شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

ما يكون سبب وجوبه من جهة الغير.

فالأول : ككفارة اليمين ، فإن سببه إما الحنث أو اليمين ، وأي ذلك كان فهو من فعلتا.

والثاني : كالدية في قتل الخطأ ، فإن سبب وجوبه القتل ، وهو من جهة الغير. ويمكن أن يعد في هذا القسم : النظر في طريق معرفة الله تعالى لأن سبب وجوبه ربما يكون دعاء داع ، وقصة قاص ، وتخويف مخوف ، ويمكن عده في القسم الأول أيضا لأن سبب وجوبه ربما يكون نظرا في كتاب ، أو تنبيها من ذي قبل. وعلى الحقيقة فهذا المثال معدود في القسم الأول ، لأن سبب وجوب النظر إنما هو الخوف من تركه ضررا ، وذلك الخوف نتركه ضررا ، وذلك أبدا يكون من فعلنا. وإنما يختلف الحال في سبب الخوف فمرة يكون من فعلنا ، ومرة يكون من فعل غيرنا.

وتنقسم الواجبات : ففيها ما يضاف إلى أسبابها ، وفيها ما يضاف إلى أوقاتها.

فالأول : كالكفارات ، فإنه يقال كفارة اليمين وكفارة الظهار.

والثاني : كالصلاة ، فإنه يقال صلاة الظهر وصلاة العصر. والفرق بين الإضافتين ، أن أحدهما إضافة إلى سبب موجب ، والآخر إلى ما لا يوجب.

واعلم أن الأفعال الشرعية قد توصف الصحة وقد توصف بالفساد ، والمراد به يختلف بحسب اختلاف مواضعه ، فإذا وصفت به العقود ، نحو البيوعات والأنكحة ، فيقال إنها صحيحة أو فاسدة ، فالمراد به أنه استوفى شرائطه على ما اقتضاه الشرع فأوجب له الملك حتى يجوز له التصرف ويحل له الاستمتاع ، أو لم تستوف على اقتضاه الشرع فلم يفد الملك ولا يحل له الاستمتاع. وإذا استعمل في الصلاة فالمراد به أنه يلزمه فيها الإعادة أو لا يلزم ذلك فيها. وإذا استعمل ذلك في الشهادة فقيل شهادة صحيحة أو فاسدة ، فالمراد به أن القاضي يلزمه الحكم بها أو لا يلزمه ذلك ، ولا يراد بذلك كونها صادقة أو كاذبة ، لأنها قد تكون صادقة ولا تكون صحيحة ، كشهادة العبد عند الفقهاء ، وشهادة الأب لابنه ، فلا يلزم الحاكم الحكم بها ، وقد تكون كاذبة ثم توصف بالصحة ، إذا لزم الحاكم أن يحكم بها. وإذا استعمل في خبر الواحد ، فيقال إنه صحيح أو فاسد ، فالمراد به أنه نقل على وجه يلزم العمل به ، أو لم ينقل على هذا الوجه فلا يلزم العمل به ، ولا يفيد في ذلك كونه صدقا وكذبا ، لأنه قد يوصف بالصحة وإن كان كذبا إذا لزم العمل به ، ويوصف بالفساد إذا لم يلزم العمل به

٢٢١

وإن كان صدقا في نفسه. هذا هو القسم الأول.

أقسام القبيح :

وأما القسم الثاني فهو من أقسام القبيح.

وجملة القول في ذلك ، أن أقسام القبيح تنقسم إلى : ما يكون صغيرا ، وإلى ما يكون كبيرا. وما يكون كبيرا ينقسم إلى : ما يكون كفرا ، وإلى ما لا يكون كفرا. والكلام في حقيقة هذه الألفاظ وحدودها يعود في باب الوعيد إن شاء الله تعالى.

ثم إن القبائح تنقسم إلى : ما يتغير حاله بالإكراه ، وإلى ما لا يتغير حاله بالإكراه.

فالأول : هو كل ما يتعدى عنه إلى غيره ، وذلك كإظهار كلمة الكفر ، فإن ذلك قبيح ولا إكراه. ثم إذا أكره عليه يجوز له أن يقول ذلك ، لا على الاعتقاد له والتدين به ، بل على أنكم كلفتموني إظهاره والقول به أو على أن النصارى يقولونه.

والثاني : من هذين القسمين ، هو ما يتعدى ضرره إلى الغير ، وذلك نحو قتل الغير وما شاكل ذلك ، فإنما هذا سبيله لا يتغير بالإكراه ، بل يلزم المكره أن يضع مع نفسه أن عقاب الله تعالى أعظم من عقاب هذا المكره ، فلو أقدمت على ما يكرهني عليه استحققت عقوبة أشد من هذا.

وتنقسم القبائح أيضا إلى : ما لا يمكنه الانفكاك عنه إلا بأن لا يفعله ، وإلى ما يمكنه الانفكاك عنه بأن يفعله على وجه آخر مخالف له. فالأول كالجهل ، فإن الانفكاك منه لا يمكن إلا بأن لا يفعله ، والثاني كالخبر الكذب ، فإنه يمكنه الانفكاك عنه بأن يوقعه على وجه الصدق ، وكالسجدة ، فإنه يمكن الانفكاك منه بأن يوقعه سجدة للرحمن ولا يوقعه سجدة للشيطان.

بيان الطريق إلى إزالة العقوبة :

ثم إنه رحمه‌الله ، لما رأى أن من حكم القبيح استحقاق الذم والعقاب عليه وأنه لا بد من أن يكون للمكلف طريق إلى إزالة العقوبة عن نفسه ، بيّن الطريق إلى ذلك على ضرب من الإجمال فقال : إن الطريق إلى ذلك : إما التوبة أو كثرة الطاعات.

والتوبة ، هي أن يندم على ما فعله من القبيح لقبحه ، ويعزم على أن لا يعود إلى

٢٢٢

أمثاله في القبح. ثم إن هذا القدر كاف إذا كان القبيح بينه وبين الله تعالى ، وأما إذا كان بينه وبين الآدميين بأن يكون إساءة إلى الغير ، فالواجب أن ينظر : فإن كان قتلا ، يلزمه أن يندم عليه ويعزم على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح ويسلم نفسه إلى ولي المقتول. وإن كان غصبا ، يرد المغصوب بعينه إن كان باقيا ، وإلا فقيمته إن كان من ذوات القيمة ، أو مثله إن كان من ذوات الأمثال ، ثم إذا تاب عن ذلك لا يستحق بعده الذم والعقاب.

وإنما قلنا : إن التوبة على الحد الذي ذكرناه تزيل العقاب ، لأن نظير التوبة من الشاهد إنما هو الاعتذار ، ومعلوم أن أحدنا لو أساء إلى غيره ثم اعتذر إليه اعتذارا صحيحا فإنه لا يستحق بعد ذلك الذم على الإساءة ، فكذلك في مسألتنا.

