شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن في أفعال العباد ما يشتمل على التهود والتنصر والتمجس ، ولي شيء من ذلك متقنا ، فلا يجوز أن يكون الله تعالى خالقا لها.

فإن قال : ما أنكرتم أن هذه الأشياء متقنة لتضمنها الدلالة على أن الله تعالى جعلها متناقضة فاسدة؟.

قلنا : إن ذلك لا يصح من وجوه :

أحدها : أن هذه الأشياء التي هي التهود والتنصر والتمجس وغير ذلك ، كلها مخلوقة فيكم من جهة الله تعالى على سائر الوجوه عندكم ، فكيف يقال إن الله تعالى جعلها على وجه ولم يجعلها على وجه؟.

ومنها : أن التناقض والفساد مما لا تأثير لجعل الجاعل فيه ، فكيف يصح قولكم إن الله تعالى جعله متناقضا؟ يبين ذلك ، أنه لو كان لجعل الجاعل تأثير في تناقض الشيء وفساده ، لكان لا يمتنع أن يجعل الظلم متناقضا فاسدا في بعض الحالات ، والعدل في بعضها ، وذلك محال.

وأيضا ، فليس يكفي في كون الفعل متقنا أن يكون دلالة على أمر من الأمور بل لا بد أن يكون حسنا ، ألا ترى أن الكلام الفصيح الذي يشتمل على الفحش والخنا لا يوصف بالإتقان مع تضمنه الدلالة على أن فاعله قادر عالم ، ففسد ما قالوه.

ثم إنه رحمه‌الله ، ذكر : أن جميع القرآن يشهد على ما قلناه ويؤذن بفساد مذهبهم ، لأن جميع القرآن أو أكثره يتضمن المدح والذم والوعد والوعيد والثواب والعقاب ، فلو كانت هذه التصرفات من جهة الله تعالى مخلوقة في العباد ، لكان لا يحسن المدح ولا الذم ولا الثواب ولا العقاب ، لأن مدح الغير وذمه على فعل لا يتعلق به لا يحسن.

فإن قيل : ما أنكرتم أن هذه التصرفات متعلقة بنا من جهة الكسب؟ قلنا : إن الكسب غير معقول ، وما لا يعقل لا يجوز أن يكون جهة الحاجة.

وبعد ، فإن الكسب عندكم يجب مع الصحة ، وما يجب عند الصحة لا يجوز أن ينصرف إليه المدح والذم ويستحق عليه الثواب والعقاب.

٢٤١

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا).

ومن جملتها ، قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [الإسراء : ٩٤] فلو كان الإيمان من جهة الله تعالى وموقوفا على اختياره ، حتى إن خلق كان ، وإن لم يخلق لم يكن ، لكان لا يكون لهذا الكلام معنى ، لأن للمكلف أن يقول : الذي منعني منه أنك لم تخلقه فيّ ، وخلقت في ضده الذي هو الكفر ، وصار الحال فيه كالحال في أحدنا إذا شديدي غلامه إلى رجليه ، ويطرحه في مقر بيت مظلم ، ويغلق عليه الأبواب ، ويقول : يا شقي لم لا تخرج من هذا البيت ، وما منعك منه؟ فكما أن هذا سخف منه ، كذلك في مسألتنا.

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

ومن ذلك أيضا ، قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) أورد ذلك متعجبا منهم في الكفر ، مع ماله عزوجل عليه من النعم. ولو كان كما قالوه لم يكن للاستعجاب موضع ولكان بمنزلة قوله كيف تسودون ، وقد أنعمت عليكم وفعلت وصنعت ، فكما أن ذلك مما لا وجه له لما لم يكن الاسوداد متعلقا بهم وموقوفا على اختيارهم ، وكذلك في مسألتنا.

على أن مع هذا المذهب لا يثبت لله تعالى نعمة على الكفار ، لا نعمة الدين ولا نعمة الدنيا. أما نعمة الدين فلا إشكال فيه ، لأنه قد خلق فيهم الكفر ، والقدرة الموجبة له ، وسلبهم الإيمان وقدرته وإرادته ، وجعلهم من الأشقياء ، فكيف يثبت له عليه نعمة. وأما نعمة الدنيا ، فلأن هذه المنافع وإن كانت تصل إليهم في الحال ، فإنها من حيث توصلهم إلى النار الأبد ، والعقاب السرمد ، بمنزلة الخبيص المسموم الذي يؤدي إلى الهلاك ، فكما أن من قدمه إلى غيره لا يكون منعما بذلك عليه ، كذلك في هذا الموضع. وأيضا فلا بد من أن يكون غرض الموصل النفع إلى الغير نفعه ، حتى يكون منعما عليه ، وعلى مذهبهم لا يعلم أن غرض القديم تعالى بذلك نفع الكافر ، بل من المجوز أن يكون ذلك لكي يكون أدخل في إضلاله وإغوائه ، فمتى تثبت لله والحال هذه نعمة على الكفار بل على المؤمن أيضا؟.

(جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).

ومن ذلك ، قوله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)) وقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (٦٠)) [الرحمن : ٦٠] فلو لا أنا نعمل ونصنع ، وإلا كان هذا الكلام كذبا ، وكان

٢٤٢

الجزاء على ما يخلقه فينا قبيحا.

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

ومن ذلك ، قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [النساء : ٧٩] وقوله : (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الحديد : ٨] فلو لا أن الإيمان موقوف على اختيارنا وإلا كان لا يستقيم هذا الكلام ، ويجري مجرى أن يقول لهم : ما لهم لا يسودّون ، وما ذا عليهم لو اسودوا؟ وذلك مما لا يجوز. وكان للخصم أن يقول : أنت الذي منعتني عن الإيمان بأشد منه ، لم تخلقه فيّ وخلقت فيّ ضده الذي هو الكفر.

(فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ).

ومن ذلك ، قوله تبارك وتقدس وتعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)) [المدثر : ٤٩] وذلك إنما يصح إذا لم يكن الإعراض من قبله ، فأما إذا كان هو الذي منعهم عن التذكرة وخلق فيهم الإعراض عنه ، فلا وجه لهذا التوبيخ والسؤال.

(فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

ومن ذلك ، قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] فقد فوض الأمر في ذلك إلى اختيارنا. فلو لا أن الكفر والإيمان متعلقان بنا ومحتاجان إلينا ، وإلا كان لا معنى لهذا الكلام ولتنزل منزلة قوله : من شاء فليسود ، ومن شاء فليبيض ، فكما أن ذلك سخف لأن الاسوداد والإبياض غير متعلقين بنا ، كذلك في مسألتنا.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ).

