شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

وهذه الطريقة لا يمكن سلوكها في القدرة والحياة ، فلا نقول : إن في العدم عجزا كما إن فيه قدرة ، ولا أن في العدم موتا كما أن فيه حياة ، لأن الموت والعجز ليسا بمعنيين فيجب أن نسلك طريقة أخرى غير هذه الطريقة ، فنقول : إن القدرة لا يصح الفعل بها إلا بعد استعمال محلها في الفعل أو في سببه ضربا من الاستعمال ، وكذلك الحياة لا يصح الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال ، وذلك يترتب على وجودها في محل.

فهذا هو الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان معدومة.

الدليل على أنه لا يستحق هذه الصفات لمعان محدثة

وأما الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان محدثة ، فهو أن المحدث لا بد له من محدث ، فلا يخلو أن يكون محدث هذه المعاني نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة. لا يجوز أن يكون محدثها غيره من القادرين بالقدرة ، لأن القادر بالقدرة لا يصح منه إيجاد هذه المعاني. وأما العلم وإن صح منه إيجاده فإنما يصح منه إيجاده لنفسه لا لغيره ، لأن القادر بالقدرة لا يفعل الفعل في الغير إلا بالاعتماد ، والاعتماد ما لا حظ له في توليد العلم ، لأنه لو صح ذلك ، لوجب في الواحد منا إذا اعتمد على صدر غيره أن يوجد هناك العلم ، ومعلوم خلافه. ولا يجوز أن يكون محدثها نفس القديم تعالى ، لأنه يجب أن يكون على هذه الصفات قبل وجود هذه المعاني ، فلو ترتب حصول هذه الصفات على وجود هذه المعاني أدى إلى أن يقف كل واحد منهما على الآخر فلا يحصلان وذلك محال.

وتفصيل هذه الجملة ، هو أن القديم تعالى لو كان قادرا بقدرة محدثة ، والمحدث لا بد له من محدث ، لكان محدثها لا يخلو ، إما أن يكون نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة. لا يجوز أن يكون غيره من القادرين بالقدرة لأن القادر بالقدرة لا يصح منه إيجاد القدرة ، على أن وجود القادرين بالقدرة يترتب على قدرة القديم تعالى ، فلو ترتبت قدرة القديم تعالى على قدرتنا لوقف كل من الأمرين على صاحبه فلا يحصلان ولا واحد منهما. ولو كان محدثها نفس القديم تعالى لوجب أن يكون قادرا قبل وجود هذه القدرة حتى يصح منه إيجادها ، ولا تصح قدرته إلا بعد هذه القدرة ، فيترتب كل واحد منهما على الآخر.

وكذلك الكلام في كونه تعالى حيا بحياة محدثة ، والمحدث لا بد له من محدث ،

١٢١

لكان ذلك المحدث لا يخلو ، إما أن يكون نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة ، لا يجوز أن يكون غيره من القادرين بالقدرة لأن القادر بالقدرة لا يصح منه إيجاد الحياة ، إذ لو صح ذلك منه لصح أن يتخذ لنفسه ما شاء من العبيد والأولاد ، والمعلوم خلافه. على أن كوننا أحياء يترتب على كونه تعالى حيا فوجب أن لا يحصلان ولا واحد منهما. وإذا كان محدثها القديم تعالى وجب أن يترتب كونه تعالى حيا على كونه قادرا ، مع أن من حق كونه قادرا أن يترتب عليه.

وهكذا الكلام في كونه موجودا.

وكونه عالما ، فقريب من هذا ، لأنه تعالى لو كان عالما بعلم محدث ، والمحدث لا بد من محدث ، لكان لا يخلو ، إما أن يكون نفس القديم تعالى ، أو غيره من القادرين بالقدرة على ما قد مر في نظائره ، ولا يجوز أن يكون نفس القديم تعالى لأنه لا بد من أن يكون عالما قبل وجود هذا العلم حتى يصح منه إيجاده ، وهذا يقتضي أن يقف كونه عالما على وجود هذا العلم من قبله ، ووجود العلم من قبله على كونه عالما ، فلا يحصلان ولا واحد منهما.

فإن قيل : ومن أين أنه تعالى لا بد من أن يكون عالما قبل وجود العلم ، حتى يصح منه إيجاده؟

قلنا : لأن العلم يجري مجرى الفعل المحكم ، لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص ، فلا يتأتى إيقاعه على ذلك الوجه إلا ممن هو عالم به.

وهذه الدلالة مبنية على أصول ، أحدها أن العلم من قبيل الاعتقاد ، والثاني ، أنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص ، والثالث ، أنه لا يقع على ذلك الوجه إلا ممن هو عالم به.