وأما كثرة الطاعات ، فإنها مما لا يؤثر في إزالة العقاب المستحق على الكبيرة والأعمار هذه الأعمار على ما سيجيء في باب الوعيد إنشاء الله تعالى ، ولكنها تؤثر في إزالة العقوبة المستحقة على الصغيرة ، لأن نظير كثرة الطاعات من الشاهد كثرة الإحسان إلى الغير ، ومعلوم أن أحدنا لو أحسن إلى غيره ضروبا من الإحسان ثم كسر له رأس قلم فإن هذه الإساءة تقع مكفرة في جنب ماله من الإحسان لديه ، وبالعكس من هذا فإنه لو قتل واحدا من أعزته فإنه يخبط جميع ماله قبله من الإحسان.

عودة إلى أن أفعال العباد محدثة منهم :

وإذ قد فرغنا من بيان أقسام الفعل وما يتصل به ، نعود إلى الدلالة على أن أفعال العباد غير مخلوفة فيهم ، وأنهم هم المحدثون لها.

والذي يدل على ذلك ، أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه ، فمحمد المحسن على إحسانه ونذم المسيء على إساءته ، ولا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه وقبيحه ، ولا في طول القامة وقصرها ، حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لم طالت قامتك ، ولا للقصير لم قصرت؟ كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت؟ وللكاذب لم كذبت فلو لا أن أحدهما متعلق بنا وموجود من جهتنا بخلاف الآخر ، وإلا لما وجب هذا الفصل ، ولكان الحال في طول القامة وقصرها كالحال في الظلم والكذب ، وقد عرف فساده.

فإن قالوا : لا يمكنكم أن تستدلوا بهذه الطريقة على أن هذه الأمثال متعلقة بكم ، فإنكم تحمدون الله تعالى على الإيمان ، وإن كان الإيمان من فعلكم ومتعلق بكم ،

٢٢٣

وكذلك فإنكم تذمون أحدنا على الإماتة والغرق والحرق وغير ذلك مع أن شيئا من ذلك لا يتعلق به.

قلنا : أما الأول فليس على ما تظنونه ، لأنا لا نحمد الله تعالى على الإيمان نفسه ، وإنما نحمده على مقدماته من الإقدار. والتمكين وإزاحة العلة بأنواع الألطاف ، وذلك وذلك موجود من قبل ومتعلق به فلا يلزم ، ولهذا قال بعض أصحابنا حين أورد بعضهم هذا السؤال عليه بحضرة بعض الأكابر فقال : فإنا لا نحمد الله تعالى على ذلك وإنما الله يحمدنا عليه ، فانقطع السائل. فقال المسئول : شنعت المسألة فسهلت.

وأما ما ذكرته ثانيا فليس كذلك أيضا ، لأنا لا نذم أحدنا على الإماتة والغرق والحرق ، وإنما ذممناه على مقدمات ذلك : ألا ترى أن من وضع صبيا تحت برد ليموت فإن ذمنا إياه ليس على الإماتة وإنما هو على إلقائه أو وضعه تحت البرد ، وكذلك من ألقى صبيا في تنور ليحرقه الله تعالى ، فإنا لا نذمه على الإحراق الموجود من قبل الله تعالى ، وإنما نذمه على تقريبه من جهة النار وإلقائه فيها؟ نفسد ما ظننته ، وصح الاستدلال بهذه الطريقة.

فإن قال : ما أنكرتم أن الفصل بين الإحسان والإساءة ، وبين حسن الوجه وقبيحه ، راجع إلى أن أحدهما متعلق بنا من جهة الكسب بخلاف الآخر ، لا إلى ما قلتموه؟ قيل له : إن مذهبكم في الكسب لا يعقل ، ولو عقل فإنه متعلق بالله تعالى فلا يبقى للفعل جهة تضاف إلينا ، فكيف يصح ما ذكرتموه؟ فصح أن على هذا المذهب لا يتصور استحقاق المدح والذم ، ويلزم أن يكون الظلم والكذب وغيرهما من الأفعال ، كطول القامة وقصرها في أنه لا يصح استحقاق المدح والذم عليها البتة ، وذلك يوجب قبح بعثة الأنبياء وبطلان الشرائع أصلا.

وكما يلزم القوم على هذا المذهب أن لا يفرق بين المحسن والمسيء ، وأن يرتفع المدح والذم والثواب والعقاب ، ويلزمهم قبح بعثة الأنبياء ، ويلزمهم أيضا أن يكون هو فاعل القبائح ، لأنه إذا كان خالقا لأفعال العباد وفيها القبائح لزم ما ذكرناه ، وذلك يوجب أن لا تقع لهم ثقة البتة بكتاب الله تعالى ، وأن يجوزوا أن يبعث إليهم رسولا كاذبا ويظهر المعجز عليه ، ليضلهم عن سواء السبيل ، ويدعوهم إلى الكفر ، ويصرفهم عن الإسلام ، لأنه إذا جاز أن يفعل بعض القبائح جاز أن يفعل سائرها ، إذ لا فرق بين بعضها وبين البعض في القبح.

٢٢٤

ومتى قيل : إن ذلك قبيح ، والله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، قلنا : قد أجبنا عن هذا ، وبينا أن الله تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحا ، وذلك أنه لو لم يقدر على التفرد بذلك تقديرا ، فإنه يقدر على أن يجعله كسبا لبعض العباد ، فيلزم ما ذكرناه.

وكما أن هذا لازم لهم ، فكذلك يلزمهم أن لا يثبت لرسل الله تعالى حجة على الكفرة ، لأن للكافر أن يقول إن كنت رسولا فلا أقل من أن تكون رسالتك موافقة لمراد الرسل ، فكيف تدعونا إلى الإسلام ، ومن أرسلك إلينا أراد منا الكفر وخلقه فينا ، وجعلنا بحيث لا يمكننا الانفكاك عنه؟.

ويلزم انقطاع الرسل من وجه آخر ، وهو أن يقال لهم : إلى ما ذا تدعونا إليه؟ فإن كنتم تدعونا إلى ما خلقه الله تعالى فينا ، فإن ذلك مما لا فائدة فيه ، وإن كنتم تدعونا إلى ما لم يخلقه الله تعالى فينا ، فذلك مما لا نطيق ولا نتمكن منه.

ويلزمهم التسوية بين الرسول وبين إبليس ، لأن الرسول يدعوهم إلى خلاف ما أراده الله تعالى منهم ، كما أن إبليس يدعوهم إلى ذلك. بل يلزمهم أن يكون حال الرسول أسوأ من حال إبليس ، لأن إبليس إنما يدعوهم إلى خلافه ، وكل مذهب يقتضي ذلك ويؤدي إليه فكافيك به فسادا.

ويلزمهم أيضا قبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن الأمر لا يخلو :

إما أن يكون أمرا بالواقع ، وذلك قبيح ويجري في القبح مجرى أمر المرمي من شاهق بالنزول.

وإن كان أمرا بما لا يقع ، فإن المأمور غير قادر عليه عندهم لقولهم بالقدرة الموجبة ، فيكون الأمر به أمرا بما لا يطاق ، وتكليف ما لا يطاق قبيح.

وهكذا الكلام في النهي عن المنكر ، لأنه إن كان نهيا عن الواقع ، فإن ذلك قبيح ولا فائدة فيه ، وإن كان نهيا عما لم يقع ، فإن ذلك نهي عما لم يقدر عليه وذلك قبيح أيضا ، ويجري في القبيح مجرى نهي الزمن عن العدو.

