شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

البينونة بينه وبين غيره من الذوات بهذا الذي قد ذكرتموه ، لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره.

وبعد : فإن المراد بالأبصار المبصرون ، إلا أنه تعالى علق الإدراك بما هو آلة فيه وعنى به الجملة ، ألا ترى أنهم يقولون : مشت رجلي ، وكتبت يدي ، وسمعت أذني ، ويريدون الجملة ، وعلى هذا المثل السائر ، يداك أوكتا وفوك نفخ.

ثم إن لتعليق الشيء بما هو آلة فيه فائدة ظاهرة ، لا تحصل تلك الفائدة إذا علقت بالجملة. بيان ذلك ، أن أحدنا إذا قال كتبت ، يحتمل أن يكون قد كتبه بنفسه ، ويحتمل أن يكون قد استكتب غيره ، وليس كذلك كتبت بيدي ، ومشيت رجلي ، فإنه لا يحتمل ذلك.

وبعد : فإن هذا تفسير بخلاف تأويل المفسرين ، فإن المفسرين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا ، على أن المراد بالإبصار المبصرون ، إلا أنهم اختلفوا ، فمن قائل إنه لا يدركه المبصرون في دار الدنيا ، ومن قائل لا يدركه المبصرون في حال من الأحوال ، وكل تأويل بخلاف تأويل المفسرين فهو كفتوى يكون بخلاف فتوى المفتين.

فإن قيل : لو كان المراد بقوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، المبصرون ، لوجب مثله في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) أن يكون المبصرين ، ليكون النفي مطابقا للإثبات ، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه لأنه من المبصرين ، وكل من قال إنه تعالى يرى نفسه قال إنه يراه غيره.

قيل له : إنه تعالى وإن كان مبصرا ، فإنما يرى ما تصح رؤيته ، ونفسه يستحيل أن ترى ، لما قد بينا أنه يمدح بنفي الرؤية مدحا يرجع إلى ذاته ، وما كان نفيه نفيا راجعا إلى ذاته فإن إثباته نقصا ، والنقص لا يجوز على الله تعالى.

وبعد : فإن المراد بقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) المبصرون بالأبصار ، فكذلك في قوله (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) ، فيجب أن يكون هذا هو المراد ليكون النفي مطابقا للإثبات ، والله تعالى ليس من المبصرون بالأبصار ، فلا يلزم ما ذكرتموه.

وبعد : فلا يجوز من الله تعالى أن يجمع بينه وبين غيره في الخطاب ، بل يجب أن يفرد بالذكر تأديبا لنا وتعليما للتعظيم. وعلى هذا فإن أمير المؤمنين عليه‌السلام لما سمع خطيبا يقول من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى ، قال ليس خطيب القوم أنت ، هلا قلت ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى. فنهى عن الجمع بين

١٦١

الله ورسوله في الذكر إعظاما وإجلالا لله جل ذكره.

بين العام والخاص في مجال التدليل على رؤية الله أو عدمها.

فإن قيل : قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) عام في دار الدنيا ودار الآخرة وقوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣] خاص في دار الآخرة ، ومن حق العام أن يحمل على الخاص ، كما أن من حق المقيد أن يحمل على المقيد.

وربما يستدلون بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يرى في دار الآخرة.

وجوابنا ، أن العام إنما يبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه ، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص ، لأنه تعالى يمدح بنفي الرواية عن نفسه مدحا راجعا إلى ذاته ، وما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، والنقص لا يجوز على الله تعالى على وجه ، وبعد ، فإن هذه الآية إنما تخصص تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يرى في حال من الحالات ، وليس في الآية ما يقتضي ذلك ، لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية. هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه.

فأما إذا استدلوا به ابتداء ، فالكلام عليه أن يقال لهم : ما وجه الاستدلال بالآية؟ فإن قالوا : إنه تعالى بين أن الوجوه يوم القيامة تنظر ، إليه والنظر هو بمعنى الرؤية ، قلنا : لسنا نسلم أن النظر بمعنى الرؤية فما دليلكم عليه؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلا.

ثم يقال لهم : كيف يعلم أن يكون النظر بمعنى الرؤية ، ومعلوم أنهم يقولون : نظرت إلى الهلال فلم أره ، فلو كان أحدهما هو الآخر لتناقض الكلام ، ونزل منزلة قول القائل : رأيت الهلال وما رأيت ، وهذا مناقض فاسد.

وبعد : فإنهم يجعلون الرؤية غاية للنظر فيقولون : نظرت حتى رأيت ، فلو كان أحدهما هو الآخر ، لكان أحدهما بمنزلة أن يجعل الشيء غاية لنفسه وذلك لا يجوز ، ولذلك لا يصح أن يقال : رأيت حتى رأيت.

وبعد : فإنهم يعقبون النظر بالرؤية فيقولون : نظرت فرأيت ، فلو كان أحدهما هو الآخر ، لكان في ذلك تعقيب الشيء بنفسه وينزل منزلة قولك رأيت فرأيت ، وهذا لا يستقيم.

وبعد : فإنهم ينوعون النظر فيقولون : نظرت نظر راض ، ونظرت نظر غضبان ،

١٦٢

ونظرت نظر شزر وعلى هذا قال الشاعر :

نظروا إليك بأعين مزورة

نظر التيوس إلى شفار الجازر

وقال آخر :

تخبرني العينان ما الصدر كاتم

وما جن بالبغضاء والنظر الشزر

وأيضا فإنهم يقولون في تفسير الأقبل ، وهو الأحول ، وهو الذي إذا نظر إليك كأنه ينظر إلى غيرك ، فلو كان النظر هو الرؤية ، لكان تقديره : هو الذي إذا رآك كأنه يرى غيرك ، وهذا لا يستقيم.

وبعد : فإنا نعلم ضرورة كون الجماعة ناظرين إلى الهلال ، ولا نعلم كونهم رائين له ضرورة ، ولهذا يصح أن نسأل عن ذلك ، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك.

ويدل على ذلك أيضا ، قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف : ١٩٨] أثبت النظر ونفى الرؤية ، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لتناقض الكلام ، وينزل منزله قول القائل يرونك ، وهذا خلف من الكلام.

فإن قيل : إن ذلك مجاز لأنه ورد في شأن الأصنام ، قلنا : إنه وإن كان كذلك ، إلا أن المجاز كالحقيقة في أنه لا يصح التناقض فيه.