قول أبي الهذيل مخالفا القاضي : العلم غير الاعتقاد

أما الأول ، فقد خالفنا فيه شيخنا أبو الهذيل ، وقال : إن العلم جنس برأسه غير الاعتقاد.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه ، هو أن العلم لو لم يكن من قبيل الاعتقاد لصح انفصال أحدهما عن الآخر إذ لا علاقة بينهما من وجه معقول ، فكان يصح أن يكون أحدهما عالما بالشيء ولا يكون معتقدا له ساكن النفس إليه ، أو يكون معتقدا ساكن

١٢٢

النفس إليه ولا يكون عالما به ، والمعلوم خلافه. وبعد فإنه لا يخلو ، إما أن يكون من قبيل الاعتقاد على ما نقوله ، أو مخالفا له ، أو ضدا. لا يجوز أن يكون مخالفا له ، لأنه كان يجب إذا طرأ عليها الجهل أن لا ينفيهما ، لأن الشيء الواحد لا يجوز أن ينفي شيئين مختلفين غير ضدين. ألا ترى أن السواد إذا طرأ على المحل وفيه بياض وحلاوة ، فإنه ينفي البياض دون الحلاوة ولا يجوز أن يكون ضدا ، لأن الضدين لا يجوز احتمالهما معا ، فلم يبق إلا أن يكون من قبيل الاعتقاد على ما نقوله.

شبهتان لأبي الهذيل

وشبهته في هذا الباب ، شبهتان :

إحداهما ، هو أن العلم لو كان من قبيل الاعتقاد لوجب في كل اعتقاد أن يكون علما ، ومعلوم أن اعتقاد التقليد والتبخيت ليس بعلم.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنا لم نجعل مجرد الاعتقاد علما حتى يلزم ما ذكرته ، وإنما جعلنا العلم اعتقادا واقعا على وجه مخصوص ، وليس كذلك اعتقاد التقليد والتبخيت فإنه غير واقع على ذلك الوجه ، فلا يصح ما أوردته.

والشبهة الثانية ، هو أن العلم لو كان من قبيل الاعتقاد لوجب في كل عالم أن يسمى معتقدا ، ومعلوم أنه تعالى عالم ولا يسمى بذلك ، فليس إلا أن العلم جنس برأسه غير الاعتقاد على ما أقوله.

والجواب عن ذلك أن الذي ذكرته إنما وجب في الواحد منا لأنه عالم بعلم هو اعتقاد مخصوص ، فسمي معتقدا ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه عالم لذاته فلا يجوز أن يسمى معتقدا.

والأولى أن يذكر في الجواب عنه ما ذكره الشيخ أبو عبد الله البصري ، وهو أنه تعالى حاصل على مثل صفة الواحد منا في كونه معتقدا ، إلا أنه لم يجز إجراء هذا اللفظ على الله تعالى ، لأنه يوهم أن هناك قلبا وضميرا أو عقلا.

وبعد ، فإن لفظ الاعتقاد مجاز فيما استعملنا ، ويشبه بعقد الخيط ، والمجازات لا يجوز إجراؤها على الله تعالى إلا بعد توقيف وإذن سمعي ، فلهذا يوصف القديم تعالى بذلك.

١٢٣

الكلام في أن العلم إنما هو اعتقاد واقع على وجه

وأما الكلام في أن العلم إنما هو اعتقاد واقع على وجه ، وأنه لوقوعه على ذلك الوجه يصير علما ، فهو أنه لو لم يكن كذلك لكان لا يخلو ، إما أن يكون علما لجنسه وعينه ، أو لصفة جنسه ، أو لوجوده ، أو لعدمه ، أو لوجود معنى ، أو لحدوثه ، أو بالفاعل ، أو لوقوعه على وجه ما نقوله. لا يجوز أن يكون علما لجنسه وعينه على ما قاله الشيخ أبو القاسم البلخي ، لأنه لو كان كذلك لوجب في اعتقاد التقليد والتبخيت أن يكون علما لتماثلهما واشتراكهما في الجنس ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : ولم قلتم إنهما مثلان؟ قلنا. لأن موجب أحدهما مثل موجب الآخر ، والاشتراك في الموجب يقتضي التماثل.

فإن قيل : فلا جرم نقول : إن اعتقاد التقليد والتبخيت علم؟ قلنا : ذلك غير ممكن ، لأن العلم يقتضي سكون النفس ، واعتقاد التقليد والتبخيت مما لا يقتضي ذلك ، فكيف يجعل علما؟ وبهذه الطريقة يبطل قول من قلال : إنه علم لصفة جنسه ، أو لوجوده أو لحدوثه. وبعد ، فلو كان علما لحدوثه لكان يجب إذا قدرنا بقاء العلم أن ينقلب جهلا ، ومعلوم خلافه. ولا يجوز أن يكون علما لعدمه ، لأن العدم يحيل هذا الحكم ، وما أحل الحكم لا يجوز أن يؤثر فيه ويوجبه. ولا يجوز أن يكون علما لوجود معنى أو لعدم معنى ، لأن أي معنى وجد أو عدم فلا تأثير له في ذلك. ويبين ما ذكرناه أنه إذا نظر الناظر فإنه يحصل له العلم لا محالة سواء وجد ذلك المعنى أو عدم ، فلا تأثير له في ذلك. ولا يجوز أن يكون علما بالفاعل ، وإلا كان يصح منه أن يجعل اعتقاد التقليد والتبخيت علما وقد عرف خلافه. وبعد ، فكان يجب صحة أن ينظر الناظر في الدليل على الوجه الذي يدل ثم لا يحصل له العلم بأن لا يختاره ، والمعلوم خلافه. فلم يبق إلا أن يكون علما لوقوعه على وجه على ما نقوله.

الوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما كثيرة

ثم إن الوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما كثيرة.

