شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

على عادتهم في الاختصار ، وعلى هذا قال الشاعر :

فو الله ما أدري وإن كنت داريا

بسبع رميت الجمر أم بثمان

وعن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لن يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة. وقد قيل لعلي عليه‌السلام : هل رأيت ربك؟ فقال : ما كنت لأعبد شيئا لم أره. فقيل : كيف رأيت؟ فقال ، لم تره الأبصار بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، موصوف بالدلالات ، معروف بالآيات ، هو الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم.

ثم نتأوله نحن على وجه يوافق دلالة العقل ، فنقول : المراد به سترون ربكم يوم القيامة ، أي ستعلمون ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر. وعلى هذا قال : لا تضامون في رؤيته ، أي لا تشكون في رؤيته فعقبه بالشك ، ولو كان بمعنى رؤية البصر لم يجز ذلك. والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن ، وورد به الشعر. فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] وقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ)

(بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١)) وقال : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠)) [الأنبياء : ٣٠] وفي الشعر :

رأيت الله إذ سمى نزارا

وأسكنهم بمكة قاطنينا

أي علمت الله تعالى.

وقال حاتم بن طي :

أماوي إن يصبح صداي بقفرة

من الأرض لا ماء لدي ولا خمر

ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني

وأن يدي مما بخلت به صفر

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

أماوي إن المال غاد ورائح

وباق من المال الأحاديث والذكر

فإن قالوا : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما أورد هذا الخبر مورد البشارة لأصحابه ، وأي بشارة في أن يعلموا الله تعالى في دار الآخرة ، ومعلوم أنهم يعلمونه في دار الدنيا؟ قلنا : إنما بشرنا بالعلم الضروري ، والعلم الضروري لا يثبت إلا في دار الآخرة. فإن قالوا : أي بشارة في أن يعلم الله تعالى ضرورة؟ قلنا : لأن لا يلزم مئونة النظر وتعب الفكر. فإن قال : فيجب على هذا أن يكون المنافقون والمؤمنون سواء ، لأنهم يعلمون الله ضرورة كالمؤمنين. قلنا : إن المنافقين والكفار وإن علموا الله تعالى

١٨١

ضرورة فلا يكون حالهم وحال المؤمنين سواء ، لأن المؤمنين إذا عرفوا الله تعالى ضرورة ، وعلموا دوام ثوابهم ، ازدادوا فرحا وسرورا ، ويكون عيشهم أهنأ وأرغد ، وليس كذلك حال المنافقين ، لأنهم إذا عرفوا الله تعالى ضرورة ، وعلموا دوام عقابهم ، ازدادوا غما وحسرة ، وكانوا في عقوبة وعذاب.

فإن قالوا : الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين ، نحو رأيت فلانا فاضلا ، ولا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلا إذا كان بمعنى المشاهد ، قلنا : لا يمتنع أن يكون الأصل ما ذكرتموه ، ثم يقتصر على أحد مفعوليه توسعا ومجازا ، كما أن همزة التعدية إذا دخلت في الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين ، يقتضي تعديه إلى ثلاثة مفعولين ، ثم قد يدخل على الفعل الذي هذا حاله ويقتصر على مفعولين ، ولهذا قال تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٢٨] فأدخل الهمزة على الرؤية واقتصر على مفعولين على أن حال الرؤية إذا كانت بمعنى العلم ليس بأكثر من معنى حال العلم ، ومعلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد مفعولين فيقولون أعلم ما في نفسك ، ولهذا قال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] فإن قال : إن العلم هاهنا بمعنى المعرفة ، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد مفعولين؟ قلنا : فارض منا يمثل هذا الجواب ، فنقول : إن الرؤية في الخبر بمعنى المعرفة ، لأن المراد بقوله : سترون ربكم يوم القيامة ، أي ستعرفون ربكم يوم القيامة كما تعرفون القمر ليلة البدر ، فلا يجب أن يتعدى إلى مفعولين.

شبه المخالفين من جهة العقل

وللمخالف في هذا الباب شبه من جهة العقل من جملتها ، قولهم : إن القديم تعالى عندكم راء لذاته فيجب أن يرى نفسه فيما لم يزل ، وإلا خرج عن كونه رائيا لذاته ، وكل ما قال إنه يرى نفسه قال إنه يراه غيره.

قلنا : لنا في هذه المسألة طريقان : أحدهما ، هو أن يقول : إنا لا نسلم أنه راء لذاته ، بل القديم تعالى إنما يرى الشيء لكونه حيا بشرط وجود المدرك ، وكونه حيا من مقتضى صفة الذات ، وكونه مدركا من مقتضى صفة الذات ، فكيف يصح أن يقال إنه عزوجل راء لذاته؟

والطريقة الثانية ، هو أن نقول : هب أن الله تعالى راء لذاته ، أليس أنه عزوجل لا يجب أن يرى المعدومات مع كونه رائيا لذاته؟ فإن قالوا : إنما لا يجب أن يرى

١٨٢

المعدومات لأن الرؤية مستحيلة على المعدومات ، قلنا : وكذلك القديم تعالى تستحيل عليه الرؤية ، فلا يجب أن يرى نفسه فيما لم يزل.

ومما يتعلقون به ، قولهم : قد ثبت أن الله تعالى راء لغيره فيجب أن يرى نفسه ، لأن العلة في صحة أن يرى غيره هي العلة في صحة أن يرى نفسه دليله الشاهد ، فإن كل من صح أن يرى غيره يصح أن يرى نفسه ، ومن لم يصح أن يرى غيره لم يصح أن يرى نفسه ، والعلة هو ما يثبت الحكم بثباته ويزول بزواله ، ولم يكن هناك ما تعليق الحكم عليه أولى ، وفي مسألتنا ما تعليق الحكم عليه ، فلا يصح ما ذكرتموه.

وبعد ، فإن هذا قياس الرائي على المرئي ، وأحدهما مباين للآخر ، لأن الرائي إنما يصح أن يرى الشيء لكونه حيا بشرط صحة الحاسة ، والمرئي إنما يرى لكونه مرئيا في نفسه بشرط أن يكون موجودا في الحال ، وليس كذلك القديم تعالى ، فلا يصح ما أوردتموه. وهل هذا إلا كأن يقال : إن من كان حيا ، كما يجب أن يكون رائيا للشيء ، يجب أن يكون مرئيا ، فكما أن هذا خلف من الكلام ، كذلك هنا ، لأن المعلوم أن الشيء لا يرى لكونه حيا وإنما يرى لكونه على الصفة التي يتعلق بها الإدراك ، والرائي إنما يرى الشيء لكونه حيا. وبعد ، فما أنكرتم أن الواحد منا إنما يصح أن يرى نفسه لأنه مما تصح رؤية ، وليس كذلك القديم تعالى لأن الرؤية مستحيلة عليه ، ففارق أحدهما الآخر.