وحاصل هذه الجملة ، أن النظر من الرؤية بمنزلة الإصغاء من السماع ، والذوق من إدراك الطعم ، والشم من إدراك الرائحة.

فإن قيل : النظر إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة على ما ذكرتموه ، فأما إذا علق بالوجه فلا يحتمل إلا الرؤية ، كما أنه إذا علق بالقلب لا يحتمل إلا الفكر. وربما يقولون : إن النظر إذا علق بالوجه وعدي بإلى لم يحتمل إلا الرؤية.

قلنا : ما ذكرتموه أولا مما لا نسلمه ، فما دليلكم عليه؟

فإن قالوا : الدليل عليه ، هو أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه ، فيجب في النظر إذا علق به أن لا يحتمل إلا الرؤية ، لأنه لو لم يكن كذلك لا يثبت لتعليقه به فائدة ، قلنا : لو وجب صحة ما ذكرتموه من حيث أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه ، لوجب صحة أن يقول القائل ذقت بوجهي ويريد به أدركت الطعم ، لأن آلة الذوق في الوجه ، وهكذا في قوله شممت بوجهي ، وقد عرف خلافه.

١٦٣

وأما ما قالوه من أن النظر إذا علق بالوجوه وعدي بإلى لم يحتمل إلا الرؤية فسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : النظر المذكور في الآية إذا لم يفد الرؤية فما تأويل الآية؟

قيل له : قد قيل إن النظر المذكور هاهنا بمعنى الانتظار ، فكأنه تعالى قال : وجوه يومئذ ناضرة لثواب ربها منتظرة ، والنظر بمعنى الانتظار قد ورد قال تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨] أي فانتظار ، وقال جل وعز فيما حكى عن بلقيس (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] أي منتظرة.

وقال الشاعر :

فإن بك صدر هذا اليوم ولى

فإن غدا لناظره قريب

أي لمنتظر.

وقال آخر :

وإن امرأ يرجو السبيل إلى الغنى

بغيرك عن حد الغنى حد جابر

تراه على قرب وإن بعد المدى

بأعين آمال إليك نواظر

وقال آخر :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن يأتي بالخلاص

وقال الخليل : إنما يقال انظر إلى الله تعالى وإلى فلان من بين الخلائق ، أي انتظر خبره ثم خبر فلان.

فإن قيل : النظر إذا عدي بإلى كيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار؟ قلنا : كما قال الله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) [البقرة : ٢٨٠] ، ذكر النظر وعداه بإلى وأراد به الانتظار ، كما يقول العرب على ما قاله الخليل :

إني إليك لما وعدت لناظر

نظر الفقير إلى الغني الموسر

فإن قيل : النظر إذا علق بالوجه وعدي بإلى فكيف يراد به الانتظار؟ قلنا : إن ذلك غير ممتنع وعلى هذا قول الشاعر :

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن يأتي بالخلاص

على أن إلى في الآية على ما قيل ، هو حرف الجر ولا حرف البعدية ، وإنما هو

١٦٤

واحد الآلاء التي هي النعم ، فكأنه تعالى قال : وجوه يومئذ ناظرة آلاء ربها منتظرة ، ونعمه مترقبة.

وقد أجاب شيخنا أبو عبد الله البصري ، بأن النظر إذا كان بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة يعدى بإلى ، فكذلك إذا كان الانتظار لا يمتنع أن يعدى بإلى لأن المجازات يسلك بها مسلك الحقائق ، وهذا إشارة إلى أن النظر بمعنى الانتظار مجاز وحقيقته تقليب الحدقة ، وليس كذلك ، لأن النظر لفظة مشتركة بين معان كثيرة على ما مر.

وبعد : فلو جاز أن يعلق النظر بالعين ويراد به الانتظار ، لجاز أن يعلق به الوجه أيضا ويراد به الانتظار ، ومعلوم أنهم يعلقون النظر بالعين ويعدونه بإلى ويريدون به الانتظار.

وعلى هذا قال الشاعر :

تراه على قرب وإن بعد المدى

بأعين آمال إليك نواظر

على أن الوجه هاهنا ليس بمقصود ، وإنما المقصود صاحب الوجه قال الله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥)) ومعلوم أن الوجوه لا تظن وإنما أصحاب الوجوه يظنون.

هذا هو التأويل الأول والكلام عليه.

وأما التأويل الثاني ، فهو أن النظر بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة ، فكأنه تعالى قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢)) ذكر نفسه وأراد غيره ، كما قال في موضع آخر (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] أي أهل القرية ، وقال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي إلى حيث أمرني ربي ، وقال : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أي وجاء أمر ربك ، وقال عنترة :

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك

إن كنت جاهلة بما لم تعلمي

أي أرباب الخيل ، وقال آخر :

سل الربع أني يممت أم مالك

وهل عادة للربع أن يتكلما

وكلا التأويلين مرويان عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن عبد الله بن عباس ، وجماعة من الصحابة والتابعين.

قالوا على التأويل : إن هذه الآية وردت في شأن أهل الجنة فكيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار ، لأن الانتظار يتضمن الغم والمشقة ، ويؤدي إلى التنغيص

١٦٥

والتكدير ، حتى يقال في المثل : الانتظار يورث الاصفرار ، والانتظار الموت الأحمر ، وهذه الحالة غير جائزة على أهل الجنة.

وجوابنا أن الانتظار لا يقتضي تنغيص العيش على كل حال ، وإنما يوجب ذلك متى كان المنتظر لا يتعين وصول ما ينتظره إليه ، أو يكون في جنس ولا يدري متى يتخلص من ذلك وهل يتخلص أم لا ، فإنه والحال هذه يكون في غم وحسرة ، فأما إذا تيقن وصوله فلا يكون في غم وحسرة ، خاصة إذا كان في حال انتظاره في أرغد عيش وأهنئه ، ألا ترى أن من كان على مائدة وعليها ألوان الطعام اللذيذة يأكل منها ويلتذ بها ، وينتظر لونا آخر ويتيقن وصوله إليه ، فإنه لا يكون في تنغيص ولا تكدير ، بل يكون في سرور متضاعف ، حتى لو قدم إليه الأطعمة كلها لتبرم بها. كذلك حال أهل الجنة لا يكونون في غم وتنغيص إذا كانوا يتقينون وصولهم إلى ما ينتظرون على كل حال.