أحدها : هو أن يقع من الناظر في الدليل على الوجه الذي يدل ، فإن الاعتقاد يصير علما لوقوعه على هذا الوجه.

والثاني : هو أن يقع من متذكر النظر والاستدلال ، وذلك كالاعتقاد الواقع من المنتبه من رقدته.

١٢٤

والثالث : هو أن يقع من العالم بالمعتقد ، وذلك كالاعتقادات الواقعة من جهة الله تعالى فينا ، فإن وقوعها من جهة العالم بمعتقدها وجه في كونها علما.

ولا خلاف في هذه الوجوه بين الشيخين.

وقد زاد شيخنا أبو عبد الله وجهين آخرين :

أحدهما : هو ما يحصل عند إلحاق التفصيل بالجملة ، وذلك كأن يعلم أحدنا مثلا قبح الظلم على الجملة ، ثم يعلمه في شيء بعينه أنه ظلم ، فيلحقه بتلك الجملة المقررة في عقله ، أن كل ظلم قبيح.

والثاني : تذكر العلم ، فإن الاعتقاد الواقع عنده يكون علما لوقوعه على هذا الوجه.

وقد خرج على مذهب أبي هاشم وجه سادس ، فقيل : لو اعتقد أحدنا تقليدا أن زيدا في الدار ، ثم بقي ذلك الاعتقاد إلى أن يشاهده فيها ، فإن ذلك الاعتقاد ينقلب علما لمقارنة هذا العلم الضروري.

إلا أن هذا إنما يستقيم على قوله إذا جوز البقاء على الاعتقاد ، وذلك عندنا لا يجوز ، لأن هذا يقتضي أن ينقلب الحسن قبيحا والقبيح حسنا ، وذلك لا يجوز ، فهذا هو الكلام في الوجوه التي يقع عليها الاعتقاد فيصير علما.

الاعتقاد لا يقع إلا ممن هو عالم

وأما الكلام في أن الاعتقاد لا يقع إلا على هذه الوجود. ولا يتأتى إلا ممن هو عالم ، فهو أنه لو لم يكن المرء عالما بالدليل على الوجه الذي يدل ، لم يولد نظره العلم ، ولا أمكنه اكتساب العلم ، هذا في الوجه الأول. وأما الوجه الثاني ، فكذلك لأنه لو لم يكتسب العلم بالنظر والاستدلال ، لم يمكن تذكر النظر والاستدلال على وجه يدعوه إلى فعل العلم. وكذلك الوجه الثالث ، فإنه لو لم يكن عالما بالمعتقد لم يكن الاعتقاد الواقع منه علما.

وأما ما زاده الشيخ أبو عبد الله البصري فظاهر أيضا ، لأنه لو لم يكن عالما بقبح الظلم على الجملة لا يمكنه إلحاق التفصيل بالجملة ، وهكذا الكلام في الوجه الثاني ، فإنه لو لم يكن عالما لم يمكنه تذكير العلم.

١٢٥

من كل هذا ثبت أن العلم اعتقاد واقع على وجه مخصوص ووقوعه على هذا الوجه لا يمكن إلا ممن هو عالم

فحصل من هذه الجملة أن العلم اعتقاد واقع على وجه مخصوص ، وأن وقوعه على هذا الوجه مما لا يمكن إلا ممن هو عالم ، إذا ثبت هذا ، فإذا كان القديم تعالى عالما بعلم محدث ، والمحدث لا بد له من محدث ، ومحدثه لا بد من أن يكون هو الله تعالى ، لزم أن لا يصح وجود هذا العلم إلا إذا كان عالما ، وأن لا يكون عالما إلا إذا كان هذا العلم ، فيترتب كل واحد منهما على الآخر ، وذلك محال.

فإن قيل : أليس أنه تعالى مريد بإرادة محدثة موجودة لا في محل من قبله ، ثم لا يجب أن يكون مريدا قبل الإرادة ، فهلا جاز أن يكون عالما بعلم محدث ولا يجب أن يكون عالما قبل وجود هذا العلم.

قلنا : فرق بين الموضعين ، لأن الإرادة جنس الفعل ، فلا تحتاج إلى قصد وإرادة ، وليس كذلك العلم ، لأنه اعتقاد واقع على وجه مخصوص لا يتأتى على ذلك الوجه من جميع القادرين ، ففارق أحدهما الآخر.

شبه المخالفين العقلية

وللمخالف في هذا الباب شبه من جملتها ، هو أنهم قالوا : لم يكن القديم تعالى عالما بوجود العالم فيما لم يزل ، ثم حصل عالما بذلك بعد إذ لم يكن عالما به ، وهذا يوجب أن يكون عالما بعلم محدث. وربما يغيرون العبارة فيقولون : إنه تعالى لم يكن عالما فيما لم يزل بأنه فاعل ، وحصل عالما بعد إذ لم يكن ، فيجب أن يكون عالما بعلم محدث على ما نقوله.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن العلم بأن الشيء سيوجد علم بوجوده إذا وجد ، بدليل أنا لو قدرنا بقاء هذا العلم ، لكان لا يخلو ، إما أن يكون متعلقا ، أو لم يكن متعلقا ، لا يجوز أن لا يكون متعلقا ، لأن ذلك يقتضي انقلاب جنسه. وإذا تعلق فلا يخلو ، إما أن يكون متعلقا بوجوده ، أو بأنه سيوجد. لا يجوز أن يكون متعلقا بأنه سيوجد لأنه موجود ، والعلم لا يتعلق بالشيء إلا على ما هو به ، فلم يبق إلا أن يكون متعلقا بوجوده على ما نقوله. فهذه شبهة عقلية والجواب عليها.

