شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

الحاجة إنما تجوز على الأجسام

وتحرير الدلالة على أنه تعالى غني ، هو أنه حي لا تجوز عليه الحاجة فيجب أن يكون غنيا ، وهذه الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما ، هو أنه تعالى حي ، وقد تقدم. والثاني ، أنه لا تجوز عليه الحاجة. والذي يدل على ذلك أن الحاجة إنما تجوز على من جازت عليه الشهوة والنفار ، والشهوة والنفار إنما تجوز على من جازت عليه الزيادة والنقصان ، والزيادة والنقصان إنما تجوز على الأجسام ، والله تعالى ليس بجسم ، فيجب أن لا تجوز عليه الحاجة. وإذا لم تجز عليه الحاجة وجب كونه غنيا.

فإن قيل : ولم قلتم ذلك ، وما دليلكم عليه؟

أبو هاشم والشهوة والنفار

قلنا : الدليل عليه ، ما ذكره شيخنا أبو هاشم أن أحدنا إذا أدرك ما تشتهيه النفس فإنه يزداد جسمه ويصح بدنه عليه ، ولو أدرك ما تنفر طبيعته عنه فإنه يضره حتى يورثه الهزال والضعف ، وذلك دلالة دالة على أن الزيادة والنقصان من حكم الشهوة والنفار.

اعتراض أبي إسحاق بن عياش

وقد اعترض هذه الطريقة شيخنا أبو إسحاق بن عياش بأن قال : إن أحدنا قد يشتهي الطين والجبن أشد الشهوة ، ومع ذلك يضره غاية المضرة وينقص بدنه عليه ، وكذا الجماع فإنه تتعلق به الشهوة الشديدة ثم لا يوافقه ، وعلى هذا قال فيه الأطباء ما قالوه. وبالضد من ذلك ، إنه مع نفار طبعه عن الأدوية الكريهة المرة المنفرة وكراهته لها ، قد ينتفع بتناولها أشد الانتفاع وأظهره.

إلا أن أبا هاشم يمكنه الاعتذار عن ذلك ، فيقول : ليست شهوة الطين والجبن بشهوة صادقة وإنما هي شهوة كاذبة ، وأما الأدوية فإنه لا يقع بها الانتفاع وصلاح البدن بل تضر نفسه ونورثه الضعف والهزال ، ثم يصح بدنه على ما يتناوله من الأطعمة الشهية اللذيذة بعد ذلك.

إلا أن الاعتماد على هذه الطريقة غير ممكن ، لأن الجسم إنما يزداد وينقص بالأطعمة والأدوية لمجرى العادة من الله تعالى ، فكيف يجعل ذلك من حكم الشهوة والنفار.

١٤١

تغليب رأي أبي إسحاق

والطريقة المرضية المعتمدة في ذلك ، ما ذكره شيخنا أبو إسحاق بن عياش ، وهو أنه تعالى لو جازت عليه الشهوة لكان لا يخلو ، إما أن يكون مشتهيا لذاته ، أو لصفة من صفاته ، أو لمعنى ، أو لفاعل. والأقسام كلها باطلة. فليس إلا أن لا يكون مشتهيا أصلا.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون مشتهيا لذاته؟ قلنا : لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ملجأ إلى خلق المشتهيات وإلى أن يزيد فيها إلى ما لا نهاية له ، لعلمه بأنه ينتفع بها ولا مضرة عليه في الحال ولا في المآل ، وصار الحال فيه تعالى كالحال في أحدنا إذا علم أن بحضرته بدرة ولا ضرر عليه في أخذها لا في الحال ولا في المآل ، فكما أنه يكون ملجأ إلى تناولها والانتفاع بها ، كذلك القديم تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وبهذه الطريقة يعلم أنه تعالى لا يجوز أن يكون مشتهيا لما هو عليه في ذاته ، ولا بالفاعل.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون مشتهيا لمعنى؟ قلنا : لأن ذلك المعنى لا يخلو ، إما أن يكون قديما ، أو محدثا. لا يجوز أن يكون قديما ، لأن القدم صفة من صفات النفس ، والاشتراك فيها يوجب التماثل ، وهذا يوجب في ذلك المعنى أن يكون مثلا لله تعالى ولا مثل له على ما بنينه إن شاء الله تعالى. وبعد ، فكان يجب أن يكون مشتهيا فيما لم يزل ، وذلك يقتضي أن يكون ملجأ إلى خلق المشتهى ، وفي ذلك لزوم قدم العالم وقد دللنا على حدوثه. ولا يجوز أن يكون محدثا لأنه يجب أن يكون ملجأ إلى تحصيل ذلك المعنى وتحصيل المشتهى جميعا ، وصار الحال في ذلك كالحال فيمن يرى بدرة على خطا منه ، فإنه كما يكون ملجأ إلى تناولها ، يكون ملجأ إلى قطع تلك المسافة التي بينه وبينها ، كذلك في مسألتنا ، لو كان القديم تعالى مشتهيا بشهوة محدثة لكان يجب أن يكون ملجأ إلى تحصيل الشهوة والمشتهى ، وذلك محال.

وبهذه الطريقة نعلم أنه تعالى لا يجوز أن يكون نافرا ، لأنه لو كان كذلك لكان ، إما أن يستحقه ذاته ، وذلك يوجب أن يكون ملجأ إن أن لا يخلق شيئا من المنفرات التي خلقها وقد عرف خلافه ، أو يستحقها لما هو عليه في ذاته أو بالفاعل ، وذلك أيضا يوجب ما ذكرناه ، وإما أن يستحقه لمعنى ، وذلك المعنى إما أن يكون قديما وذلك يقتضي أن يكون مثلا لله تعالى أو يكون محدثا وذلك لا يصح لما ذكرناه في الشهوة.

١٤٢

الإلجاء

ولما عرض في الكلام الإلجاء تكلمنا عليه.

وجملة القول في ذلك ، أن الإلجاء على ضربين : أحدهما يكون بطريقة المنع ، والثاني بطريقة المنافع والمضار.

