شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

الأصل الثاني

العدل

٢٠١
٢٠٢

الفصل الثاني

في العدل

وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة ، وهو الكلام في العدل ، وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم تعالى جلّ وعزّ ، وما يجوز عليه وما لا يجوز ، فلذلك أوجبنا تأخير الكلام في العدل على الكلام في التوحيد.

وقبل الاشتغال بالدلالة على هذه المسألة وذكر الخلاف فيه ، نذكر حقيقة العدل.

حقيقة العدل :

اعلم أنّ العدل مصدر عدل يعدل عدلا ، ثم قد يذكر ويراد به الفعل ، وقد يذكر ويراد به الفاعل.

فإذا وصف به الفعل ، فالمراد به كل فعل حسن يفعله الفاعل لينفع به غيره أو ليضره ، إلا أن هذا يقتضي أن يكون خلق العالم من الله تعالى عدلا ، لأن هذا المعنى فيه. وليس كذلك ، فالأولى أن نقول : هو توفير حق الغير ، واستيفاء الحق منه.

فأما إذا وصف به الفاعل ، فعلى طريق المبالغة ، كقولهم : للصائم صوم ، وللراضي رضا ، وللنور نور ، إلى غير ذلك. ونحن إذا وصفنا القديم تعالى بأنه عدل حكيم ، فالمراد به أنه لا يفعل القبيح أو لا يختاره ، ولا يخل بما هو واجب عليه ، وأن أفعاله كلها حسنة. وقد خالفنا في ذلك المجبرة وأضافت إلى الله تعالى كل قبيح.

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو أنه تعالى عالم بقبح القبيح ، ومستغن عنه ، عالم باستغنائه عنه ، ومن كان هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه.

وهذه الدلالة تنبني على أن الله تعالى عالم بقبح القبيح ، وأنه مستغن عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ومن كان هذه حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه.

أما الذي يدل على أنه تعالى عالم بقبح القبيح فقد مر ، لأنا قد ذكرنا أنه تعالى عالم لذاته ، ومن حق العالم لذاته أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، ومن الوجوه التي يصح أن يعلم المعلوم عليه قبح القبائح ، فيجب أن يكون

٢٠٣

القديم تعالى عالما به.

وأما الذي يدل على أنه تعالى مستغن عن القبيح ، فقد تقدم أيضا ، لأنا قد بينا أنه غني لا تجوز عليه الحاجة أصلا.

وأما الذي يدل على أنه تعالى عالم باستغنائه عن القبيح فقد دخل أيضا في ضمن ما تقدم.

وأما الذي يدل على أن من كان هذا حاله لا يختار القبيح بوجه من الوجوه ، هو أنا نعلم ضرورة في الشهد أن أحدنا إذا كان عالما بقبح القبيح ، مستغنيا عنه عالما باستغنائه عنه ، فإنه لا يختار القبيح البتة. وإنما لا يختاره لعلمه بقبحه وبغناه عنه ، حتى لو انخرم شرط من هذه الشروط لجاز أن يختاره. وعلى هذا تجد هؤلاء الظلمة يغتصبون أموال الناس ، إما لأنهم لا يعرفون قبح الاغتصاب أو لاعتقادهم أنهم سيحوجون إليه في المستقبل. يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر ، وقيل له : إن كذبت أعطيناك درهما وإن صدقت أعطيناك درهما ، وهو عالم يقبح الكذب مستغن عنه عالم باستغنائه عنه فإنه قط لا يختار الكذب على الصدق. لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه. وهذه العلة بعينها قائمة في حق القديم تعالى فيجب أن لا يختاره البتة ، لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهدا وغائبا.

فإن قيل : ومن أين أن العلة في ذلك ما ذكرتموه حتى تقيسوا الغائب على الشاهد؟ قلنا : لأن العلة ليست بأكثر من أن يثبت الحكم بثباتها ، ويزول بزوالها ، وليس هناك ما تعليق الحكم عليه أولى.

فإن قيل : ومن أين أن ما جعلتموه علة مما يقف عليه الحكم ، وأنه ليس هاهنا ما تعليق الحكم به أولى؟ قيل له : لأن الواحد منا إذا حصل فيه هذه الشروط فإنه لا يختار القبيح وإن عدم أي ما عدم ، ومتى انخرم شرط من هذه الشروط جاز أن يختاره وإن وجد أي ما وجد ، فصح أن هذا الحكم موقوف عليه ، وليس هاهنا ما تعليق الحكم به أولى.

فإن قالوا : إن هذا بناء على أن الواحد منا مخير في تصرفاته ونحن لا نسلم ذلك ، فإن من مذهبنا أنه مجبر عليه في هذه الأفعال ، وأنها مخلوقة فيه. قلنا : إنا لم نبن الدلالة على مذهبكم الفاسد ، وإنما بنيناه على الدلالة.

٢٠٤

وبعد ، فإنا لا نتكلم في هذه المسألة مع من ينازع في أصل تلك المسألة ، لأن هذه المسألة من فروعات تلك المسألة ، لا يحسن أن نتكلم في فرع من الفروع ولما نقرر أصله ، كما لا يحسن أن نكالم اليهود في المسح على الخفين ، ولا المجسمة في نفي الرؤية ولما نثبت أنه تعالى ليس بجسم ولما نثبت نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعد ، فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجة إلينا ومتعلقة بنا ، وأنّا مختارون فيها. وإنما الخلاف في وجهة التعلق أكسب أو حدوث؟ فعندنا أن جهة التعلق إنما هو الحدوث ، وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب فلا حاجة للمنازعة.

وبعد ، فلو كان الأمر على ما ذكرتموه ، لوجب صحة أن يخلق الله تعالى في أحدنا وهو عالم بقبح القبيح ـ مستغن عنه عالم باستغنائه عنه ـ ذلك ، حتى يقع منه الكذب دون الصدق في الصورة التي ذكرناها ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : هذه الدلالة تبنى على أن أحدنا غني ، ونحن لا نسلم ذلك ، فكيف يكون غنيا وهو أبدا في أشد الحاجة.