وأما شبههم من جهة السمع ، فقد تعلقوا بقوله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) [محمد : ٣١] وحتى إذا دخل على الفعل المضارع أفاد الاستقبال ،

١٢٦

وهذا يدل على أنه تعالى حصل عالما بعد إذ لم يكن عالما ، وفي ذلك ما نريده. وتعلقوا أيضا بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] قالوا فعلق التخفيف عنهم بهذا الوقت ثم عطف عليه العلم ، فيجب أن يكون عالما بعلم محدث. وتعلقوا أيضا بقوله تعالى : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] قالوا : وهذا يدل على أنه تعالى سيحصل عالما بعد إذ لم يكن.

ولنا في الجواب عن هذا طريقان اثنان :

إحداهما ، أن نقول إن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة مما لا يمكن ، لأن صحة السمع تنبني على هذه المسألة ، وكل مسألة تنبني صحة السمع عليها ، فالاستدلال عليها يجري مجرى الشيء على نفسه ، وذلك مما لا يجوز. وإنما قلنا : إن صحة السمع موقوفة على هذه المسألة ، لأننا ما لم نعلم القديم تعالى عدلا حكيما لا يمكننا معرفة السمع ، وما لم نعلم أنه تعالى عالم بقبح القبائح واستغنائه عنها لم نعلم عدله ، وما لم نعلم كونه عالما لذاته لم نعلم علمه بقبح القبائح أجمع ، فقد ترتب السمع على هذه المسألة فلا يصح الاستدلال بالسمع عليها.

والطريقة الثانية ، هي أن يقال : إن العلم قد ورد بمعنى العالم وبمعنى المعلوم ، يقال جرى هذا بعلمي أي وأنا عالم به ، وكذلك فإنه يقال هذا علم أبي حنيفة وعلم الشافعي ، أي معلومهما. وإذا ثبت هذا فقوله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) المراد به حتى يقع الجهاد المعلوم من حالكم. وقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) أي وقع الضعف المعلوم من حالكم وقوعه. وقوله : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) أي يقع العمل المعلوم وقوعه من حالكم. فهذه جملة الكلام في أنه لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان محدثة.

الكلام في أن الله لا يستحق هذه الصفات لمعان قديمة

ثم إنه رحمه‌الله عاد إلى الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يستحق هذه الصفات لمعان قديمة.

والأصل في ذلك ، أنه تعالى لو كان يستحق هذه الصفات لمعان قديمة ، وقد ثبت أن القديم إنما يخالف مخالفه بكونه قديما ، وثبت أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق بها تقع المماثلة عند الاتفاق ، وذلك يوجب أن تكون هذه المعاني مثلا لله تعالى ، حتى إذا كان القديم تعالى عالما لذاته ، قادرا لذاته ، وجب في هذه المعاني

١٢٧

مثله ، ولوجب أن يكون الله تعالى مثلا لهذه المعاني تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لأن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ، بل كان يجب أن يكون كل واحد مثلا لصاحبه ، وكان يلزمهم العلم بصفة الحياة والقدرة وغيرها ، حتى يقع الاستغناء بواحدة منها عن سائرها.

وهذه الدلالة مبنية على أصول :

أحدها ، أنه تعالى إنما يخالف مخالفه بكونه قديما.

والثاني ، أن الصفة التي تقع بها تقع المماثلة عند الاتفاق.

والثالث ، أن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك في سائر صفات الذات.

فأما الكلام في أنه تعالى إنما يخالف مخالفه بكونه قديما ، فهو أن المخالفة ليس بأكثر من أن لا ينوب غيره منابه فيما يرجع إلى ذاته ، وهذا المعنى ثابت في الله تعالى. فلا يخلو ، إما أن يكون لمجرد كونه ذاتا ، أو لصفة من الصفات. لا يجوز أن تكون المخالفة واقعة بكونه ذاتا فقط لأن غيره من الذوات يشاركه في ذلك. وإن كان بصفة من صفاته ، فلا يخلو ، إما أن يكون بصفات الأفعال والمعاني ، نحو كونه محسنا ومتفضلا ورازقا ومريدا وكارها ، أو بصفة مستحقة للذات. لا يجوز أن تقع المخالفة بصفات الأفعال لأن المخالفة كانت ثابتة فيما لم يزل ولا هذه الصفات ، فلم يبق إلا أن تقع بصفة من صفات الذات. وصفات الذات كونه قادرا عالما حيا موجودا. ثم لا يخلو ، إما أن تقع المخالفة بمجرد هذه الصفات أو بوجوبها. لا يجوز أن تقع بمجردها لأن أحدنا يشارك القديم في مجرد هذه الصفات ، فليس إلا أن تقع بوجوبها. ثم لا يخلو ، إما أن تقع بوجوب مجموع هذه الصفات ، أو بوجوب كل واحدة منها. لا يمكن أن يقال إنها تقع بوجوب مجموعها ، لأن المخالفة إنما تقع بالوجوب وهذا ثابت في كل واحد منها ، فلم يبق إلا أن تقع بوجوب كل واحدة من هذه الصفات ومن جملتها كونه موجودا ، فيجب أن تقع المخالفة بوجوبه ، وفي ذلك ما نريده لأن المرجع بالقدم ليس إلا إلى وجوب الوجود.