أما ما يكون بطريقة المنع ، فهو كأن يعلم أحدنا أنه إذا حاول استنزال الملك عن سريره ، أو الزنى بابنته بين يديه ، فإنه يمنع عن ذلك ويقتل دونه ، فإنه والحال هذه يكون ملجأ إلى أن لا يفعل ، وإما أن يكون ملجأ بطريقة المنافع والمضار ، فهو كان يعلم أحدنا أن تحت قدميه كنزا ، فإنه يكون ملجأ إلى استخراجه والانتفاع به.

ما يلزم معرفته من هذا الباب

ثم إنه رحمه‌الله بين في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة ذلك أنه يجب أن يعلم أنه تعالى كان غنيا فيما لم يزل ، ويكون غنيا فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. والكلام في ذلك مثل الكلام في كونه حيا ، لأن المرجع في كونه غنيا ليس إلا إلى كونه حيا لا تجوز عليه الحاجة. فهذه طريقة القول في هذا الفصل.

فصل والغرض به الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسمه

ومما يجب نفيه عن الله تعالى كونه جسما. وقيل الدلالة على ذلك وذكر الخلاف فيه ، نذكر حقيقة الجسم.

حقيقة الجسم

فاعلم أن الجسم ، هو ما يكون طويلا عريضا عميقا ، ولا يحصل فيه الطول والعرض والعمق إلا إذا تركب من ثمانية أجزاء ، بأن يحصل جزءان في قبالة الناظر ويسمى طولا وخطا ، ويحصل جزءان آخران عن يمينه ويساره منضمان إليهما ، فيحصل العرض ويسمى سطحا أو صفحة ، ثم يحصل فوقها أربعة أجزاء مثلها فيحصل العمق ، وتسمى الثمانية أجزاء المركبة على هذا الوجه جسما. هذا هو حقيقة الجسم في اللغة. والذي يدل عليه ، أن أهل اللغة متى شاهدوا جسمين قد اشتركا في الطول والعرض والعمق ، وكان لأحدهما مزية على الآخر قالوا : هذا أجسم من ذلك ، يدل على هذا

١٤٣

قول الفرزدق :

وأجسم ما عاد جسوم رجالهم

وأكثر إن عدوا عديدا من الترب

وقال آخر :

لقد علم الحي من عامر

بأن لنا ذروة الأجسم

وأنا المصاليت يوم الوغى

إذ ما العواوير لم تقدم

وقال يعقوب في إصلاح المنطق : تجسمت الأمر إذا ركبت أجسمه.

ولفظة أفعل إنما تستعمل في شيئين اشتركا في صفة من الصفات وكان لأحدهما مزية على الآخر ، ولهذا يقال العسل أحلى من الدبس لما اشتركا في الحلاوة وكان أحدهما أشد حلاوة من الآخر ، ولا يقال العسل أحلى من الخل لما لم يشتركا في الحلاوة أصلا. فلو لا أن الجسم عندهم هو الطويل العريض العميق وإلا لما استعملوا فيه لفظة أفعل عند الزيادة فيه.

الخلاف في هذه المسألة :

ثم إن الخلاف في هذه المسألة لا يخلو ، إما أن يكون عن طريق المعنى كأن يقول.

١ ـ عن طريق المعنى

إن الله تعالى جسم على معنى أنه طويل عريض عميق ، وأنه يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود والنزول والهبوط والحركة والسكون والانتقال من مكان إلى مكان.

٢ ـ أو طريق العبارة

وإما أن يكون عن طريق العبارة ، يجوز أن يقول : إن الله تعالى جسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ، ولا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام من الصعود والهبوط والحركة والسكون والانتقال من مكان إلى مكان ، ولكن أسميه جسما لأنه قائم بنفسه.

فإن كان خلافه من هذا الوجه ، فالكلام عليه ما ذكرناه من أن الجسم إنما يكون طويلا عريضا عميقا فلا يوصف به القديم تعالى.

١٤٤

وإن كان خلافه من طريق المعنى ، فالكلام عليه هو أنه تعالى لو كان جسما لكان محدثا ، وقد ثبت قدمه لأن الأجسام كلها يستحيل انفكاكها من الحوادث التي هي الاجتماع والافتراق والحركة والسكون ، وما لم ينفك من المحدث يجب حدوثه لا محالة.

ويمكن إيراد هذه الجملة على وجه آخر ، فنقول : لو كان الله تعالى جسما ـ ومعلوم أن الأجسام كلها متماثلة ـ لوجب أن يكون الله تعالى محدثا مثل هذه الأجسام والأجسام قديمة مثل الله تعالى ، لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل : دلوا على أن الأجسام متماثلة ليتم ما ذكرتم. قيل له : الدليل على ذلك ، هو أن الأجسام لو لم تكن متماثلة لكانت مختلفة إذ لا واسطة بينهما ، فكان يجب افتراقهما في صفة الافتراق في تلك الصفة يكشف عن الاختلاف ، ومعلوم أنها لا تفترق في صفة الافتراق فيها يكشف على الاختلاف ، فيجب أن نقضي بتماثلها.

فإن قال : ولم قلتم ذلك ، وما أنكرتم أنها افترقت في صفة الافتراق فيها ينبئ عن الاختلاف. قلنا : لأن ما يجب لهذا الجوهر في كل حال ، يجب لسائر الجواهر في سائر الأحوال ، وما يجب لهذا بشرط يجب لسائرها كذلك ، وما يصح على هذا الجوهر يصح على سائرها ، وما يستحيل على هذا الجوهر يستحيل على الكل ، فصح أنها تفترق في صفة الافتراق فيها ينبئ عن الاختلاف.

بيان ذلك ، أنه لما وجب كون الجوهر جوهرا في سائر الأحوال وجب ذلك في الجواهر كلها ، ولما وجب كونه متميزا بشرط الوجود وجب ذلك في سائر الجواهر ، ولما صح كونه كائنا في هذه الجهة بدلا من كونه كائنا في الجهة التي هو فيها صح ذلك في كل جوهر ، ولما استحال في هذا الجوهر أن يكون في هذه الجهة وفي غيرها دفعة واحدة استحال ذلك في كل جوهر ، فصح ما قلناه : من أن الجواهر لم تفترق في صفة الافتراق فيها يكشف عن الاختلاف.