قلنا : إنا لم نبن الدلالة على أن أحدنا غني على الإطلاق ، وإنما قلنا : متى استغنى بالحسن عن القبيح ، لا يختار القبيح أصلا ، وإذا وجب ذلك فيه مع أنه ليس بغني على الإطلاق ، وإنما استغناؤه بشيء عن شيء ، فالقديم تعالى وهو أغنى الأغنياء أولى بذلك وأحق.

فإن قيل : كيف عللتم الحكم الواحد بعلل كثيرة ، ولو جاز ذلك هاهنا لجاز في الحركة مع المتحرك ، والشهوة على المشتهي؟.

وجوابنا ، أن ذلك إنما لا يجوز إذا كانت العلة موجبة ، فأما إذا كانت كاشفة فإنه يجوز. ولهذا فإنا عللنا الظلم بكونه ضررا لا نفع فيه ولا دفع ضرر ولا استحقاق ولا الظن لأحد الوجهين المتقدمين.

فإن قالوا : قولكم ، أن الواحد منا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر فإنه لا يختار الكذب على الصدق لأنه يستغنى بالصدق عن الكذب ، ليس بأولى من أن يعكس عليكم فيقال : بل يستغنى بالكذب عن الصدق ، قيل له : لو كان ذلك كذلك ، لكان يجب أن يختار أحدنا الكذب على الصدق في بعض الحالات مع وجود هذه الشرائع ، ومعلوم خلاف ذلك.

٢٠٥

وقد أورد رحمه‌الله في الكتاب المثال الذي ذكره شيخنا أبو علي ، وهو أنه يعلم ضرورة أن أحدنا لا يشوه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته ويركب القصب ويعدو في الأسواق ، لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه.

إلا أن للخصم أن يشغب فيه فيقول : إنه إنما لم يفعل ذلك لأنه يستضر به غاية الاستضرار ، حتى لولاه لجاز أن يختاره.

فالأولى في المثال ما ذكره شيخنا أبو هاشم : وهو أن أحدنا إذا كان عالما بقبح الكذب وحسن الصدق ، وقيل له إن كذبت أعطيناك درهما وإن صدقت أعطيناك درهما ، فإنه لا يختار الكذب على الصدق ، لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وغناه عنه.

فإن قيل : إن هذا ينبني على أن الصدق والكذب يتساويان ، فكيف يصح ذلك وأحدهما يستحق عليه المدح والثواب والآخر يستحق عليه الذم والعقاب؟.

قيل له : أما ما ذكرتموه في الصدق فلا يصح ، لأنه يجوز أن يكون في الصدق ما لا يستحق عليه المدح والثواب ، ولهذا فإن أحدنا لو جلس طول نهاره يقول السماء فوقي والأرض تحتي فإنه لا يستحق المدح والثواب إن لم يستحق الذم والعقاب. وعلى أنه يجوز أن يكون في الصدق ما يستحق عليه الذم واللعنة ، كأن يتضمن الدلالة على نبي وقد توارى عن عدوه.

وأما ما ذكرته من الكذب ، فهو وإن كان كذلك ، إلا أنه لا يجوز أن يكون المرء ممن لا يبالي بالمدح ولا يحفل بالذم. هذا في الذم ، وأما العقاب فإن من الجائز أن يكون المرء ملحدا زنديقا ، لا يقر بالله تعالى ولا باليوم الآخر ، ولا يعتقد العقاب والثواب ، ومع ذلك فلو علم قبح القبح واستغنى عنه لم يختره أصلا.

وقد أجاب عن ذلك شيخنا أبو عبد الله البصري جوابا أدق من هذا فقال : إن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب وقيل له : إن صدقت أعطيناك درهما وإن كذبت أعطيناك درهما ودرهما آخر في مقابلة ما يستحقه من الذم على الكذب ، فإنه لا يختار ذلك أيضا لا ذلك إلا لعلمه بقبحه وبغناه عنه.

فإن قيل : كيف يمكنكم قياس الغائب على الشاهد ، ومعلوم أن أحدنا كما لا يختار القبيح إلا لجهله بقبحه وحاجته إلى ذلك ، كذلك لا يختار الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة ، فقولوا مثله في الغائب. ولئن فرقتم بين الموضعين في تلك المسألة ، فافرقوا بينهما في هذه المسألة.

٢٠٦

ولنا في الجواب عن ذلك طريقان :

إحداهما : طريقة جدلية ، وهي أن نقول : إن ما ذكرتموه من النفع غير ما استدللنا به وبمعزل عما أوردناه ، فلا يلزمنا الجواب عن طريق الجدل.

والثانية : طريقة علمية ، وهي أن نقول تبرعا ، إن أحدنا كما يختار الحسن لما ذكرتموه من النفع ودفع الضرر ، فقد يختاره لحسنه ولكونه إحسانا. والذي يدل على ذلك وجوه : منها ما ذكره شيخنا أبو هاشم ، وهو أن أحدنا لو خير بين الصدق والكذب وكان النفع في أحدهما كالنفع في الآخر ، فإنه يختار الصدق على الكذب ، لا ذلك إلا لحسنه وكونه إحسانا ، وإلا فالنفع فيهما سواء. ومنها ما ذكره شيخنا أبو الهذيل ، واستدل به أبو إسحاق بن عياش ، وغيره من مشايخنا ، وهو قولهم قد ثبت أن الله تعالى فاعل للحسن وعالم به ، فلا يخلو ، إما أن يفعله لاحتياجه إليه وذلك مستحيل عليه ، أو يفعله لحسنه وكونه إحسانا على ما نقوله. وهذا لأن العالم لما يفعله لا يفعل إلا لهذين الوجهين ، فإذا بطل أحد الوجهين نفي الآخر.

الحسن للحسن لا للمنفعة :

وقد ذكر قاضي القضاة أن أحدنا لو لم يفعل الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة لوجب أن لا يوجد في عالم الله تعالى منعم على غيره ، لأن المنعم إنما يكون منعما إذا قصد بالمنفعة وجه الإحسان إلى الغير ، حتى لو لم يكن كذلك لم يكن منعما. وعلى هذا فإن البزاز إذا قدم الثياب الفاخرة إلى المشترين ليأخذ في مقابلها الذهب فإنه لا يكون منعما عليه لما كان غرضه به نفع نفسه لا نفع المشتري ، وقد قيل : إن كل عاقل يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال ، وأن يقول للأعمى وقد أشرف على بئر يكاد يتردى فيه : يمنة أو يسرة لا ذاك إلا لحسنه وكونه إحسانا فقط.