ومما يتعلقون به أيضا ، قولهم : قد ثبت أن القديم تعالى موجود ، فيجب أن يكون مرئيا.

وجوابنا عن ذلك هو أن نقول : ولم قلتم : إن ما كان موجودا يجب أن يكون مرئيا؟ فإن قالوا : لأن مصحح الرؤية إنما هو الوجود ، بدليل أن الشيء متى كان موجودا كان مرئيا ، ومتى لم يكن كذلك لم يكن مرئيا ، وبهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من المصحح وغير المصحح. قلنا : كيف يصح قولكم إن الشيء متى كان موجودا يرى ، ومعلوم أن كثيرا من الموجودات لا ترى ، كالإرادات والكراهات وغير ذلك؟ ثم نقول لهم : ولم قلتم إنه إذا لم يكن موجودا لم يصح أن يرى ، أو ليس عندكم أنه يجوز أن يرى المعدومات بأن يخلق الله تعالى الإدراك المتعلق بها؟ ثم يقال لهم : كيف يصح قولكم إن المصحح للرؤية إنما هو الوجود ، ومعلوم أن الشيء عند ما تصح رؤيته كما تتجدد له صفة الوجود تتجدد له صفات أخرى ، فليس بأن تجعل الصفة المصححة للرؤية هي الوجود ، أولى من أن تجعل الصفات الأخر ، فما أنكرتم أن

١٨٣

المصحح لها غير هذه الصفة؟ فإن قيل : وما تلك الصفة قلنا : لا يلزمنا بيانه على طريق الجدل ، غير أنا نتبرع فنقول : إن تلك الصفة إنما هو التحيز في الجوهر ، والهيئة في الكون. فإن قالوا لو كان كذلك لأدى إلى اختلاف المصحح ، وذلك مما لا يجوز. ألا ترى أن كون أحدنا حيا لما صحح كونه عالما قادرا لم يختلف البتة ، حتى وجب في كل عالم أن يكون حيا ، كذلك في مسألتنا لو كان التحيز هو المصحح للرؤية في الجوهر ، لوجب في كل مرئي أن يكون متحيزا ، والمعلوم خلافه. وجوابنا أنه لا يمتنع اختلاف المصحح ، ألا ترى أن المصحح لكون أحدنا عالما قادرا حيا موجودا ، إنما هو كون القديم تعالى قادرا عالما حيا. ثم ليس يجب أن يكون المصحح لهذه الصفات فيه تعالى ما ذكرناه ، بل المصحح لها ما هو عليه في ذاته ، كذلك في مسألتنا.

ومما يتعلقون به أيضا ، قولهم : إن إثبات الرؤية لله تعالى لا تؤدي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه ، ولا إلى تجويره في حكمه ، ولا إلى تكذيبه في خبره ، فيجب أن تثبت الرؤية لله تعالى ويقال إنه مرئي.

وهذه شبهة مسترقة من شيخنا أبي علي ، فإنه قال في كتاب «من يكفر ومن لا يكفر» أن إثبات الرؤية لله تعالى على ما يقوله هؤلاء الأشعرية لا يكون كفرا لأنه لا يؤدي إلى حدوثه ولا إلى حدوث معنى فيه وعدّ هذه الأمور ، فظن القوم لجهلهم أن هذا يدلهم على إثبات الرؤية.

فيقال لهم : إن نفي الرؤية عن الله تعالى لا يؤدي إلى حدوثه ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه ، ولا إلى تجويره في حكمه ، ولا إلى تكذيبه في خبره ، فيجب أن ننفي عنه الرؤية ، وهذه الطريقة تسمى قلب التسوية.

وبعد ، فإن إثبات جبريل عليه‌السلام في السماء السابعة لا يؤدي إلى حدوث القديم تعالى ، ولا إلى حدوث معنى فيه ، ولا إلى تشبيهه بخلقه ، ولا إلى تكذيبه في خبره. ثم لا يجب أن يقال : إن جبريل في السماء السابعة ، وكذلك فإن إثبات بلدة عظيمة بين الري وأصفهان أعظم منهما لا يؤدي إلى ذلك ففسدت هذه الطريقة.

ثم يقال لهم : إن إثبات الرؤية يؤدي إلى حدوثه ، وإلى حدوث معنى فيه ، وإلى تشبيهه بخلقه ، وإلى تجويره في حكمه ، وإلى تكذيبه في خبره ، لأن الشيء إنما يرى إذا كان مقابلا ، أو حالا في المقابل ، وهذه من صفات الأجسام فيجب أن يكون القديم تعالى جسما وإذا كان جسما يجب أن يكون محدثا ، لأن الأجسام لا تخلو من المعاني

١٨٤

المحدثة فيؤدي إلى حدوثه ، وكذلك إذا كان جسما تجوز عليه الحاجة ، وتجوز عليه الزيادة والنقصان ، وإذا جازت عليه الحاجة جاز أن يجور في حكمه ، ويكذب في خبره ، تعالى عن ذلك. فإذا كان إثبات الرؤية لله تعالى يؤدي إلى كل هذه المحالات ، فيجب أن ينفي عنه على ما نقوله.

اعلم أن من خالفنا في هذه المسألة لا يخلو حاله من أحد أمرين ، إما أن يحقق الرؤية فيقول : إن الله تعالى يرى مقابلا لنا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، أو لا يحقق فيقول : إنه تعالى يرى بلا كيف. فمن ذهب إلى المذهب الأول فإنه يكون كافرا لأنه جاهل بالله تعالى ، والجهل بالله كفر. والدليل على ذلك إجماع الأمة ، وإجماع الأمة حجة. ومن قال إنه تعالى يرى بلا كيف فلا يكفر ، لأن التكفير إنما يعرف شرعا ، ولا دلالة من جهة الشرع يدل على ذلك. والذي ألزمهم في الكتاب هو أنه تعالى لو جاز أن يرى لجاز أن يلمس ويشم ، خاصة على مذهبهم أن رؤية الله تعالى من أعظم الثواب ، فيجب أن يكون القديم تعالى مشتهى معشوقا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

فصل في نفي الثاني

والغرض به ، الكلام في أن الله تعالى واحد لا ثاني له يشاركه فيما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا على الحد الذي يستحقه.

وقبل الشروع في المسألة لا بد من أن نبين حقيقة الواحد.