ومن جملة ذلك ، قوله تعالى وتقدس : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [التغابن : ٢] أورد الآية على وجه التوبيخ ، وذلك لا يحسن إلا بعد احتياج الكفر والإيمان إلينا وتعلقهما بنا ، وإلا كان ذلك بمنزلة أن يوبخ أحدنا على طول قامته وقصرها ، فيقال : قد أنعمنا عليك وصنعنا بك وفعلنا ، فقصرت قامتك أو طالت.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً).

ومن ذلك ، قوله تعالى وتنزه : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص : ٢٧] نفى الله تعالى أن يكون في خلقه باطل ، فلو لا أن هذه القبائح وغيرها من التصرفات

٢٤٣

من جهتنا ومتعلقة بنا ، وإن كان يجب أن تكون الأباطيل كلها من قبله فيكون مبطلا كاذبا تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ :)

ومن ذلك ، قوله تعالى وتنزه وتقدس (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)) [الذاريات : ٥٦] وهذا يدل على أن الله تعالى لا يريد من العباد إلا العبادة والطاعة ، لأن هذه اللام لام الغرض ، الذي يسميه أهل اللغة : لام كي ، بدليل أنهم لا يفصلون بين قول القائل : دخلت بغداد لطلب العلم ، وبين قوله دخلت وغرضي طلب العلم. ويدل أيضا على أن هذه الأفعال محدثة من جهتنا ومتعلقة بنا ، وإلا كان لا معنى لهذا الكلام.

الكلام في الكسب :

ثم إنه رحمه‌الله ، تكلم في الكسب وما يتصل بذلك.

فقد علم عقلا وسمعا فساد ما تقوله المجبرة المدبرة الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى.

وجملة القول في ذلك ، أن تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلقة بنا لحدوثها.

وعند جهم بن صفوان أنها لا تتعلق بنا ، ويقول إنما نحن كالظروف لها حتى إن خلق فينا كان ، وإن لم يخلق لم يكن.

وعند ضرار بن عمرو أنها متعلقة بنا ومحتاجة إلينا ، ولكن جهة الحاجة إنما هو الكسب ، وقد شارك جهما في المذهب ، وزاد عليه في الإحالة ، لأن ما ذكره جهم على فساد معقول ، وما ذكره هو غير معقول أصلا.

فأما المتخلفون من المجبرة ، فقد قسموا التصرفات قسمين : فجعلوا أحد القسمين متعلقا بنا وهو المباشر ، والقسم الآخر غير متعلق بنا وهو المتولد. فشاركوا الأولين في المذهب ، وزادوا عليهم في الإحالة ، حيث فصلوا بين المباشر المتولد ، مع أنه لا سبيل إلى الفصل بينهما.

ونحن قبل الاشتغال بإفساد هذا المذهب نبين حقيقة الكسب.

٢٤٤

حقيقة الكسب :

اعلم ، أن الكسب كل فعل يستجلب به نفع ، أو يستدفع به ضرر. يدلك على ذلك ، هو أن العرب إذا اعتقدوا في فعل أنه يستجلب به نفع أو يستدفع به ضرر سموه كسبا ، ولهذا سموا هذه الحرف مكاسب ، والمتحرف بها كاسبا ، والجوارح من الطير كواسب.

ومتى قيل إن هذه حقيقة الكسب من طريق العربية ، وليس الكلام إلا في الكسب الاصطلاحي ، قلنا : الاصطلاح على ما لا يعقل غير ممكن ، لأن الشيء يعقل معناه أولا ، ثم إن لم يوجد له اسم في اللغة يصطلح عليه ، فأما والمعنى لم يثبت بعد ولم يعقل فلا وجه للاصطلاح عليه. وأيضا فلا بد من أن يكون للاصطلاح شبه بأصل الوضع ، ما يقوله مخالفونا لا شبه له بأصل الوضع. إذا ثبت هذا ، عدنا إلى الكلام على إفساد هذه المذاهب.

فأما مذهب جهم ، فقد دخل فساده تحت ما تقدم.

وأما الكلام على القائلين بالكسب ، فالأصل في أن تعلم أن فساد المذهب قد يكون بأحد طريقين :

أحدهما : بأن تبين فساده بالدلالة.

والثاني : بأن تبين أنه غير معقول في نفسه. وإذا ثبت أنه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مئونة الكلام عليه ، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن. وهذه الطريق هي التي سلكناها في فساد القول بالطبع والقول بالتثليث ، فقلنا للطبيعيين : إن مذهبكم في الطبع غير معقول ، وقلنا للنصارى : إن اعتقاد واحد ثلاثة مما لا يمكن ، ومذهبكم في ذلك مما لا يعقل ، والكلام عليه مما لا وجه له ، وبهذه الطريق يفسد القول بالكسب ، فإن ذلك غير معقول كما عددناه من المذاهب.

والذي يبين لك صحة ما نقوله ، أنه لو كان معقولا لكان يجب أن يعقله مخالفو المجبرة في ذلك ، من الزيدية ، والمعتزلة ، والخوارج ، والإمامية ، والمعلوم أنهم لا يعقلونه. فلو لا أنه غير معقول في نفسه ، وإلا كان يجب أن يعقله هؤلاء ، فإن دواعيهم متوفرة ، وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى ، فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه ، دل على أن ذلك مما لا

٢٤٥

يمكن اعتقاده والإخبار عنه البتة.

فلو قالوا : إنهم عقلوا هذا المعنى واعتقدوه ، غير أنهم لعجزهم عن الكلام عليه وإبطاله كتموه وجحدوه وادعوا أننا لا نهتدي إليه ولا نعقله.

قلنا : إن هذه الطريق إنما تجوز على العدد اليسير بطريق التواطؤ ، فأما على العدد الكثير والجم الغفير ، فإن ذلك مما لا يتصور خاصة وبعض هؤلاء المخبرين من الشرق ، والبعض من الغرب.

وأحد ما يدل على أن الكسب غير معقول ، هو أنه لو كان معقولا ، لوجب كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه ، أن يعقله غيرهم من أرباب اللغات وأن يضعوا له عبارة تنبئ عن معناه ، لأنه لا يجوز في معنى عقلوه أن يخلوه عن لفظة تنبئ عنه ، فلما لم يوجد في شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة البتة ، دل على أنه غير معقول.