فإن قيل : ما أنكرتم أنه إنما يفعله رجل للثواب ، أو طلبا للمدح ، أو هربا من النوم؟ قيل له : إنا نفرض الكلام في رجل قاسي القلب ، جافي الفؤاد لا يبالي بهلاك الثقلين ، ولا يحتفل بالمدح والذم ، ملحد زنديق ، لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا يقر بالثواب والعقاب ، ومعلوم أنه والحال هذه يستحسن بكمال عقله إرشاد الضال وأن يقول للأعمى والحال ما ذكرناه : يمينة أو يسرة ، ولا وجه لذلك إلا حسنه وكونه إحسانا.

وقد سلك شيخنا أبو عبد الله البصري طريقة أخرى ، وهي أن كل عاقل ،

٢٠٧

يستحسن بكمال عقله التفرقة بين المحسن والمسيء. وإنما تفرق بينهما الحسنة ، وإلا فلا نفع في ذلك ولا دفع ضرر.

وقد اعترض عليه فقيل : إن هذه تفرقة ضرورية ، فكيف أضفته إلينا؟.

وأجاب عن ذلك : بأن التفرقة إنما تكون ضرورية متى عرف المحسن والمسيء ضرورة ، فأما إذا لم نعرفهما فغير ممتنع أن نعزم ونوطن أنفسنا على التفرقة بينهما.

وهذا أيضا غير واضح ، فإن التفرقة بين المحسن والمسيء على الجملة ضرورية ، والعزم وتوطيد النفس على معنى الخير محال ، فإذن لا تستقيم هذه الدلالة إلا أن نعرض الكلام في التفرقة بينهما على سبيل التفصيل ، فحينئذ ربما يسلم ويستقيم.

وقد أورد قاضي القضاة في الكتاب هذا السؤال على نفسه وأجاب عنه ببعض ما مر ، وألحق به ما لم يمر.

فمن ذلك ، هو أن قال : إن الواحد منا إنما لا يختار الحسن إلا لجر منفعة أو دفع مضرة ، لأنه يلحقه بذلك مشقة ، فلا جرم لا يختاره إلا إذا استجر به نفعا أو دفع به ضررا ، والقديم تعالى يستحيل عليه المشقة ، فجاز أن يختار الحسن لحسنه وكونه إحسانا على ما نقوله ، وكل ما يفعله الله تعالى إنما يفعله لحسنه وكونه إحسانا إلا العقاب ، فإنه إنما يفعله لحسنه فقط. ومن هاهنا أشبه العقاب في أفعال الله تعالى المباح وإن لم يسم بذلك ، لأنه تعالى لم يعرف حاله ولا دل عليه ، وإنما يوصف العقل بأنه مباح متى كان هذا سبيله.

فإن قيل : قولكم إنه تعالى لا يختار القبيح لعلمه بقبحه وبغناه عنه ينبني على أنه يقبح من الله تعالى فعل من الأفعال ، ونحن لا نساعدكم على ذلك.

قيل له : إن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه ، فمتى وقع على ذلك الوجه وجب قبحه سواء وقع من الله تعالى ، أو من الواحد منا. وهذه مسألة كبيرة اختلف الناس فيها.

فعندنا أن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه نحو كونه ظما ، وعند أبي قاسم البلخي أن القبيح إنما يقبح لوقوعه بصفته وعينه ، وإلى هذا ذهب بعض المجبرة ، وعند بعضهم أن القبيح إنما يقبح للرأي ، أو لكوننا مملوكين مربوبين محدثين إلى أمثال هذا ، والحسن إنما يحسن للأمر.

٢٠٨

ونحن قبل الاشتغال بإفساد هذه المذاهب نصحح ما نقوله.

فالذي يدل على ذلك هو أنا نعلم أن الظلم قبيح ، وإنما قبح لكونه ظلما ، بدليل أنا متى عرفناه ظلما عرفنا قبحه وإن لم نعرف أمرا آخر ، ومتى لم نعرف كونه ظلما لم نعرف قبحه وإن عرفنا ما عرفنا. فبان أن الظلم إنما قبح لوقوعه على وجه وهو كونه ظلما ، هذا لأن العلم بالقبح فرع على العلم بوجه القبح إما على جملة أو تفصيل ، فيجب متى وقع على ذلك الوجه أن يكون قبيحا ، سواء وقع من الله تعالى أو من العباد ، لأن الحال فيه كالحال في الحركة وإيجابها كون الجسم متحركا ، فكما لا يختلف ذلك بحسب اختلاف الفاعلين لما كانت علة ، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل : لم لا يقبح القبيح بصفته وعينه على ما يقوله شيخكم أبو القاسم البلخي؟ قيل له : لأن الفعل الواحد يجوز أن يقع قبيحا مرة ، بأن يقع على وجه مسببا وأخرى بأن يقع على خلاف ذلك الوجه ، ألا ترى أن دخول الدار مع أنه شيء واحد لا يمتنع أن يقبح مرة ، بأن يكون لا عن إذن ، ويحسن أخرى بأن يكون عن إذن ، وكذلك فالسجدة الواحدة لا يمتنع أن تحسن بأن تكون سجدة لله تعالى ، وتقبح بأن تكون سجدة للشيطان ، ففسد ما قاله أبو القاسم.

فإن قيل : ما أنكرتم أن القبيح فإنما يقبح للنهي ، أو لكوننا مربوبين محدثين على ما يقوله هؤلاء المجبرة قلنا : إنه لو كان كذلك لوجب إذا نهى الله تعالى عن العدل والإنصاف أن يكون قبيحا ومتى أمر بالظلم والكذب أن يكون حسنا لأن العلة فيها واحدة ، والمعلوم خلافه.

وبعد فلو حسن الفعل للأمر وقبح للنهي ، لكان يجب كما لا يقبح من الله تعالى فعل لفقد النهي أن لا يحسن منه فعل أيضا لفقد الأمر.