اعلم أن الواحد قد يستعمل في الشيء ويراد به أن لا يتجزأ ولا يتبعض على مثل ما نقوله في الجزء المنفرد أنه جزء واحد ، وفي جزء من السواد والبياض أنه واحد. وقد يستعمل ويراد به أن يختص بصفة لا يشاركه فيها غيره ، كما يقال فلان واحد في زمانه. وغرضنا إذا وصفنا الله تعالى بأنه واحد إنما هو القسم الثاني لأن مقصودنا مدح الله تعالى بذلك ، ولا مدح في أن لا يتجزأ ولا يتبعض ، وإن كان كذلك ، لأن غيره يشاركه فيه.

إذا ثبت هذا فالمخالف في المسألة لا يخلو ، إما أن يقول : إن مع الله قديما ثانيا يشاركه في صفاته ، ولا قائل بهذا يقول ، وإن كان الإشكال في إبطاله كالإشكال في إبطال المذهب الثاني ، بل أكثر. أو يقول : إن مع الله تعالى قديما ثانيا يشاركه في بعض صفاته ، والقائل بهذا المذهب الديصانية ، والمانوية ، والمجوس. وسنفصل

١٨٥

الكلام عليهم إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

ونحن نورد دلالة تعم كلا المذهبين بالافساد ، فنقول : لو كان مع الله تعالى قديم ثان لوجب أن يكون مثلا له لأن القديم صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها يوجب التماثل والاشتراك في سائر صفات النفس. وإذا كان كذلك ، والقديم تعالى قادرا لذاته وجب أن يكون الثاني أيضا قادرا لذاته ، فيجب صحة وقوع التمانع بينهما ، لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، ومن حقه أيضا أن يحصل مقدوره إذا حصل داعيه إليه ولا منع وذلك يوجب ما ذكرناه. إذا ثبت هذا ، فلو قدّر وقوع التمانع بينهما ، بأن يريد أحدهما تحريك جسمه والآخر يريد تسكينه لكان لا يخلو ، إما أن يحصل مرادهما وذلك يؤدي إلى اجتماع الضدين ، أو لا يحصل مرادهما ، وذلك يقدح في كون الواحد الذي يثبت بالدلالة قادرا لذاته ، أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر. فمن حصل مراده فهو الإله ، ومن لم يحصل مراده فهو الممنوع. والممنوع متناهي المقدور قادر بقدرة والقادر بالقدرة لا يكون إلا جسما ، وخالق العالم لا يجوز أن يكون جسما.

وهذه الدلالة مبنية على أصول : منها أن القديم قديم لنفسه ، ومنها أن الاشتراك في صفة صفات الذات يوجب التماثل والاشتراك في سائر الصفات ، ومنها أن من حق كل قادرين صحة وقوع التمانع بينهما ، ومنها أن من حق القادر على الشيء إذا دعاه الداعي أن يحصل لا محالة ، حتى لو لم يحصل لخرج عن كونه قادرا ، ومنها أن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، ومنها أن من لم يحصل مراده يكون ممنوعا متناهي المقدور ، ومنها أن متناهي المقدور لا بد من أن يكون قادرا بقدرة ، ومنها أن القادر بالقدرة لا بد من أن يكون جسما ، ومنها أن خالق العالم لا يجوز أن يكون جسما.

أما الكلام في أن القديم قديم لنفسه ، وأن الاشتراك فيها يوجب التماثل فقد تقدم.

وأما الكلام في أن من حق كل قادرين صحة وقوع التمانع بينهما ، فهو لأن من حق القادر على الشيء أن يكون قادرا على جنس ضده إذا كان له ضد ، وإذا قدر عليه صح وقوع التمانع بينهما على ما ذكرنا.

١٨٦

فإن قيل : وما التمانع؟ قلنا : هو أن يفعل كل واحد من القادرين ما يمنع به صاحبه.

وأما الكلام في أن من حق القادر على الشيء إذا دعاه الداعي إليه أن يحصل لا محالة فظاهر ، لأن الواحد منا إذا كان جائعا وبين يديه طعام شهي لذيذ ، وكان له داع إلى أكله لا بد من أن يأكله حتى لو لم يأكله لخرج عن كونه قادرا.

وأما الكلام في أن من لم يحصل مراده فإن يكون ممنوعا فظاهر لا إشكال فيه ، لأنه لو لم يكن ممنوعا لحصل مراده ، فلما لم يحصل دل على أنه ممنوع.

وأما الكلام في أن الممنوع متناهي المقدور ، فهو أنه لو لم يكن كذلك لحصل مراده ، فلما لم يحصل مراده دل على أن مقدوره قد تناهى. ألا ترى أن أحدنا إذا حاول حمل الثقيل فلا بد من أن تكون قدرته زائدة على ثقله حتى يمكنه رفعه ، ومتى لم يمكن رفعه علم أن مقدوره قد تناهى.

وأما الكلام في أن متناهي المقدور قادر بقدرة ، فهو أن الذي يحصل المقدورات في الجنس والعدد إنما هو القدرة ، فإذا تناهى مقدوره دل على أنه قادر بقدرة.

وأما الكلام في أن القادر بالقدرة لا بد من أن يكون جسما ، فهو أن القدرة لا يصح الفعل بها إلا بعد استعمال محلها في الفعل أو في سببه ضربا من الاستعمال ، ألا ترى أنه لا يمكننا رفع الثقيل بما في أيدينا من القدرة إلا بعد أن نستعملها في الفعل أو في سببه نوعا من الاستعمال ، فإذا كان كذلك وجب أن يكون جسما.

وأما الكلام في أن خالق العالم لا يجوز أن يكون جسما فقد تقدم.

فإن قيل ، ما أنكرتم أن مقدورهما واحد ، لأنهما قادران للذات فلا يعلم وقوع التمانع؟ وصار الحال فيه كالحال في الواحد منا مع نفسه ، فكما أنه لا يصح وقوع التمانع بينه وبين نفسه لما كان مقدورهما واحدا ، كذلك هنا.

ولنا في الجواب عن ذلك طرق :

أحدها ، ما سلكها شيخنا إسحاق بن عياش ، وتحريرها ، هو أن من حق كل قادرين أن يكون مقدورهما متغايرا ، سواء كانا قادرين للذات أو لمعنى لأن الذي دل على استحالة مقدوري قادرين ، لم يفصل بين أن يكونا قادرين للذات أو لمعنى وما دل على صحة وقوع التمانع بين القادرين ، لم يفصل بين أن تكون هذه الصفة مستحقة

١٨٧

للذات أو لمعنى.