فإن قيل : الاستدلال بحسن المدح والذم والأمر والنهي على أن محدثون لتصرفاتنا استدلال بفرع الشيء على أصله ، لأنا ما لم نعلم أن أحدنا محدث لتصرفه لم

٢٢٥

نعلم حسن مدحه وذمه وأمره ونهيه.

قيل له : إنا نعلم حسن الأمر والنهي والمدح والذم على الجملة ضرورة ، وإن لم نعلم كونه محدثا على التفصيل ، فلا يكون الاستدلال بذلك عليه استدلالا بفرع الشيء على أصله ، كما أنا لما أمكننا أن نعلم كون الذات قادرا عالما وإن لم نعلم كونه حيا ، أمكننا الاستدلال بذلك على كونه حيا ، ولا نكون مستدلين بفرع الشيء على أصله ، وإن لم يكن الذات عالما وقادرا لم يكن حيا ، كذلك في مسألتنا.

ويلزم أيضا قبح مجاهدة أهل الروم وغيرهم من الكفار ، لأن للكفرة أن يقولوا لما ذا تجاهدونا؟ فإن كان جهادكم إيانا على ما لا يريده الله تعالى منا ولا يحبه فالجهاد لكم أولى وأوجب ، وإن كان الجهاد لنا على ما خلق فينا وجعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته والانفكاك عنه فذلك جهاد لا معنى له ، ولو وجب هذا الجهاد والحال ما ذكرناه لكان إنما يجب لله.

طريقة أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم :

طريقة أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها.

وتحريرها هو أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا ، فلو لا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا وإلا لما وجب ذلك فيها ، لأن هذه الطريقة تثبت احتياج الشيء إلى غيره ، كما لا يعلم احتياج المتحرك إلى الحركة ، والساكن إلى السكون ، وهي هذه الدلالة المعتمدة ، وما تقدم كان على طريق الإلزام.

وقولنا في هذه التصرفات أنه يجب وجودها بحسب قصدنا ودواعينا ، ويجب انتفاؤها عند كراهتنا وصارفنا ، فالمراد به طريقة الاستمرار ، لا ما نقوله في كون الجسم متحركا وأنه يجب عند وجود الحركة. وقولنا مع سلامة الأحوال ، فالمراد به خلوص الدواعي وزوال الموانع. وقولنا إما محققا ، فالمراد به فعل العالم لما يفعله ، فإنه يجب وجوده بحسب قصده وداعيه تحقيقا. وقولنا وإما مقدرا ، فالمراد به فعل الساهي ، فإن فعله وإن لم يقع بحسب قصده محققا ، فهو واقع بحسبه مقدرا ، فإنا لو قدرنا أن يكون له داع لكان لا يقع فعله إلا موقوفا عليه وبحسبه.

إذا ثبت هذا ، فالذي يدل على أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصدنا

٢٢٦

وداعينا هو ، أن أحدنا إذا دعاه الداعي إلى القيام ، حصل منه القيام على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة ، بحيث لا يختلف الحال فيه. وكذلك فلو دعاه الداعي إلى الأكل بأن يكون جائعا وبين يديه ما يشتهيه ، فإنه يقع منه الأكل على كل وجه ، ولا يختلف الحال في ذلك. وهذه أمارة كونه موقوفا على دواعينا ويقع بحسبها. وكما أنها تقع بحسب دواعينا وتقف عليها ، فقد تقف على قصودنا أيضا ، وعلى آلاتنا ، وعلى الأسباب الموجودة من قبلنا ، ألا ترى أن قوله : محمد رسول الله ، لا تنصرف إلى محمد بن عبد الله دون غيره من المحمدين ولا يكون خبرا عنه إلا بقصده ، وكذلك الكتابة لا تحصل منه إلا إذا علمها ، ولا يكفي ذلك حتى يكون مستكملا للآلات التي تحتاج الكتابة إليها نحو القلم وغيره ، وأيضا فإن الألم يقع بحسب الضرب الموجود من جهته ، يقل بقلته ويكثر بكثرته. فصح حاجة هذه التصرفات إلينا وتعلقها بنا على الحد الذي ادعيناه.

فإن قال : لا يمكن الاستدلال بهذه الطريقة على أن هذه التصرفات واقعة من جهتنا ، لأن فعل الملجأ يقع بحسب قصد الملجئ وداعيه ، ثم لا يدل عندكم على أنه فعله. وكذلك فسير الدابة في الجهة التي تسير فيها تابع لقصد الراكب وموقوف عليه. كذلك فنعيم أهل الجنة تابع لاختيارهم وموقوف على قصودهم. وأيضا فإن اللون الحادث عند الضرب موقوف على الضرب ، يقل بقلته ويكثر بكثرته. وهكذا ، فبياض القبيطي يقع بحسب الضرب من جهتنا. وسواد الحبر يقف على أحوال خليط الزاج بالعفص ، وأيضا فإن الحرارة الحادثة عند حك إحدى الراحتين بالأخرى موقوف على الحك ، يقل بقلته ويكثر بكثرته. ثم لم يدل شيء من ذلك على أنه واقع من جهتنا ومتعلق بنا ، كذلك في مسألتنا.

قيل له : أما فعل الملجأ ، فإنه يقع بحسب قصده وداعيه ، غير أن داعيه مطابق لداعي الملجئ فلا يصح ما ذكرتموه ، وكذا الكلام في الدابة ، ولهذا فلو قصد الراكب أن يسيرها في وجه الأسد لما سارت ، وإن كنتم تدعونا إلى ما خلقه الله تعالى فينا ، فإن ذلك مما لا فائدة فه ، فصح أن سيرها تابع لقصدها وداعيها ، دون قصد الراكب وداعيه. وأما نعيم أهل الجنة فمتعلق بالله تعالى وموقوف على قصده وداعيه دون قصودهم ودواعيهم ، لو لا ذلك وإلا كان يجب إذا دعى بعضهم الداعي إلى أن يبلغ ثوابه ثواب بعض الأنبياء أن يحصل ذلك ، ومعلوم خلافه. وأما ما ذكرته في اللون فمحال ، لأن ذلك اللون ليس بحادث ، وإنما هو لون الدم الذي كان فيه فانزعج

٢٢٧

بالضرب ، لو لا ذلك وإلا كان يجب أن يحصل هذا اللون في الجماد عند الضرب ، لأن السبب حاصل والمحل محتمل ، ولا منع معلوم خلافه.

فإن قيل : أليس لا يجب في الضرب أن يولد الألم في الجماد وإن كان مولدا له في الحي ، فهلا جاز مثله في اللون؟ قلنا : إنما لم يصح ذلك في الألم ، لأن الضرب إنما بشرط انتفاء الصحة ، هذا إنما يتأتى في بدن الحي دون الجماد ، وليس كذلك في اللون ، فظهر الفرق بينهما.