وأما الكلام في أن الصفة التي تقع بها المخالفة عند الافتراق ، بها تقع المخالفة عند الاتفاق ، فالذي يدل عليه السواد ، فإنه لما خالف مخالفة بكونه سوادا عند الافتراق ، ماثل مماثلة بتلك الصفة عند الاتفاق يبين. ذلك أنه لما خالف السواد

١٢٨

البياض بكونه سوادا ، ماثل السواد بهذه الصفة ، فصح ما قلناه.

وأما الكلام في أن الاشتراك في صفة من صفات الذات يوجب الاشتراك بسائر صفات الذات ، فقد ذكرناه في باب حدوث الأعراض فلا وجه لإعادته.

وإذا ثبت هذا ، فالقديم تعالى لو استحق هذه الصفات لمعان قديمة ، لوجب أن تكون مثلا لله تعالى ، وهذا يوجب إذا كان العالم تعالى عالما قادرا لذاته ، وجب أن تكون هذه المعاني أيضا قادرة عالمة وذلك محال ، وأن تكون بعض هذه المعاني بصفة البعض ، وأن يقع الاستغناء بأحدها عن الباقي ، وذلك محال ، وما أدى إليه وجب أن يكون محالا.

فإن قبل كيف يصبح هذا الالزام ، ولم يثبت لكم بعد أنه تعالى يستحق هذه الصفات لذاته ، يوضح ذلك أن الاشتراك في صفة من صفات الذات وإن أوجب الاشتراك في سائر صفات الذات ، لم يوجب الاشتراك في صفات المعاني. ألا ترى أن كل ما شارك الجوهر في كونه جوهرا فإنما يجب أن يشاركه في صفاته ، الذاتية ، نحو كونه متحيزا ، ولا يجوز أن يشاركه في صفات المعاني نحو كونه متحركا وساكنا ، كذلك في مسألتنا.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن لنا في هذا الباب مذهبين :

أحدهما ، أن نقول إن الاشتراك في صفة من صفات الذات ، وإن لم يوجب الاشتراك في صفات المعاني إلا أنه يوجب الاشتراك في صحة صفات المعاني ، حتى ما من جوهر مثلا وإلا وكما يجب أن يكون متحيزا ، يصح أن يكون متحركا وساكنا ، فهلا جوزتم أن يكون العلم مما يصح أن يعلم ويقدر ويحيا.

والطريقة الثانية ، هو أنا لم نقتصر على هذا الشق ، بل ألزمنا كم الشق الثاني فقلنا : لو كان كما ذكرتموه ، لوجب أن يكون القديم تعالى مثلا لهذه المعاني ، هذا يوجب أن يكون الله تعالى بصفة العلم والقدرة والحياة تعالى الله عن ذلك ، فيستغنى عن هذه المعاني فما ذا تنفصلون عنه.

فإن قيل : أليس من مذهبكم أنه تعالى لا يستحق كونه قديما لذاته ، فكيف أوجبتم بالاشتراك فيه التماثل والاشتراك في سائر صفات الذات؟

قلنا : لنا في هذه المسألة مذهبان :

١٢٩

أحدهما أنه تعالى يستحق هذه الصفة لذاته ، وهو مذهب أبي علي.

والثاني ، أن هذه الصفة لله تعالى من مقتضى صفة ذاته ، وهو مذهب أبي هاشم.

فعلى المذهب الأول لا كلام فيه ، وعلى المذهب الثاني فالصفة المقتضاة عن صفة الذات كصفة الذات ، فإنه بها يقع الخلاف والوفاق وأن بالاشتراك فيها يجب الاشتراك في سائر صفات تلك الذات.

ما يدل على أن الله لا يجوز أن يكون عالما بعلم

وأحد ما يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالما بعلم ، هو أن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، والصفة متى وجبت استغنت بوجوبها عن العلة.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين ، أحدهما ، هو أن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، والثاني ، أن الصفة متى وجبت بوجوبها عن العلة.

أما الذي يدل على أن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، فهو أنها لو لم تكن واجبة لكانت جائزة ، وهذا يوجب أن يكون القديم تعالى عالما بعلم محدث ، وقد أبطلنا ذلك من قبل.

وأما الذي يدل على أن الصفة متى وجبت استغنت بوجوبها عن العلة فصفة العلة ، فإنها لما كانت واجبة استغنت بوجوبها عن العلة ، فكل ما شاركها في الوجوب وجب أن يشاركها في الاستغناء عن العلة.

فإن قيل : إنما استغنت عن العلة لا لوجوبها ، بل لاستحالة قيام العلة بالعلة ، قلنا : فكان يجب أن لا يستغنى التحيز بوجوبه عن علة ، لأنه لا يستحيل قيام العلة بالمتحيز ، وقد علم خلافه.

