب ولا يولد ، بأن يعرض له عارض فيمنعه من التوليد ، فإن المسبب يقع مع الجواز كالمبتدإ سواء ، ولئن جاز إخراج المسبب عن التعلق بالفاعل لوجوب حصوله عند وجود السبب وزوال الموانع لوجب إخراج المبتدأ أيضا عن تعلقه بالفاعل لوجوب وقوعه عند توفر الدواعي وتكاملها ، وإلا فما الفرق؟ وبهذه الطريقة

٢٦١

نجيب عن قوله إذا قال : كما لا يجوز أن نعلق معلول العلة بالفاعل لوجوبه عند وجود العلة ، كذلك في مسألتنا ، فإنا قد ذكرنا أن وجود المسبب لا يجب عند حصول السبب ، فإنه لا يمتنع أن يعرض عارض فيمنعه من التوليد ، وليس كذلك معلول العلة فإنه يجب عند وجود العلة ، حتى يستحيل مع وجودها أن لا يثبت ، ففارق أحدهما الآخر.

يبين ذلك ، أن ذات المسبب ذات منفصلة عن السبب ، حادثة كهو. فكما أن السبب يضاف إلى الفاعل فكذلك المسبب ، فيجب أن تستوي الحوادث في كونها مضافة إلى الفاعل ، وإن كانت تختلف كيفية الإضافة ، ففيها ما يتعلق به بلا واسطة كالمبتدإ ، وفيها ما لا يتعلق به إلا بواسطة وهو المتولد. فهذا تمام الكلام في المتولدات ، وهذا آخر الفصل.

فصل في الاستطاعة :

وهو الكلام في أن القدرة متقدمة لمقدورها غير مقارنة له.

ووجه اتصاله بباب العدل ، أنه يلزم على القول بمقارنتها للمقدور تكليف ما لا يطاق ، وذلك قبيح ، ومن العدل أن لا يفعل القبيح.

المقدورات نوعان :

١. مبتدأ كالإرادة

٢. متولد كالصوت :

فإذا عرفت هذا ، فاعلم أن المقدورات على ضربين : مبتدأ كالإرادة ، ومتولد كالصوت.

فالمبتدأ يجب أن تكون القدرة متقدمة عليه بوقت ، ثم في الثاني يصح منه فعله.

والمتولد على ضربين :

أحدهما : يتراخى عن سببه كالإصابة مع الرمي.

الثاني : لا يتراخى كالمجاورة مع التأليف.

٢٦٢

أما ما لا يتراخى عن سببه فإن حاله كحال المبتدأ ، والمتراخي عن سببه فإنه لا يمنع أن تتقدمه القدرة بأوقات ، وإن كان لا يجب أن يتقدم سببه إلا بوقت.

إذا ثبت هذا ، فالكلام في أن القدرة يجب تقدمها على مقدورها أو لا يجب ، وذلك يترتب على إثباتها أولا ، لأن الكلام في حكم الشيء يتفرع على إثباته.

طرق إثبات القدرة :

فالطريق إلى إثبات القدرة طرق :

أحدها : ما قدمناه في إثبات الأعراض. وتحريره في هذا الموضع أن نقول : إن الواحد منا حصل قادرا مع جواز أن لا يحصل قادرا والحال واحدة والشرط واحد ، فلا بد من أمر وخصص له ، ولمكانه حصل على هذه الصفة ، وإلا لم يكن بأن يحصل عليها أولى من خلافه ، وليس ذلك إلا وجود معنى هو القدرة.

والثاني : هو أن نقول : إن هاهنا عضوين ، يصح الفعل بأحدها ابتداء ، ولا يصح بالآخر ، فلو لا أن لأحدهما مزية على الآخر بأمر من الأمور ، وإلا لم يكن هو بصحة الفعل به أولى من صاحبه ، وليس ذلك الأمر إلا القدرة.

والثالث : هو أن نقول : إن هاهنا قادرين ، يصح من أحدهما الفعل أكثر مما يصح من الآخر مع استوائهما في كونه قادرين ، فلو لا أنه مختص بأمر زائد على ما يختص به الآخر ، وإلا لم يكن هو بهذه المزية أولى من صاحبه ، وليس ذلك الأمر إلا زيادة القدرة على ما نقوله.

مخالفة البغداديين :

وقد خالفنا بذلك مشايخنا البغداديون ، وقالوا : إنما يصح من القادر الفعل لمكان الصحة لا لما ظننتموه.

وقد بينا الكلام عليهم في باب الصفات ، وذكرنا أن الصحة إما أن يراد به التأليف من جهة الالتئام ، أو اعتدال المزاج ، أو زوال الأمراض والأسقام ، وشيء من ذلك مما لا يؤثر في وقوع الفعل ولا في صحته لأن الفعل إنما يصدر عن الجملة ، فالمؤثر فيه لا بد من أن يكون راجعا إلى الجملة ، وهذه الأمور كلها راجعة إلى المحل.

٢٦٣

وأيضا ، فإن اعتدال المزاج يرجع إلى أمور متضادة ، فكيف تؤثر في حكم واحد؟ وأما زوال الأسقام فإنه نفي ، فكيف يعلق به هذا الحكم؟ وبعد فقد يقع في زوال الأسقام الاشتراك ، فكان يوجب الاشتراك فيه الاشتراك في القدرة على ذلك المقدور ، فليس إلا أن يقال إن صحة الفعل وقوعه إنما هو لكونه قادرا ، وكونه قادرا لا يصح إلا بالقدرة ، فثبتت القدرة بهذه الطريقة.

شبهة البغداديين :

وشبهة البغداديين في ذلك ، هو أن أحدنا إذا كان صحيح البدن يصح منه الفعل ، ومتى لم يكن صحيح البدن لم يصح ، فيجب أن تكون صحة الفعل مستندة إلى الفعل.

إنما وجب ما ذكروه في الواحد منا لأنه قادر بقدرة ، والقدرة محتاجة في وجودها إلى محل مبني بنية مخصوصة ، وهذه البنية إنما ثبتت عند ثبات الصحة دون زوالها فلا يجب لهذه العلة أن تستند صحة الفعل إليها. لو لا ذلك وإلا كان يجب إسنادها إلى كونه حيا ، فإنه ما لم يكن حيا لم يصح منه الفعل ، لأن كونه قادرا يترتب عليه ، فكما أن هذا لا يجب كذلك في مثلنا.

اختلاف في الأسماء الدالة على القدرة والمعنى واحد :

واعلم أن الأسماء تختلف عليها ، فتسمى قوة واستطاعة وطاقة ، وإن كانت الطاقة إنا تستعمل فيما يوصل إليها ، ولهذا لا يقال إنه تعالى مطيق لاستحالة المشقة عليه.