وهكذا الكلام في بياض القبيطي ، فإن ذلك اللون ليس بحادث بل هو لون كان فيه فظهر بالضرب ، ولهذا يستعان في ذلك ببياض البيض ، لو لا ذلك وإلا يجب إذا صب الماء في الطنجير وضرب أن يبيض لأن السبب حاصل ، والمحل محتمل ولا منع ، والمعلوم خلافه.

وكذا ما قالوه في خلط الزاج بالعفص ، لأن ما ظهر من السواد كان كامنا فيها فظهر بالخلط ، لو لا ذلك وإلا كان تشيع هذه القضية في كل ما يعين بخلط أحدهما بالآخر.

وكذا الجواب عما ذكروه في الحرارة وحصولها عند حك إحدى الراحتين بالأخرى ، فإنها حرارة كانت فيه فظهرت عند الحك ، لو لا ذلك وإلا كان يجب متى حككنا الجليد بعضه ببعض أن يحدث هناك حرارة ، لحصول السبب وزوال الموانع.

فصح بهذه الجملة أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم ، وأنهم هم المحدثون لها على ما ذكرناه ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا.

فإن قيل : ما أنكرتم أن هذه التصرفات يخلقها الله تعالى فيكم مطابقا لقصودكم ودواعيكم بمجرى العادة ، لا أنها متعلقة بكم تعلق الفعل بفاعله. قيل له : إن كل اعتراض لا يثبت إلا بعد ثبات ما اعترض به عليه فهو فاسد ، لأنه إن صح ذلك المذهب المعترض عليه فالاعتراض عليه فاسد ، وإن لم يصح فالاعتراض لا يثبت أصلا ، وهذا الاعتراض من ذلك القبيل ، لأن ما لم نعلم المحدث في الشاهد ، لا يمكننا أن نعلم المحدث في الغائب ، فإن الطريق إلى إثبات المحدث في الغائب ، هو أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل.

٢٢٨

فإن قيل : جوزوا قبل النظر في الدلالة على إثبات الصانع : أن يكون في الغائب محدث يحدث هذه التصرفات فيكم عند قصودكم ودواعيكم لمجرى العادة. قيل له ، إن ذلك تجويز لما لا يعقل ، إذ المعقول من المحدث هو من يقع الفعل منه بحسب قصده ودواعيه وينتفي بحسب كراهته وصارفه ، وعندهم أن هذا المعنى يثبت في أحدنا ولا يكون محدثا ، وإذا كان ذلك كذلك فقد أخرجوه عن كونه معقولا فكيف يجوزوه في الغائب. وعلى أنا إذا علمنا بالدليل أن أحدنا محدث لتصرفاته نقول : من قال : جوزوا أن يكون في الغائب محدث أحدثها فيكم لا إنكم أنتم المحدثون لها ، يجري مجرى أن يقال : جوزوا خلاف ما علمتموه ، وذلك خلف من القول.

وبعد ، فلو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا ودواعينا بمجرى العادة لوجب صحة أن يختلف الحال فيه ، كما في الحر والبرد ، فإنه لما كان طريقة العادة اختلف بحسب البلدان ، وهكذا سائر ما طريقة العادة ، نحو الإحراق وما يجري مجراه. وعلى هذا يقال في الحيوانات ، إن في الحيوانات حيوانا يقال له السمندل ، يدخل النار ويتمرغ فيها فلا تؤذيه ولا يحترق بها ، وحتى أنه يتخذ من وبره منديل غمر ، فكلما توسخ يلقى في النار فيعود أنظف ما يكون ويمكن. وهكذا فإنه يقال أن بكرمان خشبة لا تحترقها النار ، كذلك في مسألتنا ، لو كان حدوث هذه التصرفات عند قصودنا بمجرى العادة لجاز أن يختلف الحال فيها حتى يصدق قول من قال : إنه شاهد في بعض البلاد الغائبة عنا من كان يقع منه فعله عند صارفه ، وينتفي عند داعيه ، ويمكنه نقل الثقيل من الأجسام وهو ضعيف ، ولا يمكنه نقل الخفيف منها إذا عاد إلى قوته ، ويتأتى منه الكتابة البديعة ولما تعلمها ولا علمها ، فلما تعلمها لم يتأت منه ذلك ، ومن صدق هذا المخبر فهو متجاهل أو غير عاقل.

فإن قيل : قولكم إن أحدنا محدث لتصرفه لأن تصرفه يقع بحسب قصده وداعيه باطل بالساهي ، فإنه محدث وإن لم تقع تصرفاته بسحب قصده ودواعيه.

وجوابنا ، أن هذا الذي أوردتموه عكس الدلالة ، والأدلة لا يعتبر فيها العكس ، وإنما يعتبر فيها الطرد والمنافضة ، وذلك هو أن يرينا شيئا وقع بحسب قصودنا ودواعينا ثم لم يتعلق بنا تعلق العقل بفاعله ، فإما أن يرينا محدثا لم يقع فعله بحسب داعيه ، فإن هذا عكس ما دللنا به في المسألة ، وذلك لا يقدح في كلامنا ، لأنه لا يمتنع في حكمين مثلين أن يكونا معلومين مختلفين. وعلى هذا نعرف حدوث الأجسام بدلالة ، وهو استحالة انفكاكها عن الحوادث ، وحدوث الأعراض بدلالة أخرى وهو جواز

٢٢٩

العدم عليها. ونحن وإن لم يمكننا أن نعلم بهذه الطريقة أن الساهي محدث ، فإن ذلك يمكن بطريق أخرى. على أن في هذه الدلالة ما هو احتزاز عن الساهي ، لأنا قلنا هذه التصرفات تقع بحسب قصودنا ودواعينا وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال إما محققا وإما مقدرا ، ومعلوم أن تصرفات الساهي وإن لم تقع بحسب قصده محققا ، فقد تقع بحسب قصده مقدرا ، لأنا لو قدرنا أن للساهي قصدا ، لكان لا بد في تصرفه من أن يكون واقعا بحسب قصده. ثم الذي يدل على أنه محدث كالعالم ، هو ما قد ثبت أن فعله يقع بحسب قدرة يقل بقلتها ويكثر بكثرتها ، وعلى هذا لو كان في منتهى رجله كوز يمكنه أن يحركه ، ولو كان بدل الكوز حجر عظيم لم يمكنه نقله ولا تحريكه.

وأيضا فمعلوم أن النائم وهو بالري مثلا يعتقد أنه ببغداد ، وهذا الاعتقاد جهل قبيح فلا يخلو ، إما أن يكون من قبل الله تعالى ، أو من قبل غيره. لا يجوز أن يكون من جهة الله تعالى لأنه قبيح ، والله تعالى لا يقبل القبيح ، ولا يجوز أن يكون من جهة غيره ، لأن الغير إنما يعدي الفعل عن محل القدرة بالاعتماد ، والاعتماد لا حظ له في توليد الاعتقاد ، فليس إلا أن يكون من جهته على ما قلناه.

فإن قيل : قد بينتم أن هذه التصرفات متعلقة بنا ومحتاجة إلينا ، فبينوا أن جهة الحاجة إنما هو الحدوث ليتم لكم ما ذكرتموه ، قلنا : الذي يدل عليه أن الذي يقف كونه على أحوالنا نفيا وإثباتا إنما هو الحدوث ، فيجب أن تكون جهة الحاجة إنما هو الحدوث على ما ذكرناه.