بيان ذلك ، أن من حق القادر على الشيء إذا دعاه الداعي إلى فعل ، أن يحصل لا محالة ، وفي ذلك صحة ما نقوله ، وكان يقول : إن هذه الصفة لا تقع في الذوات إلا مختلفة ، كما أن القدرة لا تقع إلا مختلفة. إلا أن الاعتماد على هذه الطريقة لا يصح لأن هذا ينقض الأصل الذي مهدناه من قبل ، وهو أن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ، فكان يجب إذا قدر أحدهما على شيء لذاته ، أن يكون الآخر قادرا على ذلك الشيء.

والطريقة الثانية ، ما ذكره قاضي القضاة. وتحريرها ، هو أنا نعلم صحة التمانع بين كل قادرين وإن لم نعلم تغاير مقدورهما ، ولهذا فإن نفاة الأعراض يعرفون صحة التمانع ، وإن لم يخطر ببالهم تغاير المقدوران ولا تماثلها ، إلا أن لقائل أن يقول : إنا ما لم نعلم تغاير المقدورين لا نعلم صحة التمانع ، وأما ما ذكرتموه في نفاة الأعراض فليس يصح ، لأن نفاة الأعراض يعرفون تغاير المقدورات على سبيل الجملة وإن لم يعلموا على سبيل التفصيل.

استحالة المقدور الواحد بين قادرين

والطريقة الثالثة ، وهو أن المقدور الواحد بين القادرين محال ، وإثبات الثاني يؤدي إليه ، فجب أن يكون محالا ، لأن ما يؤدي إلى المحال يكون محالا مثله. وهذه الطريقة سهلة من طريق العلم ، مشكلة من طريق الجدل ، لأن للخصم أن يقول هذا انتقال من دلالة التمانع إلى دلالة أخرى. ويمكن أن يقال إن هذا ليس بانتقال ، وإنما هو استعانة ببعض ما يذكر في دليل آخر ودفعا لسؤال السائل. يبين ذلك أنا لم نعتمد على هذا القدر ، بل قلنا : لو كان مع الله قديم آخر لكان مثلا له ، فكان يجب أن يكون قادرا كهو ، ومن حق كل قادرين صحة التمانع بينهما. ثم لما أورد علينا هذا السؤال أسقطناه بقولنا : إن المقدور الواحد بين القادرين محال فلا يكون انتقالا.

والأحسم للشغب ، هو أن نحرر دلالة التمانع تحريرا آخر فنقول : لو كان مع الله تعالى قديم آخر لوجب أن يكون قادرا مثله ، فلا يخلو ، إما أن يكون مقدورهما واحدا ، أو يكون مقدورهما متغايرا ، لا يجوز أن يكون مقدورهما واحدا لأن المقدور الواحد بين القادرين محال ، فيجب أن يكون مقدورهما متغايرا وإذا تغاير مقدورهما وجب صحة التمانع بينهما ، فيؤدي إلى تلك الوجوه التي ذكرناها.

١٨٨

فإن قيل : قد بنيتم صحة وقوع التمانع بينهما على اختلافهما في الإرادة ، وهما لا يختلفان في ذلك ، لأن الإرادة الموجودة لا في محل كما توجب الصفة لهذا ، توجب الصفة لذاك ، إذ لا اختصاص لها بأحدهما دون الآخر.

قلنا : إن من حكم كل حيين صحة اختلافهما في الإرادة ، سواء كانا مريدين بإرادة موجودة لا في محل ، أو لم يكونا كذلك. وإثبات الثاني يقتضي فساد هذا الأصل فيجب فساده. وليس لقائل أن يقول : هذا انتقال من دلالة التمانع إلى غيرها ، لأن هذا استعانة ببعض ما تذكره في دليل آخر دفعا لسؤال السائل على ما تقدم ، وذلك لا يعد انتقالا.

على أنا لم نبن صحة وقوع التمانع على اختلافهما في الإرادة ، وإنما بنيناه على صحة اختلافهما في الداعي ، وما من قادرين إلا ويصح اختلافهما في الداعي. ألا ترى أن النائمين قد يتمانعان في تجاذب كساء مع فقد الإرادة.

مجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة

وبعد ، فإن التمانع ليس بأكثر من أن يفعل أحدهما ضد ما يفعله الآخر ، وهذا يصح في مجرد الفعل ، ومجرد الفعل لا يحتاج إلى القصد والإرادة ، ولهذا فإن من وقف على شفير الجنة والنار ، وعلم ما في الجنة من المنافع ، وما في النار من المضار ، وسلب عنه إرادة دخول الجنة ، وخلق فيه إرادة دخول النار ، فإنه يدخل الجنة لا محالة مع فقد الإرادة.

فإن قيل : ما أنكرتم أنهما حكيمان لا يتمانعان؟ قلنا : إنا لم نبن الدلالة على وقوع التمانع بينهما ، وكيف وفي ذلك إثبات ما نروم نفيه. وإنما بنينا على تقدير التمانع بينهما ، والتقدير كالتحقيق هاهنا ، وصار الحال في ذلك كالحال في تقدير الاصطلاح بين زيد والأسد وإن علمنا أنهما لا يتصارعان البتة ، فكما أنا إذا قدرنا بينهما الاصطراع أمكننا أن نعلم كون أحدهما غالبا وكون الآخر مغلوبا ، ونعلم أن من غلب فهو الممنوع ، والممنوع ضعيف متناهي المقدور وكذلك في مسألتنا.

واعلم أن التقدير ربما يقوم مقام التحقيق وذلك مثل ما نحن فيه ، وربما لا يقوم مقامه ، وذلك كتقدير وقع الظلم من جهة الله تعالى فإنه لا يقوم مقام الوقوع ، إذ لو وقع من الله تعالى الظلم حقيقة لدل على الجهل والحاجة ، وليس كذلك إذا هو قدر وقوعه من قلبه ، فالوجه في ذلك أن يحال السؤال ويقال : خطأ قول من يقول : إنه يدل على

١٨٩

الجهل والحاجة ، وخطأ قول من يقول إنه لا يدل عليه ، فهذه هي الدلالة العقلية.

الدلالة السمعية

فأما دلالة السمع فأكثر من أن تذكر ، نحو قوله جل وعز (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥] وأشباهه ، وكذلك فمعلوم ضرورة من دين النبي عليه‌السلام ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.

هل يكون مع الله ثان يشاركه في بعض صفاته لا كلها

اعلم أنا قد ذكرنا أنه لا خلاف في أنه ليس مع الله تعالى ثان يشاركه في جميع صفاته ، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز أن يكون مع الله ثان يشاركه في بعض صفاته دون البعض.