الأدلة العقلية :

ولما فرغ رحمه‌الله من الاستدلال بالسمع على هذه المسألة استدل بالأدلة العقلية.

دليل المقابلة الرؤية بالحاسة :

وبدأ منها بدلالة المقابلة ، وتحريرها هو أن الواحد منا راء بحاسة ، والرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، وقد ثبت أن الله تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ، ولا حالا في المقابل ، ولا في حكم المقابل.

وهذه الدلالة مبنية على أصول :

أحدها : أن الواحد منا راء بالحاسة.

والثاني : أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل.

والثالث : أن القديم تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل.

أما الأول ، فالذي يدل عليه أن أحدنا متى كان له حاسة صحيحة ، والموانع مرتفعة ، والمدرك موجود ، يجب أن يرى ، ومتى لم يكن كذلك استحالة أن يرى ،

١٦٦

فيجب أن يكون لصحة الحاسة في ذلك تأثير ، لأن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.

وأما الكلام في أن الرائي بالحاسة لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، هو أن الشيء متى كان مقابلا للرائي بالحاسة أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل وجب أن يرى ، وإذا لم يكن مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل لم ير ، فيجب أن تكون المقابلة أو ما في حكمها شرطا في الرؤية ، لأن بهذه الطريق يعلم تأثير الشرط.

وأما الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل ، فهو أن المقابلة والحلول إنما تصح على الأجسام والأعراض والله تعالى ليس بجسم ولا عرض ، فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل زلا في حكم المقابل.

فإن قيل : كيف يصح قولكم أن الواحد منا لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، ومعلوم أنه لا يرى وجهه في المرآة مع أنه ليس بمقابل ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟

قلنا : إن وجهه في حكم المقابل ، لأن الشعاع ينفصل من نقطته ويتصل بالمرآة فيصير كالعين ، ثم ينعكس إلى العكس ، فيرى وجهه كأنه مقابل له. وعلى هذا لو جمع بين المرآتين لرأى قفاه ، لأن الشعاع ينفصل من نقطة ويتصل بالمرآة المستقبلة ، ثم ينعكس إلى المستديرة فيصير كالعين فترى قفاه.

فإن قيل : أليس أن الله تعالى يرى الواحد منا ، وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل فهلا جاز في الواحد منا أن يرى الشيء وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل؟ قيل له : إنما وجبت هذه القضية في القديم تعالى لأنه لا يجوز أن يكون رائيا بالحاسة ، والواحد منا راء بالحاسة ، فلا يعلم أن يرى إلا كذلك.

فإن قيل : إن هذه الدلالة تنبني على أن أحدنا يرى بالحاسة ونحن لا نسلم ذلك ، بل نقول إن أحدنا يرى ما يراه برؤية خلقها الله تعالى في بصره. قلنا : قد مر في كلامنا ما هو جواب عن ذلك ، لأنا قد بينا أن الواحد منا متى كانت حاسته صحيحة ، والمرئي بهذه الأوصاف وجب أن يراه ، ومتى لم يكن كذلك لم يصح أن يراه ، فدل على أنه

١٦٧

إنما يرى ما يراه بالحاسة على ما نقوله. يبين ذلك أنه لو رأى ما يراه برؤية خلقها الله تعالى فيه ، لصح أن لا يخلقها مع هذه الأحوال كلها ، فلا يرى المرئي ، أو يراه مع فقد هذه الأمور ، وذلك مستحيل.

ويمكن إيراد هذه الدلالة على وجه آخر لا يلزمنا هذا السؤال ، فيقال : إن أحدنا إنما يرى الشيء عند شرطين : أحدهما : يرجع إلى الرائي ، والآخر : يرجع إلى المرئي ، ما يرجع إلى الرائي فهو صحة الحاسة ، وما يرجع إلى المرئي هو أن يكون للمرئي مع الرائي حكم ، وذلك الحكم هو أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل. وإذا أوردته على هذا الوجه سقط عنك هذا السؤال. على أن هذا السؤال الذي أورده ينبني على أن الإدراك معنى ، وسنبين الكلام ، في أن الإدراك ليس بمعنى إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : ما أنكرتم أن أحدنا إنما لا يرى الشيء إلا إذا كان مقابلا له أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، لأنه تعالى أجرى العادة بذلك ، فلا يمتنع أن يختلف الحال فيه ، فيرى القديم جل وعز في دار الآخرة.

قيل له : إن ما يكون بمجرى العادة يجوز اختلاف الحال فيه ، ألا ترى أن الحر والبرد والثلج والمطر لما كان بمجرى العادة اختلف بحسب البلدان والأهوية ، فكان يجب مثله في مسألتنا لو كان ذلك بالعادة. فيجب صحة أن يرى الشيء أحدنا. وإن لم يكن مقابلا له ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل في بعض الحالات ، لاختلاف العادة ، بل كان يجب أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ، ويرى البعيد كما يرى القريب ، ويرى الرقيق كما يرى الكثيف. ومتى ارتكبوا هذا كله ، فالواجب أن يرى المحجوب كما يرى المكشوف ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن ذلك من باب ما تستمر العادة فيه ، كما في حصول الولد من ذكر وأنثى ، وكطلوع الشمس من مشرقها وغروبها مغربها ، وكحصول كل جنس من الحيوانات من جنسه ، وكتاب الزرع وما يجري هذا المجرى.