وبعد فإن حاجتها إلينا لا تخلو ، إما أن تكون لاستمرار القدم أو لاستمرار الوجود ، أو لتجدد الوجود. لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار العدم ، لأنها كانت مستمرة العدم وإن لم تكن ، ولا يجوز أن تكون محتاجة إلينا لاستمرار الوجود ، لأنا نخرج عن كوننا قادرين وهي مستمرة الوجود ، فلم يبق إلا أن تكون محتاجة إلينا لتجدد الوجود على ما نقوله.

فإن قيل : لم لا يجوز أن تكون محتاجة إلينا ومتعلقة بنا من جهة الكسب؟ قلنا : إن الكسب غير معقول ، وما لا يعقل لا يجوز أن يجعل جهة الحاجة.

وبعد ، فإن الذي دلكم على أن هذه التصرفات متعلقة بنا من جهة الكسب ، ليس إلا وجوب وقوعها بحسب قصدنا ودواعينا ، ووجوب انتفائها بحسب كراهتنا وصارفنا ،

٢٣٠

هذا ثابت في الحدوث فهلا جعلتموها محتاجة إلينا من هذا الوجه؟.

فإن قيل : ما أنكرتم أنها متعلقة بنا من جهة الحلول؟ قلنا : لو كان كذلك لكان يجب أن لا نفرق بين اللون وبين هذه التصرفات ، لأن الحلول ثابت فيه ، والمعلوم خلافه. فصح أن الحاجة إلينا إنما هو للحدوث ، على ما ذكرناه.

أحد ما يدل على عدم خلق الله لأفعال العباد أن العاقل لا يشوه نفسه ولا يريد من غيره ذلك :

وأحد ما يدل على أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم ، هو ما قد ثبت من أن العاقل في الشاهد لا يشوه نفسه ، كأنه يعلق العظام في رقبته ، ويركب القصب ويعدو في الأسواق. فكما لا يفعل ذلك لا يتولاه ، فلا يتولى غيره أيضا ولا يريده منه. وإنما لا يفعل ذلك ولا يختاره لعلمه بقبحه ولغناه عنه. وإذا وجب ذلك في الواحد منا ، فلأن يجب في حق القديم تعالى وهو أحكم الحاكمين أولى وأحرى. وعلى مذهبهم أنه تعالى شوه نفسه وسوء الثناء عليه ، وأراد منهم كل ذلك ، تعالى عما يقولون.

فإن قيل : إن هذه الأشياء تقبح منا فأما من الله تعالى فلا ، وصار الحال فيه كالحال في الشرعيات ، فكما أن فيها ما يقبح من بعضنا ويحسن من البعض كالصلاة فإنها تقبح من الحائض وتحسن من الطاهر ، كذلك في مسألتنا.

قلنا : إنما وجب ذلك في الشرعيات ، لأن الوجه في حسنها وقبحها كونها مصالح ومفاسد ، والمصالح والمفاسد تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأوقات ، وليس كذلك في العقليات ، لأن الوجه في حسنها وقبحها وجوه تختصها ، فمتى وجد ذلك الوجه وجب قبحه أو حسنه ، سواء كان من الله تعالى أو من الواحد منا.

أحد ما يدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد أن فيها ظلما وجورا وهذا لا يصح على الله :

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد ، هو أن في أفعال العباد ما هو ظلم وجور ، فلو كان الله تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما جائرا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ونحن قبل أن نحقق هذا الكلام عن الخصم نبين حقيقة الظلم.

اعلم ، أن الظلم كل ضرر لا نفع فيه ولا دفع ضرر ، ولا استحقاق ، ولا الظن

٢٣١

للوجهين المتقدمين. ولا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به ، لا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر.

لا بد من اعتبار هذه الشرائط : من أن لا يكون فيه نفع ولا دفع ضرر ، لا معلوما ولا مظنونا ولا استحقاقا ، لأن أحدنا لو كلف الأجير العمل بالأجرة لا يكون ظالما لما كان في مقابلته من النفع ما يوازيه ، وكذلك فإن من شرط إذن الصبي دفعا للضرر عنه لا يكون ظلما لتضمنه دفع الضرر عنه ، وكذلك فإن ذم المسيء والمرتكب للقبيح لا يكون ظلما لأنه مستحق.

وقولنا : ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين ، فمن أجل أنه لا فرق بين أن يكون النفع ودفع الضرر معلوما وبين أن يكون مظنونا ، ألا ترى أنه يحسن من أحدنا أن يكلف ولده الاختلاف إلى المكتب وإن شق ذلك عليه لا يكون ذلك منه ظلما ، لما كان في مقابلته نفع مظنون أو دفع ضرر مظنون ، فصح أنه لا بد من اعتبار أن يكون الفعل ضررا لا نفع فيه ، ولا دفع ضرر ، ولا استحقاق ، ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين حتى يكون ظلما.

وكما لا بد من اعتبار ذلك ، فلا بد من أن لا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به ، لأنه لو كان كذلك لم يكن ظلما. ألا ترى أن من حاول مال غيره أو ذمه فأتى عليه ، فقتله دفعا ، لم يكن ظالما له ، لما كان ذلك الضرر كأنه حل به من قبله.

وكما لا بد من اعتبار هذا الشرط ، فلا بد من أن لا يكون في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر ، لأنه لو كان بهذه الصفة لم يكن ظلما ألا ترى أنه تعالى لو أحرق صبيا ألقى به في النار ، أو أماته وقد وضع تحت البرد لا يكون ظالما له ، لما كان هذا الإحراق وهذه الإماتة في هذا الحكم كأنه من جهة غير الله تعالى.

ولو قلت : إن الشرط الثاني ، وهو أن لا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور به داخل فيما تقدم ، لأن المدفوع مستحق لأن يدفع بما أمكن. وهكذا فلو جعله داخلا تحت الشرط الأخير لصح أيضا ، لأن الإتيان عليه وقتله في الحكم كأنه من جهة غير فاعل الضرر. فهذا هو الكلام في حد وحقيقة الظلم.

والذي يدل على ما ذكرنا ، هو أنهم متى عرفوا الضرر على الوجوه التي بيناها سموه ظلما ، ومتى لم يعرفوه على هذا الوجه لم يسموه ظلما.

وعلى هذا فإنهم لما اعتقدوا حصول هذا الضرر على هذا الوجه من الحية

٢٣٢

بدخولها جحر الفأرة وإخراجها منه ، قالوا : أظلم من حية.

هذا هو حقيقة الظلم ، وإذا استعمل في غير ذلك فهو على سبيل المجاز ، وعلى هذا يقال للسحاب إذ مطرت في غير حينها أنها ظلمت ، تشبيها بالظلم على الحقيقة. إلا أنه ليس يجب إذا استعمل لفظ من الألفاظ في بعض المواضع مجازا أن يستعمل في سائر المواضع فيقال : ظلمت الريح أو النار ، كما قالوا ذلك في السحاب ، لأن من حق المجاز أن يقر حيث ورد.