وهذه طرقة ذكرها شيخنا أبو هاشم. ولا ينقلب ذلك عليه في الحال ، لأنه لم يثبت الحال معقولة بمجردها ، وإنما جعل الذات على الحال معقولا ، فلا جرم ما من أحد من أرباب اللسان إلا وقد وضعوا للموصوف اسما ، وللصفة اسما ، وفصلوا بين كل واحد منهما بعبارة.

على أن ما ذكره شيخنا أبو هاشم لا يمكن معرفته إلا بدليل دقيق ، ولا يمتنع أن يعرفه بعضهم ولا يعرفه الباقون ، وليس كذلك الكسب ، لأنه لو كان معقولا لعقله العوام والخواص جميعا ، ولوضعوا له عبارة تنبئ عنه لشدة الحاجة إليه.

ثم إنا نقول لهم : عقّلونا معنى الكسب وخبرونا عنه ، فإن اشتغلوا بالتحديد ، قلنا : الشيء يعقل أولا ثم يحد ، لأن التحديد ليس إلا تفصيل لفظ مشكل بلفظ واضح ، فكيف توصلتم إلى معناه بطريق التحديد؟.

ثم يقال لهم : وما هو الذي حددتم به الكسب؟ فإن قالوا : ما وقع بقدرة محدثة ، قلنا : ما تعنون بقولكم ما وقع بقدرة محدثة؟ فإن أردتم به ما حدث فهو الذي نقوله ، وإن أردتم به ما وقع كسبا فعن الكسب سألناكم فكيف تفسرونه بنفسه ، وهل هذا إلا إحالة بالمجهول على المجهول؟

وأيضا ، فإن قولكم ما وقع بقدرة محدثة ، ينبني على إثبات القدرة ، وإثبات القدرة يترتب على كون الواحد منا قادرا ، وذلك ينبني على كونه فاعلا ، ومن مذهبكم أنه لا

٢٤٦

فاعل في الشاهد.

وأيضا ، فإن هذا يقتضي أن يكون للفاعل وقدرته فيه تأثير ، وذلك خلاف ما ذهبتم إليه ، لأن عندكم أن هذا الفعل يتعلق بالله تعالى ، إن شاء أبصره مع القدرة ، وإن شاء أبصره ولا قدرة.

وأيضا : فلو جاز أن يقال : هذه الأفعال كسب لنا مع أنها متعلقة بالله تعالى على سائر وجوهها ، لجاز في القدرة مثله. فيقال : إنها كسب لنا وإن لم تتعلق بنا البتة. فإن قالوا : إن الكسب ما وقع وكانت القدرة قدرة عليه على ما يقوله بعضهم ، فإن ما ذكرناه في الحد الأول يعود هاهنا فلا معنى لإعادته.

ونقول أيضا : وعلى أي وجه تكون القدرة قدرة عليه؟ فإن قالوا على وجه الإحداث ، فقد تركوا مذهبهم ونقضوا غرضهم ، وإن قالوا على وجه الكسب ، فقد فسروا الكسب بنفسه.

فإن قالوا : الكسب هو ما وقع باختيار الفاعل ، فإن ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة على الحد الأول والثاني يعود هاهنا ، ويختص هذا الحد وجهان آخران أو أكثر أحدهما ، أن هذا يوجب فيما يقع من الساهي أن لا يكون كسبا له ، وقد عرف خلافه. والثاني ، أن هذا يقتضي أن المتولد كسب لنا كالمباشر ، لأنه يقع باختيار الفاعل كما أن المباشر يقع باختياره ، ألا ترى أن الكتابة والبناء يقعان باختيار الفاعل لهما مع أنهما من التولدات.

وأيضا ، فإن هذا يوهم أن الاختيار متعلق بالفاعل ، لأنكم أضفتموه إليه ، وعندكم أن الاختيار كالمختار في أن لا يتعلق بالفاعل.

وأيضا ، فإن عندكم أنه لا فاعل في الشاهد ، فكيف حددتم الكسب به؟ ومتى قلتم : إنا نعني به الكسب ، فقد فسرتم الشيء بنفسه ، وذلك مما لا يخفى فساده.

فإن قالوا : قد وجدنا تفرقة بين الحركة الاختيارية والحركة الاضطرارية ، وعلمنا تعلق إحداها بنا دون الثانية ، فجعلنا الكسب عبارة عن هذه التفرقة.

قلنا : كيف يمكنكم ذلك مع أن كلتي الحركتين موجودتان من جهة الله تعالى؟ ولئن ثبت هذه التفرقة ، فإنما تثبت على مذهبنا ، إذا جعلنا إحدى الحركتين متعلقة بنا من طريق الحدوث دون الطريق الأخرى.

٢٤٧

وبعد ، فإذا كان كل واحدة من الحركتين متعلقة بالله تعالى ، فليس إحداهما بأن تجعل كسبا لنا أولى من الأخرى ، فكان يجب أن يجعل كل واحدة منهما كسبا لنا ، أو يقضي بأن شيئا من ذلك لا يتعلق بنا لا من جهة الكسب ولا من غيره.

وبعد ، فإن هذه التفرقة ثابتة في المتولدات ثباتها في المباشر ، فكان يجب أن يجعل المتولدات كسبا لنا ، والمعلوم خلافه.

وبعد ، فإن دل هذا على أن إحدى الحركتين متعلقة بنا من جهة الكسب ، ليدلن أيضا على أنها متعلقة بنا من جهة الحدوث ، وإلا فما الفرق؟

فإن قالوا : إنا نعني بالكسب وقوع هذه الحركات ، قياما مرة ، وقعودا أخرى ، هذا من أفعال من الجوارح ، ومن أفعال القلوب ، فوقوع الاعتقاد علما مرة ، وجهلا أخرى.

قلنا : إن الوقوع إن لم يفسر بالحدوث فلا بد من أن يفسر بالكسب ، فيكون تفسير الشيء بنفسه ، وذلك مما لا يجوز.

بعد ، فإن القيام والقعود راجع إلى جملة أفعال ، والكسب فمن حقه أن يرجع به إلى كل جزء من الفعل ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟.

وقد قال مشايخنا رحمهم‌الله : إن الكسب لو كان معقولا لكان يجب أن نسمي القديم تعالى مكتسبا ، والمعلوم خلافه.

ووجه هذا الإلزام وجهان :

أحدهما : أن الله تعالى قادر لذاته ، ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على جميع أجناس المقدورات ، وعلى جميع الوجوه التي يصح أن يقدر عليها ، ومن الوجوه التي يقدر عليها الكسب ، فيجب أن يكون تعالى قادرا عليه ، فإذا قدر عليه وفعله وجب أن يسمى مكتسبا على ما ذكرناه.