فإن قيل : أليس أن بعض الأجسام أسود وبعضها أبيض ، فكيف يصح قولكم : إنها لم تفترق في صفة تنبئ عن الاختلاف ، وهل قضيتم باختلاف هذين الجسمين لافتراقهما في هذا الوجه؟ قلنا : إن هذا الافتراق ليس براجع إلى الجسمين ، وإنما يرجع إلى ما يحلهما. يبين ذلك أن الأسود ليس له بكونه أسود حال ، ولا الأبيض

١٤٥

بكونه أبيض حال ، وإنما المرجع بهما إلى حلول السواد في أحد المحلين ، والبياض في المحل الآخر ، وهذا مما لا تأثير له في اقتضاء الخلاف والوفاق. لو لا هذا وإلا كان يجب إذا انتفى عن المحلين السواد والبياض أن يصير المحلان متماثلان بعد أن كانا مختلفين ، وذلك مستحيل.

فإن قال : أليس أن بعض الأجسام تحتمل ما لا يحتمله البعض الآخر ، فإن الحي يحتمل الحياة والجماد لا يحتملها ، والقلب يحتمل الشهوة والعلم واليد لا تحتملهما ، فكيف حكمتم بتماثلهما؟

قيل له : إن الجسم يحتمل ما يحتمله لتحيزه ، والتحيز ثابت في سائر الأجسام فلا جرم ما من جسم إلا ويحتمل مثل ما يحتمله الآخر ، بل عين ما يحتمله الآخر على ما نقوله في التأليف.

فأما ما ذكرته في الجماد والحي ، فلأن الحياة تحتاج في الوجود إلى بنية مخصوصة مركبة من لحم ودم وليس كذلك الجماد ، لا لأن المحل لا يحتملهما.

وكذلك الكلام في العلم فإنه إنما لم يصلح وجوده في اليد ، لاحتياجه في الوجود إلى بنية مثل بنية القلب. يبين ذلك أنا لو قدرنا أن بنية اليد مثل بنية القلب ، أو الجماد مثل الحي ، لصح وجود هذه المعاني فيها.

الله شيء لا كالأشياء :

فإن قيل : أليس عندكم أنه تعالى شيء لا كالأشياء ، وقادر لا كالقادرين ، وعالم لا كالعالمين ، فهلا جاز أن يكون جسما لا كالأجسام؟.

قيل له : إن الشيء اسم يقع على ما يصح ما يعلم ويخبر عنه ، ويتناول المتماثل والمختلف والمتضاد ، لهذا يقال في السواد والبياض أنهما شيئان متضادان. فإذا قلنا : إنه تعالى شيء لا كالأشياء فلا يتناقض كلامنا ، لأنا لم نثبت بأول كلامنا ما نفيناه بآخره. وكذا إذا قلنا : إنه تعالى قادر لا كالقادرين ، وعالم لا كالعالمين فالمراد به أنه قادر لذاته ، وعالم لذاته ، وغيره قادر لمعنى وعالم لمعنى ، وليس كذلك ما ذكرتموه ، لأن الجسم هو ما يكون طويلا عريضا عميقا ، فإذا قلتم : إنه جسم فقد أثبتم له الطول والعرض والعمق ، ثم إذا قلتم : لا كالأجسام فكأنكم قلتم : ليس بطويل ولا عريض

١٤٦

ولا عميق ، فقد نفيتم آخرا ما أثبتموه أولا ، وهذا هو حد المناقضة ففارق أحدهما الآخر.

أحد ما يدل على أنه تعالى ليس جسما :

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسما ، هو أنه تعالى لو كان جسما لوجب أن يكون قادرا بقدرة ، والقادر بالقدرة لا يقدر على فعل الأجسام ، فكان يجب أن لا يصح من الله تعالى فعل الأجسام ، وقد عرف خلافه.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين : أحدهما : هو أنه تعالى لو كان جسما لكان قادرا بقدرة : والثاني : أن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم.

أما الذي يدل على أنه تعالى لو كان جسما لوجب أن يكون قادرا بقدرة فهو أنه لو لم يكن قادرا بقدرة لوجب أن يكون قادرا للذات ، وصفة الذات ترجع إلى الآحاد والأفراد دون الجمل ، من حيث أنها هي الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق ، وذلك يرجع إلى كل جزء منه ، فكان يجب أن يكون كل جزء منه قادرا ، وأن يكون بمنزلة أحياء قادرين ضم بعضهم إلى بعض ، وهذا يقتضي أن لا يحصل الفعل بداع واحد بل يحصل بدواع كثيرة مختلفة وأن يقع بينهم التمانع ، والمعلوم خلاف ذلك.

وبهذه الطريقة يعلم أن الواحد منا لا يجوز أن يكون قادرا لذاته.

ويمكن سلوك طريقة أخرى في الواحد منا ، فيقال : إنه حصل قادرا مع جواز أن لا يحصل قادرا والحال واحدة والشرط واحد ، فلا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل قادرا وإلا لم يكن بأن يحصل على هذا الوجه أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى هو القدرة ، فهذا هو الكلام في أنه تعالى لو كان جسما لكان قادرا بقدرة.

وأما الكلام في أن القادر بالقدرة لا يقدر على فعل الأجسام ، فهو أنه لو صح منه بما فيه من القدرة فعل الأجسام ، لصح منا أيضا بما فينا من القدرة ، لأن القدر وإن اختلفت فمقدوراتها متجانسة ، حتى ما من قدرة يصح أن يفعل بها جنس إلا وغيرها من القدر يصح ذلك الجنس بها ، فيلزم في الواحد منا أن يخلق لنفسه ما شاء من الأموال والأولاد ، والمعلوم خلاف ذلك.

ومما يدل على أن القادر بالقدرة لا يصح منه فعل الجسم ، هو أن القادر بالقدرة

١٤٧

لا يصح منه الفعل إلا على وجه المباشرة أو التوليد ، ولا يصح فعل الجسم على هذين الوجهين ، فليس إلا أنه لا يقدر على فعل الجسم أصلا.