والمخالف في ذلك هم الثنوية. ثم اختلفوا ، فمنهم من أثبت إلهين : النور والظلمة وقال بكونهما حيين وهم المانوية ، ومنهم من أثبت إلهين النور والظلمة ، وقال : النور حي والظلمة موات وهم الديصانية ولا خلاف بين هؤلاء وبين المانوية في قدمهما وأن العالم ممتزج منهما ، وأن جهة النور العلو وجهة الظلمة السفل ، ومنهم من قال بإثبات ثالث مع النور والظلمة لأنهم لما رأوا أن العالم ممتزج منهما قالوا : لا بد من مازج يمزجه فأثبتوا الثالث وهم المرقيونية. وأما المجوس فهم طائفة من الثنوية أيضا ، إلا أنهم يغيرون العبارة ، فيسمون النور يزدان والظلمة أهرمن. ثم اختلفوا ، فمنهم من قال بقدمها ، ومنهم من قال بقدم يزدان وحدوث أهرمن. ثم اختلفوا في كيفية حدوثه ، فمنهم من قال إنه حدث من عفونات الأرض ، ومنهم من قال لا بل حدث من فكرته الردية ، فإن يزدان لما استوى له الأمر واستتب ، فكر في نفسه فقال : لو كان مضاد ينازعني كيف يكون حالي معه؟ فتولد من فكرته الردية هذه أهرمن ، فقال له : أنا منازعك ومخاصمك ، وكادا يقتتلان فسفر هناك ملك فاصطلحا إلى أجل معلوم. وعندهم ، أنه إذا جاء ذلك الوقت يغلب حينئذ يزدان أهرمن ويقتله ، ويصفو له العالم.

وعند هؤلاء الفرق الأربع ، أن النور مطبوع على الخير لا يقدر على خلافه ، وأن الظلمة مطبوعة على الشر لا يقدر إلا عليه. والذي أداهم إلى هذا المذهب ، أنهم اعتقدوا أن الآلام كلها قبيحة لكونها آلاما ، والملاذ كلها حسنة لكونها ملاذا ، وأن

١٩٠

الفاعل الواحد يستحيل أن يكون فاعلا للحسن والقبيح ، فأثبتوا لذلك فاعلين : يفعل أحدهما الحسن بطبعه ، والآخر القبيح بطبعه.

الدلالة على فساد مذهبهم دلالة التمانع

ودلالة التمانع ، كما تدل على فساد القول بأن مع الله تعالى ثانيا يشاركه في جميع صفاته ، تدل على فساد مذهب هؤلاء أيضا.

النور والظلمة جسمان محدثان

وأحد ما يدل على فساد مذهبهم أيضا ، هو أن النور جسم رقيق مضيء ، والظلمة جسم رقيق غير مضيء ، والأجسام لا تخلو عن الحوادث ولا تنفك عنها ، وما لم ينفك عن الحوادث وجب حدوثه مثلها ، فكيف يجوز أن يكونا قديمين.

لو كانا قديمين لوجب الاستغناء

وأحد ما يدل على ذلك ، هو أنهما إذا كانا قديمين وكان أحدهما قادرا لذاته ، ومن يكون كذلك إلا واخير والشر مقدوران لكل واحد منهما ، وهذا يوجب أن يقع الاستغناء بأحدهما عن الآخر.

يبطل حسن الأمر والنهي

وأحد ما يدل على ذلك ، هو أنه لو كان الأمر على ما قالوه لوجب أن يبطل حسن الأمر والنهي والمدح والذم لأن الأمر لا يخلو ، إما أن يكون أمرا بالخير ، أو أمرا بالشر. فإن كان أمرا بالخير فلا يخلو إما أن يكون أمرا للنور أو للظلمة لا يجوز أن يكون أمرا للظلمة لأنها غير قادرة عليه ، ولا يجوز أن يكون أمرا للنور لأنه لا يمكنه الانفكاك عنه ، والأمر بما هذا حاله ، بمنزلة إمرة المرمى به من شاهق بالنزول ، فكما أن ذلك قبيح لما لم يمكنه الانفكاك من ذلك ، كذلك هاهنا ، وإن كان أمرا بالشر فلا يخلو ، إما أن يكون أمرا للنور أو للظلمة ، والكلام فيه كالكلام في الأول.

وهذه القسمة تعود في النهي وفي المدح وفي الذم ، فهذا هو الكلام على المانوية من الثنوية.

١٩١

تخصيص في الرد على الديصانية :

وهكذا الكلام على الديصانية يكون ، غير أنا نخصهم بوجه آخر فنقول : إن الظلمة إذا كانت فاعلة لا بد من أن تكون قادرة ، وإذا كانت قادرة لا بد أن تكون حية ، فكيف يصح قولكم : إنها موات؟

كلام يخص المرقيونية :

وأما المرقيونية فالكلام عليهم مثل الكلام على أولئك ، ووجه آخر يخصهم ، وذلك الوجه هو أن نقول : إن هذا الثالث إذا كان قديما وجب أن يكون مثلا لهما ، لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها يوجب التماثل ، وهذا يوجب أن يكون مثلا للنور والظلمة جميعا ، فإذا كان أحدهما قادرا على الخير وجب أن يكون الآخر أيضا قادرا عليه ، ووجب أيضا أن يكون الثالث قادرا عليه ، وهذا يؤذن بوقوع الاستغناء به عنهما.

وأما الكلام على المجوس الذين يقولون بحدوث أهرمن ، فهو أن يقال لهم : إن يزدان إذا جاز أن يخلق ما هو أصل لكل شر ، فهلا جاز أن يخلق الشر بنفسه من دون واسطة ، وليس يمكنهم أن يقلبوا ذلك علينا فيقولوا : أليس الله عندكم خلق الشيطان وهو أصل لكل شر ، فلم لا يجوز أن يخلق الشر بنفسه ، لأنا لم نقل : إن الشيطان موجب للشر وأنه مطبوع عليه ، بل هو قادر على الخير قدرته على الشر ، إن شاء اختار هذا وإن شاء اختار ذلك ، فلا يلزمنا ما ألزمناكم. وإن لزم هذا فإنما يلزم إخوانكم المجبرة ، لأنهم يقولون إن القدرة موجبة ، وأن المؤمن لا يقدر إلا على الإيمان ، والكافر لا يقدر إلا على الكفر ، وهذا هو أحد وجوه المضاهاة بين مذهب المجبرة وبين مذهب المجوس لأنهم يقولون : النور مطبوع على الخير ولا يقدر على الشر البتة ، والظلمة مطبوعة على الشر ولا تقدر إلا عليه. وهذا مذهب القوم بعينه.