والوجه الثاني : هو أن هذه التصرفات عند القوم متعلقة بالله تعالى على سائر صفاتها ووجوهها ، ومن وجوه الأفعال الكسب ، فيجب تعلقه به من هذا الوجه ، وفي ذلك ما نريده.

فإن قالوا : ليس يجب أن يكون الله تعالى مكتسبا ، لأن الكسب هو ما يقع بقدرة محدثة.

٢٤٨

قلنا : قد تكلمنا على هذا بما لا فائدة في إعادته فلا معنى للتطويل.

فإن قالوا : إن المكتسب اسم لمن يفعل بآلة ، والقديم تعالى لم يفعله بآلة فلا يجوز أن أن يسمى مكتسبا.

قلنا : إن الاسم الذي يشتق للفاعل من فعله يجب أن يجري عليه سواء فعله بآلة أو لم يفعله ، ألا ترى أن المتكلم لما كان اسما لفاعل الكلام ، أجري على كل من فعل الكلام ، سواء فعله بآلة أو بغير آلة ، ولهذا يسمى القديم تعالى متكلما.

وهكذا الكلام في قولنا فاعل ، فإنه لما كان اسما مشتقا من قولنا فعل ، أجري على كل من فعل فعلا ، سواء فعله بآلة أو لم يفعله بآلة. فصح بهذه الجملة أن الكسب غير معقول ، ولو ثبت معقولا لكان لا يصح أن يكون جهة في استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب أيضا ، لأن عندهم أنه يجب عند وجود القدرة عليه ، حتى لا يجوز انفكاك أحدنا عنه بوجه من الوجوه ، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون جهة ينصرف إليه المدح والذم ، ويستحق عليه الثواب والعقاب ، لأن هذا كسبيل أمر المرمي به من شاهق بالنزول ، فكما أنه لا يستحق على النزول المدح ولا الذم ولا الثواب ولا العقاب لما لم يمكنه الانفكاك منه ، كذلك في مسألتنا بل ما ذكرناه أولى ، لأن المرمي من شاهق ربما يتشبث بمكان ويتعلق به فلا ينزل ، وليس كذلك من جدت فيه القدرة على الكسب ، فإنه لا بد من أن يكتسب على وجه لا يمكنه الانفكاك عن البتة.

على أن الكسب لو كان معقولا على الحد الذي قالوه ، لكان لا يمتنع من أن تكون هذه التصرفات متعلقة بنا من طريق الحدوث على الحد الذي نقوله ، خاصة وما يدل عندهم على أن هذه التصرفات كسب لنا ، يدل على أنها تتعلق من جهة الحدوث.

ثم إنه رحمه‌الله عاد بعد هذه الجملة إلى إثبات الكلام في حقيقة الكسب وما يتعلق به. ونحن قد تكلمنا على ذلك ، وبينا أن الكسب عبارة عن فعل واقع على وجه ، وهو أن يستجلب به نفعا أو يستدفع به ضررا ، كما أن الخلق عبارة عن خلق واقع مقدر نوعا من التقدير ، وهو أن يكون مطابقا للصلاح لا يزاد ولا ينقص عنه ، فلا معنى للإطالة بالإعادة.

شبه القوم :

وللقوم شبه في هذا الباب ، يرومون بها إثبات الكسب مرة ، وإفساد مذهبنا

٢٤٩

أخرى ، ونحن نذكر من ذلك ما هو أشف وأروج وإلى الجواب أحوج.

فمن ذلك ، قولهم : إن هاهنا حركة اختيارية واضطرارية ، فلو كانت إحداهما متعلقة بنا من طريق الحدوث ، لوجب مثله في الأخرى لأن الحدوث ثابت فيهما ، وقد عرف خلافه ، فليس إلا أنها متعلقة بنا من طريق الكسب.

وربما يؤكدون هذا فيقولون : إن الحدوث في الذوات متماثل ، فلو تعلق حدوث الحركة بنا ، والحدوث ثابت في الجوهر واللون ، لوجب تعلقهما بنا ، والمعلوم خلافه.

وجوابنا عن ذلك : أول ما في هذا أن ذلك لا يستقيم على أصلكم فإن من مذهبكم أن كل واحدة من هاتين الحركتين موجودتان من جهة الله تعالى وموقوفتان على اختياره حتى إن اختارهما كانتا ، وإن لم يخترهما لم تكونا. فكيف سميتم إحداهما اضطرارية والأخرى اكتسابية واختيارية؟ وهل هذا إلا تسمية لا معنى تحتها ولا فائدة فيها.

وبعد ، فإن إثبات حركة اضطرارية ينبني على إثبات محدث في الغائب ، وإثبات المحدث في الغائب يترتب على إثبات محدث في الشاهد ، لأن الطريق الذي يتوصل به إلى ذلك ليس إلا أن يقاس الغائب على الشاهد فيقال : إن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، فالأجسام قد شاركتها في الحدوث ، فيجب أن تشاركها في الحاجة إلى محدث ، ومحدثها لا يجوز أن يكون الواحد منا ولا مثله ، فيجب أن يكون لها فاعل مخالف لنا وهو الله تعالى فأنتم قد سددتم على أنفسكم هذه الطريقة ، فكيف يمكنكم إثبات الحركة الاضطرارية والاستدلال بها على إثبات الكسب.

ثم إنا نعود إلى ما يختص بهذا الموضع فنقول : الاشتراك في الحدوث لا يقتضي الاشتراك في الحاجة إلى محدث معين ، وإنما الذي يقتضيه ، الاشتراك في الحاجة إلى محدث ما غير معين. ثم الكلام في تعيين المحدث يقف على الدلالة ، فإن قامت دلالة على أن محدث ذلك الفعل الواحد منا قيل به ، وإن قامت على أن محدثه غيرنا قضي به ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ يبين ذلك ، أن الحال فيها كالحال في الحكم المستند إلى العلة ، فكما لا يجب بالاشتراك في الحكم الاشتراك في الحاجة إلى تلك العلة بعينها ، وإنما يجب الاحتياج إلى علة ما غير معينة ، كذلك في مسألتنا.

وأما قولهم : إن الحدوث في الذوات متماثل ، فكلام لا معنى له ، لأن التماثل

٢٥٠

والاختلاف إنما يصحان على الذوات دون الصفات ، فكيف يصح وصف الحدوث به. على أن ما يتعلق بنا هو ذات الحركة على وجه الحدوث. وإنما كان يجب ذلك ، لو ثبت في الذوات كلها من الجواهر والألوان أنها تقف على قصدنا ودواعينا لا الحدوث ، فلا يجب إذا تعلق بنا ذات أن تتعلق بنا سائر الذوات كالحركة. فأما إذا لم تثبت هذه الطريقة إلا في بعض الذوات دون بعض فإنه لا يجب أن تتعلق كلها بنا.