وجوابنا : أنا لم نوجب فيما طريقه العادة أن يختلف الحال على كل وجه ، بل إذا اختلفت من وجه واحد كفى ، وما من شيء من هذه الأشياء التي ذكرتها إلا والحال فيه مختلف على وجه. ألا ترى أن الولد قد يحصل لا من ذكر وأنثى ، فإن آدم عليه‌السلام خلق لا من ذكر وأنثى ، وعيسى عليه‌السلام خلق لا من ذكر ، وفيما بيننا فما من ولد

١٦٨

إلا والحال فيه بخلاف الحال في غيره ، فواحد يولد تاما ، والآخر يولد ناقصا ، فكان يجب مثله في مسألتنا حتى يصدق من أخبرنا أنه شاهد ما ليس بمقابل له ولا حال في المقابل ولا في حكم المقابل ، أو شاهد أقواما يشاهدون الأشياء من دون أن تكون على هذا الوجه أو ما يجرى مجراه ، وقد علم خلافه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن الواحد منا إنما لا يرى إلا ما كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في حكم المقابل ، لأمر برجع إلى المرئي لا إلى الرائي؟ قيل له : هذا الذي ذكرته لا يصح ، لأنه كان يجب في القديم تعالى أن لا يرى هذه المرئيات لفقد هذا الحكم فيه ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : إنا نرى القديم تعالى بلا كيف كما نعلمه بلا كيف ، ولا يحتاج إلى أن يكون مقابلا أو حالا في المقابل أو في الحكم المقابل ، قيل له : إن هذا قياس الرؤية على العلم من دون علة تجمعهما ، فلا يصح. فإن للعلم أصلا في الشاهد وللرؤية أصلا ، فيجب أن يرد كل واحد منهما إلى أصله. فالعلم من حقه أن يتعلق بالمعلوم على ما هو به ، ولهذا يتعلق بالموجود والمعدوم والمحدث والقديم ، فإن كان معدوما علم معدوما ، وإن كان موجودا. وكذلك الكلام إذا كان محدثا أو قديما ، وليس كذلك الرؤية ، فإنها لا تتعلق إلا بالموجود ، ولهذا لا يصح في المعدوم أن يرى.

فإن قيل : هلا جاز أن نرى القديم تعالى بحاسة سادسة ، فلا يجوز أن يكون مقابلا ولا حالا في المقابل ولا في حكم المقابل ، لأن تلك الحاسة بخلاف هذه الحواس؟ قلنا : مخالفة تلك الحاسة لهذه الحواس ليس بأكبر من مخالفة هذه الحواس بعضها لبعض فإن فيها شهلا وزرقا وملحا ، ومعلوم أن هذه الحواس مع اختلافها واختلاف بناها ، متفقة في أن لا يرى الشيء بها إلا إذا كان مقابلا أو حالا في المقابل أو في المقابل ، على أنه لا دلالة تدل على تلك الحاسة فلا يصح إثباتها. وبعد ، فلو جاز أن يرى القديم تعالى بحاسة سادسة ، لجاز أن يذاق بحاسة سابعة ، وأن يلمس بحاسة ثامنة ، وأن يشم بحاسة تاسعة ، ويسمع بحاسة عاشرة ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

وقد مر في الكتاب ما هو إشارة إلى دلالة الموانع لأنه قال الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته ، والقديم حاصل على ما هو عليه في ذاته فما المانع من أن يرى؟

وأجاب عنه بأن قال : وما لا يرى ينقسم إلى ما لا يرى لمنع ، وإلى ما لا يرى

١٦٩

لاستحالة الرؤية عليه. والقديم تعالى إنما لا يرى لاستحالة رؤية عليه لا لمنع.

فإن قال : ما في هذه الدلالة إن أحدنا لا يرى الله عزوجل ، فمن أين أنه ليس بمرئي في نفسه؟ قلنا : كل من قال : إن أحدنا لا يرى القديم تعالى ، قال إنه ليس بمرئي في نفسه.

دليل آخر : وهو أن القديم تعالى ، لو جاز أن يرى في حال من الأحوال لوجب أن نراه الآن ، ومعلوم أنا لا نراه الآن. وتحرير هذه الدلالة ، هو أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى المرئي لما رأى إلا لكونه عليها ، والقديم سبحانه وتعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، والموانع المعقولة مرتفعة ، فيجب أن نراه الآن ، فمتى لم نره دل على استحالة كونه مرئيا.

وهذه الدلالة مبينة على أصلين : أحدهما : أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رأى لما رأى إلا لكونه عليها ، والثاني : أن القديم تعالى حاصل عل الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها.

أما الذي يدل على أن القديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، هو أن الشيء إنما يرى على أخص ما تقتضيه صفة الذات ، والقديم تعالى على هذه الصفة بلا خلاف بيننا وبين من خالفنا في هذه المسألة ، لأنه تعالى حاصل على ما هو عليه في ذاته وموجود ، ونحن نقول : إن الشيء إنما يرى لما هو عليه في ذاته ، وهم يقولون إنما يرى لوجوده ، والقديم تعالى حاصل على كل واحدة من هاتين الصفتين ، فإذا لا شك أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، فلا خلاف في أنه حاصل على الصفة التي [لو] (١) رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، ولا تتجدد له صفة في الآخرة يرى عليها ، فثبت ما قلناه. وأما الذي يدل على أن الواحد منا حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليهما ، هو أنه إنما يرى الشيء لكونه حيا ، بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع وهذا ثابت.

فإن قيل : ولم قلتم ذلك؟ قلنا : لأنه متى كان على هذه الصفة وجب أن يرى ، ومتى لم يكن كذلك استحال أن يرى ، فيجب أن تكون رؤيته لما يراه لكونه حيا بشرط

__________________

(١) زيادة من المصحح.

١٧٠

صحة الحاسة على ما نقوله ، لأن بهذه الطريقة يعلم تأثير المؤثرات من الأسباب والعلل والشروط.

فإن قيل : نحن لا نسلم ذلك ، بل نقول : إن الحي منا إذا كان صحيح الحاسة إنما يرى الشيء لرؤية خلقها الله في بصره وإدراك يخلقه ، قلنا : الإدراك ليس بمعنى ، وليس بأمر زائد على ما ذكرناه.

فإن قيل : ومن أين أن الإدراك ليس بمعنى؟ قلنا : لو كان معنى لوجب في الواحد منا مع صحة الحاسة وارتفاع الموانع ووجود المدرك ، أن لا يرى ما بين يديه في بعض الحالات بأن لا يخلق الله له الإدراك ، وهذا يقتضي أن يكون بين أيدينا أجسام عظيمة كالفيلة والبعران ونحوها ونحن لا نراها لفقد الإدراك وهذا يرفع الثقة بالمشاهدات ويلحق البصراء بالعميان وذلك محال ، وما أدى إليه وجب أن يكون محالا.