علامة اتفاق هذه الألفاظ في المعنى ، أنك لو أثبت ببعضها ونفيت بالبعض لتناقض الكلام.

للقادر حالتان : حالة يصح منها الفعل وأخرى لا يصح :

ثم إن القادر له حالتان : حالة يصح منه إيجاد ما قدر عليه ، وحالة لا يصح ذلك ، والأسماء تختلف عليه بحسب اختلاف هاتين الحالتين ، ففي الحالة الأولى يسمى مطلقا مخلّى ، وفي الثانية يسمى ممنوعا.

ثم إن الممنوع لا يكون ممنوعا إلا بمنع ، والمنع هو ما يتعذر على القادر لمكانة الفعل على وجه لولاه لما تعذر وحالته تلك ، ثم إنه لا يخلو ، إما أن يكون بطريقة القيد والحبس ، وذلك كأن يحبس أحدنا ويقيد فلا يتأتى منه المشي ، وإما أن يكون

٢٦٤

بالضد أو ما يجري مجراه. إما يكون بطريقة القيد ، فيجوز أن يحاول أحدنا تحريك جسم وغيره يحاول تسكينه ، فيحدث فيه من التسكينات ما يزيد على ما في مقدوره من الحركات ، فإنه يكون والحال هذه ممنوعا من تحريكه بطريقة القيد ، وأما المنع بما يجري مجرى الضد ، فهو كأن يمتنع على الكاتب الكتابة لفقد الآلة من القلم والقرطاس ، فعند هذه الأمور يكون القادر ممنوعا ، وعند ارتفاعها يكون مطلقا ومخلّى.

حقيقة الجواز والصحة والتوهم :

ثم إنه رحمه‌الله ، أخذ يتكلم في حقيقة الجواز والصحة والتوهم ، لما رأى أن المجبرة يتعلقون بهذه الألفاظ ، دفعا لإلزامنا إياهم أن يكون حال الكافر أسوأ من حال العاجز ، فيقولون : إن الكافر يصح منه الإيمان أو يجوز أو يتوهم وليس كذلك العاجز ، فبين معاني هذه الألفاظ ، ليعلم أنه لا فرج لهم فيها.

معنى الجوز :

وجملة القول في ذلك ، أن الجواز في الأصل إنما هو الشك ، يقال : فلان مجوز أي شاك.

الشك ، الصحة الإمكان ، الوقوع موقع الصحيح ، الإباحة :

ثم يستعمل بمعنى الصحة ، فيقال : يجوز منه الفعل ، أي يصح ، ويستعمل بمعنى الإمكان نحو قولنا : المحل يجوز أن يبيض ويجوز أن يسود ، أي يمكن ، وربما يستعمل ويراد به أنه وقع موقع الصحة ، نحو ما يقوله الفقهاء : يجوز التوضؤ بالماء المغصوب وتجوز الصلاة في الدار المغصوبة ، أي لا يلزم فيها الإعادة بل وقع موقع الصحيح ، وربما يراد به الإباحة ، كما يقال : يجوز للمضطر أن يتناول الميتة ، أي يباح له ذلك.

فهذه هي الوجوه التي يستعمل فيها الجواز ، وحقيقته ما ذكرناه أولا.

ثم ليس يجب إذا استعمل بمعنى الصحة في موضع أن يستعمل في سائر المواضع حتى يصح أن يقال : يجوز من الله تعالى الظلم على معنى أنه يصح ، لأن المجازات مما لا يقاس عليها ، ولهذا لا يقاس غير العربة من الدابة والحصيرة عليها في جواز السؤال.

وبعد ، فإن الأصل أن كل لفظ يحتمل معنيين : يصح أحدهما على الله تعالى ولا

٢٦٥

يصح الآخر عليه ، فإنه لا يجوز لنا أن نجريه على الله تعالى ، وإن جاز له تعالى أن يجريه على نفسه ، لأنه قد ثبتت حكمته.

معنى الصحة : نفي الاستحالة ، انتظار الوقوع :

وأما الصحة : فقد تذكر ويراد بها نفي الاستحالة ، نحو ما يقال : يصح من القادر الفعل ، أي لا يستحيل ، وقد تذكر ويراد بها أنه مما ينتظر وقوعه ، كما يقال إنه كان يصح من الله تعالى خلق العالم فيما لم يزل ، أي ينتظر وقوعه منه عزوجل.

معنى التوهم : الظن المخصوص ، (وهو غير الاعتقاد):

وأما التوهم : فالمرجع به إلى ظن مخصوص. والظن ، فهو المعنى الذي إذا وجد في أحدنا أوجب كونه ظانا ، والواحد منا يفصل بين كونه ظانا وبين غيره من الصفات ، نحو كونه مريدا أو كارها أو ما يجري مجراهما.

اختلاف الشيخين أبي علي وأبي هاشم :

وقد اختلف الشيخان في ذلك ، فعند شيخنا أبي علي أنه جنس برأسه سوى الاعتقاد وهو الصحيح ، وعند الشيخ أبي هاشم المرجع به إلى اعتقاد مخصوص.

(التوهم غير الاعتقاد ـ أبو علي) (التوهم اعتقاد مخصوص ـ أبو هاشم):

والذي يدل على فساد مذهبه ، أنه لو كان من قبيل الاعتقاد لكان لا يحسن من الله تعالى أن يتعبدنا بشيء من الظنون ، ومعلوم أنه قد تعبدنا بكثير من الظنون نحو الاجتهادات في جهة القبلة وغير ذلك. وإنما قلنا هذا هكذا ، لأنه ما من اعتقاد يفعله الواحد منا إلا ويجوز أن يكون معتقده على ما هو به ويجوز خلافه ، والتكليف بما هذا حاله قبيح.

عودة إلى المقصود وهو تقدم القدرة لمقدورها :

وبعد هذه الجملة نعود إلى المقصود بالباب ، وهو الكلام في تقدم القدرة لمقدورها.

عند المعتزلة القدرة متقدمة وعند المجبرة القدرة مقارنة للمقدور :

وجملة ذلك ، أن من مذهبنا أن القدرة متقدمة لمقدورها ، وعند المجبرة أنا مقارنة

٢٦٦

له. ولعلهم بنوا ذلك على أن أحدنا لا يجوز أن يكون محدثا لتصرفه ، وأنهم لما أثبتوا الله تعالى محدثا على الحقيقة ، قالوا : إن قدرته متقدمة لمقدورها غير مقارنة له.