ثم يقال لهم : أليس أن وجه الكسب ثابت في هذه التصرفات على حد واحد ولم يجب في القادر على بعضها أن يكون قادرا على سائرها ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟

ومما يتعلقون به في هذا الباب ، قولهم : لو تعلقت هذه التصرفات بنا من جهة الحدوث لوجب تعلقها بنا على سائر صفاتها التي هي كونها شيئا وعرضا وحسنا وقبيحا ، ومعلوم خلافه.

والجواب عنه ، أن يقال لهم : أليس أنها تتعلق بنا من جهة الكسب ثم لا يجب تعلقها بنا من هذه الوجوه التي ذكرتها ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ ثم يقال لهم : ولم جمعتم بين بعض هذه الوجوه وبين البعض؟ وما أنكرتم أن الفعل إنما يصح تعلقه بنا من جهة الحدوث لأنه لا يجب مع الصحة ، وليس كذلك الوجوه التي ذكرتموها ، فإن كونه شيئا يجب عند الصحة ، وكذلك كونه حسنا وقبيحا. على أن هذه الأمور ليست من الصفات في شيء ، لأن الشيء ليس له بكونه شيئا حال ، وليس له بكونه عرضا ولا بكونه حسنا أو قبيحا حال ، بخلاف الحدوث ففسد ما قالوه.

ومما يتعلقون به ، قولهم : لو قدر الواحد منا على إيجاد هذه التصرفات وإخراجها من العدم إلى الوجود لوجب قدرته على إعادتها ، بدليل أنه تعالى لما قدر على الإيجاد قدر على الإعادة.

وجوابنا من أين ثبت لكم أنه تعالى إنما قدر على الإعادة لقدرته على الإيجاد؟ وهل هذا إلا دعوى مجردة؟ ثم نقول لهم : إن في مقدور القديم تعالى ما لا يصح إعادته أيضا ، وهو المفعول بسبب والأجناس التي لا تبقى ، كالصوت وغيره.

فإن قالوا : إنا لا نجوز ذلك ولا نسلمه قلنا : لم نبن كلامنا على تسليمكم حتى يضرنا عدمه ، وإنما بنيناه على الدلالة.

فإن قالوا : وما الذي يدل على أن المفعول بسبب وما لا يبقى من الأخبار مما لا يصح إعادتها؟ قلنا : أما ما لا يبقى : لو صح إعادته لانقلب باقيا ، لأنه إذا صح عليه

٢٥١

الوجود وقتين مع تخلل العدم بينهما ، فكذلك من غير تخلل العدم بينهما لأن وجوده لا يمنع من وجوده فيصير باقيا بعد ما كان مما لا يبقى ، وفي ذلك خروج مما هو عليه في ذاته. وأما المفعول بسبب ، فلو أعيد ابتداء للزم أن يكون له بالحدوث وجهان : فيحصل على أحد الوجهين بقادر ، وعلى الآخر بقادر آخر. وإذا أعيد بسبب : فإما أن يعاد بذلك السبب ومن حقه أن يكون له في كل حال سبب غير ما كان ، يجب أن يكون قد تعدى من واحد إلى ما زاد عليه ولا حاصر ، فيؤدي إلى ما لا نهاية له. وإما أن يعاد بسبب غيره ، وذلك يقتضي اجتماع سببين على توليد مسبب واحد ، يؤدي إلى مقدور بين قادرين ، وهذا مما لا يجوز.

ومما يتعلقون به ، قولهم : قد ثبت أنه تعالى قادر لذاته ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على سائر أجناس المقدورات ، ومن جملة المقدورات أفعال العباد ، فيجب أن يكون قادرا عليها ، في ذلك ما نريده.

الجواب ، قلنا : لم وجب ذلك ومن أين ثبت؟ فإن قالوا الدليل على ذلك العلم ، فإنه تعالى لما كان عالما لذاته كان عالما بجميع المعلومات فكذلك في القدرة ، قلنا : هذا جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما فلا يقبل.

ثم يقال لهم : ما أنكرتم أن العلة في العلم هو أن المعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، فما من معلوم يصح أن يعلمه زيد إلا ويصح أن يعلمه عمرو وغيره من العالمين ، فإذا كان كذلك فالقديم تعالى إذا صح أن يعلمه وجب أن نعلمه ، لأن صفة الذات متى صحت وجبت ، وليس كذلك المقدورات ، فإنها مقصورة على بعض القادرين دون بعض ، حتى لا يصح في مقدور زيد أن يقدر عليه غيره ، ففارق أحدها الآخر. على أن هذا لازم لهم في الكسب ، لأنه تعالى إذا كان قادرا لذاته وجب قدرته على سائر المقدورات ، ومن المقدورات الكسب ، فيجب أن يكون قادرا عليه ، وذلك يوجب كونه مكتسبا.

فإن قالوا : لا يجب أن يسمى القديم تعالى مكتسبا ، لأن الكسب اسم لمن يفعل الكسب بآلة ، والقديم تعالى لم يفعله بآلة.

قلنا : قد ذكرنا أن الذي يستحقه الفاعل من الاسم يجب أن يجرى عليه ، سواء فعله بآلة أو لم يفعله بآلة ، فلا يصح ما ذكرتموه. وبعد ، فإن مجرد الكسب مما لا يحتاج إلى آلة ، وأكثر ما فيه أنه لا يوجد إلا في محل القدرة وليس إذا لم يوجد إلا في

٢٥٢

محل القدرة مما يجب أن يكون واقعا بآلة ، لو لا ذلك وإلا كان يجب أن تكون الحياة آلة في العلم ، فإنه لا يصح وجود العلم إلا في محل فيه حياة ، ولكان يجب في الجسم أن يكون آلة للأكوان ، فإنها لا يصح وجودها إلا في محل ، وهذا يوجب على مرتكبه القول بأنه تعالى فاعل بآلة ، وقد عرف فساده.

ومما يتعلقون به ، قولهم : قد ثبت أن الله تعالى قادر على أن يقدرنا على هذه التصرفات ، فيجب أن يكون عليها أقدر ، كما أنه لما كان قادرا على أن يعلمنا هذه الأمور ، كان بها أعلم.