فإن قيل : إنا نقطع على أنه ليس بحضرتنا أجسام عظيمة ، فكيف يجوز أن تكون ولا نراها؟ قلنا : إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء يستند إلى طريق وهو العلم بأنه لو كان لرأيناه ، وقد سددتم هذه الطريقة على أنفسكم لتجويزكم أن يكون ولا ترونه ، فلا يمكنكم القطع على أنه ليس بحضرتكم شيء ، فيلزم ما ألزمناكم. يبين ذلك أن الأعمى لما فقد هذه الطريق ، وهو العلم بأنه لو كان رآه ، لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الإدراك ، وكذلك إذا جوزتم أن يكون ولا ترونه ، وجب أن يكون حالكم حال الأعمى.

فإن قيل : أليس الأعمى مع تجويزه أن يكون ولا يرى ، يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء بأن يلمس فيجد ذلك الموضع خاليا؟ قلنا : كلامنا في علمين يستند أحدهما إلى الآخر ، وكان الأول طريقا إلى الثاني ، وهذا الذي ذكرتموه ليس كذلك فلا يصح. وهكذا الجواب إذا قيل ، ليس يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء من طريق الخبر ، لأن كلامنا في العلم الذي يستند إلى الإدراك.

فإن قيل : ألستم جوزتم أن يقلب الله الجبال ذهبا مع أنكم قطعتم على أنه لم يفعل ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، فيجوز أن يكون بين أيدينا شيء ونحن لا نراه ، ومع ذلك نقطع أنه ليس بحضرتنا؟ قيل له : إن بين الموضعين فرقا ، لأن كلامنا في علمين يستند أحدهما إلى الآخر ، والأول طريق إلى الثاني ، فقلنا : من أفسد على نفسه تلك الطريقة لم يحصل له العلم الثاني الحاصل عن الطريق وليس كذلك ما أردتموه ، لأن

١٧١

العلم بأنه تعالى لم يقلب الجبال ذهبا ضروري خلقه الله تعالى فينا أبدا ، فلا يشبه ما ذكرناه.

فإن قيل : ألستم جوزتم أن يقلب الله صورة زيد إلى صورة أخرى ثم قطعتم على أنه لم يفعل ، فهلا جاز مثله في مسألتنا. والجواب عنه مثل الجواب عما مضى ، لأن كلامنا في علمين أحدهما طريق إلى الآخر. فقلنا : من أفسد تلك الطريقة على نفسه ، لا يحصل له العلم الذي يحصل من ذلك الطريق. والعلم بأن زيدا هو الذي شاهدناه من قبل ، لا يستند إلى طريقة قد أفسدناها على أنفسنا ، فجاز أن نقطع على أنه هو.

فإن قيل : إن العلم بذلك يستند إلى طريق وهو الإدراك ، وقد أفسدتم بتجويزكم على أنفسكم أن يقلب الله صورته فلا يمكنكم القطع على أنه هو ، قيل له : ليس الأمر على ما ظننته لأن هذا العلم لا يستند إلى الإدراك ، إذ لو كان كذلك لوجب فيمن أدرك زيدا ثم شاهده بعد ذلك أن يثبته لا محالة والمعلوم خلافه ، فإن في الناس من يشاهد شخصا ، مرة ، ثم إذا رآه ثانيا تبينه وتعرفه ، وفيهم من يشاهده مرارا ثم إذا رآه بعد ذلك لم يتبينه ولم يعرفه ، ولا ذلك إلا لأن هذا العلم غير مستند إلى الإدراك ، فصح ما قلناه.

فإن قيل : ما ألزمتمونا في الإدراك لازم لكم في الشعاع ، لأن من الجائز عندكم أن يقلب الله شعاع أحدنا عن سمت المرئي ، ومع ذلك يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، كذلك في مسألتنا ، قلنا : إن من قلب الله تعالى شعاعه عن سمت المرئي لا تكون حاسته صحيحة ، بل يكون حاله وحال الأعمى سواء ، وكلامنا في الحي إذا كان صحيح الحاسة ، فلا يلزمنا ما ذكرتموه.

فإن قيل : إن العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء علم يخلقه الله تعالى فينا ابتداء ، لا أنه يستند إلى طريق قد أفسدناه ، قلنا : ليس الأمر على ما ظننته ، بل العلم بأنه ليس بحضرتنا شيء ، يستند إلى أنه لو كان لرأيناه ، وعلى هذا فإن الأعمى لما فقد هذه الطريق لم يمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، والمبصر لما حصل له هذا العلم أمكنه القطع على أنه ليس بحضرته شيء ، فعلمنا أن أحد العلمين يستند إلى الآخر ، والأول طريق إلى الثاني ، فمن أفسد على نفسه العلم الأول لا يحصل له العلم الثاني. فقد صح بهذا الجملة ووضح أن الإدراك ليس بمعنى ، وأن أحدنا حاصل على الصفة التي لو رأى إلا لكونه عليها ، والقديم تعالى حاصل على الصفة التي لو رئي إلا لكونه عليها ، والموانع المعقولة مرتفعة.

١٧٢

معنى قولنا الموانع مرتفعة :

فإن قيل : ولم قلتم إن الموانع المعقولة مرتفعة؟ قلنا : لأن الموانع المعقولة من الرؤية ستة : الحجاب ، والرقة ، والكثافة ، والبصر المفرط ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي ، وكون محله ينقض هذه الأوصاف ، وشيء منها لا يجوز على الله تعالى بحال من الأحوال.

وإنما قلنا إن الحجاب منع ، لأن المرئي إذا كان محجوبا لا يمكن إدراكه ، ومتى كان مكشوفا إدراكه. وهكذا الكلام في الرقة ، واللطافة والبعد المفرط ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي ، لأن المرئي إذا كان ببعض هذه الأوصاف لا يمكن أن يدرك ، وإن لم يكن كذلك أمكن أن يدرك. وهكذا إذا كان محل المرئي ببعض هذه الأوصاف لأن اللون متى كان في محل محجوب أو رقيق أو لطيف أو بعيد ، أو كان محله في غير جهة محاذاة الرائي لم يمكن إدراكه ، ومتى لم يكن كذلك أمكن ، وبهذه الطريقة يعرف المنع مما ليس بمنع.