ووجه آخر من المضاهاة بين المذهبين ، هو أنهم يقولون : إن مزاج العالم حصل بفاعلين بالنور والظلمة ، وأنه حسن من جهة النور ، قبيح من جهة الظلمة. وهذا هو مذهب القوم لأنهم يقولون : إن الكفر حاصل بفاعلين بالله تعالى وبالعبد ، وهو حسن من جهة الله قبيح من جهة العبد.

ووجه آخر من المضاهاة ، هو أن المجوس يستحسنون الأمر بما لا يقدر عليه ، والنهي عما لا يمكن الانفكاك عنه. فإنهم ربما يصعدون ببقرة إلى موضع عال ،

١٩٢

ويشدون قوائمها ثم يدهدونها من هناك إلى أسفل ، ثم يقولون : انزلي ولا تنزلي ، ثم إذا سقطت وماتت يأكلونها ويقولون إنها يزدان كشت. وهذا هو بعينه مذهب القوم لأنهم يقولون : إن الله تعالى أمر الكافر بالإيمان ، وهو لا يقدر عليه ، ونهاه عن الكفر وهو لا يمكنه الانفكاك عنه.

ووجه آخر من المضاهاة ، هو أنهم يقولون : إن نكاح الأم والبنات بقضاء الله تعالى وقدره ، كما أن المجبرة يقولون فيه وفي جميع المقبحات ، أنها بقضاء الله وقدره ، بل حالهم أسوأ من حال المجوس ، لأن المجوس اعتقدوا أن نكاح البنات والأمهات حسن ، ثم أضافوه إلى الله تعالى ، والمجبرة اعتقدت فيه القبح ثم أضافته إلى الله تعالى.

وقد ذكر وجوه في المضاهاة بين مذهب المجبرة ومذهب المجوس تركناها كراهية الإطالة. وإذ قد تقرر ذلك صح دخولهم تحت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «القدرية مجوس هذه الأمة» وسنعود إلى هذه الجملة إن شاء الله تعالى. فهذا هو الكلام على الثنوية من المانوية والديصانية والمرقيونية والمجوس.

وشبههم في هذا الباب ، هو أن قالوا : إن الآلام قبيحة كلها ، والملاذ حسنة كلها ، والفاعل الواحد لا يجوز أن يكون موصوفا بالخير والشر جميعا.

وجوابنا ، أنا لا نسلم أن الآلام قبيحة كلها. وأن الملاذ حسنة كلها ، بل فيها ما يقبح وفيها ما يحسن ، لأنها إنما تقبح وتحسن لوقوعها على وجه ، ولهذا نستحسن بعقولنا تحمل المشاق في الأسفار طلبا للعلوم والأرباح وأن نفتصد ونحتجم ، ونستقبح بعقولنا الانتفاع بالأشياء المغصوبة.

اللذة والألم من جنس واحد :

وبعد : فلم لا يجوز في الفاعل الواحد أن يكون موصوفا بالخير والشر؟ فإن قالوا : لأنهما متضادان ، قلنا : ومن أين أن الألم واللذة يتضادان ونحن لا نسلم ذلك بل هما من جنس واحد. وبعد فإن لم يجز في الفاعل الواحد أن يكون موصوفا بهذين دفعة واحدة ، يجوز أن يوصف بهما على وقتين ، فهلا جاز في الفاعل الواحد أن يفعل الألم في وقت واللذة في وقت آخر ، فلا تحتاج إلى فاعلين.

١٩٣

مسائل سألها مشايخ المعتزلة لخصومهم :

وقد سألهم مشايخنا رحمهم‌الله مسائل لا محيص لهم عنها.

منها : هو أنا لو قدرنا أن يكون هاهنا رجلان دفعا إلى ظلمة شديدة ، ضاع من أحدهما بدرة واستتر الآخر من العدو ، فإن هذه الظلمة محسنة إلى من استتر من العدو ، ومسيئة إلى من ضاع منه البدرة. وكذلك إذا طلعت الشمس فإن هذا النور محسن إلى من ضاع هذه البدرة منه ، مسيء إلى من استتر عن العدو. وفي هذا فساد مذهبهم.

وهذا السؤال إنما أورده شيخنا أبو الهذيل على بعض الثنوية فأسلم.

ومن ذلك أخذ أبو الطيب قوله :

فكم لظلام الليل عندك من يد

تخبر أن المانوية تكذب

وقاك ردى الأعذار يسرى إليهم

وزادك فيه ذو الدلال المحجب

ومن هذه الأسئلة ، أن أحدنا يعلم أنه كاذب ، فمن الذي يعلم ذلك؟ فإن قالوا : النور ، فقد وصفوه بخصلة من خصال الشر وهو الكذب ، وإن قالوا : الظلمة ، فقد وصفوه بخصلة من خصال الخير وهو العلم. ولا يملكهم أن يقولوا : إن العالم أحدهما والكاذب الآخر ، لأن كلامنا في شخص واحد.

ومنها : أن أحدنا يسيء ثم يعتذر فمن المسيء ومن المعتذر؟ فإن قالوا : النور ، فقد وصفوه بخصلة من خصال الشر وهو الإساءة ، وإن قالوا : الظلمة ، فقد وصفوه بخصلة من خصال الخير وهو الاعتذار ، فإن قالوا : الظلمة ، تسيء والنور يعتذر ، قلنا : الاعتذار من غير الإساءة قبيح ، وهذا يقتضي وصف النور بخصلة من خصال الشر. فإن قالوا : الاعتذار من غير صاحب الإساءة لا يقبح ، ولهذا فإن الوالد يعتذر من إساءة ولده ، والراكب يعتذر من رفس دابته ، قلنا : الوالد يعتذر من إساءة نفسه حيث ترك تأديب ولده ، وكذلك الراكب إنما يعتذر من إساءة نفسه حيث لم يجر فرسه في السمت الذي يكون أبعد من الرفس.

ومنها : أن أحدنا يغصب ثم يرد ، فمن الغاصب ومن الراد؟ فإن قالوا : النور ، قلنا قد وصفتموه بخصلة من خصال الشر وهو الغصب ، وإن قالوا : الظلمة ، قلنا : قد وصفتموه بخصلة من خصال الخير وهو رد المغصوب.

١٩٤

ومتى قالوا : أليس قال تعالى في كتابكم : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وهذا هو مرادنا ، قلنا : لا تعلق لكم بكتاب الله تعالى ، لأن الاستدلال بكتابه ينبني على القول بتوحيده وعدله وأنتم لا تقولون بذلك. ثم إن المراد بقول الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي منور السموات والأرض ، فذكر الفعل وأراد به الفاعل وهذا كثير في كلامهم. ألا ترى أنهم يقولون : رجل صوم وعدل ورضي. والذي يؤكد هذا أنه أضاف النور إلى نفسه فقال : (مَثَلُ نُورِهِ) [النور : ٣٥] وهذا يقتضي أن يكون النور غيره ولن يكون ذلك كذلك إلا وما قلناه على ما قلناه.