الجواب ، قلنا : بأية علة جمعتم بينهما؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا.

ثم يقال لهم : ليس إذا قدر القادر على مقدور أن يكون قادرا على غيره من المقدورات ، وليس في قدرته تعالى على إقدارنا على هذه التصرفات سوى كونه قادرا على خلق القدرة فينا ، فمن أين يجب إذا قدر على القدرة أن يكون قادرا على تصرفاتنا؟ هذا مما لا يجب.

فأما ما ذكروه في العلم ، فإنما وجب أن يكون تعالى أعلم بسائر المعلومات منا لأنه عالم لذاته ، والمعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض ، فيجب في العالم للذات أن يعلمها على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها وإلا قدح في كونه عالما لذاته ، وليس كذلك في القدرة ، لما قد ذكرنا أن المقدورات مقصورة على بعض القادرين دون بعض. على أن هذا لازم لهم في الكسب ، فيقال : أليس أنه تعالى يقدر على إقدارنا على الكسب وإن لم يقدر على الاكتساب ، فهلا جاز مثله في الحدوث؟ ومتى قالوا إنه تعالى قادر على الاكتساب ، غير أنه لا يوصف به لأن هذا الوصف إنما يجري على من اكتسبه بآلة ، قلنا : قد فرغنا من الكلام على هذا ، فلا معنى للتطويل.

ثم يقال لهم : أليس أنه تعالى قادر على أن يخلق في الكافر إرادة الإيمان ولم يقدر على أن يريد منه الإيمان؟ هلا جاز مثله في مسألتنا؟ وهذا الكلام للنجارية والأشعرية جميعا ، لأن عند أحد الفريقين ـ وهم النجارية ـ أنه تعالى مريد لذاته ولا يقدر أن يريد تعالى من الكافر خلاف ما أراده في الأزل لاستحالة خروجه عن صفته الذاتية ، وعند الفرقة الثانية وهم الأشعرية ، أنه تعالى مريد بإرادة قديمة ولا يقدر على أن يريد من الكافر خلاف ما أراده منه فيما لم يزل.

ومما يتعلقون به أيضا ، قولهم : لو كان الواحد منا محدثا لتصرفاته لوجب أن

٢٥٣

يكون عالما بتفاصيل ما أحدثه ، كالقديم تعالى ، فإنه لما كان محدثا لأفعاله قادرا عليها كان عالما بتفاصيلها.

قلنا : فرق بين الوضعين ، لأنه تعالى عالم لذاته ، ومن حق العالم لذاته أن يكون عالما بجميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، وليس كذلك الواحد منا فإنه عالم بعلم ، ففارق أحدهما الآخر.

ثم يقال لهم : أليس أن أحدنا يقدر على الاكتساب ولا يجب أن يكون عالما بتفاصيل ما اكتسبه ، فهلا جاز مثله في الحدوث ، فيكون قادرا على الإحداث ، وإن لم يعلم بتفاصيل ما أحدثه.

وبعد ، فلو خلق الله تعالى فينا العلم بتفاصيل ما أحدثه لوجب كون أحدنا محدثا له وخلق هذا العالم لا يستحيل ، فوجب أن لا يستحيل كونه محدثا.

ومما يتعلقون به ، قولهم : لو كان الواحد منا محدثا لتصرفاته لوجب صحة أن يحصل في الثاني مثل ما أحدثه في الأول ، ومعلوم خلافه : فإن من كتب حرفا مرة لا يمكنه أن يكتب مثل ذلك الحرف مرة أخرى.

والجواب ، قلنا : ولم وجب ذلك؟ فإن قالوا : الذي يدل عليه القديم تعالى ، فإنه لما كان محدثا صح منه أن يحدث في الثاني مثل ما أحدثه في الأول ، قلنا : ولم جمعتهم بيننا وبين القديم؟ فلا يجدون إليه سبيلا.

ثم نقول لهم : إن في أفعالنا ما تتأتى فيه هذه الطريقة ، ألا ترى أن أحدنا إذا قال مرة باء ، يمكنه أن يقول مثله مرات. وأظهر من هذا الإرادة ، فإنه إذا أراد قدوم زيد مرة يمكنه أن يريد قدومه ثانيا وثالثا ، والإرادتان مثلان لتعلقهما بمتعلق واحد على أخص ما يمكنه ، ففسد ما ظنوه.

وبعد ، فإن أحدنا إذا كان حاذقا بالكتابة عالما بالخط ماهرا فيه ، فإنه يمكنه أن يكتب ثانيا مثل ما كتب أولا بحيث لا يقع الفصل بينهما عند الإدراك ، فيجب أن يكون محدثا لها.

ثم يقال لهم : إن دل هذا على شيء فإنما يدل على فقد العلم أو على عدم الآلة لا على فقد القدرة على الأحداث ، فكيف يصح ما قالوه؟ وقد قال مشايخنا البغداديون : إنه إنما لا يمكنه الخط في الثاني مثل ما كتبه أولا لعدم الآلة ، لأن القلم

٢٥٤

كان في الأول جديدا وفي الثاني كلا.

على أن هذا لازم لهم في الكسب ، فيقال : كان يجب إن قدر أحدنا على الاكتساب ، أن يقدر في الثاني على اكتساب مثل ما اكتسبه أولا ، فإذا لم يجب ذلك هاهنا كذلك في مسألتنا.

ومما يتعلقون به أيضا ، قولهم : إن الواحد منا لو كان محدثا لتصرفاته لوجب أن يسمى خالقا لها والأمة قد اتفقت على أن لا خالق إلا الله ، وقد نطق به الكتاب أيضا. قال الله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وقال : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦] الآية.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنا لو خلينا وقضية اللغة ، لأجرينا هذا اللفظ على الواحد منا كما نجريه على الله تعالى لأن الخلق ليس بأكثر من التقدير ، ولهذا يقال ، خلقت الأديم هل لحي منه مطهرة أم لا؟ وقال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت

وبعض القوم يخلق ثم لا يفري

وقيل للحجاج : إنك إذا وعدت وفيت ، وإذا خلقت فريت ، أي إذا قدرت قطعت.

وأظهر من هذا كله قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ، فلو لا أن هذا الاسم مما يجوز إجراؤه على غيره وإلا لتنزل ذلك منزلة قوله : فتبارك الله أحسن الآلهة ، ومعلوم خلافه.