وبعد ، فإن هذا التعليل لا يتنافى مع ما قلناه ، فيعلل الحكم بهما. وفائدة التعليل أن أيهما كان ثبت الحكم.

فإن قيل : هذا باطل بالصفة الصادرة عن الله نحو كونه متحركا ، فإنها تجب ولا يستغني عن العلة ، قلنا : هذا لا يلزمنا لوجهين ، أحدهما ، أن الجسم حصل متحركا مع الجواز لا مع الوجوب بخلاف مسألتنا ، والثاني ، أن الصفة الصادرة عن العلة لما وجبت لا جرم استغنت بوجوبها عن علة أخرى ، فقولوا مثل ذلك في مسألتنا.

١٣٠

وقد تورد هذه الطريقة على وجه آخر ، فيقال : لو كان الله تعالى عالما بعلم لكان إليه طريق ، ولا طريق إلى ذلك. فإن قال : ومن أين أنه لا طريق إليه؟ قلنا : لأن الطريق إلى إثبات العلم وغيره من العلل تجدد الصفة مع الجواز ، وهذه الصفة واجبة لله تعالى.

فإن قيل : ألستم قد عبتم على أبي القاسم البلخي اعتماده على هذه الطريقة في نفي الثاني ، فكيف اعتمد نحوها هاهنا؟ قلنا : لأن الثاني يجوز أن يثبت ولا يختار ما هو طريق إليه ، إذ الطريق إليه إنما هو فعله ، وفعله موقوف على اختياره وقصده ، بخلاف العلم لأنه علة موجبة لما هو طريق إليها ، فلا يجوز إثباته إلا وكان إليه طريق فافترقا.

تفصيل الحديث على كل صفة من صفات الله

ثم إنه رحمه‌الله فصل هذه الجملة التي أجملناها وتكلم على كل واحدة بكلام يخصه.

حي لا بحياة

وجملة القول في ذلك ، هو أنه تعالى لو كان حيا بحياة ، والحياة لا يصح الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال ، لوجب أن يكون القديم تعالى جسما ، وذلك محال.

قادر لا بقدرة

وكذلك الكلام في القدرة ، لأن القدرة لا يصح الفعل بها إلا بعد استعمال محلها في الفعل أو في سببه ضربا من الاستعمال ، فيجب أن يكون الله تعالى جسما محلا للأعراض ، وذلك لا يجوز.

عالم لا بعلم

وأما العلم ، فقد يسلك فيه طريقان اثنان :

أحدهما ، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم لكان يجب في علمه أن يكون مثلا

١٣١

لعلمنا ، وفي علمنا أن يكون مثلا لعلمه تعالى ، وهذا يوجب أن يكونا قديمين أو محدثين ، لأن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، وذلك محال.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين ، أحدهما ، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم لوجب في علمه أن يكون مثلا لعلمنا. وفي علمنا أن يكون مثلا لعلمه تعالى ، والثاني ، أن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث.

أما الأول ، فالذي يدل عليه هو أنه تعالى إذا كان عالما بعلم لا بد في ذلك العلم من أن يكون متعلقا بما تعلق به علمنا وهذا يقتضي تماثلهما. لأن العلمين إذا تعلقا بمتعلق واحد على أخص ما يمكن كانا مثلين ، بدليل أنه لو طرأ عليهما ضد لنفاهما جميعا ، والشيء الواحد لا يجوز أن ينفي شيئين مختلفين غير ضدين.

فإن قيل : هذا إنما كان يجب إذا حصلا لعالم واحد ، فأما إذا تغاير العالمان فلا ، قلنا : تغاير العالمين بهما لا يوجب افتراقهما إلا في كيفية الوجوب ، والافتراق في ذلك والاتفاق فيه مما لا حظ له في اقتضاء الخلاف والوفاق ، ولهذا صح وجود المختلفين في محل واحد ووجود المثلين متغايرين ، لأنه لا تنافي بينهما ، ولا ما يجري مجرى التنافي.

وأما الذي يدل على أن المثلين لا يجوز افتراقهما في قدم ولا حدوث ، هو ما قد ثبت أن القدم مما يقع به الخلاف والوفاق ، والصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق ، لا يجوز اتفاق المختلفين ولا افتراق المثلين فيها ، فصح ما قلناه. وباق أنه تعالى لو كان عالما بعلم لوجب في علمه أن يكون مثلا لعلمنا ، وهذا يقتضي أن يكونا قديمين أو محدثين ، وذلك محال.

والطريقة الثانية ، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم لكان لا يخلو ، إما أن يكون عالما بعلم واحد ، أو بعلوم منحصرة ، أو بعلوم لا نهاية لها. لا يجوز أن يكون عالما بعلوم لا تتناهى لأن وجود ما لا يتناهى محال ، ولا يجوز أن يكون عالما بعلوم منحصرة لأن انحصار العلوم يوجب انحصار المعلومات ، ولا أن يكون عالما بعلم واحد لأن العلم الواحد لا يجوز أن يتعلق بأزيد من متعلق واحد على طريق التفصيل ، فيجب أن لا يكون عالما بعلم أصلا.