ونحن إذا دللنا على فساد مذهبهم دخل تحت ذلك صحة ما ذهبنا إليه ، لأنها إذا لم تكن مقارنة لمقدورها لم يكن بد من أن تكون متقدمة له.

والذي يدل على فساد مذهبهم ، هو أنه لو كانت القدرة مقارنة لمقدورها لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، إذ لو أطاقه لوقع منه ، فلما لم يقع منه دل على أنه غير قادر عليه ، وتكليف ما لا يطاق قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.

وإن شئت بنيت هذه الدلالة على أصل آخر ، فتقول : إن القدرة صالحة للضدين ، فلو كانت مقارنة لهما لوجب بوجودها وجود الضدين ، فيجب في الكافر وقد كلف الإيمان أن يكون كافرا مؤمنا دفعة واحدة ، وذلك محال.

ومتى قالوا : ومن أين أن القدرة صالحة للضدين؟ قلنا : من حيث إنها لو لم تكن صالحة للضدين ، لوجب أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.

فإن قيل : لا يلزم أن يكون تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق لأن فيه القدرة ، قيل له : إن ما فيه من القدرة لا يخلو ، إما أن تكون قدرة على الإيمان ، أو على غير الإيمان. فإن كانت قدرة عليه وجب حصوله لأنها موجبة عندكم ، وإن كانت قدرة على غيره فإن وجود تلك القدرة وعدمها سواء ، أو يكون سبيله سبيل اللون إذا وجد فيه ، فكما أن ذلك لا يوجب حسن التكليف ، كذلك هذا.

فإن ارتكبوا تكليف ما لا يطاق ، كان في ذلك خروج عن الإسلام وانسلاخ عن الدين ، لأن الأمة من لدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليوم الذي وقع فيه الخلاف لم يجوزوا ذلك على الله تعالى. فإن قالوا : إنما لا يجوز عليه لما اعتقدوا فيه القبح ولم يثبت قبح هذا التكليف ، قلنا : إن المنع من قبح ما هذا سبيله مما لا وجه له ، فإن كل عاقل يعلم بكمال عقله أن تكليف الأعمى بنقط المصحف على جهة الصواب وتكليف الزمن بالمشي قبيح ، اللهم إلا إذا كان الكلام في وجه قبحه فينازع الخصم في ذلك ويقول : لا أسلم أنه إنما قبح لكونه تكليفا لما لا يطاق. والذي يدل على إن هذا هو الوجه في قبحه لا غيره ، هو أنه متى علمناه على هذه الصفة علمنا قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر ،

٢٦٧

ومتى لم نعلمه على هذه الصفة لم نعلم قبحه وإن علمنا ما علمنا. فبان أنه إنما يقبح لكونه تكليفا لما لا يطاق.

المجبرة على فرقتين :

١ ـ القدرة مقارنة وغير صالحة للضدين.

٢ ـ القدرة مقارنة وصالحة للضدين :

واعلم أن المجبرة على فرقتين :

فرقة تقول : إن القدرة مقارنة لمقدورها غير صالحة للضدين ، والكلام عليهم ما تقدم.

الأدلة على عدم جواز مقارنة القدرة لمقدورها ، سواء كانت قادرة على الضدين أو غير قادرة :

وفرقة تقول : إن القدرة مقارنة لمقدورها صالحة للضدين ، وهذا إنما أخذوه عن ابن الراوندي ، ظنا منهم أنه ينجيهم عن ارتكاب القول بتكليف ما لا يطاق. ولا فرج لهم عن ذلك أيضا ، لأن القدرة إذا كانت مقارنة لمقدورها صالحة للضدين ، يجب أن يوجد من الكافر الكفر والإيمان معا ، أو يكون تكليفه بالإيمان تكليفا بما لا يطاق ، وأي القولين كان فهو فاسد.

وبعد ، فإن قولهم إن القدرة مقارنة لمقدورها صالحة للضدين متناقض ، لأنا إذا قلنا إن القدرة صالحة للضدين فإنما نعني به أنه يصح من القادر أيهما شاء ، وذلك يقتضي تقدمها ، وهذا مع القول بأن القدرة مقارنة لمقدورها مما لا يتأتى ، فتناقض.

وبعد ، فلو كانت القدرة صالحة للضدين على ما ذكروه ، لكان لا يكون أحد الضدين بالوقوع أولى من صاحبه إلا بأمر ومخصص ، وليس هاهنا أمر يمكن الإشارة إليه ، فيجب القول باجتماع الضدين ، وذلك محال.

فإن قال : كما لا يلزمكم على القول بأن القدرة صالحة للضدين أن يجتمع الضدان ، كذلك لا يلزمنا.

قلنا : إنكم جعلتم القدرة موجبة لمقدورها مقارنة له فيلزمكم ذلك ولا يلزمنا لأنا

٢٦٨

جعلناها متقدمة لمقدورها صالحة للضدين ، ففسد كلامكم بهذا.

فإن قالوا : إن هاهنا مخصصا وهو الاختيار. قلنا : الاختيار كالمختار في أنه لا يمكن أن يقع إلا بقدرة ، وتلك القدرة أيضا صالحة للضدين فتحتاج إلى أمر آخر له ولمكانه يكون ذلك الاختيار بالوقوع أولى مما يضاده ، والكلام في ذلك كالكلام في هذا فيتسلسل بما لا يتناهى من الاختيار ، واختيار الاختيار ، أو ينتهي إلى اختيار ضروري ، وذلك يوجب كون الواحد منا في بعض الحالات مدفوعا إلى اختيار ضروري ، والمعلوم أنه لا يوجد في شيء من الحالات كونه على هذا الوصف.

وبعد ، فإن الساهي قد عدم منه الاختيار ، فيجب أن يوجد منه الضدان وقد عرف فساده.

وبعد ، فإن قدرة الاختيار منفصلة عن قدرة المختار ، فكان يجب أن يحصل أحدهما مع فقد الآخر ، وهذا يؤدي إلى اجتماع الضدين في بعض الحالات على ما ذكرناه.

وبعد ، فإن الكافر إذا وجد فيه اختيار الكفر وهو موجب للكفر عندهم كان يجب أن يكون تكليفه بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح.

فإن قيل : إن الكافر كما يصح منه اختيار الكفر يصح منه اختيار الإيمان. قلنا : كيف يصح منه ذلك؟ أيصح منه اختيار الإيمان مع أن فيه اختيار الكفر الموجب له ، أو يصح منه ذلك بشرط أن لا يكون كان فيه الكفر واختياره والقدرة الموجبة له؟.

فإن قيل بالأول ، ففي ذلك اجتماع المتضادات وذلك مما لا وجه له ، وإن قيل بالثاني ، كان ذلك تجويز البدل عن الموجود الحاصل ، وذلك محال على ما سنذكره من بعد إن شاء الله.