وبعد فلو كان كذلك ، لوجب فيمن لا يعرف النهي والناهي ، أن لا يعرف قبح الظلم والكذب ، لأن العلم بالقبح يتفرع على العلم بوجه القبح ، إما على جملة أو تفصيل. ومعلوم أن الملحدة يعرفون قبح الظلم ، وإن لم يعرفوا النهي والناهي.

فإن قيل : إنهم لا يعرفون قبح الظلم ، وإنما يعتقدونه.

قيل له : لو أمكن أن يقال ذلك هاهنا ، لأمكن أن يقال إنهم لا يعرفون الفرق بين السواد والبياض لأن سكون النفس في أحدهما كسكون النفس في الآخر ، وقد عرف خلافه.

٢٠٩

وبعد : فلو كان كذلك ، لوجب إذا أمر أحدنا بالظلم والكذب أن يكون حسنا ، وإذا نهى عن العدل والإنصاف أن يكون قبيحا ، وأن لا يفترق الحال بين أن يكون من قبلنا وبين أن يكون من قبل الله تعالى ، لأن العلل في إيجابها الحكم لا تختلف بحسب اختلاف العاملين ، ألا ترى أن الحركة لما كانت علية في كون الذات متحركا لم تفترق الحال بين أن تكون من قبل الله تعالى وبين أن تكون من قبل غير الله تعالى ، كذلك هاهنا. وقد عرف خلافه.

وبعد ، فلو كان كذلك ، لوجب في الشيء الواحد أن يكون حسنا قبيحا دفعة واحدة ، بأن يأمر به بعضهم وينهى عنه الآخرون ، والمعلوم خلافه. فهذا إذا جعلوا العلة النهي.

فأما إذا جعلوا العلة في قبح القبيح كوننا مملوكين مربوبين محدثين ، كان الكلام عليهم أن حالنا مع الظلم والكذب وغيرهما من القبائح كحالنا مع العدل والإنصاف ، فيجب أن يكون العدل قبيحا لكوننا مملوكين مربوبين محدثين ، والمعلوم خلافه.

وبعد ، فلو كان كذلك ، لوجب فيمن لا يعرف كوننا مملوكين مربوبين محدثين أن لا يعرف قبح الظلم والكذب ، ومعلوم أن هؤلاء الدهرية يعرفون قبح الظلم ، وإن لم يعرفوا كوننا مملوكين مربوبين محدثين.

فإن قيل : قولكم إن القبيح إنما يقبح لوقوعه على وجه ، ومتى وقع على ذلك الوجه قبح من أي فاعل كان ، لا يصح لأن الإماتة بالهدم والغرق وغيره من الوجوه ، يحسن من الله تعالى ويقبح منا ، وكذلك فإيلام الأطفال والبهائم يحسن منه ويقبح منا فبطل ما ذكرتموه.

قيل له : إنما يحسن من الله تعالى الإماتة والإيلام لعلة ، تلك العلة مفقودة في حقنا ، وهي من جهة الله تعالى تتضمن الاعتبار واللطف ويضمن الله تعالى في مقابلها من الأعواض ما يوفي عليها. حتى لو خير أحدنا بين الألم مع تلك الأعواض وبين الصحة لاختار الألم ليصل إلى تلك الأعواض ، وليس كذلك الواحد منا فإنه لا يعرف المصلحة من المفسدة ، حتى يقال إن الإماتة والإيلام من جهته يتضمن اللطف والمصلحة ولا يضمن أيضا في مقابلها الأعواض الموفية عليها ، ففارق حالنا حال القديم تعالى ، حتى لو قدرنا وقوع ذلك من الله تعالى على الوجه الذي يقع منا لقبح ، أو وقوعه منا على الوجه الذي يقع من الله تعالى لحسن.

٢١٠

فصل والغرض به الكلام في أنه تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعل

لكان قبيحا

أبو الهذيل وأكثر المعتزلة ولا سيما البصريين على هذا الرأي :

والخلاف فيه مع النظام وأبي علي الأسواري والجاحظ ، فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى غير موصوف بالقدرة على فعل ما لو فعله لكان قبيحا ، وإلى هذا ذهبت المجبرة ، فإن من مذهبهم ، أن الله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، وإن قدر على أن يجعله كسبا للعبد. إلا أن حالهم بخلاف حال النظام وطبقته لأنهم ناقضوا من حيث أضافوا إلى الله تعالى كل قبيح ، والنظام لم يناقض.

والدليل على صحة ما نقوله ، هو ما قد ثبت أنه تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم الضروري ، فيجب أن يكون قادرا على أن يخلق بدله الجهل ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، والجهل قبيح.

وإن شئت فرضت الكلام في أهل الجنة فتقول : إنه تعالى قادر على خلق الشهوة فيهم ، فيجب أن يكون قادرا على أن يخلق فيهم النفرة ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، ومعلوم أنه تعالى لو خلق فيهم النفرة لكان قبيحا.

وإن شئت فرضت الكلام في فعل يجوز أن يقع فيكون قبيحا ، وقع فيكون حسنا ، فتقول : إذا قدر على إيقاعه على أحد الوجهين ، فيجب قدرته على أن يوقعه على الوجه الآخر ، لأن القدرة إنما تتعلق بالإيجاد والإحداث دون وجوه الأفعال. يبين ذلك ، أن أحدنا كما يقدر على أن يقول زيد في الدار وهو فيها يقدر على أن يقول ذلك وليس هو فيها. وكذلك الحال في القديم تعالى إذا قدر على الصدق وجب قدرته على الكذب ، لأنهما شيء واحد لا يختلفان إلا بحسب اختلاف المخبر عنه ، وذلك مما لا يوجب تغير القدرة عليه. وكذلك إذا قدر على إحياء الميت عقب دعوى المدعي للنبوة وهو صادق ، وجب قدرته على إحيائه عقب دعواه وهو كاذب.

وقد ألزمهم مشايخنا رحمهم‌الله على هذا المذهب أن يكون أضعف القادرين منا أقوى من الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قالوا : بيان هذا ، أن الطفل الذي لا يقدر على أن يحمل منّا ، يقدر على أن يزج الغير وهو واقف على شفير الغار فيوقعه فيها وإن لم يستحق ذلك ، والقديم تعالى غير قادر عليه عندهم لأن ذلك قبيح ، فيجب

٢١١

فساد قولهم.