فإن قيل : كيف قلتم إن الحجاب منع عن الرؤية مع أنا نرى ما وراء الزجاج؟ قلنا : لا يمكن إنكار أن الحجاب منع ، ومن أنكر هذا فقد أنكر العيان وجحد الضرورة ، وأما ما ذكرته في الزجاج فإنا نرى ما وراءه لأن فيه خللا على طريق الانعراج ، ويختص بضرب من الصقالة والضياء فلا يحجب ما وراءه ، بل تحصل قاعدة الشعاع مع ما وراءه على وجه لا ساتر بينهما وبينه ، ولا ما يجري مجرى الساتر. وإنما قلنا : إن فيه خللا على طريق الانعراج ، لأنه إذا أملئ دهنا وشد رأسه وترك في الشمس فإنه يذهب ما فيه من الدهن ، فلو لا أن فيه خللا على ما قلناه ، وإلا لم يذهب. فلهذه العلة أمكن رؤية ما فيه ورؤية ما وراءه ، كما أمكن رؤية المكشوف.

فإن قيل : كيف قلتم إن الرقة منع عن الرؤية ، مع أن المحتضر يرى الملك ، والجن يرى بعضهم بعضا؟ قلنا : لأن الرقة لا تمنع بنفسها وإنما تمنع بغيرها وهو ضعف الشعاع وقلته ، والمحتضر إنما يرى الملك لأن شعاعه أقوى وأكبر ، وكذلك حال الجن.

فإن قيل : كيف قلتم إن اللطافة منع ، ومعلوم أن الجزء الواحد إذا انضم إليه غيره يدرك؟ قلنا : الجزء الواحد إذا انضم إليه غيره خرج عن كونه لطيفا بل هو كثيف ، فللكثافة تصح رؤيته.

١٧٣

فإن قيل : كيف قلتم إن البعد المفرط منع؟ مع أنا نرى السماء وما فيها من الكواكب ، نحو زحل وغيره من النجوم؟ قلنا : إنا إنما نرى السماء على بعد لأنها تختفي بجرم عظيم وضوء كثيف ، فلا جرم أن هذا القدر من البعد لا يثبت في حقه بعدا مفرطا. وبعد فإن زحل ليس في الجرم والعظم بهذه المنزلة التي نراها ، لا ذلك إلا لبعده عنا.

فإن قيل : كيف قلتم إن كون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي منع ، ومعلوم أن أحدنا يرى وجهه في المرآة مع أنه في غير جهة محاذاة الرائي؟ قلنا : إنا قد أجبنا عن هذا من قبل وتكلمنا عليه.

الموانع ضربان : إحداهما يمنع بنفسه والثاني يمنع بشرط

واعلم أن الموانع على ضربين : أحدهما يمنع بنفسه والثاني يمنع بشرط ، أما المانع بنفسه ، فهو كالحجاب ، وكون المرئي في غير جهة محاذاة الرائي. وأما المانع بشرط ، فهو على قسمين : أحدهما ما يمنع لأمر يرجع إلى الرائي ، والثاني ما يمنع لأمر يرجع إلى المرئي. ما يرجع إلى الرائي فهو كالرقة واللطافة ، فإنه إنما يمنع لأمر يرجع إلى الرائي وهو ضعف الشعاع. وأما ما يرجع إلى المرئي ، فنحو البعد المفرط فإنه إنما لا يرى لبعده حتى لو قرب لرئي.

فصار الحال في المنع عن الرؤية كالحال في المنع عن الفعل ، فكما أن المنع عن الفعل على قسمين ، أحدهما ، يمنع بنفسه وذلك كالقيد وما يجري مجراه ، والآخر ، يمنع بشرط. ثم ما يمنع بشرط على ضربين ، أحدهما ، يرجع إلى الفاعل وذلك نحو قلة القدر والضعف ، والآخر يرجع إلى الفعل ، نحو كثرة الثقل فيه ، كذلك الموانع عن الرؤية.

فإن قيل : ما أنكرتم أنا إنما لا نرى القديم تعالى لمانع غير معقول؟ قلنا : لأن إثبات ما لا يعقل يفتح باب الجهالات ، ويلزم عليه جواز أن يكون بحضرتنا أجسام عظيمة ونحن لا نراها لمانع غير معقول ، ويلزم مثل ذلك في المعدوم ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : ما أنكرتم أن المانع من رؤية الله تعالى هو أنه تعالى لم يشأ أن يرينا نفسه ، ولو شاء لرأيناه؟ قلنا : المشيئة إنما تدخل فيما يصح دون ما يستحيل ، وقد بينا أن الرؤية تستحيل عليه تعالى فلا يعلم ما ذكرتموه. وبعد ، فلو جاز ذلك في القديم تعالى لجاز مثله في المعدوم ، فيقال : إن المعدوم إنما لا يرى لأنه تعالى لا يشاء أن

١٧٤

يريناه ولو شاء لرأيناه ، فكما أن ذلك خلف من الكلام ، كذلك هاهنا.

فإن قال : ما أنكرتم أن هذه الأمور التي عددتموها ليست بموانع؟ قلنا : إن كان الأمر على ما ذكرته فقد ارتفع غرضنا ، لأن غرضنا بيان أن الموانع عن الرؤية مرتفعة ، وأنه تعالى لو كان مرئيا في نفسه لوجب أن نراه الآن ، وهذا قد تم بما ذكرتموه ، على أن قد بينا أن هذه الأمور موانع بما لا يمكن دفعه.

فإن قيل : ما أنكرتم أنا نرى القديم تعالى الآن؟ قلنا : لو رأيناه لعلمناه ضرورة ، لأن الرؤية طريق إلى العلم ، وهذا يوجب أن نجد كوننا عالمين به من أنفسنا ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل أليس أنه تعالى حاصل على الصفة التي لو علم (١) لما علم إلا لكونه عليها ، والواحد منا حاصل على الصفة التي لو علم ما علم إلا لكونه عليها ، والموانع المعقولة عن العلم مرتفعة ، ثم لا يجب في كل عاقل أن يعلم القديم تعالى ، فهلا جاز مثله في مسألتنا ، أن يكون القديم حاصلا على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، والواحد منا حاصل على الصفة التي لو رئي لما رئي إلا لكونه عليها ، ثم لا يجب أن نراه الآن.

قلنا : إن بين الموضعين فرقا ، لأن المصحح في كونه عالما غير الموجب له ، إذ المصحح له إنما هو كونه حيا ، والموجب له إنما هو العلم ، وليس كذلك في كونه مدركا ، لأن المصحح له هو كونه حيا ، وهو الموجب له أيضا ، ففارق أحدهما الآخر.

شبه القوم في هذا الباب

وللقوم شبه في هذا الباب :

من جملتها قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣)) [القيامة : ٢٢ ، ٢٣].