وهذا إنما ألزمناهم ، لأن مذهبهم أن الاختيار كالقدرة في باب الإيجاب.

انقسام المجبرة قسمين :

ـ ليس ذلك تكليفا بما لا يطاق

ـ ومنهم من جوز تكليفه بما لا يطاق

ثم المجبرة لما ألزمت على القول بأن القدرة مقارنة لقدورها موجبة له أن يكون

٢٦٩

تكليف الكافر بالإيمان تكليفا لما لا يطاق افترقوا فرقتين :

فمنهم : من قال إن ذلك ليس بتكليف لما لا يطاق.

ومنهم : من جوز أن يكلف الله تعالى العبد ما لا يطيقه. وقال : إنه ليس في العقل قبحه ، وإنما المانع منه السمع. وفي هؤلاء من جوز ذلك على الله تعالى ، واستدل بقوله تعالى : (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ) [البقرة : ٣١] قال إن الله تعالى كلفهم الإنباء مع أنهم لا يقدرون عليه ، وهو ابن أبي بشر المخذول وأصحابه.

والكلام عليهم هو أن نقول : كل عاقل يعلم بكمال عقله قبح تكليف الزّمن بالمشي وتكليف الأعمى بنقط المصاحف على وجه الصواب ، والدافع له مكابر جاحد للضروريات ، ومن هذا سبيله فإنه لا يناظر ، وعلى هذا فإن النّظام لما ناظره مجبر وانتهى بهما الكلام إلى أن قال له المجبري : ما الدليل على قبح التكليف لما لا يطاق؟ سكت النظام وقال : إن الكلام إذا بلغ إلى هذا الحد وجب أن نضرب عنه رأسا.

فإذا لا كلام في ذلك ، وإنما الكلام في وجه قبحه.

لا كلام في تقبيح التكليف لما يطاق ، وإنما الكلام في وجه قبحه :

فعندنا ، أنه إنما يقبح لكونه تكليفا لما لا يطاق ، بدليل أنا متى عرفناه على هذه الصفة عرفنا قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر ، ومتى لم نعرفه على هذه الصفة لم نعرف قبحه وإن عرفنا ما عرفنا. وأما قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) فإنما قال ذلك تعريفا لهم بالعجز عن الإنباء لا أن ذلك تكليفا ، وعلى هذا لو كان تكليفا لكان تكليفا لما لا يعلم ، وذلك مما لا يجوزه القوم وإن أجازوا تكليف ما لا يطاق.

ومن العجب أن هذا المخذول كان يستدل بالسمع على المسائل ، وعلى هذه المسألة خاصة ، مع تجويزهم سائر القبائح من الكذب وإظهار المعجز على الكذابين وغير ذلك على الله تعالى ، مع أن كلام الله تعالى إنما يكون حجة إذا ثبت أنه لا يكذب ، فأما والكذب جائز عليه فكيف تقع الثقة بقوله ، وما الأمان له من أن هذا الذي يقع الاحتجاج به من الكذب الصراح ليس بالكذب؟.

ثم إن قاضي القضاة عارضه بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] وإنما أورد هذه الآية على طريق المعارضة والاستئناس ، لا على طريق الاستدلال والاحتجاج ، لأنا قد ذكرنا أن كل مسألة تقف صحة السمع عليها ،

٢٧٠

فالاستدلال بالسمع على تلك المسألة لا يصح.

فإن قالوا : لو قبح تكليف ما لا يطاق لحسن تكليف ما يطاق. قلنا : لا يمتنع أن يقبح ذلك ، وينقسم هذا كالكذب يقبح والصدق ينقسم ، وكإرادة القبيح تقبح وإرادة الحسن تنقسم. هذا هو الكلام على الأشعرية.

الكلام على النجارية :

وأما الكلام على النجارية فنقول : إن تكليف الكافر بالإيمان تكليف ما لا يطاق ، لأن الطاقة والقدرة سواء ، وهو لا يقدر إلا على الكفر لأنه لم يقع منه إلا الكفر ، فليس فيه إلا قدرة الكفر ، فيلزم أن يكون تكليفه بالإيمان تكليفا لما لا يطاق ، وذلك قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح.

فإن قالوا : إن هذا إنما يلزم إذا لم يصح منه الإيمان أول يجوز أو لم يتوهم ، فأما إذا صح منه الإيمان وجوز وتوهم فلا. قلنا : إن شيئا من ذلك مما لا يمكن أن يفعل به الإيمان ، وإنما الإيمان يفعل بالقدرة عليه ، والكافر فقد عدمها.

بعد ، فهذه الألفاظ من توابع القدرة ولا تستعمل إلا حيث تستعمل القدرة ، فكيف يصح ما قالوه؟

طريقة أخرى في الكلام عليهم ، وهو أن نقول : إن الكافر إذا لم يقدر على الإيمان كان تكليفه به كتكليف العاجز في القبح ، فإن قالوا : إنا وإياكم اتفقنا على حسن تكليف الكافر بالإيمان فما غرضكم في هذه المنازعة؟ قلنا : إن غرضنا في ذلك أن تتبينوا فساد مذهبكم لتتركوه ، وصار الحال في ذلك كالحال في إلزامنا المجسمة أنه تعالى لو كان جسما لوجب أن يكون محدثا ، وقد ثبت قدمه ، فكم أنه ليس للمجسم أن يقول : إنا وإياكم أجمعنا على قدم القديم فما وجه هذا الإلزام؟ لأنا نقول لهم : إنما ألزمناكم لكي تتركوا مذهبكم الفاسد إلى مذهبنا ، كذلك هنا.

وما يبين لك أن تكليف الكافر بالإيمان كتكليف العاجز في القبح ، هو أنهما قد اشتركا في تعذر الإيمان عليها ، ومعلوم أن تكليف العاجز بالإيمان إنما يقبح لتعذره عليه ، فالكافر إذا شاركه في ذلك وجب أن يقبح تكليفه أيضا لأن افتراقهما من وجه آخر لا يمنع من اتفاقهما في هذا الوجه ، يبين ذلك ، أن الإيمان إنما يفعل بالقدرة ، وليس في الكافر قدرة على الإيمان كما في العاجز ، فوجب استواؤهما في قبح

٢٧١

التكليف. فإن قالوا : إن بينهما فرقا ، فإن العاجز فيه ضد الإيمان بخلاف الكافر ، قيل لهم : إذا كان إنما لا يصح الإيمان من العاجز لأنه ليس فيه القدرة عليه بل فيه ضدها ، والكافر إذا شاركه في أن لا قدرة له على الإيمان وجب أن لا يحسن تكليفه أيضا. يبين ذلك ويوضحه ، أنه إذا لم يحسن تكليف العاجز لأن فيه ضدا واحدا ، فلأن لا يحسن تكليف الكافر وفيه أربعة أضداد ، هي الكفر ، وقدرة الكفر وإرادة الكفر والقدرة الموجبة للإرادة الموجبة للكفر أولى وأحق.