قالوا : لو كان الله تعالى قادرا على القبيح لوجب أن يوقعه.

الرد على من يقول إن الله لو قدر على القبيح لوجب أن يوقعه :

قلنا ، ليس يجب في كل من قدر على الشر أن يوقعه لا محالة ، ألا ترى أن أحدنا مع قدرته على القيام ربما يكون قاعدا ، ومع قدرته على الكلام ربما يكون ساكتا ، فكيف أوجبتم في القادر على الشيء أن يوقعه بكل وجه؟ وكذلك فالقديم تعالى قادر على أن يقيم القيامة الآن ، ثم إذا لم تقم لم يقدح في كونه قادرا.

وقالوا : لو كان القديم تعالى قادرا على القبيح لوجب صحة أن يوقعه ، قلنا : ما تريدون بالصحة؟ فإن أردتم يجب أن يوقعه فقد أجبنا عن ذلك ، وإن أردتم أنه يجب أن يكون قادرا عليه فذلك مجاب إليه.

فإن قالوا : إذا كان القديم تعالى قادرا على القبيح فما الذي أمنكم من أن يوقعه؟ قلنا : دلالة العدل ، وهو علمه بقبح القبيح واستغناؤه عنه هو الذي أمننا من ذلك ، فصح ما قلناه ، وصح أنه تعالى موصوف بالقدرة على ما لو فعله لكان قبيحا.

هناك أدلة من الكتاب على هذا وإن كانت الأدلة السمعية بعيدة هنا :

وفي كتاب الله تعالى ، ما يمكن أن يستدل به على أنه تعالى موصوف على ما لو فعله لكان قبيحا ، وإن كان الاستدلال بالسمع على هذه المسألة يبعد.

وتحرير الدلالة على ذلك ، أن الله تعالى تمدح بنفي الظلم عن نفسه مدحا يرجع إلى الفعل حيث قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] ، وقال : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] وقال : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً). ولا يحسن أن يتمدح بنفي الظلم عن نفسه ، وهو غير قادر عليه ، كما أنه لا يحسن من العنين أن يتمدح بتركه افتضاض الأبكار ، لما لم يكن قادرا على ذلك ، وكما أنه لا يحسن من الزمن المقعد مدح نفسه بتركه تسلق الحيطان والهجوم على دور الجيران لما لم يكن قادرا عليه ، كذلك هاهنا ، إذا لم يكن القديم تعالى قادرا على القبيح ، وجب أن لا يحسن منه أن يتمدح بترك الظلم.

فإن قيل : أليس أنه تعالى تمدح بنفي السنّة والنوم والصاحبة والولد عن نفسه مع أنه غير قادر عليه قلنا : فرق بين الموضعين ، فإن أحدهما مدح يرجع إلى ذاته ، والآخر

٢١٢

مدح يرجع إلى فعل من أفعاله ، وهما مختلفان في هذا الباب. ألا ترى أنه لا يحسن من الزين أن يتمدح بترك التسلق على ما ذكرناه لما لم يقدر عليه ويحسن منه أن يتمدح بنفي الخرس عن نفسه ، وإن لم يقدر على ذلك ، لما كان أحد المدحين راجعا إلى ذاته والآخر راجعا إلى الفعل ، كذلك في مسألتنا.

فصل

وقد أورد مشايخنا وجوها من الإلزام على القول بأنه تعالى يفعل القبيح ، ويمكن أن يستدل ببعضها على أنه لا يفعل القبيح.

فمن ذلك ما قد ثبت في مقدور القديم تعالى من الحسن ما يستغنى به عن القبيح ، فيجب أن لا يختار القبيح ، لأن من استغنى بالحسن عن القبيح ، لا يختار القبيح بحال.

وهذه الدلالة مبنية على أنه تعالى مستغن بالحسن عن القبيح ، وأن من كان هذا حاله فإنه لا يختار القبيح.

في مقدور القديم أن يستغني عن القبيح :

أما الذي يدل على الأصل الأول ، فهو ما قد ثبت أن الله تعالى قادر لذاته ، ومن حق القادر لذاته أن يكون قادرا على سائر أجناس المقدورات ومن كل جنس على ما لا يتناهى ، وهذا يوجب أن يكون في مقدوره من المحسن ما يستغني به عن القبيح ، إذ الحاجة إنما تتعلق بالضروب والأجناس دون الأعيان ، ألا ترى أن من احتاج إلى حلاوة ، لا تختص حاجته بحلاوة معينة لا يقوم غيره مقامها.

المستغني عن القبيح بالحسن لا يفعل القبيح :

وأما الكلام في أن المستغني بالحسن عن القبيح لا يختار القبيح فظاهر ، لأنا نعلم في الشاهد ضرورة أن أحدنا إذا استغنى باقتضاء دينه عن غصب مال الغير فإنه قط لا يغصب مال الغير ، لا ذلك إلا لاستغنائه بالحسن عن القبيح.

وأوضح في المثال من هذا ، هو من استغنى بماء الفرات عن اغتصاب شربة من ماء الغير بأن يكون على الشط فإنه قط لا يغصب تلك الشربة من غيره ، ولا وجه له إلا استغناؤه بالحسن على القبيح على ما ذكرناه. وهذه العلة بعينها قائمة في القديم تعالى ،

٢١٣

فوجب أن لا يختار القبيح.

وهذه الدلالة غير الدلالة الأولى ، لأنها كانت مبنية على استحالة الحاجة عليه وهذه غير مبنية عليها ، ولذلك قلنا : إن المجسمة يمكنهم الاستدلال على كونه عدلا حكيما بهذه الطريق مع تجويزهم الحاجة عليه تعالى ، وجعلنا حال المجبرة أسوأ من حالهم ، لأنهم سدوا على أنفسهم طريقة العلم بعدل الله تعالى وحكمته.

ومما أورده مشايخنا في هذا الباب ، هو أن قالوا : لو فعل الله القبيح لكان يجب أن يكون جاهلا أو محتاجا ، والجهل أو الحاجة لا يجوزان عليه تعالى ، فيجب أن لا يختار القبيح بوجه من الوجوه.