حدود للظلم غير صحيحة :

وقد يذكر له حدود ولا يصح شيء منها.

الظلم ما ليس لفاعله أن يفعله :

ومن جملتها ، قولهم : إن الظلم هو ما ليس لفاعله أن يفعله ، وهذا لا يصح ، لأن العلم بالحد ينبغي أن يكون علما بالمحدود ، لا أن يكون تابعا له ، وفي هذا الموضع ما لم يعلم ظلما ، لا يعلم أنه ليس لفاعله فعله.

وبهذه الطريقة عبنا على أبي علي تحديده الواجب بما به ترك قبيح ، فقلنا : إنا ما لم نعلم وجوبه لا يمكننا أن نعلم قبح تركه ، فكيف حددت الواجب به ، وفيما ذكرت ترتب العلم بالحد على العلم بالحدود ، وذلك مما لا يصح.

وبعد ، فإن القبائح كلها اشتركت في أنه ليس لفاعلها فعلها ، ثم ليس يجب أن يكون الكل ظلما ، فإن الكذب والعبث وغيرهما مما لا يسمى بذلك.

الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه :

وقيل في حده : هو وضع الشيء في غير موضعه وهذا أبعد من الأول ، لأنه لو كان كذلك لوجب إذ وضع أحدنا منديله على ركبته أو عظم أجنبيا على الحد الذي يعظم والده أن يكون ظالما ، لأنه وضع الشيء في غير موضعه. إذا جعل البذرة في المحبرة أن يكون ظالما ، لأنه موضع الشيء في غير موضعه ، وقد عرف خلافه. فيجب أن تكون حقيقة الظلم ما ذكرناه ، إما لأنه موضوع له أصلا ، أو لأن بكثرة الاستعمال فيه صار حقيقة ، كالغائط في قضاء الحاجة.

٢٣٣

عودة إلى تحقيق الأدلة على القوم :

ثم إنه رحمه‌الله عاد إلى تحقيق هذا الإلزام على القوم.

والأصل فيه ، أن هذا الإلزام إلزام العبارة دون المعنى ، لأن المعنى مما قد ذهب إليه القوم ، وإنما امتنعوا من إجراء هذه العبارة على الله تعالى ، لما رأوا أن الأمة بأسرهم اتفقوا على أن من أطلق هذه اللفظة على الله تعالى فقد كفر ، وهؤلاء القوم إذا اعتقدوا في الله تعالى أنه فاعل للظلم ولما هو أفحش منه فقد كفروا ، سواء أجروا هذه اللفظة على الله تعالى أو لم يجروا.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن إطلاق هذه العبارة إنما صار كفرا لتضمنه إضافة الظلم إلى الله تعالى لا لمجرد العبارة ، وعلى هذا فإنه لو كان الظالم في بعض اللغات اسما للعادل ، فوصف المتكلم بتلك اللغة إلهه بالظلم. فقال : يا ظالم يا ظالم ، يريد به يا عادل يا حكيم ، فإنه لا يكفر.

وربما وجه هذا الإلزام على وجه آخر فقال : لو كان الله تعالى فاعلا للظلم لوجب أن يقال : إن الظلم منه ومن عنده ، وهذا لا يرتكبه القوم.

وربما ألزمهم وجها آخر فقال : لو كان الله تعالى فاعلا للظلم لوجب أن ترجع إليه أحكام الظلم من الذم والاستخفاف وما يتعلق بذلك ، تعالى الله عن ذلك. وهذا جيد ، إلا أنه لا يختص الظلم بل يضم جميع القبائح من الكذب والعبث وغيرهما ، فصح أن هذا الإلزام يعود إلى العبارة على ما ذكرناه.

إذا ثبت هذا ، وأردت أن تلزمهم إطلاق هذه العبارة على الله تعالى ، فلك فيه طريقان اثنان :

أحدهما : أن تقول : قد ثبت أن قولنا فاعل للظلم وقولنا ظالم واحد ، بدليل أنه لا فرق بين أن يقول القائل فلان فاعل للظلم ، وبين أن يقول إنه ظالم. حتى لو قال فلان ظالم وليس بفاعل للظلم وليس بظالم ، لتناقض الكلام ، وهذه إمارة اتفاق اللفظين في المعنى ، فإن بهذه الطريق يعرف أن معنى الجلوس والقعود واحد ، وكذلك الكلام في كل لفظين متفقين في المعنى.

فإن قيل : كيف يصح قولكم إنهما متفقان في المعنى ، ومعلوم أن قولنا ظالم اشتق من ظلم ، وقولنا فاعل للظلم اشتق من فعل الظلم؟ قلنا : إنا ما ادعينا اتفاقهما في الاشتقاق وإنما قلنا ، إنهما متفقان في المعنى ، ولا يمتنع في اللفظين اتفاقهما في

٢٣٤

المعنى واختلافهما في الاشتقاق ، ولهذا فإن القعود والجلوس معناها واحد ، ثم القعود مشتق من قعد ، والجلوس مشتق من جلس.

الوجه الثاني : في ذلك هو أن نقول : إن أهل اللغة لما اعتقدوا في الواحد منا أنه أضر بالغير الضرر الذي ذكرناه ، سموه ظالما ، ومتى لم يعتقدوا ذلك فيه لم يسموه به كما أنهم لما اعتقدوا تعلق الضرب والشتم بالواحد منا تعلق الفعل بفاعله سموه ضاربا وشاتما ، فكما أن الضرب والشتم اسم لن فعل الضرب والشتم ، فكذلك الظالم يجب أن يكون اسما لمن فعل الظلم.

فإن قيل : إنهم أخطئوا في الاعتقاد. قلنا : هب أنهم أخطئوا في الاعتقاد ، أليسوا قد أصابوا في هذه التسمية؟ وهذا القدر كاف. وصار ذلك كتسمية الأصنام آلهة لاعتقادهم أنها تستحق العبادة ، فكما أن خطأهم في الاعتقاد لم يمنع من إصابتهم في التسمية ، كذلك هاهنا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون الظالم اسما لمن حله الظلم؟ قلنا لا لو كان كذلك لوجب لو تفرد الله تعالى بالظلم أن لا يكون ظالما ، وعندكم أنه تعالى لو تفرد بالظلم لكان ظالما.

وبعد ، فإن الظالم لو كان اسما لمن حله الظلم لوجب أن ترجع أحكامه إلى محله ، فيذم اللسان إذا شتم ، والرجل إذا ركلت ، واليد إذا لطمت ، ومعلوم خلافه. وصار هذا كما تقوله الكلابية إذ جعلوا التكلم اسما لمن حله الكلام ، وكان يجب أن يكون اللسان هو القاذف ، لأنه هو الذي حله القذف ، أن يكون هو الرسول أيضا ، لأنه الرسالة والبلاغة إنما تحصلا له به ، ويحلانه وهذا يوجب أن يجلد ويستخف به للقذف ، ويعظم ويبجل للرسالة ، وهذا محال.