فإن قالوا : إن الكافر يصح منه الإيمان ويجوز ويتوهم ، بخلاف العاجز. قلنا : إذا لم يصح الإيمان بشيء من هذه الأشياء على ما ذكرناه ، فقد استويا على أن التجويز بما تقدم إنما هو الشك ، والتوهم على ما مر ظن مخصوص ، والصحة إنما تستعمل في نفي الاستحالة ، وشيء من ذلك فغير ثابت في الكافر ، إذ لا شك في أنه لا يمكنه الإيمان ولا يظن ، وينفي عنه استحالة وقوع الإيمان مع ما فيه من الكفر والقدرة الموجبة له والقدرة الموجبة للإرادة الموجبة له.

ثم يقال لهم : ما تعنون بقولكم : إنه يصح منه الإيمان أو يجوز أو يتوهم؟ فإن أردتم به أنه يصح منه مع ثبوت هذه الأضداد فيه فقد أحلتم ، لما في ذلك من اجتماع المتضادات فيه ، وإن أردتم به أنه يصح منه ذلك بشرط أن لا يكون كان فيه الكفر والقدرة الموجبة له ، وكان بدله الإيمان والقدرة الموجبة للإيمان ، فإن ذلك تجويز البدل عن الموجود ، وتعليق وجود الشيء ، بانتفاء أم قد ثبت ، وذلك محال.

على أن هذه الطريقة ثابتة في العاجز ، فيقال : صح منه الإيمان بشرط أن لا يكون كان فيه العجز وكان بدله القدرة ، فكيف يقع الفرق بينهما والحال هذه؟ قالوا : الكافر مطلق مخلى ، بخلاف العاجز فإنه ممنوع ، قلنا. أول ما في هذا ، أن الإيمان لا يفعل بالإطلاق والتخلية وإنما يفعل بالقدرة ، وهو لم يعط القدرة.

ثم يقال لهم : ما تريدون بقولكم إن الكافر مطلق مخلّى؟ فإن أردتم به أنه مطلق مع ثبوت هذه الأضداد فيه فذلك لا يصح لاستحالة اجتماع الضدين فيه ، وإن أردتم به أنه مطلق بشرط أن لا يكون كان فيه هذه الأضداد وكان بدلها الاطلاق والتخلية ، فذلك تجويز البدل عن الموجود وتعليق وجود الشيء بانتفاء أمر آخر قد وجد. على أن الإطلاق والتخلية إنما يوصف به القادر إذا لم يكن ممنوعا ، ألا ترى أنه لا يقال في الزمن أنه مطلق مخلى بينه وبين المشي ، وكذلك لا يقال في المقصوص الجناح أنه مطلق مخلى بينه وبين الطيران ، والكافر غير قادر على الإيمان فكيف يوصف بالإطلاق

٢٧٢

والتخلية؟.

وأما الممنوع فإنه يستعمل فيمن يكون قادرا ثم يتعذر عليه الفعل لأمر من الأمور على وجه لولاه لصح منه ذلك الفعل وحالته تلك ، والعاجز غير قادر على الإيمان البتة ، فكيف يصح وصفه بالمنع؟.

وبعد ، فلو كان العاجز ممنوعا لأن فيه ضدا واحدا ، فبأن يكون الكافر ممنوعا وفيه أربعة أضداد وهي : الكفر والقدرة الموجبة له وإرادة الكفر والقدرة الموجبة لها ، أولى وأوجب.

فرق آخر بين الكافر العاجز :

فرق آخر ، الكافر لو شاء لآمن وليس كذلك العاجز. قلنا : الإيمان لا يفعل بالمشيئة وإنما يفعل بالقدرة ، والكافر لم يعط القدرة كالعجز سواء. وأيضا فليس بأن يقال : الكافر لو شاء لآمن ، أولى من أن يعكس فقال : بل لو آمن لشاء إذ لا تأثير للمشيئة والاختيار فيه ، وإنما يقع الإيمان بالقدرة الموجبة عندهم. ثم يقال لهم : ما تريدون بقولكم إن الكافر لو شاء لآمن ، فإن أردتم به أنه لو شاء لآمن مع الكفر وقدرة الكفر وإرادة الكفر والقدرة الموجبة لإرادة الكفر ، فذلك لا يصح لاجتماع المتضادات. وإن أردتم به أنه لو شاء لآمن بشرط أن لا يكون كان فيه هذه الأشياء ، وكان بدلها أضدادها ، فذلك تجويز البدل عن الموجود ، وتعليق وجود الشيء بانتفاء أمر قد وجد على ما مر في نظائره ، فلا يصح.

وبعد ، فإن هذه العبارة إنما تستعمل في القادر على الشيء ، حتى لا يقال في الزمن لو شاء لسعى ، ولا في مقصوص الجناح لو شاء لطار ، لفقد القدرة فيهما ، والكافر غير قادر على الإيمان ، فكيف يصح أن يقال لو شاء لآمن!.

وأيضا ، فإن الكافر إذا لم يقدر لا على الإيمان ولا على مشيئة الإيمان ، فقولكم : إنه لو شاء لآمن ، يجري مجرى أن يقال لو قدر على المشيئة لقدر على الإيمان ، وهذا لا يغني ولا يقع به الفرق بينه وبين العاجز.

وأيضا ، فإن هذا ثابت في العاجز ، لأنه من الممكن أن يقال : لو شاء لآمن ، بشرط أن لا يكون كان فيه العجز وكان بدله القدرة ، فكيف يقع الفرق!.

وأيضا ، فإن قدرة الإيمان منفصلة عن قدرة مشيئة الإيمان ، فجوزوا أن يخلق في

٢٧٣

الكافر قدرة مشيئة الإيمان ، ولا يخلق فيه قدرة الإيمان. فلا يمكن أن يقال لو شاء لآمن.

ثم إنه رحمه‌الله ، أجمل هذه الجملة التي فصلناها وقال : إن الإيمان لا يفعل بالجواز ، لا بالصحة ، ولا بالتوهم ، ولا بالإطلاق ، ولا بالتخلية ، ولا بالمشيئة ، ولا بكونه غير ممنوع ، وإنما يفعل بالقدرة ، والكافر لم يعط القدرة ، فيكون تكليفه والحال هذه تكليفا لما لا يطاق ، وينزل منزلة تكليف العاجز ، وقد تقرر في عقل كل عاقل قبح تكليف من هذا حاله ، ففسد ما قالوه.