قالوا : بين الله تعالى أن الوجوه تنظر إليه يوم القيامة ، وهذا يدل على كونه مرئيا على ما نقوله.

والأصل في الكلام عليهم أن نمنعهم من الاستدلال بالسمع أصلا ، لأن الاستدلال بالسمع ينبني على أنه تعالى عدل حكيم لا يظهر المعجز على الكذابين ،

__________________

(١) قال محقق الطبعة السابقة : «لعل هنا نقصا ، فتكون العبارة على النحو التالي : أي أن يكون.

١٧٥

والقوم لا يقولون بهذا ، فلا يمكنهم الاستدلال بالسمع على شيء أصلا. وعلى أنا قد بينا أن النظر ليس هو الرؤية ، وتكلمنا عليه فلا وجه لإعادته.

ومما يتعلقون به قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] قالوا : فهذا سؤال ، فقد سأل موسى الله الرؤية ، فدل ذلك على أنها جائزة على الله تعالى ، فلو استحال ذلك لم يجز أن يسأله. قالوا : والذي يدل على أن السؤال سؤال موسى عليه‌السلام وجهان ، أحدهما هو أنه أضاف الرؤية إلى نفسه ، والثاني أنه تاب ، والتوبة لا تصح إلا من فعل نفسه.

وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا : بأن الرؤية هاهنا بمعنى العلم ولا اعتماد عليه ، لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجردت ، فأما إذا قارنها النظر فلا تكون بمعنى العلم. فالأولى ما ذكره غيره من مشايخنا ، وهو أن السؤال لم يكن سؤال موسى وإنما كان سؤالا عن قومه. والذي يدل عليه قوله عزوجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] وقوله عزوجل : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] فصرح الله تعالى بأن القوم هم الذين حملوه على هذا السؤال.

ويدل عليه أيضا قوله حاكيا عن موسى عليه‌السلام : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] فبين أن السؤال سؤال عن قومه ، وأن الذنب ذنبهم.

فإن قيل : لو لا أن الرؤية غير مستحيلة على الله تعالى وإلا لما جاز أن يسأله ذلك لا عن نفسه ولا عن قومه ، كما لا يجوز أن يسأل الله عن الصاحبة والولد لما كانت مستحيلة عليه.

قلنا : فرق بينهما : لأن مسألة الرؤية يمكن معرفتها بالسمع فجاز أن يطلب فيها دلالة سمعية ، بخلاف مسألة الصاحبة والولد.

وقيل : إنه علم أن الرؤية مستحيلة على الله ، ولكن سأله عن ذلك لأن الأمة لم يكن يقنعهم جوابه ، فسأله الله سبحانه ليرد من جهته جوابا يقنعهم.

فأما ما ذكره في الصاحبة ، والولد فلا يصح ، لأنه إنما لم يسأل لا لأن الصاحبة والولد مستحيل على الله تعالى والرؤية غير مستحيلة ، بل لأنهم لم يطلبوا منه ذلك ، حتى لو قدرنا أنهم طلبوا منه ذلك ، وعلم أنه لا يقنعهم جوابه لجاز أن يسأل الله تعالى

١٧٦

ذلك ، ليرد من جهته جوابا يقنع.

وقد قيل : إن بين الموضعين فرقا لأن إحدى المسألتين لا يمكن أن نستدل عليها بالسمع ، والأخرى يمكن ذلك فيها ، ففارق أحدهما الآخر.

وأما ما ذكروه من أن السؤال سؤال موسى عليه‌السلام ، لأنه أضاف سؤال الرؤية إلى نفسه بقوله : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] ، فلا يصح ، لأنه غير ممتنع أن يكون السؤال سؤال قومه ثم إنه يضيفه إلى نفسه ، وهذا ظاهر في الشاهد. ألا ترى أن الكثير منا إذا شفع لغيره في حاجة ، ربما يقول : اقض حاجتي وأنجح طلبتي وما جرى هذا المجرى ، فيضيفه إلى نفسه وإن كانت الحاجة حاجة غيره. وأما ما قالوه من أن السؤال سؤال موسى ، لأنه تاب عن ذلك ، والتوبة لا تصح إلا من فعل نفسه ، فلا يصح أيضا ، لأن توبته هو ، لأنه سأل الله بحضرة القوم من غير إذن ، ولا يجوز من الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة الأمة من غير إذن سمعي ، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح أن لا يجابوا ، فيكون ذلك تنفيرا عن قبول قوله.

وأما الصاعقة فلم يكن ذلك عقوبة ، وإنما كان ذلك امتحانا وابتلاء كما امتحن الله غيره من الأنبياء.

وهذه الآية حجة لنا عليهم من وجهين :

أحدهما ، هو أنه تعالى قال مجيبا لسؤاله (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) قال لن تراني ولن موضوعة للتأبيد ، فقد نفى أن يكون مرئيا البتة ، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه. فإن قالوا : أليس أنه تعالى قال حاكيا عن اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٩٥] أي لا يتمنون الموت ، ثم قال حاكيا عنهم (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧] فكيف يقال : إن لن موضوع للتأبيد؟ قلنا : إن لن موضوعة للتأبيد ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلا حقيقة ، بل لا يمتنع أن يستعمل مجازا ، وصار الحال فيه كالحال في قولهم أسد وخنزير وحمار ، فكما أن موضعها وحقيقتها لحيوانات مخصوصة ثم تستعمل في غيرها على سبيل المجاز والتوسع ، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها ، كذلك هاهنا.

والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية ، هو أنه تعالى قال : (لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] علق الرؤية باستقرار الجبل. فلا يخلو ، إما أن يكون علقها باستقراره بعد تحركه ، وتدكدكه ، أو علقها به حال

١٧٧

تحركه. لا يجوز أن تكون الرؤية علقها باستقرار الجبل ، لأن الجبل قد استقر ولم ير موسى ربه ، فيجب أن يكون قد علق ذلك باستقرار الجبل بحال تحركه ، دالا بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه ، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه. ويكون هذا بمنزلة قوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ).

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] إلى غير ذلك من الآيات التي ذكر فيها اللقاء.