وبعد ، فإن حقيقة الظلم : كل ضرر لا نفع فيه ولا دفع ضرر ، ولا استحقاق ، ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين ، ولا يكون في الحكم كأنه من جهة المضرور ، ولا يكون كأنه من جهة غير فاعل الضرر ، وهذا إنما يحل المظلوم دون غيره ، فيجب أن يكون هو الظالم.

وبعد ، فلو جاز أن يقال إن الظالم اسم لمن حله الظلم لجاز مثله في العادل ، فيوجب أن لا يوصف الله تعالى بأنه عادل ، كما لا يوصف بأنه ظالم.

فإن قيل : ما أنكرتم أن الظالم اسم لمن جعل الظلم ظلما له؟ قلنا : لو كان

٢٣٥

كذلك ، لوجب إذا تفرد الله تعالى بالظلم أن لا يكون ظالما لأنه لم يجعل الظلم ظلما له ، وعندكم أنه تعالى لو تفرد بالظلم لكان ظالما.

وبعد ، فإن الظلم لو كان بجعل الجاعل ، لوجب أن يجعله ظلما لهذا دون ذاك ، أو ذاك دون هذا ، وصار الحال فيه كالحال في كون الكلام أمرا ونهيا وخبرا ، فإنه لما تعلق بالفاعل ، صح من الفاعل أن يوجده فيجعله أمرا ، وأن يوجده فيجعله نهيا ، وأن يوجده فيجعله أمرا ، لهذا دون ذلك ، وقد عرف خلافه.

وبعد فلو كان كذلك ، لوجب في من لا يعلم أن الظالم هو من جعل الظلم ظلما له : أن لا يعلمه ظالما ، ومعلوم أن العرب يعلمون الظالم ظالما وإن لم يعلموا أن الظلم جعل ظلما له.

وبعد ، فإنا نقول لهم : ما تريدون بقولكم إن الظالم هو من جعل الظلم ظلما له؟ أتريدون به أن الظلم خلق فيه؟ أو تريدون أنه جعل كسبا له؟ فإن أردتم به أنه جعل كسبا له ، فذلك مما لا يعقل على ما سيجيء من بعد إن شاء الله تعالى ، وإن أردتم به أنه خلق فيه ، فهو نفس مذهبكم الذي نروم إفساده بهذه الدلالة فلا يصح الاعتراض به عليها ، وهذا أصل كبير : إن كل دلالة نصبت لإفساد مذهب من المذاهب ، فالاعتراض على تلك الدلالة بنفي ذلك المذهب لا يصح ، فيجب أن يراعى هذا الأصل ويحافظ عليه.

وبعد ، فلو كان الظالم اسما لمن جعل الظلم ظلما له ، لوجب أن يكون الرازق اسما لمن جعل الرزق رزقا له ، والعادل اسما لمن جعل العدل عدلا له ، وكذلك الكلام في المحسن ، والمنعم ، والمتفضل ، وما يجري هذا المجرى لأنه لا فرق بين الموضعين. ولو ارتكب ، قلنا ، فكان يجب أن لا يوصف القديم تعالى بشيء من هذه الأسماء ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن الظالم اسم لمن تفرد بالظلم ، والله تعالى غير منفرد بالظلم ، فلا يجب أن يسمى ظالما. قلنا : لو كان كذلك لوجب أن لا يكون في عالم الله تعالى ظالم ، لأن العباد غير منفردين بالظلم.

وبعد ، فلو وجب هذا في الظالم ، لوجب أيضا في العادل ، والخالق ، والرازق ، ولو ارتكبوا ذلك ، قلنا : فيجب على هذا أن لا يوصف القديم تعالى بشيء من هذه الأوصاف ، والمعلوم خلاف ذلك.

٢٣٦

وبعد ، فإن العرب متى اعتقدوا أن الظلم تعلق بأحدنا تعلق الفعل بفاعله سموه ظالما وإن لم يعرفوا تفرده به ، ومتى لم يعتقدوا ذلك لم يسموه به. يبين ذلك ، أنهم شاهدوا جماعة اشتركت في قتل مسلم سموهم ظلمة ، وكل واحد منهم ظالما ، ولم يعتقدوا تفردهم بالظلم بل عرفوا الاشتراك ، ففسد ما ظنوه.

وبعد ، فإن الله تعالى لو تفرد بالظلم لما زاد حاله على حاله الآن ، وقد تعلق به سائر الظلامات على سائر وجوهها وحقائقها.

لم لا يكون الظالم اسما لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره :

فإن قيل : ما أنكرتم أن الظالم اسم لمن لم يجعل الظلم سكبا لغيره ، والله تعالى جعل الظلم كسبا لنا فلا يجب أن يسمى ظالما. قلنا : إن هذا السؤال مع ركاكته يدل على عمى قلب السائل ، لأن فحوى هذا الكلام ، أن الظالم اسم لمن جعل الظلم كسبا لنفسه ، وهذا يوجب أن لا يكون أحدنا ظالما ، لأنه لم يجعل الظلم كسبا لنفسه ، وإنما جعل ذلك كسبا له.

وبعد ، فإن قولنا ظالم إثبات ، وأنه لم يجعل الظلم كسبا لغيره نفي ، ولا يجوز أن يرجع بالإثبات إلى النفي ، كما في العادل والرازق.

وبعد ، فلو جاز أن يكون الظالم اسما لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره ، لجاز أن يكون العادل اسما لمن لم يجعل العدل كسبا لغيره ، وكذا الكلام في المحسن ، والمنعم ، والمتفضل ، والمعلوم خلافه.

وأيضا ، فإن أهل اللغة لم يعلموا أن الكسب على الوجه الذي تقولونه أصلا ، فكيف يقال إن الظالم عندهم اسم لمن لم يجعل الظلم كسبا لغيره ، فإن قيل : إنهم كما لم يعلموا الكسب لم يعلموا أيضا الحدوث فيجب أن لا يكون أحدنا محدثا لتصرفاته ، قلنا : إن العرب وإن لم يعلموا صفة المحدث على الحد الذي نقوله ، فقد علموا الفرق بين ما يقف على قصدنا ودواعينا ويثبت لأحوالنا فيه تأثير ، وبين ما لا يقف على قصدنا ودواعينا ولا يثبت لشيء من أحوالنا فيه تأثير.

فإن قيل : أليس أنه تعالى يخلق الحركة ولا يكون متحركا ، ويخلق الولد ولا يكون والدا ، فهلا جاز أن يخلق الظلم ولا يكون ظالما؟ قلنا : هذا لا يصح ، لأنه ما من فعل من الأفعال يفعله القديم تعالى إلا وقد اشتق له منه اسم ، إلا أفعالا معدودة

٢٣٧

منع السمع من أن يشتق لله تعالى من ذلك اسم ، نحو الفقه والفضل والحراسة والطب إلى ما شاكل ذلك ، ولو لا السمع لكنا نجوز أن يوصف الله تعالى بهذه الأفعال أيضا.