فرق آخر ، قالوا : إن الكافر تارك للإيمان مشغول بضده ، فكأنه قد أتي في فقد الإيمان من جهته ، وليس كذلك العاجز.

والأصل في الجواب عن ذلك أن التارك إنما يستعمل في من لم يفعل ما يقدر عليه في الحال التي يقدر عليه ، ولهذا لا يقال في الزمن : إنه تارك للعدو ، ولا للمقصوص الجناح : إنه تارك للطيران ، لما لم يقدرا عليه ، وأيضا فلا يقال : إن أحدنا تارك لخلق الأجسام والألوان لما لم يقدر عليها.

إذا ثبت هذا ، وعندهم أن الكافر غير قادر على الإيمان أصلا ولا يمكنه الانفكاك من الكفر ، فكيف يوصف بأنه تارك له؟.

وأما الشغل ، فإنما يستعمل حقيقة في الظروف والأواني ، يقال : هذا الجواب مشغول بالحنطة عن الشعير والآنية مشغولة باللبن عن العسل.

ثم يستعمل في القادر على الشيء إذا شغل بأحد الفعلين عن الآخر تشبيها بذلك ، فيقال : إنه مشغول بالكتابة عن الصياغة ، وبالصلاة عن الأكل ، لما لم يمكنه الجمع بينهما.

وإذا كان لا تجرى هذه العبارة إلا على القادر ، وعندكم أن الكافر غير قادر على الإيمان ، فكيف يصح وصفه بذلك؟.

وأما قولهم : إن الكافر أتي في فقد الإيمان من جهة نفسه بخلاف العاجز فلا يصح ، لأنه إذا لم يقدر الكافر على الإيمان ، فسواء أتي في ذلك من قبل نفسه أو من قبل غيره فإنه لا يحسن تكليفه به ، ألا ترى أن من عدم الرجل لم يحسن تكليفه بالقيام ، سواء أتى في فقد الرجل من جهته أو من جهة غيره.

٢٧٤

وأيضا ، فلو جاز أن يقال في الكافر : إنه قد أتى في فقد الإيمان من جهته مع أنه غير قادر عليه فلا يتعلق به ، لجاز أن يقال في الرومي : إنه قد أتي في فقد السواد من جهته ، ولجاز أن يقال في الزنجي : إنه قد أتي في فقد البياض من جهته ، والمعلوم خلافه ، وأيضا ، فلو جاز أن يقال في الكافر مع أنه لا يقدر على الإيمان إنه قد أتى في فقد الإيمان من جهته ، لجاز مثله في العاجز.

ثم إنه رحم الله ، حرر ما ذكرناه على وجه آخر فقال : إن الفعل إذا احتاج في وقوعه إلى أمر من الأمور فإن التكليف به مع عدم ذلك الأمر قبيح ، ومثل ذلك بالزكاة ، قال : فكما أن التكليف بها مع فقد المال يقبح ، كذلك يجب في التكليف بالإيمان مع فقد القدرة عليه أن يكون قبيحا.

إلا أن هذا المثال شرعي ، والشرعيات إنما تثبت بعد ثبات هذه المسألة ، فالأولى أن نورد في مثاله قضاء الدين فنقول : إنه كما يحتاج إلى المال يحتاج إلى القدرة ، فكما أن التكليف به مع فقد المال يقبح ، كذلك مع فقد القدرة.

وإن شئت فرضت الكلام في الفعل المحكم ، فتقول : إن الفعل المحكم كما يحتاج في وقوعه إلى العلم يحتاج إلى القدرة ، فكما أن التكليف به مع فقد العلم يقبح ، فكذلك مع فقد القدرة.

وإن شئت ذكرت النظر والاستدلال فقلت : كما أن ذلك محتاج إلى كمال العقل فإنه محتاج إلى القدرة ، فكما أنه يقبح التكليف مع زوال العقل ، وكذلك مع عدم القدرة. وإن شئت ذكرت الآلة فتقول : إن الفعل كما يحتاج إلى الآلة فكذلك يحتاج إلى القدرة ، فكما أن التكليف به مع فقد الآلة يقبح ، فكذلك مع فقد القدرة.

ثم إن قاضي القضاة أورد على نفسه سؤالين ، فقال :

إذا جاز أن يكلف الله تعالى الضعيف بل العاجز بل المعدوم عندكم مع أنهم غير قادرني عليه ، فلأن يجوز أن يكلف الكافر مع عدم القدرة أولى.

والثاني : هو أن الفعل كما يحتاج إلى القدرة فإنه يحتاج إلى الآلة ، ثم إن الآلات بعضها متقدمة وبعضها مقارنة ، فلم لا يجوز أن يكون في القدرة أيضا ما يتقدم وفيها ما يقارن ، حتى تكون قدرتنا مقارنة لمقدورها ، وقدرة القديم تعالى متقدمة لها.

ونحن نجيب عن هذا السؤال الثاني أولا ، لأنه أليق بما نحن فيه ، ثم نعطف عليه

٢٧٥

الجواب عن الأول ، فنقول.

أقسام الآلات :

فمنها : ما يجب تقدمها ولا يجب مقارنتها وذلك كلما يكون وصلة إلى الفعل ، نحو القوس وما يجري مجراها ، فإنها لا بد أن تكون متقدمة على الإصابة حتى يصح استعمالها فيها ، ولهذا يصح أن تنكسر ولما وقعت الإصابة بعد.

ومنها : ما يجب تقدمها ومقارنتها جميعا ، وذلك كلما يكون محلا للفعل وما يجري مجراها ، نحو اللسان ، فإنه يجب تقدمه حتى يكون معينا على الكلام ، ويجب مقارنته حتى يكون محلا. وأما ما يجري مجراه فكالسكين فإنه يجب تقدمه حتى يحصل به الذبح ، ويجب مقارنته لأن الذبح إنما يحصل بأن يتخلل السكين في المحل المفري.

ومنها : ما يجب مقارنتها ولا يجوز فيها التقدم ، وذلك كصلابة الأرض في التصرف فإنها ينبغي أن تكون ثابتة في الحال ولا يجب تقدمها.

فهذه قسمة الآلات.

أقسام المعاني : القدرة ، العلم ، الإرادة :

فكما أن الآلات تنقسم هذه القسمة ، فكذلك المعاني التي يحتاج الفعل في الوقوع إليها من القدرة والعلم والإرادة تنقسم.