فإن قيل : ولم قلتم إن القادر بالقدرة لا يقدر على الفعل إلا على هذين الوجهين؟.

الوجوه التي يصح أن يفعل عليها الفعل :

قلنا : لأن الوجوه التي يصح أن يفعل عليها الفعل لا تعدو وجوها ثلاثة : الاختراع ، والمباشرة ، والتوليد.

أما الاختراع ، فلا شك أن القادر بالقدرة لا يقدر عليه ، لأنه إيجاد فعل متعد عنه من غير سبب ، وهذا لا يتأتى من القادرين بالقدرة ، إذ لو صح ذلك لصح من أحدنا أن يمنع غيره من التصرفات من غير أن يماسه ، أو يماس ما ماسه والمعلوم خلافه.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يفعل الجسم على وجه المباشرة؟

قلنا : لأن المباشرة هو أن يفعل الفعل مبتدأ بالقدرة في محلها ، فلو فعل الجسم بهذه الطريقة لزم حلول الجسم في الجسم ، وذلك محال.

فإن قال : لم لا يفعل الجسم بطريقة التوليد؟ قلنا : التوليد على ضربين ، أحدهما : أن يكون متعديا عن محل القدرة ، والآخر لا يكون متعديا ، فإن لم يتعد عن محل القدرة لزم ما ذكرناه في المباشر ، وإن كان متعديا عن محل القدرة فالذي يتعدى به الفعل عن محل القدرة ليس إلا الاعتماد ، والاعتماد مما لا خطر له في توليد الجسم.

فإن قال : ولم قلتم ذلك؟ قلنا : لأن الاعتماد لو كان يولد الجسم لوجب إذا اعتمد أحدنا في سمت أن يملأها جواهر وأجساما ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : إنه يحصل عن اعتماداته الأجسام ، إلا أنها تتبدد وتتلاشى فلا ترى.

قلنا : فيجب على هذا أن أحدنا إذا أدخل يده في زق وسد رأسه عليها ، ثم يعتمد أن يمتلئ الزق فينتفخ كما لو نفخ فيه ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل : إن أحدنا يقدر على فعل الجسم ، غير أنه لا يتأتى منه لمنع ، وهو كون الجهات مشغولة الجواهر ، فإن العالم ممتلئ جواهر. قلنا : لو كان الأمر كما ذكرتم

١٤٨

لوجب أن يتعذر علينا التصرف البتة حتى لا يمكننا تحريك أيدينا ، والمعلوم خلاف ذلك فليس إلا أن في العالم خلاء على ما نقوله.

فإن قيل : ما أنكرتم أن أحدنا إنما لا يمكن فعل الجسم لمنع آخر؟ قلنا : لا منع إلا ويصح ارتفاعه ، فكان يجب صحة أن يفعل الجسم في بعض الحالات لارتفاع ذلك المنع ، وقد عرف خلافه. فهذا هو الكلام على من خالف من جهة المعنى.

الخلاف في المسألة عن طريق العبارة.

وأما من خالف من جهة العبارة ، فقال : إنه تعالى جسم على معنى أنه قائم بذاته ، فقد مر من الكلام عليه شطر ، والذي نذكره هاهنا هو أنهم يستعملون من هذه اللفظة لفظة أفعل ، ولفظة أفعل إنما تستعمل فيما يقبل التزايد ، وكونه قائما بذاته مما لا يقبل التزايد لأن المرجع به إلى أنه لا يحتاج في وجوده إلى غيره ، وهذا نفي ، والنفي لا يصح دخول التزايد فيه ، وهذه طريقة معتمدة ، والأولى من هذه الطريقة والأحسم للشغب أن نقول : إن الجسم هو الطويل العريض العميق ، ولا يجوز أن يسمى بذلك إلا من كان طويلا عريضا عميقا ، والله تعالى ليس كذلك ، فلا يجوز وصفه به.

الشبه : سمعية ، عقلية.

وللمخالف في هذا الباب شبه من جهة السمع والعقل.

الشبه العقلية :

أما شبههم من جهة العقل :

قالوا : قد ثبت أنه تعالى عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا جسما ، دليله الشاهد. وربما يغيرون العبارة فيقولون : إن من صح أن يعلم ويقدر مفارق لمن لا يصح أن يعلم ويقدر مفارقة الجسم للعرض. والقديم تعالى ممن يصح أن يعلم ويقدر ، فيجب أن يكون جسما.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الواحد منا إذا كان عالما قادرا يجب أن يكون جسما لعلة ، تلك العلة مفقودة في حق القديم تعالى ، وهو أن أحدنا عالم بعلم وقادر بقدرة. والعلم والقدرة يحتاجان في الوجود إلى محل مبني مبنية مخصوصة ، والمحل المبني على هذا الوجه لا بد من أن يكون جسما ، وليس كذلك القديم تعالى

١٤٩

لأنه عالم لذاته ، قادر لذاته ، فلا يجب إذا كان عالما قادرا أن يكون جسما.

ثم يقال لهم : الواحد منا إذا كان عالما قادرا كما يجب أن يكون جسما ، يجب أن يكون ذا قلب وضمير ، وأن يكون مركبا من لحم ودم ، فقولوا مثله في القديم تعالى ، والقوم لا يقولون بذلك.

شبهة أخرى لهم في المسألة ، وهو أنهم قالوا : المعقول إما الجسم وإما العرض والقديم تعالى يستحيل أن يكون عرضا ، فيجب أن يكون جسما. قلنا : ما تعنون بالمعقول؟ فإن أردتم المعلوم ، ففيه وقع النزاع وهلا جاز أن يكون هاهنا ذات معلوم مخالف للأجسام والأعراض وهو القديم تعالى. وإن أردتم به ما يمكن اعتقاده ، فهو نفس التنازع فيه أيضا. وهلا جاز أن يكون هاهنا ذات يمكن اعتقاده ولا يكون جسما ولا عرضا وهو الله تعالى.