وأما ما ذكرته من الحركة والمتحرك فجهالة مفرطة ، لأن المتحرك ليس هو اسم لمن فعل الحركة وإنما هو اسم لمن حلته الحركة ، والفاعل للحركة إنما يسمى محركا ، فلا جرم يجوز أن يسمى الله تعالى به. وما ذكرت من أمر الوالد فأبعد ، لأنه اسم لمن خلق الولد من مائه ، أو ولد الولد على فراشه ، وليس هو اسم لفاعل الولد ، وإنما الذي يشتق لفاعل الولد من هذا الاسم إنما هو المولد ، وذلك إنما لا يجري على الله تعالى لإيهامه الخطأ ، وهو أنه من جنس الأسباب ، لولاه وإلا كنا نجوز أن يسمى القديم جلّ وعزّ به.

آيات من القرآن تدل على أن الله لا يخلق أفعال العباد :

ثم إنه رحمه‌الله احتج بآيات من القرآن على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد ، وذلك لم يورده على طريق الاستدلال والاحتجاج ، فإن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة متعذر ، لأنا ما لم نعلم القديم تعالى ، وأنه عدل حكيم لا يظهر المعجز على الكذابين ، لا يمكننا الاستدلال بالقرآن ، وصحة هذه المسائل كلها مبنية على هذه المسألة. ولأن إثبات المحدث في الغائب ينبني على إثبات المحدث في الشاهد ، إذ الطريق إلى ذلك ليس إلا أن يقال : قد ثبت أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وإنما احتاجت إلينا لحدوثها ، فكل ما شاركها في الحدوث وجب أن يشاركها في الاحتياج إلى محدث وفاعل ، وهذه الأجسام كلها محدثة فلا بد لها من محدث وفاعل ، وفاعلها ليس إلا الله تعالى فكيف يستدل بالسمع عسى هذه المسألة والحال ما ذكرناه؟ فوضح بهذه الجملة أنه رحمه‌الله تعالى لم يورد هذه الآيات على وجه الاستدلال والاحتجاج وإنما أوردها على أن أدلة الكتاب موافقة لأدلة العقل ومقررة له.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) :

فما يدل على ذلك من جهة السمع قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] نفى الله التفاوت عن خلقه. فلا يخلو : إما أن يكون المراد بالتفاوت : من جهة الخلقة ، أو من جهة الحكمة. لا يجوز أن يكون المراد به التفاوت من جهة الخلقة لأن في خلقة المخلوقات من التفاوت ما لا يخفى ، فليس إلا أن

٢٣٨

المراد به التفاوت من جهة الحكمة على ما قلناه ، إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره.

فإن قال : ما أنكرتم أن التفاوت من جهة الخلقة على ما ذكره في آخر الآية حيث قال : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ)؟ قلنا : هذا الذي ذكرته لا يصح ، لأن تخصيص آخر الآية لا يقدح في عموم أولها ، ألا ترى أن قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] عام في المطلقات البوائن منها والرجعيات ، ثم تخصيص قوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] لا يقدح في عموم الأول. كذلك في مسألتنا.

وبعد ، فإنه تعالى تمدح بنفي التفاوت عن خلقه ، ولا مدح في نفي أن لا يكون في خلقه فطور وانشقاق.

فإن قيل : لو أمكن الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأفعال العباد لأن فيها التفاوت وقد نفي التفاوت عن خلقه ، أمكن أيضا أن يستدل بها على أن طاعات العباد كلها من جهة الله تعالى فلا تفاوت فيها.

قلنا : هذا الاستدلال بدليل الخطاب ، وذلك مما لا يعتبر في فروع الفقه ، فكيف يعتبر في أصول الدين؟ يبين ذلك ، أن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه ، ألا ترى أن قائلا لو قال : فلان لا يظلم ولا يكذب ، فإنما يقتضي هذا الكلام أنه لا يختار ما هو الظلم والكذب ، وليس فيه ، أنما هو خارج عن هذين النوعين فإنه هو الفاعل له ، كذلك في مسألتنا ، ليس يجب إذا نفى الله تعالى التفاوت عن خلقه أن يضاف إليه كل ما لا تفاوت فيه ، بل الواجب أن ينفي عنه جميع ما يتفاوت ، ويكون ما لا تفاوت فيه موقوفا على الدلالة ، فإن دل على أنه هو الفاعل له قيل به ، فإن لم يدل ، بل دل على خلافه لم يقل به ، وفي مسألتنا قامت دلالة على أن هذه التصرفات من الطاعات وغيرها متعلقة بنا لوقوعها بحسب قصدنا وداعينا ، فيجب أن تكون فعلا لنا واقعا من جهتنا على ما قلناه.

الذي أحسن كل شيء خلقه :

دليل آخر من جهة السمع قوله تعالى : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة : ٧] ، وقد قرئ «خلقه» ، وكلا القراءتين تدل على أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم.

ووجه الاستدلال به أنه لا يخلو : إما أن يكون المراد به ، أن جميع ما فعله الله

٢٣٩

تعالى فهو إحسان ، أو المراد به أن جميعه حسن. لا يجوز أن يكون المراد به الإحسان ، لأن في أفعاله تعالى ما لا يكون إحسانا كالعقاب ، فليس إلا أن المراد به الحسن على ما نقوله.

إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن أفعال العباد تشتمل على الحسن والقبيح ، فلا يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى.

فإن قال : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى : «أحسن» أي «علم» كما يقال : فلان يحسن اللغة والنحو والتصريف والطب وغير ذلك. قلنا : هذا لا يصح ، لأن أحسن بمعنى علم لم يجيء وإن جاء مضارعه ، وليس يمتنع أن يستعمل مضارع ما لم يستعمل ماضيه. وعلى هذا استعملوا مضارع نحو : وذر ، وودع. فقالوا : يذر ويدع ، ولم يستعمل ماضيه. فلم يقولوا : أوزر ولا أودع. وصار هذا في بابه كاستعمالهم الماضي من دون استعمال المضارع ، نحو قولهم : عسى وليس ، فحسب.

وبعد ، فإن الذي يسبق إلى أفهام السامعين من قوله أحسن ، ليس إلا الحسن على ما ندعيه ، فيجب أن يحمل عليه ، لأن كلام الله تعالى هما أمكن حمله على ظاهره لا بعدل عنه إلى غيره.

وقد قال قاضي القضاة رحمه‌الله : إن قوله : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، يتنزل في العربية منزلة قوله : أحسن في كل شيء ، ومعلوم أنه لو قال : أحسن في كل شيء لكان لا يحمل إلا على الحسن ، فكذلك إذا كان هكذا.

قال : والذي يدل على أن فائدة العبارة واحدة ، هو أنك لو قلت أحسن كذا وما أحسن فيه لتناقض الكلام ، وهذا هو علم الاتفاق بين اللفظين على ما ذكرناه في غير موضع.

(صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) :

ومما يستدل به أيضا قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل : ٨٨]. بين الله تعالى أن أفعاله كلها متقنة ، والإتقان يتضمن الاحكام والحسن جميعا ، حتى لو كان محكما ولا يكون حسنا لكان لا يوصف بالإتقان. ألا ترى أن أحدنا لو تكلم بكلام فصيح يشتمل على الفحش والخنا ، فإنه وإن وصف بالإحكام لا يوصف بالإتقان.

٢٤٠