فمنها : ما يجب تقدمها ، ومنها ما يجب مقارنتها ، ومنها ما يجب فيه كلا الأمرين.

إذا ثبت هذا ، فلنا أن ننظر أن القدرة من أي هذه الأقسام هي ، فنظرنا فإذا هي من قسمة ما يجب تقدمها ، لأنها كالوصلة إلى الفعل ، كالقوس فإنها إنما وجب تقدمها على الإصابة لما كانت وصلة إليه ، وإذا كان ذلك كذلك فقد فسد ما قالوه وصح الجواب عنه. هذا هو الجواب عن السؤال الثاني.

وأما الجواب عن السؤال الأول فعلى طريق الجملة ، هو أن نقول :

إن القديم لم يكلف المعدوم ولا الضعيف ولا العاجز أن يأتي بالفعل وهو على هذه الأحوال ، وإنما كلفه الفعل بعد الإيجاد والإحياء والإقدار والتمكين وإزاحة العلة باللطف وغيره ، ففسد ظنكم.

٢٧٦

وتفصيل هذه الجملة ، هو أن أوامر الله تعالى تنقسم إلى ما يكون أمرا على الإطلاق ، وإلى ما يكون أمرا بشرط. فالمأمور بالشيء على الإطلاق يلزمه ذلك الفعل في الحال ؛ فأما المأمور به بشرط فإن ذلك الفعل إنما يلزمه إذا حصل ذلك الشرط ، والشرط في مثلنا أن يوجد ويحصل على صفة المكلفين.

فعلى هذا نقول : إن الموجودين في زمن الرسول كانوا مكلفين بهذه العبارات في الحال ، حتى كان يلزمهم التكفل بحفظه إلى أن يؤدوه إلى من بعدهم ، ثم كذلك في كل عصر ، وأما الذين لم يوجدوا في الحال فلا تكليف عليهم بشيء من ذلك إلا إذا أوجدوا وصاروا بصفة المكلفين.

والغرض بقولنا : إن الخطاب متناول لهم والتكليف يجمعهم والموجودين في الحال جميعا ، أنه ليس يجب تكرار الخطاب بهذه العبارات من جهة الله تعالى ولا من رسله في سائر الأعصار وحالا بعد حال ، بل الخطاب الأول كاف ، ويكون السامعون له في الحال يلزمهم أداؤه إلى من بعدهم ، وإذا كان هذا هو الغرض ، لم يصح ما ظنوه من أنا جعلنا العاجز والضعيف والمعدوم مكلفا بالفعل وهو عاجز ضعيف معدوم ، بل إنما يكونون مكلفين إذا وجدوا واستكملوا شرائط التكليف ، ولا شبهة في حسن التكليف على هذا الحد. ألا ترى أنه يحسن من أحدنا أن يكلف غلامه الصعود إلى السطح غدا وإن لم يمكنه في الحال بإعطاء ما يحتاج إليه من السلم وغيره ، وإنما يقبح تكليفه الصعود مع عدم التمكين وإعطاء السلم وغيره ، لو كلفه به في الحال على ما يقوله القوم في الكافر ، ففارق حال هؤلاء حال الكافر ، فإن عندهم أنه مكلف في الحال بالإيمان وتحصيله ، مع أنه لا قدرة له عليه ولا له طاقة به ، بل لا يمكنه الانفكاك عن ضده الذي هو الكفر ، فأشبه تكليفه تكليف الزمن بالمشي على الزمانة ، وتكليف الأعمى بنقط الصحف على جهة الصواب على العمى.

ثم إنه رحمه‌الله أجاب عن السؤال الثاني ، فقال : إن الآلات تنقسم إلى ما يجب تقدمها كالقوس وما يجري مجراها ، وإلى ما يجب مقارنتها كصلابة الأرض وغيرها ، وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين كاللسان في الكلام والسكين في الذبح وما شاكل ذلك ، وكما أن هذه الآلات تنقسم هذه القسمة ، فكذلك المعاني التي يحتاج الفعل في الوقوع إليها تنقسم إلى ما يجب فيها التقدم ، وإلى ما يجب فيها المقارنة ، وإلى ما يجب فيه كلا الأمرين.

إذا ثبت هذا ، وثبت احتياج الفعل إلى القدرة ، وجب أن تلحق القدرة بما هو

٢٧٧

كالوصلة إلى الفعل من الآلات نحو القوس وغيرها ؛ ومعلوم أن ما هذا سبيله يجب فيها التقدم. والذي يبين لك أن القدرة كالوصلة إلى الفعل ، هو أن الفعل إنما يحتاج إلى القدرة لخروجه من العدم إلى الوجود ، وإذا كان محتاجا إليها في هذا الوجه وجب ما ذكرناه ؛ والذي يدل على أن الفعل إنما يحتاج إلى القدرة لخروجه عن العدم إلى الوجود ، هو أنه لا يخلو ؛ إما يكون محتاجا إليها لهذا الوجه ، أو لغيره : لا يجوز أن يكون محتاجا إليها لغير هذا الوجه لأن احتياج الفعل إلى القدرة ظاهر ، فلا يخلو ، إما أن يكون محتاجا إليها في حالة الوجود والحدوث ، أو في حالة العدم. لا يجوز أن يكون محتاجا إليها في حالة الوجود لأن حالة الوجود حالة الاستغناء عنها ، فليس إلا أن يحتاج إليها في حالة العدم على ما نقوله.

فإن قيل : ولم قلتم : إن حالة الوجود وحالة الاستغناء؟ قلنا : لأن الفعل لو لم يستغن عن القدرة في حالة الحدوث لم يستغن أيضا في حالة البقاء ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : ولم جمعت بينهما؟ قلنا : لأن الذي أوجب احتياجه إلى القدرة في إحدى الحالتين ثابت في الحالة الأخرى ومع ثبات ذلك الوجه لم يجز الافتراق في الحاجة بحسب اختلاف حالتي الحدوث والبقاء ، لأن كل حكم ثبت للذات في حالة الحدوث لعلة من العلل يجب ثباته في حالة البقاء لمكان تلك العلة ، ألا ترى أن الجوهر لما وجب أن يكون متحيزا في حالة الحدوث لكونه مقتضى من صفة الذات وجب ذلك أيضا في حالة البقاء ، ولما صح أن يكون كائنا في هذه الجهة بدلا من هذه لتحيزه في حالة الحدوث صح ذلك في حالة البقاء ، ولما استحال أن يكون مجتمعا مفترقا في حالة الحدوث لاستحالة اجتماع الضدين استحال ذلك في حالة البقاء أيضا؟ فصح بما قلناه : أن الفعل لو احتاج إلى القدرة في حالة الحدوث لوجب احتياجه إلى القدرة في حالة البقاء ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : كيف يصح هذا وعندكم أن الفعل يحسن في حالة الحدوث ولا يحسن في حالة البقاء؟ قلنا : إنما كان ذلك كذلك لأن الفعل إنما يحسن لوقوعه على وجه ويقبح لوقوعه على وجه وذلك تابع للحدوث ، فصح ما قلناه. وهكذا الجواب إذا قالوا : أليس المنع يكون منعا في حالة الحدوث ولا يكون كذلك في حالة البقاء ، لأنه إنما يكون منعا لتعلقه بالفاعل ولذلك اختص حالة الحدوث ، بخلاف الفعل عندهم فإنه إنما يتعلق بالقدرة لوجوده ، وذلك في حالة البقاء كهو ، في حالة الحدوث.