في الاصطلاح :

وأما في الاصطلاح فإنما لم يجز أن نجري هذا اللفظ على الواحد منا ، لأنه عبارة عمن يكون فعله مطابقا للمصلحة وليس كذلك أفعالنا ، فإن فيها ما يوافق المصلحة وفيها ما يخالفها ، فلهذا لم يجز إجراء هذه اللفظة على الواحد منا لا لشيء آخر. وأما قوله تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) فليس فيه ما ظنوه لأن فائدة الكلام معقودة بآخره ، وقد قال تعالى : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ) [فاطر : ٣] ، ونحن لا نثبت خالقا غير الله يرزق ، وقوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) الآية. فإنها مما لا يصح التعلق بظاهرها لأنها نفي التساوي ، وما هذا سبيله من الآيات فهي مجملة

٢٥٥

لا يصح التعلق بظاهرها ، إذ لا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الوجوه.

وبهذه الطريقة منع قاضي القضاة الشافعية من التعلق بظاهر قوله : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الحشر : ٢٠] على أن الزّمن لا يقتل بالكفار. قال : لأن الآية واردة في نفس التساوي بينهما.

لا ندري ما المراد بذلك ، ولأي وجه نفي ذلك؟ ولعله أراد عدم التساوي من جهة الفوز ، وعلى هذا قال : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] ، كذلك في هذا الموضع.

ثم نقول : إن المراد أن خلق أحدنا لا يشبه خلق الله تعالى ، فإن خلقه جلّ وعزّ يشتمل على الأجسام والأعراض ، وليس كذلك خلقنا فإنا لا نقدر إلا على هذه التصرفات التي هي القيام والقعود وما جرى مجراهما.

والقوم يتمسكون بآيات من القرآن ويستدلون بها على أن أفعال العباد موجودة من جهة الله تعالى.

والجواب عنها من طريق الجملة أن نقول : لا يمنكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، لأن صحة السمع تنبني على كونه تعالى عدلا حكيما لا يظهر المعجز على الكذابين ، وأنتم قد جوزتم ذلك على الله تعالى فكيف تقع لكم الثقة بكلامه؟ وهلا جوزتم أن يكون كذبا؟

وأيضا ، فإن إثبات المحدث في الغائب ينبني على إثبات المحدث في الشاهد والقوم قد منعوا من ذلك ، فكيف يمكنهم الاستدلال بكلام من لم يعلموه بعد؟

فهذه طريقة القوم والجواب عن ذلك على وجه الجملة. ثم إنا نذكرها آية فآية ، ونتكلم عليها.

(أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)

فمن جملة ما يتمسكون به قوله تعالى : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصافات : ٩٥ ، ٩٦].

والجواب عن ذلك ، أنا لو استدللنا بهذه الآية على مذهبنا لكنا أسعد حالا منكم ، لأن القديم تعالى أضاف إليهم العبادة والنحت ، فقال : أتعبدون ما تنحتون؟

٢٥٦

وذمهم على ذلك ، فلو لا أنها متعلقة بهم وإلا لما حسن إضافته إليهم وذمهم على ذلك.

وبعد ، فالأصل في كلام الحكيم أن لا يحمل إلا على وجه لو أظهره لكان لائقا بالحكمة ، ومعلوم أنه لو قال : أتعبدون ما تنحتون وأنا الذي خلقت فيكم عبادته ونحته لكان لا يليق هذا الكلام بحكمته ، فلا يجوز حمل هذا على ظاهره ، ويجب أن يحمل على وجه يوافق الأدلة العقلية ، فيقال : إن المراد بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ) ، أي وما تعملون فيه ، وذلك كثير جاء في اللغة وفي كتاب الله تعالى ، قال الله عزوجل : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) [سبأ : ١٣] فإنه لا تتعلق بهم المحاريب لكونها أجساما ، والمراد به العمل في المحاريب. وكذلك قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧] الآية يعني العصا ، أي ما يأفكون فيه ، كذلك في مسألتنا.

(اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) :

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)) [الزمر : ٦٢] ، قالوا : وهذا نص صريح في موضع التنازع والخلاف.

وجوابنا ، أن هذا الظاهر متروك بالاتفاق ، لأنه تعالى من الأشياء ولم يخلق نفسه فلا يمكن التعلق بظاهر هذه الآية. وعلى أن هذه الآية وردت مورد التمدح ، ولا مدح بأن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد وفيها الكفر والإلحاد والظلم ، فلا يحسن التعلق بظاهره. فإذا عدلتم عن الظاهر فأخذتم بالتأويل ، فلستم بالتأويل أولى منا ، فنتأوله على وجه يوافق الدليل العقلي ، فنقول : إن المراد به ، الله خالق كل شيء ، أي معظم الأشياء ، والكل يذكر ويراد ما ذكرنا ، قال الله تعالى في قصة بلقيس (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل : ٢٣] مع أنها لم تؤت كثيرا من الأشياء.

إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما :

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف : ٥٤] قالوا : وأعمال العباد فيما بين السموات والأرض فيجب أن تكون من خلق الله تعالى.

والجواب : أن البين يستعمل حقيقة في الفصل والوصل ، وأي ذلك كان فغير متصور في أفعل العباد. على أن الأمر لو كان على ما ظنوه لوجب أن تكون هذه الأفعال كلها مخلوقة في العباد في ستة أيام ، وقد عرف خلافه.

٢٥٧

ثم يقال لهم : الآية وردت مورد التمدح ، ولا مدح في أن يكون الله تعالى خالقا لأفعال العباد مع اشتمالها على القبيح والحسن. يبين ذلك أن إذا كان ينفي عن خلقه اللعب بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦)) [الأنبياء : ١٦] فلأن ينفى عنه أفعال العباد وما فيها من فضيحة وشنيعة أولى.

وبعد ، فإن الخلق في التعارف إنما يجري على فعل وقع مطابقا للمصلحة ، ومعلوم أن أفعال العباد ليست كذلك فكيف تجعل مخلوقة.

(إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) :

وربما يتعلقون بقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] قالوا : ففي أفعال العباد ما يريده الله تعالى ، فيجب أن يكون فاعلا لها.