فإن قيل : ومن أين أن العلم الواحد لا يجوز أن يتعلق بأزيد من متعلق واحد على طريق التفصيل؟ قلنا. لأن لو جاز أن يتعدى في التعلق من واحد إلى ما زاد عليه

١٣٢

ولا حاصر ، لجاز أن يتعلق بما لا نهاية له وبالشيء على ما ليس به كما يتعلق به كالاعتقاد ، وذلك محال.

وبعد فما من معلومين إلا ويصح أن يعلم أحدهما ولا يعلم الآخر ، وهذا يدل على أن العلم الواحد لا يتعلق بأزيد من متعلق واحد على طريق التفصيل.

فإن قال : كيف يصح قولكم هذا ، ومعلوم أن من عرف الفرع عرف الأصل لا محالة ، وكذلك فمن أدرك المدركات فإنه يجب أن يعلمها كلها ، حتى لا يجوز أن يعلم البعض دون البعض وهذا ينفي ما ذكرتموه؟

قيل له : أما الأول ، فلا يصح أن يعلم بعضها ولا يعلم البعض بأن يكون هناك لبس فلا يقدح ذلك فيما قلناه.

وقد تعلق المخالف في هذا الباب بشبه ، وشبههم على ضربين : أحدهما ما يستدلون به ابتداء على أنه تعالى عالم بعلم ، والثاني ما يريدون به إبطال كلامنا في أنه تعالى عالم لذاته حتى يبقى لهم أنه تعالى عالم بعلم.

استدلال المخالف على أنه عالم بعلم

فمن الضرب الأول قولهم : قد ثبت أنه عالم فيجب أن يكون عالما بعلم لأن العالم من له العلم. يبين ذلك أنا لم نر في الشاهد عالما إلا بعلم ، فكذلك في الغائب ، وصار الحال فيه كالحال في الحركة ، فكما أنا لم نر في الشاهد محتركا إلا بحركة وجب مثله أن يكون في الغائب ، كذلك في مسألتنا.

وربما قالوا : لما لم يجز أن يكون في الشاهد أسود إلا بسواد ، وجب مثله في جميع المواضع ، وكذلك فلما لم يكن الجسم فيما بيننا إلا بالطول والعرض والعمق وجب مثله في الغائب ، كذلك يجب في كونه تعالى عالما ، وهذا يقتضي صحة ما قلناه.

وربما يروون ذلك على وجه آخر ، فيقولون : إن العلم علة في كون الذات عالما ، والعلة يجب فيها الطرد والعكس ، وهذا يوجب في كل عالم أن يكون عالما بعلم ، وفي ذلك ما نريده. وصار الحال فيه كالحال في الحركة ، فكما أنها لما كانت علة في كون الجسم متحركا ، وجب فيها الطرد والعكس ، حتى وجب في كل متحرك أن يكون متحركا بحركة ، وأيضا فإن السواد لما كان علة في كون الأسود أسود ، وجب فيه الطرد

١٣٣

والعكس ، حتى وجب في كل أسود أن يكون أسود بسواد ، كذلك في مسألتنا.

وهكذا قالوا في الجسم والفاعل على ما تقدم.

والأصل في الجواب عن ذلك وهو أن يقال لهم : ما الدليل على أن أحدنا عالم بعلم حتى تقيموا عليه الغائب؟

فإن قالوا : لا خلاف بيننا وبينكم في ذلك فما وجه المنازعة؟ قلنا : لنا في هذه المنازعة غرض صحيح فدلوا عليه.

فإن قالوا : الدليل على ذلك هو أن أحدنا حصل عالما مع جواز أن لا يحصل عالما ، والحال واحدة والشرط واحد ، ولا بد من أمر ومخصص له ولمكانه حصل عالما وإلا لم يكن بأن يحصل عالما على هذا الوجه أولى من خلافه ، وليس ذلك الأمر إلا وجود معنى هو العلم.

قلنا : هذه طريقة مرضية. إلا أن هذا غير ثابت في حق القديم تعالى ، لأنه تعالى حصل عالما مع الوجوب لا مع الجواز ، فلا يمكن قياس الغائب على الشاهد والحال هذه.

فإن قالوا : الدليل على ذلك هو أن العالم حقيقة من له العلم ، قلنا : هذه شبهة مستقلة بنفسها في إثبات العلم لله تعالى ، فلو لا فساد الشبهة الأولى وإلا لما وقعت الحاجة إلى الانتقال إليها.

فإن قالوا : إن العالم مشتق من العلم ، وهذا يدل على أنه تعالى عالم بعلم.

قلنا : هذه أيضا شبهة مغررة يمكن أن تذكر في إثبات العلم لله تعالى والانتقال عن شبهة ذكرتموها إليها يؤذن بفساد تلك الشبهة.

الرد على الشبه

ثم نعود إلى الكلام على ما أوردوه من الشبه ، فنقول :

قولكم إنا لم نر في الشاهد عالما إلا بعلم فكذلك في الغائب ، هو اعتماد على مجرد الوجود وذلك مما لا يصح في مثل هذه المواضع. يبين ذلك أنكم كما لم تجدوا في الشاهد عالما إلا بعلم ، فكذلك لم تجدوه إلا جسما ذا قلب ، فاحكموا بمثله في الغائب. وأما قياسهم ذلك على المتحرك فلا يصح ، لأن الفرق بينهما هو أنه ما من

١٣٤

متحرك شاهدا كان أو غائبا إلا وقد حصل متحركا مع الجواز ، فلم يكن بد من إثبات حركة ، وليس كذلك في مسألتنا ، لأنه لا يمكن أن يقال ما من عالم إلا وقد حصل عالما مع الجواز حتى يجب إثبات العلم ، فالفرق بينهما ظاهر.