فإن قيل : إنا نعني بالمعقول ما قد شوهد نظيره ، قلنا : وهلا جاز أن يكون هاهنا ذات لم يشاهد نظيره قط وهو الله تعالى. ثم يقال لهم ألستم قد أثبتم الحياة والقدرة وإن لم تشاهدوا نظيرا قط ، فهلا جاز مثله في مسألتنا؟ هذا هو الكلام في شبههم من جهة العقل.

الشبه السمعية :

وأما شبههم من جهة السمع فكثيرة.

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

منها : قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] قالوا الاستواء إنما هو القيام والانتصاب ، والانتصاب والقيام من صفات الأجسام ، فيجب أن يكون الله تعالى جسما.

والأصل في الجواب عن ذلك أن يقال لهم : أولا إن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن ، لأن صحة السمع موقوفة عليها ، لأنا ما لم نعلم القديم تعالى عدلا حكيما لا نعلم صحة السمع ، وما لم نعلم أنه غني لا تجوز عليه الحاجة لا نعلمه عدلا ، وما لم نعلم أنه ليس بحسم لا نعلمه غنيا ، فكيف يمكن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، وهل هذا إلا استدلال بالفرع على الأصل؟ وذلك محال من وجه آخر ، هو أنا ما لم نعلم به عالما لذاته لا نعلمه عدلا ، والجسم يستحيل أن يكون

١٥٠

عالما لذاته. ثم يقال لهم : الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء والغلبة ، وذلك مشهور في اللغة. قال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

وقال آخر :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

فالحمد للمهيمن الخلاق فإن قالوا : إنه تعالى مستول على العالم جملة ، فما وجه تخصيص العرش بالذكر؟ قلنا : لأنه أعظم ما خلق الله تعالى فلهذا اختصه بالذكر.

وقد قيل : إن العرش هاهنا بمعنى الملك ، وذلك ظاهر في اللغة يقال : ثلّ عرش بني فلان ، أي إذا زال ملكهم. وفيه يقول الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلت عروشهم

وأودت كما أودت حمير

(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي).

وقد تعلقوا أيضا بقوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) قالوا : فأثبت لنفسه العين ، وذو العين لا يكون إلا جسما.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن المراد به لتقع الصنعة على علمي ، والعين قد تورد بمعنى العلم ، يقال جرى هذا بعيني أي جرى بعلمي. ولو لا ما ذكرناه وإلا لزم أن يكون لله تعالى عيون كثيرة ، لأنه قال : «بأعيننا» والعلوم خلاف ذلك.

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ).

وقد تعلقوا بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قالوا : فأثبت لنفسه الوجه ، وذو الوجه لا يكون إلا جسما.

وجوابنا عن هذا ، أن المراد به كل شيء هالك إلا ذاته أي نفسه ، والوجه بمعنى الذات مشهور في اللغة ، يقال : يقال : وجه هذا الثوب جيد ، أي ذاته جيدة وبعد ، فلو كان الأمر على ما ذكروه ، للزم أن ينتفي كل شيء منه إلا الوجه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

١٥١

(لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ).

وقد تعلقوا أيضا بقوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) [ص : ٧٥] ، قالوا فأثبت لنفسه اليدين ، وهذا يدل على كونه جسما.

والجواب عنه أن البدن هاهنا بمعنى القوة ، وذلك ظاهر في اللغة ، يقال : ما لي على هذا الأمر يد ، أي قوة. فإن قالوا فما وجه التشبيه إذا؟ قلنا : إن ذلك مستعمل في اللغة ، قال الشاعر :

فقالا شفاك الله والله ما بنا

لما حملت منك الضلوع يدان

على أمن عادتهم وضع المثنى مكان المفرد ، وعلى هذا قال الشاعر :

فإن بخلت سدوس بدرهميها

فإن الريح طيبة قبول

وقال أبو وهب ، الوليد بن عقبة :

أرى الجزار يشحذ شفرتيه

إذا هبت رياح أبي عقيل

وإنما أراد شفرته ، ولكن ثنى.

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ).

وقد تعلقوا أيضا بقوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] قالوا : فأثبت لنفسه اليد وذو اليد لا يكون إلا جسما.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن اليد هاهنا بمعنى النعمة ، وذلك ظاهر في اللغة ، يقال : لفلان علي منة ، أي منة ونعمة. فإن قيل فما معنى التثنية؟ قلنا : قد أجبنا عن ذلك.

(يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ).

وقد تعلقوا أيضا بقوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] قالوا : وذو الجنب لا يكون إلا جسما.

والجواب عنه ، أن الجنب هاهنا بمعنى الطاعة ، وذلك مشهور في اللغة. وعلى هذا يقال : اكتسب هذا الحال في جنب فلان ، أي في طاعته وخدمته.

١٥٢

(وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ).

وقد تعلقوا أيضا بقوله تعالى : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] قالوا : وذو اليمين لا يكون إلا جسما.

وجوابنا أن اليمين بمعنى القوة ، وهذا كثير ظاهر في اللغة ، وعلى هذا قال الشاعر :

رأيت عرابة الأوسي يسمو

إلى العلياء منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ).

وقد تعلقوا أيضا بقوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] قالوا وذو الساق لا يكون إلا جسما.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنه لا يقر لكم بالظاهر لأنه لم يضف الساق إلى نفسه ، فنقول : المراد به الشدة ، يبين ذلك أنه تعالى يصف هول يوم القيامة وشدته جريا على عادة العرب ، فهو بمنزلة قولهم قامت العرب على ساقها.

(وَجاءَ رَبُّكَ).

وقد تعلقوا بقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] قالوا : فالله تعالى وصف نفسه بالمجيء ، والمجيء لا يتصور إلا من الأجسام.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنه تعالى ذكر نفسه وأراد غيره جريا على عادتهم في حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، كما قال عزوجل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يعني أهل القرية. وقال في موضع آخر : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] أي إلى حيث أمرني ربي.

ما يلزم المكلف معرفته :

ثم إن رحمه‌الله بين ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة القول في ذلك ، أن الذي يلزمه أن يعلم ، أنه تعالى لم يكن جسما فيما لم يزل ، ولا يكون كذلك فيما لا يزال ، ولا يجوز أن يكون على هذه الصفة بحال من الأحوال.