ومما ألزمهم مشايخنا رحمهم‌الله ، هو أنه تعالى لو جاز أن يكون فاعلا لبعض القبائح لوجب أن يكون فاعلا لسائرها ، لأن الحال في الجميع واحدة وهذا يوجب تجويز الظلم والكذب عليه حتى لا تقع الثقة بشيء من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، وحتى يجوز أن يعاقب الأنبياء بذنوب الفراعنة ويثيب الفراعنة بطاعات الأنبياء والأبرار ، لأن أكبر ما في هذه الأمور أن يكون قبيحا والقوم قد جوزوا عليه كل قبيح ، ومن جوز هذا لزم أن لا يقول بربويته ولا أن يعبده ، وفي ذلك من الفساد والكفر ما لا خفاء به.

وربما يورد هذا الإلزام على وجه آخر ، فيقال : لا يخلو حال القديم إذا جاز أن يفعل القبيح من أحد أمرين : إما أن يفعله ويقبح منه فعله ، أو يفعله ويحسن منه.

فإن قيل : بالأول لزمه ما ذكرناه من الوجوه ، وإن قيل بالثاني لزم أيضا تجويز هذه القبائح وتحسن منه ، ومن بلغ في التجاهل إلى هذا الحد فهو عن حد الإسلام خارج.

ولما ألزمهم مشايخنا تجويز الكذب على الله تعالى ، افترقوا فريقين.

فمنهم : من جوزه ، وهو العطوى من أصحاب الأشعري ، ولقد مر على القياس واحتج عليهم بأن قال : ألستم قد جوزتم على لله تعالى الظلم والقبائح ، فكيف لا يجوز عليه الكذب ، وليس الكذب بأعظم من الظلم وغيره من القبائح؟ وأوضح ذلك بمثال فقال : إن أحدنا لو قال لصبي أدخل البيت ففيه رمان موضوع لأجلك ، وليس في البيت ذلك ، فإن هذا ليس بأعظم من أن يقلع سنا من أسنانه أو يقطعه إربا إربا ، وقد جوزتم على الله هذا ، فجوزوا الكذب عليه أيضا.

٢١٤

ومنهم : من لم يجوزه ، ثم افترقوا في علته ، فمنهم من قال : إنا لم نجوز على الله تعالى الكذب لأنه يدل على الجهل والحاجة ، أو لأنه قبيح ، والله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، وهم النجارية.

الكلام على النجارية :

ومنهم : من قال : لا يجوز عليه الكذب ، لأنه صادق لذاته. والكلام على النجارية في الوجه الأول ، هو أنه إذا جاز أن يفعل القديم تعالى سائر القبائح ولا يدل على الجهل والحاجة ، فما أنكرتم أن يفعل الكذب أيضا ولا يدل على الجهل والحاجة. وأما الكلام على من اعتل بالوجه الثاني فقد مضى ، لأنا قد بينا قدرته على ما لو فعله لكان قبيحا.

وأما الكلام على من قال إنه تعالى صادق لذاته ، فهو أن يقال : ما دليلكم على أنه تعالى صادق لذاته؟ فإن قالوا الدليل على ذلك أنه تعالى أخبر عن أشياء وكان كما أخبر. قلنا لهم : وما تلك الأشياء التي ذكرها؟ فإن قالوا : إخباره عن خلقه السموات والأرضين حيث قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) قلنا له : ما أنكرتم أنه لم يرد بذلك السموات والأرضين المخلوقة ، وإنما أراد بذلك السموات والأرضين التي لم يخلقها بعد ، فيكون كاذبا فيه تعالى عن ذلك.

وبعد ، فليس للصدق بكونه صادقا حال ، وإنما المرجع بذلك إلى أنه فاعل للصدق ، والقوم إذا جعلوه صادقا لذاته فكأنهم قد نفوا عنه الصدق أصلا.

وبعد ، فلو كان صادقا لذاته لكانت هذه الصفة ترجع إليه ، فما الذي يمنع أن يخبر بشيء ولا يكون كما أخبر عنه ، فإن هذا يرجع إلى الفعل لا إلى الذات ، ولسنا نلزمكم أكثر من تجويز هذا. ثم يقال لهم ، أليس الله تعالى آمرا لذاته عندكم ثم لا يمتنع أن يكون آمرا ببعض الأشياء ناهيا عن البعض ، فهلا جاز أن يكون صادقا لذاته وإن كان لا يمنع أن يكون صادقا في بعض الأشياء وكاذبا في البعض؟

ومما ألزمهم به مشايخنا هو أنه لو جاز أن يفعل بعض القبائح لجاز أن يفعل سائرها ، وهذا يوجب عليهم جواز أن يثيب الفراعنة بطاعات الأنبياء ، ويعاقب الأنبياء بذنوب الفراعنة ، فلا يحسن من العباد عبادته.

وعند هذا الإلزام تحزبوا حزبين وافترقوا فريقين :

٢١٥

فمنهم من قال : لا يجوز هذا لأنه قبيح والله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبح ، وهم النجارية. وقد تقدم الكلام عليهم ، وذكرنا أنه لا معنى لقولهم أنه غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح مع أن سائر القبائح واقعة من قبله على سائر وجوهها ، لأنه لو تفرد به لكان لا يزيد حاله على هذه الحال.

وبعد ، فكان يلزمهم تجويز أن يجعل الله ذلك كسبا لبعض الربانية فيعذبهم بذنوب الفراعنة ، ومن بلغ إلى هذا الحد في التجاهل فقد انسلخ من الدين.

ومنهم من قال : إنا لو خلينا وقضية العقل لكنا نجوز ذلك على الله تعالى إلا أن السمع منع منه. وجوابنا عن هذا أن هذا مكابرة ، لأنه لا ظلم أفحش من معاقبة الغير بذنب الغير ، وقد تقرر قبحه في عقل كل عاقل.

ثم يقال لهم ، وكيف الثقة بالسمع؟ وما الذي أمنكم من أن يكون كاذبا فيما أخبر به في كتابه ، وذكره على لسان رسوله؟ يبين ما ذكرناه ، أن إبليس لو بعث إلينا رسولا أو كتب كتابا يقول فيه أجيبوني وأطيعوني فإني لا أضلكم عن سواء السبيل ، وأهديكم إلى الصراط المستقيم ، فإنا لا نثق بقوله ولا نعتمد خبره لتجويزنا كل قبيح عليه. كذلك كان يجب أن لا تقع لهم الثقة بالله تعالى عندهم ، فإن حاله تعالى الله عن ذلك أسوأ حالا من إبليس.