وأحد ما يدل على أن القدرة لا تتعلق بالموجود ، هو أنه لو تعلقت قدرتنا

٢٧٨

بالموجود ، لوجب أن تتعلق أيضا قدرة الله تعالى به ، فكان يجب صحة أن يوجد أحدنا وهو بالري في الحالة الثانية بالصين ، ومعلوم خلافه.

وأيضا ، فلو كانت قدرتنا تتعلق بالموجود لوجب مثله في قدرة الله تعالى ، وذلك يوجب قدم العالم أو أن يكون القديم قادرا بقدرة محدثة ، وأي ذلك كان فهو محال وهذا لأن قدرته إن ثبتت جلّ وعزّ قديمة في ما لم يزل وهي لا تتعلق إلا بالموجود ، وجب وجود العالم في ما لم يزل ، وفي ذلك قدمه. وإن لم تثبت قدرته في ما لم يزل ، وجب كونه قادرا بقدرة محدثة على ما ذكرناه.

فإن قيل : ولم قلتم : إن هذه القضية لو وجبت في قدرتنا لوجبت في قدرة الله تعالى؟ قيل له : لأن ما كان في حكم الصفة ، لا يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الموصوفين بها : ألا ترى أن علمنا لما كان من حقه أن يتعلق بالشيء على ما هو به ، كان علم الله تعالى بهذه المنزلة.

فإن قال : إنما وجبت هذه القضية في الشاهد لأن صفتنا بالقدرة مستندة إلى معنى وليس كذلك سبيل القديم فإنه قادر لذاته ، قلنا : إن ما كان في حكم الصفة لا يختلف الحال فيه سواء استندت إلى علة أو لم تستند إلى علة ، فإذا كانت القدرة لا تتعلق إلا بالموجود ، فكذلك كونه قادرا إذا ثبت أن هذا من حكم الصفة في الشاهد ، وكذلك في الغائب.

صور ذكرها مشايخ القاضي :

وقد ذكر مشايخنا لهذه المشكلة صورا يظهر الكلام عندها ، فقالوا : من قدر على أن يطلق امرأته لا يخلو ؛ إما أن يكون قادرا على ذلك قبل وقوع الطلاق ، أو حال وقوع الطلاق. فإن قدر على ذلك قبل وقوع الطلاق فهو الذي نقوله ، وإن قدر عليه حال الوقوع فالطلاق واقع ولا يحتاج إلى القدرة.

وربما قالوا : من قدر على إلقاء العصا من يده فلا يخلو ؛ إما أن يقدر عليه قبل وقوع الإلقاء ، أو حالة الوقوع. فإن قدر قبل الإلقاء فهو الذي نقوله ، وإن قدر عليه حال الإلقاء فالعصا ملقاة فلا يحتاج إلى القدرة.

وربما قالوا : القادر على أن ينتقل من الشمس إلى الظل لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يقدر عليه قبل الانتقال أو حالة الانتقال. فإن قدر عليه قبل الانتقال فهو

٢٧٩

الذي نقوله ، وإن قدر عليه حالة الانتقال فالانتقال قد وقع فلا حاجة به إلى القدرة.

فصح بهذه الوجوه أن القدرة على مذهبهم إنما توجد حالة الاستغناء عنها ، فأما في حالة الحاجة إليها فهي مفقودة.

فإن قالوا : إنما يقدر على هذه الأمور حالة استحقاقه الأسماء المشتقة منها ، فكما أنه لا يسمى مطلقا ولا ملقيا إلا حال وقوع الطلاق والإلقاء ، وكذلك لا يقدر عليها إلا في هذه الحالة؟ قلنا : إن هذا تكرار وتعليق الشيء بنفسه بخلاف ما يضاف ، فالقدرة غير الإلقاء والطلاق.

وأحد ما يدل على أن القدرة لا يجوز أن تكون مقارنة لمقدورها ، هو أنه لو وجب ذلك في الشاهد لوجب في الغائب أيضا ، وذلك يقتضي إما قدم العالم ، أو أن يكون القديم قادرا بقدرة محدثة ، وأي ذلك كان فهو فاسد وقد مضى ما في هذه الدلالة.

القدرة متعلقة بالمتماثل والمختلف والمتضاد :

واعلم ، أن القدرة عندنا متعلقة بالمتماثل والمختلف والمتضاد ، ولا يفترق الحال في ذلك بين قدرة القوي والضعيف ، وإنما يفترقان من حيث إن أحدهما يمكنه أن يفعل في كل جزء من الثقيل الذي يريد رفعه بعدد ما فيه من الاعتماد وجزءا آخر زائدا على ذلك ، وليس كذلك الآخر.

إذا ثبتت هذه القضية ، فالقدرة إنما تتعلق والوقت واحد والمحل واحد بجزء واحد من المتماثل ، ولا تتعلق بأزيد من ذلك ؛ إذ لو تعدت في التعلق عنه إلى ما زاد عليه ولا حاصر ، لوجب تعلقها بما لا يتناهى كالاعتقاد ، وذلك يوجب صحة أن يمانع أحدنا القديم جلّ وعزّ ، وأن يرتفع التفاضل بين القادرين ، وقد عرفت فساده. فأما وقد اختلفت هذه الشرائط فإنه يصح أن يتعلق بأزيد من جزء واحد من المتماثل ، وعلى هذا يصح أن يؤلف بين أجزاء كثيرة دفعة واحدة ، على أن ما فيها من التأليف متماثل ؛ هذا في المتماثلات.

فأما في المختلفات ؛ فإنه لا يجب أن نعتبر ما اعتبرناه في المتماثلات من الشرائط ، فإنه يصح أن نفعل بالقدرة الواحدة جملة من المختلفات في المحل الواحد في وقت واحد. ألا ترى أنه يقدر على أن يريد قدوم زيد ، وعمرو ، وبكر ، وخالد ، مع

٢٨٠