١٥٣

والذي يدل على ذلك ، هو أن ما دل على استحالة كونه جسما الآن ثابت في جميع الحالات فيجب استحالة كونه جسما في سائر الحالات فهذه طريقة القول في ذلك.

فصل : لما بين رحمه‌الله الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون جسما بين استحالة كونه عرضا ، ونحن نبين أولا حقيقة العرض.

حقيقة العرض في اللغة :

اعلم أن العرض في أصل اللغة هو ما يعرض في الوجود ولا يطول لبثه سواء كان جسما أو عرضا ، ولهذا يقال للسحاب عارض ، قال الله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] أي ممطرنا ، ولا بد من هذا التقدير لأن صفة النكرة نكرة ، وقيل : الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر ، هذا في أصل اللغة.

في الاصطلاح :

وأما في الاصطلاح ، فهو ما يعرض في الوجود ولا يجب لبثة كلبث الجواهر والأجسام ، وقولنا ولا يجب لبثه كلبث الجواهر والأجسام ، احتراز عن الأعراض الباقية فإنها تبقى ، ولكن لا على حد بقاء الأجسام والجواهر لأنها تنتفي بأضدادها ، والجواهر والأجسام باقية ثابتة.

وإذ قد عرفت هذا ، فالذي يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون عرضا هو أنه لو كان كذلك ، لكان لا يخلو ، إما أن يكون شبيها بالأعراض جملة وذلك يقتضي كونه على صفات متضادة وذلك محال ، أو يكون شبيها ببعضها دون بعض وذلك يقتضي أن يكون القديم تعالى محدثا مثلها أو هي قديمة مثل الله تعالى ، وكلا القولين فاسد لأنا قد بينا قدم القديم وحدوث الأعراض.

وإن شئت قلت : الأعراض على ضربين : باق ، وغير باق. ولا يجوز أن يكون القديم تعالى من قبيل ما لا يبقى لما قد مر من قبل ، ولا أن يكون من قبيل ما يبقى لأنه ما من شيء منها إلا وهو مختص بحكم ، وذلك الحكم مستحيل على الله تعالى.

وإن شئت ، قلت : الأعراض على ضربين : مدرك ، وغير مدرك. لا يجوز أن يكون القديم تعالى من قبيل المدركات لما سنبينه من بعد إن شاء الله تعالى ، ولا أن يكون من قبيل ما لا يدرك لأنه ما من شيء منها إلا وهو مختص بحكم ، ذلك الحكم

١٥٤

مستحيل على الله تعالى.

وإن شئت ، قلت : الأعراض على ضربين : علة ، والآخر ليس بعلة ، والقديم تعالى لا يجوز أن يكون من قبيل العلل لما بيناه من قبل ، ولا أن يكون من القبيل الآخر ، لأنه ما من شيء منها إلا وهو مختص بصفة ، تلك الصفة مستحيلة على الله تعالى.

وتحقيق ذلك ، أن يقال : قد ثبت حدوث الأعراض جملة ، وصح أن الله تعالى قديم ، فكيف يكون عرضا؟ وذكر السيد الإمام أن هذا الجنس ليس بمعتمد.

ما يلزم المكلف معرفته :

ثم إنه رحمه‌الله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة القول فيما يلزم ذلك ، أن يعلم أن الله تعالى لم يكن عرضا فيما يزل ، ولا يكون عرضا فيما لا يزال ، ولا يجوز أن يكون على هذه الصفة بحال من الأحوال. والذي يدل على ذلك ، أن ما دل على استحالة كونه عرضا الآن ثابت في جميع الأحوال ، ولا يجوز أن يكون عرضا في وقت من الأوقات فهذه طريقة القول فيه.

فصل : في نفي الرؤية

نفي الرؤية :

وما يجب نفيه عن الله تعالى الرؤية.

وهذه مسألة خلاف بين الناس. وفي الحقيقة ، الخلاف في هذه المسألة إنما يتحقق بيننا وبين هؤلاء الأشعرية الذين لا يكيفون الرؤية ، فأما المجسمة فهم يسلمون أن الله تعالى لو لم يكن جسما لما صح أن يرى ، ونحن نسلم لهم أن الله تعالى لو كان جسما لصح أن يرى ، والكلام معهم في هذه المسألة لغو.

يصح الاستدلال بالجمع والعقل فيها.

ويمكن أن نستدل على هذه المسألة بالعقل والسمع جميعا ، لأن صحة السمع لا تقف عليها ، وكل مسألة لا تقف عليها صحة السمع فالاستدلال عليها بالسمع ممكن. ولهذا جوزنا الاستدلال بالسمع على كونه حيا ، لما لم تقف صحة السمع عليها ، يبين

١٥٥

ذلك ، أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعا حكيما ، وإن لم يخطر بباله أنه هل يرى أم لا ، ولهذا لم نكفر من خالفنا في هذه المسألة ، لما كان الجهل بأنه لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته. ولهذا جوزنا في قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٤٣] أن يكون سؤال موسى عليه‌السلام سؤالا لنفسه ، لأن المرئي ليس له بكونه مرئيا حالة وصفة. وعلى هذا لم نجهل شيخنا أبا علي بالأكوان حيث قال إنها مدركة بالبصر.

إذا ثبتت هذه الجملة فاعلم أنه رحمه‌الله بدأ بالاستدلال على هذه المسألة بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٠٣)) [الأنعام : ١٠٣] ووجه الدلالة في الآية ، هو ما قد ثبت من أن الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر ، ونجد في ذلك تمدحا راجعا إلى ذاته ، وما كان من نفيه تمدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.

فإن قيل : ولم قلتم إن الإدراك إذا اقترن بالبصر لم يحتمل إلا بالرؤية؟ قلنا : لأن الرائي ليس بكونه رائيا حاله زائدة على كونه مدركا ، لأنه لو كان أمرا زائدا عليه لصح انفصال أحدهما عن الآخر إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول ، والمعلوم خلافه.