ومما ألزمهم مشايخنا ، تجويزا أن يبعث الله تعالى رسولا كاذبا إلى الناس ويظهر المعجزة على يديه ليدعوهم إلى الضلال والكفر ، لأن ذلك ليس بأعظم من توليه الإضلال بنفسه.

فعند هذا الإلزام افترقا فرقتين :

فمنهم من قال : إنما لم نجز ذلك لأنه قبيح الله تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبح ، وهم النجارية. والكلام عليهم قد مر ، ونعيد شطرا منه فنقول : أو ليس تقع في العالم الأكاذيب ولا تقع إلا متولدة عن الاعتمادات ، وعندكم أن المتولد لا يتعلق بالعبد أصلا لا اكتسابا ولا إحداثا فقد تفرد الله تعالى بها ، فكيف تقولون إنه غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح؟.

وأيضا فإنه قادر على إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص عند دعوى المدعي للنبوة وهو صادق ، فيجب أن يكون قادرا على ذلك وهو كاذب ، لأن القدرة على ذلك مما لا يتغير بكذب المدعي ولا بصدقه.

٢١٦

يبين ذلك ويوضحه ، أن الذي يخرج المقدور عن كونه مقدورا وجوه محصورة : منها ما يرجع إلى ما تحتاج إليه القدرة كعدم البنية ، ومنها ما يرجع إلى الفاعل وهو عدم القدرة ، ومنها ما يرجع إلى نفس المقدور وذلك وجوه ستة : وجوده ، أو وجود سببه ، أو حضور وقته ، أو حضور سببه ، أو تقضيه ، أو تقضي وقت سببه. وشيء من هذه الوجوه غير حاصل في مسألتنا ، فيجب أن لا تتغير قدرة القديم تعالى على ذلك يكذب المدعي وصدقه.

ثم يقال لهم : هب أنه تعالى غير موصوف بالقدرة على التفرد بالقبيح ، أو ليس أنه تعالى قادر على أن يجعله كسبا لهذا المدعي فيلزم منه ما فررتم منه.

ومنهم من قال : إنما لم يجز ذلك لأن المعجز موضوع للتصديق.

وجوابنا أنا لا نسلم ذلك ، بل المعجز إنما يدل على صدق من ظهر عليه بشرط أن يكون المظهر له عدلا حكيما ، فأما إذا لم يكن عدلا حكيما فلا. وقد أضفتم إلى الله تعالى سائر القبائح فكيف يمكنك القول بذلك؟.

ثم يقال لهم : وما دليلكم على أن المعجز دلالة التصديق؟ فإن قالوا : لأن الله تعالى قادر على أن يخلق فينا العلم الضروري بصدق المدعي فيجب أن يكون قادرا على أن يعرفنا صدقه استدلالا ، قلنا : ولم وجب ذلك؟ فإن قالوا : لأنه تعالى لما قدر على أن يعرفنا ذاته اضطرارا قدر على أن يعرفناه استدلالا. قلنا ، ولم جمعتم بين الأمرين ، وهل هذا إلا جمع الأمرين من غير علة جامعة؟ ثم يقال لهم : أليس أنه تعالى قدر على أن يعرفنا وجود أنفسنا اضطرارا ولم يقدر على أن يعرفناه استدلالا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ فإن قالوا : إن كلامنا في الغير ، قلنا : هذا قرار بمجرد دفع الالتزام ، وما هذا سبيله من الاحترازات فإنها مما لا يقبل ، وصار الحال فيه كالحال في ما إذا قلنا للمجسمة لو كان القديم تعالى جسما لوجب أن يكون محدثا ، فتقول المجسمة إنما يجب أن يكون محدثا إذا كان الكلام في الشاهد فأما في الغائب فلا ، فكما أنّا نقول لهم هذا احتزاز لمجرد دفع الإلزام فلا يقبل ، كذلك في مسألتنا.

وبعد ، فإنه تعالى قادر على أن يعرفنا الألم اضطرارا ولم يقدر على أن يعرفنا به استدلالا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ فلا يجدون له جوابا.

فصل في خلق الأفعال

والغرض به ، الكلام في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم وأنهم المحدثون لها.

٢١٧

الخلاف مع المجبرة :

والخلاف في ذلك مع المجبرة :

فإن منهم من ذهب إلى أن هذه الأفعال مخلوقة لله تعالى فينا لا تعلق لها بنا أصلا ، لا اكتسابا ولا إحداثا وإنما نحن كالظروف لها ، وهم الجهمية أصحاب جهم بن صفوان.

ومنهم من ذهب إلى أن لها بنا تعلقا من جهة الكسب وإن كانت مخلوقة فينا من جهة الله تعالى.

ثم اختلفوا ، فمنهم من سوى في هذه القضية بين المباشر المتولد وهو ضرار بن عمرو ، ومنهم من قال : إن المباشر خلق الله تعالى فينا متعلق بنا من حيث الكسب ، وأما المتولد فإن الله تعالى منفرد بخلقه.

حقيق الفعل :

وقبل الشروع في المسألة نذكر حقيقة الفعل.

فالفعل على ما ذكره في الكتاب ، هو ما يحصل من قادر من الحوادث. وهذا يوهم أن الفاعل يجب أن يكون قادرا حال وقوع الفعل لا محالة وليس كذلك ، فإن الرامي ربما يرمي ويموت قبل الإصابة. فالأولى أن يقال في حقيقة الفعل : هو ما وجد وكان الغير قادرا عليه. فلا يتوجه عليه الاعتراض الذي وجهناه على الأول.

ثم إن بين المحدث وبين الفعل فرقا ، وهو أن المحدث يعلم محدثا وإن لم يعلم أن له محدثا ، وليس كذلك الفعل ، فإنه إذا علم فعلا علم أن له فاعلا ما وإن لم يعلمه بعينه.