والأصل في الجواب عن ذلك أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية ، ولهذا استعمل أحدهما حيث لا يستعمل الآخر ، ولهذا فإن الأعمى يقول : لقيت فلانا وجلست بين يديه وقرأت عليه ، ولا يقول رأيته. وكذلك فقد يسأل أحدهم غيره هل لقيت الملك؟ فيقول : لا ، ولكن رأيته على القصر. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لم يجز ذلك ، فثبت أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية ، وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازا ، وإذا ثبت ذلك ، فيجب أن نحمل هذه الآية على وجه يوافق دلالة العقل فنقول : المراد بقوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] أي يوم يلقون ملائكته ، كما قال في موضع آخر (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].

وأما قوله عزوجل (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] أي ثواب ربه ، ذكر نفسه وأراد غيره. كما قال في موضع آخر (وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ) [غافر : ٤٢] أي إلى طاعة العزيز الغفار ، (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) أي إلى حيث أرني ربي. وكقوله (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] أي وجاء أمر ربك. وقوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) يعني أهل القرية. ونظائر هذا أكثر من أن تحصى.

وبعد ، فلو كانت هذه الآية دالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى ، لوجب في قوله (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] أن يدل على أن المنافقين أيضا يرونه ، وهم ما لا يقولون بذلك. فليس إلا أن الرؤية مستحيلة على الله تعالى في كل حال ، وأن لقاءه في هذه الآية محمول على عقابه ، كما في تلك الآية محمول على لقاء ثواب الله أو لقاء الملائكة.

وفي الحكاية أن قاضيا من القضاة استدل بقوله عزوجل : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) [الكهف : ١١٠] على أنه تعالى يرى ، فاعترض عليه ملاح فقال : ليس اللقاء بمعنى

١٧٨

الرؤية ، لأن أحدهما يستعمل حيث لا يستعمل الآخر ، بل يثبت بأحدهما وينتفى بالآخر ، ولا يتناقض الكلام ، وقال : لو كان اللقاء بمعنى الرؤية لم يختلف الحال فيه بالمؤمنين. وقد قال الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) فيجب أن يدل على أن المنافقين يرونه. فقال له القاضي : من أين لك هذا؟ فقال له : من رجل بالبصرة يقال له أبو علي بن عبد الوهاب الجبائي ، فقال : لعن الله ذلك الرجل. لقد بث الاعتزال في الدنيا حتى سلط الملاحين على القضاة.

ومما يتعلقون به ، قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) قالوا : بين الله تعالى أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله ، وهذا يدل على أن المؤمنين لا يحجبون ، وفي ذلك ما نقوله.

والأصل في جوابه ، أن هذا استدلال بدليل الخطاب ، وذلك لا يعتمد في فروع الفقه فكيف في أصول الدين. وبعد ، فليس في ظاهر الآية ما يدل على أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله ، لأنه تعالى قال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥)) [المطففين : ١٥] ولم يقل عن رؤية ربهم. ومتى قالوا : المراد بقوله عن ربهم ، عن رؤية ربهم ، قلنا : ليس كذلك ، بل المراد عن ثواب ربهم ، لأنكم إذا عدلتم عن الظاهر فلستم بالتأويل أولى منا ، فنحمله على وجه يوافق دلالة العقل.

ومما يتعلقون به ، إجماع الصحابة على أنه تعالى يرى ، وإجماعهم حجة ، فيجب القضاء بأنه تعالى يرى.

قلنا : لا يمكن ادعاء إجماع الصحابة على ذلك ، فقد روي عن عائشة أنها قالت لما سمعت قائلا يقول إن محمدا رأى ربه ، فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، ثلاثا من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله تعالى ، ثم تلت قوله تعالى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١].

وبعد ، فمعلوم من حال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وكبار الصحابة ، أنهم كانوا ينفون الرؤية عن الله تعالى. وأنت إذا نظرت في خطب أمير المؤمنين ، وجدتها مشحونة بنفي الرؤية عن الله تعالى ، فيبطل ما قالوا.

١٧٩

أخبار مروية عن الرسول

ومما يتعلقون به ، أخبار مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأكثرها يتضمن الجبر والتشبيه ، فيجب القطع على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقله وإن قال فإنه قاله حكاية عن قوم ، والراوي حذف الحكاية ونقل الخبر.

ومن جملتها وهو أشف ما يتعلقون به ، ما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر».

ولنا في الجواب ثلاثة طرق :

أحدها ، هو أن هذا الخبر يتضمن الجبر والتشبيه ، لأنا لا نرى القمر إلا مدورا عاليا منورا ، ومعلوم أنه لا يجوز أن يرى القديم تعالى على هذا الحد ، فيجب أن نقطع على أنه كذب على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه لم يقله ، وإن قاله فإنه قاله حكاية عن قوم كما ذكرنا.

والطريقة الثانية ، هو أن هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم ، عن جرير بن عبد الله البجلي ، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله. وقيس هذا مطعون فيه من وجهين : أحدهما ، أنه كان يرى رأي الخوارج ، يروى أنه قال : منذ سمعت عليا على منبر الكوفة يقول : انفروا إلى بقية الأحزاب ـ يعني أهل النهروان ـ دخل بغضه قلبي ، ومن دخل بغض أمير المؤمنين قلبه ، فأقل أحواله أن لا يعتمد على قوله ولا يحتج بخبره. والثاني ، قيل إنه خولط في عقله آخر عمره ، والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التمييز ، ولا ندري أن هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلط العقل ، ويحكى عنه أنه قال لبعض أصحابه : أعطني درهما اشتري به عصا ، أضرب بها الكلاب ، وهذا من أفعال المجانين. ويقال أيضا إنه كان محبوسا في بيت فكان يضرب على الباب فكلما اصطفق الباب ضحك ، فلا يمكن الاحتجاج بقوله لأن هذا دلالة الجنون عليه.

وأما الطريقة الثالثة ، هو أن يقال : إن صح هذا الخبر وسلم ، فأكبر ما فيه أن يكون خبرا من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد مما لا يقتضي العلم ، ومسألتنا طريقها القطع والثبات ، وإذا صحت هذه الجملة بطل ما يتعلقون به. ثم إن هذا الخبر معارض بأخبار رويت ، منها ما روى أبو قلابة عن أبي ذر أنه قال : قلت للنبي : هل رأيت ربك ، فقال : نور هو ، أنى أراه أي ، أنور هو؟ كيف أراه؟ فحذف همزة الاستفهام جريا

١٨٠