وبعد : فإن الإدراك إذا أطلق يحتمل معاني كثيرة ، فقد يذكر ويراد به البلوغ ، يقال : أدرك الغلام أي بلغ الحلم ، وقد يذكر ويراد به النضج والإيناع ، يقال : أدرك الثمر إذا أينع ، فأما إذا قيد بالبصر فلا يحتمل إلا الرؤية على ما ذكرناه ، وصار الحال فيه كالحال في السكون فإنه إذا قرن بالنفس لا يحتمل إلا العلم ، وإن احتمل بإطلاقه شيئا آخر.

يبين ما ذكرناه ، أنه لا فرق بين قولهم أدركت ببصري هذا الشخص وبين قولهم رأيت ببصري هذا الشخص ، ورأيت ببصري هذا الشخص ، أو أبصرت ببصري هذا الشخص ، حتى لو قال أدركت ببصري وما رأيت ، أو رأيت وما أدركت ، لعد مناقضا.

ومن علامات اتفاق اللفظين في الفائدة ، أن يثبتا في الاستعمال معا ويزولا معا ، حتى لو أثبت بأحدهما ونفي بالآخر لتناقض الكلام ، وبهذه الطريقة نعلم اتفاق الجلوس والقعود في الفائدة وغيرها من الأسامي.

فإن قيل : كيف يصح قولكم إن من علامات اتفاق اللفظتين في الفائدة أن يثبتا في

١٥٦

الاستعمال معا ويزولا معا ، ومعلوم أن الإرادة والمحبة واحدة ثم يستعمل أحدهما حيث لا يستعمل الآخر ، فيقال : أحب جاريتي ولا يقال : أريدها ، قلنا : كلامنا فيما إذا استعملا حقيقة ، وهذا فقد استعمل مجازا ، وحقيقته أحب الاستمتاع بها ، فلا جرم يجوز أن يقول : أريد الاستمتاع بها ، وصار الحال فيما ذكرناه كالحال في الغائط فإنه المكان المطمئن في الأصل ، ثم يتجوز به في الكتابة عن قضاء الحاجة ، ولا يستعمل بدله المكان المطمئن في الكتابة عن قضاء الحاجة لما كان ذلك الاستعمال على سبيل التوسع والمجاز لا على وجه الحقيقة ، كذلك هاهنا.

فإن قيل : أليس أنهم يقولون : أدركت ببصري حرارة الميل ، فكيف يصح قولكم : إن الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية؟ قلنا : ليس هذا من اللغة في شيء وإنما اخترعه ابن أبي بشر الأشعري ليصحح مذهبه به ، إذ لم يرد في كلامهم لا المنظور ولا المنثور.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن هذه الباء إذا دخلت على الأسامي أفادت أنها آلة فيما دخلت فيه ، كقولهم مشيت برجلي وكتبت بقلمي. والبصر ليس بآلة في إدراك الحرارة إذ الخيشوم يشاركه في ذلك ، فلو كان آلة فيه لم يجز ذلك. ألا ترى أن البصر لما كان آلة في الرؤية لم يشاركه فيه آلة السمع وغيره من الحواس ، كذلك كان يجب مثله في مسألتنا.

على أنا لم نقل : إن الإدراك إذا قرن بالبصر ، وقيد بالحرارة فإنه لا يفيد إلا الرؤية ، حتى يكون هذا نقضا لكلامنا ، وإنما قلنا : إنه إذ اقترن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية ، فلا يتوجه هذا على ما قلناه.

فإن قيل : ولم قلتم إن هذه الآية وردت مورد التمدح؟ قلنا : لأن سياق الآية يقتضي ذلك. وكذلك ما قبلها وما بعدها ، لأن جميعه في مدائح الله تعالى ، وغير جائز من الحكيم أن يأتي بجملة مشتملة على المدح ثم يخلطها بما ليس بمدح البتة ، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحدنا : فلان ورع تقي نقي الجيب مرضي الطريقة أسود يأكل الخبز يصلي الليل ويصوم النهار ، لما لم يكن لكونه أسود يأكل الخبز تأثير في المدح.

يبين ذلك ، أنه تعالى لما بين تميزه عما عداه من الأجناس بنفي الصاحبة والولد بين أنه يتميز عن غيره من الذوات بأن لا يرى ويرى. وبعد ، فإن الأمة اتفقوا على أن

١٥٧

الآية واردة مورد التمدح فلا كلام في ذلك ، وإنما الكلام في جهة المدح.

الأقوال في التمدح بعدم الرؤية.

فمنهم من قال : إن التمدح هو بأن القديم عزوجل لا يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة على ما نقوله ، ومنهم من قال إن التمدح هو بأن لا يرى في دار الدنيا ، ومنهم من قال إن التمدح هو بأن لا يرى بهذه الحواس وإن جاز أن يرى بحاسة أخرى. فصح أن الآية واردة مورد التمدح على ما ذكرناه ، ولا تمدح إلا من الجهة التي نقولها.

التمدح لا يقع لكونه لا يرى :

فإن قيل : وأي مدح في أنه لا يرى القديم تعالى وقد شاركه فيه المعدومات وكثير من الموجودات؟ قلنا : لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى ، وإنما يقع التمدح بكونه رائيا ولا يرى ، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحا ثم بانضمام شيء آخر إليه يصير مدحا ، وهكذا فلا مدح في نفي الصاحبة والولد مجردا ، ثم إذا انضم إليه كونه حيا لا آفة به صار مدحا. وهكذا فلا مدح في أنه لا أول له ، فإن المعدومات تشاركه في ذلك ، ثم يصير مدحا بانضمام شيء آخر إليه وهو كونه قادرا عالما حيا سميعا بصيرا موجودا ، كذلك في مسألتنا.

وحاصل هذه الجملة ، أن التمدح إنما يقع لما تقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات ، والبينونة لا تقع إلا بما نقوله ، لأن الذوات على أقسام ، منها ما يرى ويرى كالواحد منا ، ومنها ما لا يرى ولا يرى كالمعدومات ، ومنها ما يرى ولا يرى كالجماد ، ومنها ما لا يرى ويرى كالقديم سبحانه وتعالى. وعلى هذا الوجه صح التمدح بقوله : وهو يطعم ولا يطعم.