وجوابنا ، أن هذا كلام يقتضي كونه فاعلا لما يريده في الحال الذي يريده ، وهذا يوجب عليكم قدم العالم ، لاعتقادكم أنه تعالى مريد لذاته أو بإرادة قديمة. ومتى قلتم إنه تعالى إنما أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم قلنا : ذلك نفي ، والإرادة لا تتعلق بالنفي على ما نبينه من بعد. وإن قلتم : إنه تعالى أراد فيما لم يزل أن يخلق العالم فيما لا يزال فلا يلزم قدم العالم قيل لكم : ولم لم يرد خلقه في الحال وهو مريد لذاته ، والمراد من فعله ، فيلزمهم قدم العالم على كل حال. ثم إننا نتأول الآية على وجه يوافق الدلالة العقلية ، فنقول : المراد به أنه فاعل لما يريد من فعل نفسه ، ولا يجوز غير هذا ، لأن الآية وردت مورد الامتداح ، لا مدح في أن يكون فاعلا لأفعال العبد وفيها القبائح والمناكير ، فهذه جملة الكلام في ذلك.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) :

ومما يتعلقون به قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢]. قالوا ففي هذه الآية دلالة على أن جميع المصائب من جهة الله تعالى على ما نقوله ، وجوابنا أن الكتابة في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) راجعة إلى الأنفس لا إلى المصائب لأنها أقرب المذكورين ، والكتابة إنما ترجع إلى أقرب مذكور. فبين تعالى أنه قبل خلق الأنفس كان عالما بما يصير أمرهم إليه وتصيبهم من المصائب مكتوبا في اللوح المحفوظ ، فلا تعلق لكم بها ، وبعد فلو

٢٥٨

رجعت الكتاب إلى المصائب لكان لا بد من أن يكون المراد به ما يصيبنا من الآلام والانتقام من جهة الله تعالى ، فقد تمدح بالآية ولا تمدح بالقبائح في موضع من المواضع.

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢] ، ولا تعلق لهم أيضا به ، فإن المراد بذلك الآلات ومجاري الكلام ومجاري هذه الحروف ، لا الحروف والأصوات. يزيده وضوحا أنه تعالى تمدح بذلك ، وليس في كون هذه الحروف فعلا له ما يدل على المدح إن لم يدل على الجهل والحاجة.

ومما يتعلقون به ، قوله جلّ وعزّ : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)) [الملك : ١٣ ، ١٤]. والجواب أن المراد به أنه الخالق للصدور ، بدليل أن الآية وردت مورد التوبيخ والذم ولا ذم على سر أو جهر لم يتعلق بنا.

يبين ذلك أن هذا الكلام إذا لم يحمل على ما قلناه يجري مجرى أن يقول : وأسروا قولكم أو اجهروا به فإني عليم بما أنا فاعله ، وهذا لا يستقيم.

ومما يتعلقون به ، قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) [البقرة : ١٢٨] قالوا : وفي ذلك ما يدل على أن الإسلام من قبله تعالى ، وكل من قال بأن الإسلام من قبل الله تعالى قال بذلك في جميع الأفعال. وجوابنا أنا لا نسلم أن الإسلام من قبل الله تعالى ، وكيف يكون من قبله وقد مدح عليه وذم على خلافه ، ورغب في الثواب بفعله والعقاب بتركه؟ وأيضا فإنه موقوف على أحوالنا ، ألا ترى أنه يقع بحسب قصدنا ودواعينا وينتفي بحسب كراهتنا وصوارفنا فكيف يكون من جهته؟ فإذا لا بد من أن يؤول ذلك ويقال : إن المراد به ، اللهم الطف لنا ووفق حتى نستسلم لك ونؤمن بك.

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) [الحديد : ٢٧] بين تعالى أن الرأفة من قبله. وجوابنا أنه نهى في بعض المواضع عن الرأفة فقال : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ولو كان من قبله لم يجز النهي عنه فيجب أن يؤول الجعل هاهنا فيقال : إن المراد الحكم هاهنا والألطاف فلا يبقى لهم متمسك.

ومما يتعلقون به قوله ، عزوجل : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣)) [النجم : ٤٣] ، قالوا : بين أن الضحك والبكاء من جهته جلّ وعزّ ، ومن قال بذلك لم يفصل بينه وبين

٢٥٩

غيره من الأفعال. وجوابنا أن الضحك تفتح في العينين وتقلص في الشفتين مع سرور يلحق القلب ، وذلك قسمان : قسم لا يمكن الانفكاك منه وذلك من جهته عزوجل ، وقسم يمكننا الانفكاك منه وذلك من جهتنا وموقوف على اختيارنا.

فأما البكار فهو نزول العبرة عند لوعة تحدث في القلب وحزن ، وذلك أبدا يكون موقوف على اختيار الباري ، ولهذا فإن أحدنا يجتهد كل الجهد لينزل العبرة فلا تجيبه ، ربما يغلب عليه فلا يمكنه المنع منه. وإذا كان هذا هكذا فقد أجبنا القوم على ما أرادوه ، ولكن لم يلزم مثله في سائر الأفعال ، لأن الطريقة فيها مختلفة. يبين ذلك ويوضحه ، أن العلماء وإن اختلفوا في الأمر هل يقتضي أم لا يقتضيه؟ لم يختلفوا في أن الخبر لا يقتضي التكرار ، فنحن إذا جوزنا أن يضحكنا ويبكينا مرة ، لم يلزمنا تجويزه على طريق الدوام والتأبيد ، فعلى هذه الجملة يجب أخذ الكلام في هذه الآيات التي يتعلقون بها.

والأصل فيها أجمع ، ما قدمناه من منعهم من الاستدلال بالسمع أصلا وخاصة في هذه المسألة.

الاختلاف في المتولدات من علقها بالطبع والرد عليه :

وأما المتولدات ففيها نوع آخر من الاختلاف غير ما قدمناه.

ففي الناس من علقها بالطبع على ما قاله أبو عثمان الجاحظ في أفعال الجوارح والمعرفة ، ولم يجعل الواقع عند الاختيار سوى الإرادة دون الحركات وما شاكلها.

وفيهم من قال : إن هذه الحوادث التي تحدث في الجمادات فإنها تحصل فيها بطبع المحل ، وهو النّظام ، وإليه ذهب معمر.

فأما ثمامة بن الأشرس ، فإنه جعل هذه الحوادث ما عدا الإرادة حدثا لا محدث له.

ولعل شبهة الجميع واحدة ، فإنهم لما رأوا أن ما يتعلق بالفاعل أو يضاف إليه فلا بد أن يكون للاختيار فيه مدخل ، ورأوا وجوب وقوع المراد عند حدوث الإرادة ، ووجوب وقوع المسبب عند حصول سببه ، فأخرجوه عن التعلق بالفاعل أصلا. ثم افترقوا : فمنهم من علقه بالطباع ، ومنهم من جعله حدثا لا محدث له. ولو أنهم أنعموا النظر لعلموا أن المتولدات مما للاختيار فيه مدخل ، فيقع مرة بأن يختار الفاعل ما هو

٢٦٠