فصل : في الكلام على النصارى

اعلم أن مذهب النصارى لا يكاد يتحصل على ما ذكره النوبختي في كتاب «الآراء والديانات» ، وكفى بالمذهب فسادا أن يصعب على العلماء ضبطه ، خاصة على مثل هذا الرجل. فقد كان المشار إليه في معرفة المذاهب ، والكلام منهم يقع في موضعين :

أحدهما : في التثليث ، فإنهم يقولون : إنه تعالى جوهر واحد ، وثلاثة أقانيم : أقنوم الأب ، يعنون به ذات الباري عز اسمه : وأقنوم الابن ، أي الكلمة ، وأقنوم روح القدس ، أي الحياة. وربما يغيرون العبارة فيقولون إنه ثلاثة أقانيم ذات جوهر واحد.

الاتحاد :

والموضع الثاني في الاتحاد : فقد اتفقوا على القول به ، وقالوا : إنه تعالى اتحد بالمسيح فحصل للمسيح طبيعتان : طبيعة ناسوتية ، وأخرى لاهويتة.

رأى اليعقوبية والنسطورية في الاتحاد :

ثم اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : إنه إذا اتحد به ذاتا حتى صار ذاتا هما ذاتا واحدة ، وهم اليعقوبية. وقال : الباقون وهم النسطورية : لا بل اتحدا مشيئة ، على معنى أن مشيئتهما صارت واحدة ، حتى لا يريد أحدهما إلا ما يريده الآخر. ونحن نفسد كلامهم في الموضعين جميعا بعون الله تعالى.

شرح التثليث والرد عليه :

أما الكلام عليهم في التثليث فهو أن يقال : إن قولكم أنه تعالى جوهر واحد ثلاثة

١٩٥

أقانيم مناقضة ظاهرة ، لأن قولنا في الشيء أنه واحد ، يقتضي أنه في الوجه الذي صار واحدا لا يتجزأ ولا يتبعض ، وقولنا ثلاثة يقتضي أنه متجزئ ، وإذا قلتم : إنه واحد ثلاثة أقانيم كان في التناقض بمنزلة أن يقال في الشيء : إنه موجود معدوم ، أو قديم محدث.

وعلى أنه تعالى ليس بجوهر ، إذ لو كان جوهرا لكان محدثا وقد ثبت قدمه ، ففسد قولهم إنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم.

وبعد : فلو جاز في الله تعالى أن يقال إنه جوهر واحد ، ثلاثة أقانيم لجاز أن يقال : إنه قادر واحد ، ثلاثة قادرين ، وعالم واحد ثلاثة عالمين ، وحي واحد ثلاثة أحياء. ومتى قالوا كيف يكون قادرا واحد ، ثلاثة قادرين؟ وعالم واحد ثلاثة عالمين؟ قلنا : كما يكون شيء واحد ثلاثة أشياء ، فليس بعد أحدهما في العقل إلا كبعد الآخر ، فقد ظهر تناقض ما يقولونه في ذلك.

فإن قيل : ألستم تقولون : إنسان واحد وإن كان ذا أجزاء وأبعاض ، ودار واحد وإن اشتملت على بيوت وأروقة ، وعشرة واحدة وإن اشتملت على آحاد كثيرة ثم لا يتناقض كلامكم ، فهلا جاز أن نقول : جوهر واحد ثلاثة أقانيم ولا يتناقض كلامنا أيضا؟

قيل له : ولا سواء ، لأن هذه الأسماء كلها من أسماء الجمل. فالغرض بقولنا إنسان واحد أنه واحد من جملة الناس لأنه شيء واحد ، وكذلك إذا قلنا دار واحدة وعشرة واحدة ، بخلاف ما تقولونه في القديم تعالى فإنكم تجعلونه شيئا واحدا في الحقيقة ، ثلاثة أشياء في الحقيقة ، فيلزمكم التناقض من الوجه الذي ذكرنا.

ثم يقال لهم : ما تعنون بهذه الأقانيم؟

فإن قالوا : نعني بأقنوم الأب ذات الباري ، قلنا : هب أنكم رجعتم بهذا الأقنوم إلى ذات الله تعالى على بعد هذه العبارة وفسادها ، فإلى ما ذا ترجعون بالأقنومين الآخرين؟

فإن قالوا : نرجع بهما إلى صفتين يستحقهما القديم تعالى وهو كونه متكلما حيا ، قلنا : إن الحي وإن كان له بكونه حيا حال ، فليس له بكونه متكلما حال وإنما المرجع به إلى أنه فاعل للكلام على ما هو مبين في موضعه.

١٩٦

على أن الذات لا تتعدد بتعدد أوصافه ، فإن الجوهر الواحد وإن كان موصوفا بكونه جوهرا ومتحيزا وموجودا وكائنا في جهة ، فإنه لا يتعدد بتعدد هذه الأوصاف ولا يخرج عن كونه واحدا ، فكيف أوجبتم تعدد الله لتعدد أوصافه ، ولم جعلتموه واحدا أو ثلاثة؟

وبعد ، فإن هذه الطريقة توجب عليكم أن تزيدوا في عدد الأقانيم بعدد صفاته جل وعز وأن تثبتوا له أقنوما بكونه قادرا ، وأقنوما بكونه عالما ، وآخر بكونه مدركا ، ورابعا وخامسا بكونه مريدا وكارها حتى يبلغ عدد الأقانيم ثمانية أو تسعة ، وقد عرف فساه.

هذا إن رجعوا بالأقانيم إلى الصفات. وإن قالوا : إنا إنما نرجع بها إلى معان قديمة هي الحياة والكلمة ، فقد فسدت مقالتهم بدلالة التمانع ، وبما أوردنا على الكلابية.

النصارى والكلابية

واعلم ، أن أقرب ما يحمل عليه كلام النصارى هو هذا الوجه ، وعلى هذا جعل شيوخنا رحمهم‌الله هذا الوضع وجها من المضاهاة بين الكلابية وبين القوم.

فقد حكي أن أبا مجالد وكان من شيوخ العدل ، اجتمع مع ابن كلاب يوما من الأيام فقال له : ما تقول في رجل قال لك بالفارسية : تو مردى وقال الآخر : أنت رجل ، هل اختلفا في وصفك إلا من جهة العبارة؟ فقال : لا ، فقال : فكذا سبيلك مع النصارى ، لأنهم يقولون إنه تعالى جوهر واحد ثلاثة أقانيم ، يعنون بها الحياة الأزلية ، ومتكلم بكلام أزلي ، فليس بينكم خلاف إلا من جهة العبارة.