فإن قيل : إن ما ليس بمدح إذا انضم إلى ما هو مدح ، كيف يصير مدحا؟ قيل له : لا مانع من ذلك ، فمعلوم أن قوله عزوجل (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٠٠] بمجرده ليس بمدح ، ثم صار مدحا لانضمامه إلى قوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) ، وكذلك فقولنا في الله تعالى أنه موجود ليس بمدح ، ثم إذا ضممنا إليه القول بأنه لا ابتداء له صار مدحا ونظائر ذلك أكثر من أن يذكر فالمنكر له متجاهل.

فإن قيل : فلو جاز فيما ليس بمدح أن يصير مدحا بانضمامه إلى غيره لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحا بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب ، حتى يحسن أن يمدح

١٥٨

الواحد الغير بأنه جاهل قوي القلب شجاع. قيل له : إن ما وضع للنقص من الأوصاف نحو قولنا ، جاهل وعاجز وما شاكلها ، لا تختلف فائدته ، ولا تتغير حاله لا بالانضمام ولا عدم الانضمام ، بل يفيد النقص بكل حال سواء ضم إلى غيره أو لم يضم ، وليس كذلك سبيل ما ليس بمدح ولا نقص ، فإن ذلك مما لا يمتنع أن يصير مدحا بغيره على ما ذكرناه.

فإن قيل : فجوزوا أن يصير قولنا أسود مدحا ، بأن ينضم إليه قولنا عالم ، ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحا لما لم يكن مدحا في نفسه ، فإذا لم يجز أن يصير مدحا ، فكذلك لا يجوز في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] أن يصير مدحا بأن ينضم إليه قوله : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) قيل له : إنا لم نقل : إن ما ليس بمدح إذا انضم إلى ما هو مدح صار مدحا على كل حال ، بل قلنا : إن ما ليس بمدح إذا انضم إلى ما هو مدح وحصل بمجموعهما البينونة صار مدحا ، ولم تحصل البينونة بانضمام قولنا أسود إلى قولنا عالم ، بخلاف مسألتنا ، لأنه حصل هاهنا بينونة على الوجه الذي ذكرناه.

فإن قيل : وما وجه البينونة؟ قلنا وجه البينونة هو أنه يرى ولا يرى.

فإن قيل : هلا جاز أن تكون جهة التمدح هو كونه قادرا على أن يمنعنا من رؤيته؟ قلنا : هذا تأويل بخلاف تأويل سائر المفسرين ، وما هذا سبيله من التأويلات يكون فاسدا. وبعد ، فإن هذا حمل خطاب الله تعالى على غير ما تقتضيه حقيقة اللغة ومجازها ، فلا يجوز.

يبين ذلك ، أن أحدنا إذا قال : فلان لا يرى ، فإنه لا يقتضي كونه قادرا على أن يمنع من رؤيته ، لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ، فكيف يصح ما ذكر.

فإن قيل : ولم قلتم إن هذا المدح يرجع إلى الذات؟

قلنا : لأن المدح على قسمين ، أحدهما : يرجع إلى الذات والآخر ، يرجع إلى الفعل. وما يرجع إلى الذات فعلى قسمين ، أحدهما : يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا قادر عالم حي سميع بصير ، والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا لا يحتاج ولا يتحرك ولا يسكن. وأما ما يرجع إلى الفعل فعلى ضربين أيضا ، أحدهما : يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا رازق ومحسن ومتفضل والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا لا يظلم ولا يكذب.

١٥٩

إذ ثبت هذا ، فالواجب أن ننظر في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع إلى الفعل لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى ، وليس يجب في الشيء إذا لم يرى أن يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور كالمعدومات وككثير من الأعراض ، والشيء إذا لم يرى فإنما يرى لما هو عليه في ذاته ، لا لأنه يفعل أمرا من الأمور ، وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى ذاته على ما نقوله.

فإن قيل : ولم قلتم : إن ما كان نفيه مدحا راجعا إلى ذاته كان إثباته نقصا ، قيل له : لأنه لو لم يكن إثباته نقصا لم يكن نفيه مدحا ، ألا ترى أن نفي السنة والنوم لما كان مدحا كان إثباته نقصا ، حتى لو قال أحدنا : إنه تعالى ينام ، كان هذا أيضا نقصا.

وبعد ، فإنه تعالى إذا لم يرى فإنما لم يرى لما هو عليه في ذاته ، فلو رئي وجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته ، فكان نقصا.

فإن قيل : وأي نقص في أن يرى القديم تعالى ، وما وجه النقص فيه؟ قلنا : لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلا ، بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى يمدح بنفي الرؤية عن نفسه مدحا راجعا إلى ذاته ، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحا يرجع إلى الذات كان إثباته نقصا ، كفى. فإذا أردت التفصيل فلأن فيه انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته.

فإن قيل : وما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣] أي لا تحيط به الأبصار؟ ونحن هكذا نقول : قلنا : الإحاطة ليس هو بمعنى الإدراك لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها ، ألا ترى أنهم يقولون السور أحاط بالمدينة ، ولا يقولون : أدركها أو أدرك بها ، وكذلك يقولون : عين الميت أحاطت بالكافور ولا يقولون أدركته. وبعد ، فإن هذا تأويل بخلاف تأويل المفسرين ، فلا يقبل. على أنه كما لا تحيط به الأبصار فكذلك لا يحيط هو بالأبصار ، لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحد فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.

فإن قيل : لا تعلق لكم بالظاهر ، لأن الذي يقتضيه الظاهر هو أن الأبصار لا تراه ، ونحن كذلك نقول. قيل له : إنه تعالى تمدح بنفي الرؤية عن نفسه ، فلا بد من أن يحمل على وجه يقع به البينونة بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التمدح. ولا تقع البينونة بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التمدح. ولا تقع

١٦٠