ولهذا عاب قاضي القضاة علي الأشعري في نقض اللمع استدلاله على أن للعالم صنعا بقوله : قد ثبت أن العالم صنع فلا بد له من صانع ، فقال : إن العلم بأن العالم صنع يتضمن العلم بأن له صانعا ، فكيف يصح هذا الاستدلال؟.

فحصل من هذه الجملة ، أنه إذا علم الفعل فعلا يعلم أن له فاعلا ما على الجملة وإنما يقع الكلام بعد ذلك في تعيين الفاعل.

وإذا أردت أن تعلم الفاعل بعينه ، فلك فيه طريقان : أحدهما : أن تختبر حاله ،

٢١٨

فإن وجدت الفعل يقع بحسب قصده ودواعيه ، وينتفي بحسب كراهته وصارفه ، حكمت بأنه فعل له على الخصوص. والطريقة الثانية ، هو أن تعلم أن هذا المقدور لا يجوز أن يكون مقدورا للقادر بالقدرة ، فيجب أن يكون مقدورا للقادر لذاته وهو الله تعالى.

ثم إنه رحمه‌الله تعالى لما ذكر في حقيقة الفاعل القادر ، سأل نفسه على ذلك فقال : كيف يصح ذلك وفي الناس من ذهب إلى أن الفعل إنما يقع بطبع المحل ، أو بقوة له غالبة ، على ما ذكر عن الأوائل من المتفلسفين؟.

والجواب عن ذلك أن الطبع غير معقول ، وقد تقدم ذلك. ثم يقال لهم : ما تريدون بالطبع؟ فإن أردتم به الفاعل المختار ، فهو الذي نقوله ، ولكن العبارة فاسدة ، لأن العرب لا تسمى الفاعل المختار طبعا ، وإن أردتم به أمرا موجبا ، فإنا قد ذكرنا أن الفعل إنما يصدر عن الجملة ، فالمؤثر فيه لا بد من أن يكون راجعا إلى الجملة.

ثم إنه رحمه‌الله لما ذكر حقيقة الفعل ، ورأى أن الأفعال فيها ما يستحق عليه المدح والثواب ، وفيها ما يستحق عليه الذم والعقاب. وفيها ما لا يستحق عليه واحد منهما ، تكلم في أقسام الأفعال.

أقسام الأفعال :

وجملة الكلام في ذلك أن الفعل ينقسم إلى : ما له صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه ، وإلى ما ليس له صفة زائدة على ذلك. ما لا صفة له زائدة على حدوثه وصفة جنس ، فهو كالحركة اليسيرة والكلام اليسير ، وذلك إنما يقع من الساهي ولا مدح فيه. وما له صفة زائدة على حدوثه وصفة جنسه ، فهو فعل العام بما يفعله.

وذكر في الكتاب ، أن العالم بما يفعله ، المميز بينه وبين غيره ، لا يخلو فعله من أحد وجهين ، إما أن يكون له فعله ، أو لا يكون له فعله ، ولم يعتبر في ذلك زوال الإلجاء ، واقتصر على اعتبار زوال الشهوة.

والأولى أن يعتبر زوال الإلجاء أيضا.

فالقسمة الصحيحة في ذلك أن يقال : إن فعل العالم بما يفعله المميز بينه وبين غيره إذا لم يكن ملجأ لا يخلو من أمرين : إما أن يكون له فعله ، أو لا. فإن كان له فعله فهو الحسن ، وهو ما لفاعله أن يفعله ولا يستحق عليه ذما. وإن لم يكن له فعله ، فهو القبيح ، وحده وحقيقته قد تقدم.

٢١٩

الحسن [و] المباح.

ثم إن الحسن ينقسم قسمين : فإما أن تكون له صفة زائدة على حسنه ، وأما أن لا يكون كذلك. فالأول هو الذي يستحق عليه المدح ، والثاني هو الذي لا يستحق بفعله المدح ويسمى مباحا ، وحدّه : ما عرف فاعله حسنه أو دل عليه ، ولهذا لا توصف أفعال القديم تعالى بالمباح ، وإن وجد فيها ما صورته صورة المباح كالعقاب.

وأما ما يستحق عليه المدح فعلى قسمين : إما أن يستحق بفعله المدح ولا يستحق الذم بأن لا يفعل ، وذلك كالنوافل وغيرها ، وإما أن يستحق المدح بفعله والذم بأن لا يفعل ، وذلك كالواجبات. وقد تقدم حدود هذه الألفاظ.

الواجبات :

ثم إن الواجبات تنقسم : ففيها ماله بدل وهو الواجب المخير ، وفيها ما لا بدل له وهو الواجب المضيق. وقد تقدم ذلك في صدر الكتاب.

وتنقسم قسمة أخرى : إلى ما يتعدى ، وذلك نحو رد الوديعة وشكر النعمة من العقليات ، ومن الشرعيات كالزكاة وما شاكل ذلك ، وإلى ما لا يتعدى ، وذلك نحو النظر والمعرفة من العقليات ، ومن الشرعيات كالصلاة والصيام وغيرهما.

وتنقسم قسمة أخرى إلى ، عقلي ، وشرعي. فالعقلي هو ما أستفيد وجوبه بالشرع ، وذلك نحو الصلاة والصيام والحج وما جرى هذا المجرى.

وتنقسم الواجبات إلى : ما له سبب موجب ، وإلى ما ليس كذلك. وهذه القسمة تتأتى في العقليات والشرعيات جميعا.

فمثال الأول من العقليات فهو : كحفظ الوديعة ، فإن لها سببا موجبا وهو التكفل به ، وقضاء الدين ، فإن الاستقراض سبب وجوبه ، وشكر المنعم فإن لوجوبه سببا وهو النعمة. ومن الشرعيات ، كالكفارات ، فإن لها سببا موجبا وهو اليمين أو الحنث على اختلاف في ذلك بين الفقهاء ، وهذا في كفارة اليمين ، وأما في كفارة الظهار فسببها الظهار ، وفي كفارة القتل سببها القتل.

ومثال الثاني من العقليات : الإنصاف ، فإنه لا سبب له موجب ، ومثاله من الشرعيات الصلاة والصيام.

ثم ينقسم ما له سبب من الواجبات إلى : ما يكون سبب وجوبه من جهتنا ، وإلى

٢٢٠