ردود على النصارى يؤدي لاستغناء الأقانيم عن بعضها

ويقال لهؤلاء النصارى : يلزمكم أن تقتصروا على أقنوم واحد ، لأجل أن هذه الأقانيم إذا اشتركت في القدم فلا بد من تماثلها ، ولا بد من أن يسد بعضها مسد البعض فيما يرجع إلى ذاتها ، وذلك يوجب أن يقع الاستغناء بأحدها عن الباقي ، حتى يقال : إنه تعالى جوهر واحد وأقنوم واحد على ما نقوله للكلابية أنه يلزمكم أن تقتصروا على إثبات معنى من هذه المعاني ، وأن لا تثبتوا سواه ، لأنه يقع الاستغناء عن الجميع لمشاركته إياها في القدم. فعلى هذا يجرى الكلام في التثليث.

١٩٧

معنى الاتحاد

وأما الكلام في الاتحاد ، فالأصل فيه أن نبين حقيقته أولا.

اعلم أن الاتحاد في اللغة افتعال من الوحدة ، لأنهم متى اعتقدوا في الشيئين أنهما صارا شيئا واحدا يقولون : إنهما اتحدا. والشيئان وإن استحال أن يصيرا شيئا واحدا ، إلا أنهم إذا اعتقدوا صحته لم يكونوا مخطئين في التسمية ، وإنما خطؤهم في المعنى على مثل ما نقوله في تسميتهم للأصنام آلهة ، وهذا لأن الأسامي تتبع اعتقادهم.

النساطرة : اتحاد المشيئة ، اليعقوبية : اتحاد الذات

وإذا قد عرفت ذلك ، فاعلم أنهم وإن اتفقوا في الاتحاد اختلفوا في كيفيته ، فمنهم من قال بالاتحاد من جهة المشيئة وهم النسطورية ، ومنهم من قال إنه من جهة الذات وهم اليعقوبية.

النساطرة والاتحاد

ونحن نبدأ بالكلام على النساطرة فنقول : قولكم أنه تعالى اتحد بالمسيح من حيث المشيئة ، لا يخلو ، إما أن تريدوا به أنه تعالى مريد بإرادة المسيح ، وأن المسيح يريد بإرادة الله تعالى الموجودة لا في محل ، أو تريدوا به أنهما لا يختلفان في الإرادة ، بل لا يريد أحدهما إلا ما يريده صاحبه ، وأي هذه الوجوه أردتم فهو فاسد.

أما الأول ، فلأنه تعالى لو جاز أن يريد بإرادة المسيح مع أنها موجودة في قلبه لجاز أن يريد بإرادة موجودة في قلب غيره من الأنبياء ، وذلك يخرج المسيح من أن يتبين له مزية الاتحاد والنبوة.

وبعد ، فلو جاز أن يريد بإرادة في المسيح لجاز أن يكره بكراهة في إبراهيم عليه‌السلام ، لأن بعد أحدهما في العقل كبعد الآخر ، وذلك يقتضي أن يكون حاصلا على صفات متضادة ، وذلك مستحيل.

وأما الثاني ، فلأن الإرادة لا توجب للغير حالا إلا إذا اختصت به غاية الاختصاص ، والاختصاص بالمسيح هو بطريقة الحلول ، حتى يستحيل أن يريد بإرادة في قلب غيره ، لا لوجه سوى أنها لم تحله ، فكيف يريد بالإرادة الموجودة لا في محل ولا اختصاص لها به.

١٩٨

وأما الثالث ، فلأن القديم تعالى قد يريد ما لا يعلم المسيح ولا يعتقده ولا يظنه ولا يخطر بباله أصلا ، وكذلك المسيح ، يريد ما لا يريده الله تعالى كالأكل والشرب وغيرهما من المباحات ، ففسد كلام النسطورية إذا قالوا بالاتحاد من جهة المشيئة.

اليعقوبية والاتحاد

وأما اليعقوبية ، فالكلام عليهم إذا قالوا بالاتحاد من جهة الذات ، هو أن يقال لهم : لا يخلو الغرض بذلك من أحد وجوه ثلاثة : فإما أن يراد به أن ذات الله تعالى وذات المسيح صارا ذاتا واحدة ، أو يراد به أنهما تجاورا ، فحصل بينهما الاتحاد من طريق المجاورة ، أو يراد به أنه تعالى حل بالمسيح ، فاتحد به على هذا السبيل.

والأقسام كلها باطلة.

أما الأول ، فلأن الشيئين لو صارا واحدا للزم خروج الذات عن صفتها الذاتية ، أو حصول الذات الواحدة على صفتين مختلفتين للنفس وذلك مستحيل.

وأما الثاني ، فلأن المجاورة إنما تصح على الجواهر لأجل أنها من أحكام التحيز ، ألا ترى أن العرض والمعدوم لما استحال عليهما المجاورة ، فكذلك سبيل القديم تعالى ، لأن التحيز مستحيل عليه. وعلى أن المجاورة لا تقتضي الاتحاد ، فإن الجوهرين على تجاورهما لا يخرجان عن أن يكونا جوهرين ، ولا يصيران جوهرا واحدا.

وأما الحلول ، فالمرجع به إلى الوجود بجنب الغير ، والغير متحيز ، والله تعالى يستحيل ذلك عليه لأنه يترتب على الحدوث ، ويقتضي أن يكون من قبيل هذه الأعراض وذلك محال.

وقد ثبت فساد ما يقوله النصارى في الاتحاد والتثليث جميعا.

والذي أداهم إلى القول بالاتحاد ، هو أنهم رأوا أنه ظهر على عيسى عليه‌السلام من المعجزات ما لا يصح دخوله تحت مقدور القدر : نحو إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وغير ذلك ، فظنوا أنه لا بد من أن يكون قد تغير وخرج عن طبيعته الناسوتية إلى طبيعة اللاهوتية ، وذلك يوجب عليهم أن يقولوا بأنه تعالى متحد بالأنبياء كلهم ، كإبراهيم وموسى وغيرهما عليهم‌السلام ، فقد ظهرت عليهم الأعلام المعجزة التي لا يدخل جنسها تحت مقدور القادرين بالقدرة ، والقوم لا يقولون بذلك ، فيجب

١٩٩

أن لا يقولوا في المسيح أيضا. ولو لا عمى قلوبهم وجهلهم بأحوال المعجزات ، وإلا لعلموا أنها من جهة الله تعالى يظهرها عليهم ليصدقهم بها. فعلى هذا يجري الكلام في مسائل التوحيد.

٢٠٠