وأما ما ذكره في الأسود فأبعد ، لأن الحال في ذلك إنما يختلف من حيث أن المرجع بالأسود إلى محل حله السواد ، وكان السواد كالحقيقة في ذلك ، والحقائق لا تختلف ، بخلاف مسألتنا ، فإن العلم ليس بحقيقة في كونه عالما.

وأما ما ذكروه في الفاعل فلا يصح أيضا ، لأن الفاعل ليس له بكونه فاعلا حال ، حتى يقال إنه إنما يستحق تلك الحال لأمر دون أمر ، وليس كذلك في العالم فإن له بكونه عالما حالا. على أن وقوع الحقيقة من جهة القادر ، كالحقيقة في كونه فاعلا ، فلذلك لم يختلف ، وكذا الكلام في الجسم.

وأما ما قالوه من أن العلم علة في كون الذات عالما ، والعلة يجب فيها الطرد والعكس ، وهذا يوجب في كل عالم أن يكون عالما بعلم ، وقياس ذلك على الحركة ، فإنها لما كانت علة في كون الجسم متحركا وجب فيها الطرد والعكس ، حتى وجب في كل متحرك أن يكون متحركا بحركة ، قلنا : هذا الذي ذكرتموه لا يصح ، لأن ذلك إنما وجب في كون الجسم متحركا ، لا لأن العلة يجب فيها الطرد والعكس ، بل لأنه ما من جسم إلا وقد حصل متحركا مع جواز أن لا يحصل متحركا ، والحال واحدة والشرط واحد ، فلا بد من إثبات حركة ، وليس كذلك في مسألتنا ، لأنه لا يمكن أن يقال ما من عالم إلا وقد حصل عالما مع جواز أن لا يحصل كذلك ، لأن هذه الصفة واجبة لله تعالى ، ففارق أحدهما الآخر.

فإن قالوا : الذي يدل على ما ذكرناه ، السواد ، فإنه لما كان علة في كون الأسود أسودا اطرد وانعكس ، قلنا : هذا لا يصح ، لأن ذلك إنما وجب لا لأن السواد علة ، والعلة تطرد وتنعكس ، بل لأن المرجع بالأسود إلى محل حله السواد فلا يختلف شاهدا وغائبا. يبين ذلك ، أن الأسود ليس بكونه أسود حال حتى يعلل بوجود السواد فيه ، فيفسد ما أورده.

ومن هذا الضرب قولهم : إن العالم لا بد له من حقيقة ، فلا يخلو ، إما أن تكون حقيقته ، من يصح منه إيقاع الفعل على وجه الأحكام والاتساق على ما ذكرتموه ، وذلك ليس بصحيح ، لأن أحدنا مع كونه عالما بفعل الغير لا يصح منه إيقاعه على وجه

١٣٥

الإحكام والاتساق. فلم يبق إلا أن تكون حقيقته من له العلم على ما نقوله.

والأصل في الجواب عن ذلك ، هو أن يقال لهم : هذا توصل بالعبارات إلى المعاني ، وذلك مما لا يجوز لما سنبينه من بعد.

وبعد فما أنكرتم أن حقيقة العالم من يصح منه إيقاع الفعل محكما متسقا إذا كان قادرا عليه ، فلا يلزم على هذا فعل الغير لأنه ليس بقادر عليه ، حتى لو قدر عليه لأمكنه إيقاعه على وجه الإحكام والاتساق.

وبعد ، فلو كان حقيقة في العالم : لوجب فيمن علم أحدهما أن يعلم الأخر في الحد والمحدود ، ومعلوم أن في الناس من يعلم العالم عالما وإن لم يعلم العلم ، كالأصم ونفاة الأعراض وغيرهم ، فإنهم علموا العالم عالما وإن لم يخطر ببالهم العلم.

وعلى أنهم إذا فسروا العالم بمن له العلم ، والعلم مما يوجب كون الذات عالما ، فقد أحالوا أحد المجهولين إلى الآخر.

ومن هذا الضرب قولهم : قد ثبت أنه تعالى عالم ، والعالم مشتق من العلم ، فيجب أن يكون عالما بعلم. وصار هذا كالضارب ، فإنه لما كان مشتقا من الضرب ، وجب في كل ضارب أن يكون ذا ضرب ، كذلك في مسألتنا.

قلنا : هذا توصل بالعبارات إلى المعاني وذلك على الواجب. يبين ذلك أن الشيء يعلم أولا ثم يعبر عنه بعبارة ، وأنتم قد عكستم هذه القضية.

وبعد فلو لم يخلق الله تعالى العرب ، أو خلقهم خرسا ، أليس كان يلزمكم أن تعلموه عالما بعلم ، فبأي شيء كنتم تستدلون على ذلك والحال ما قلناه؟

وبعد ، فلو كان العالم مشتقا من العلم ، لوجب أن يسبق العلم بالمشتق منه على العلم بالمشتق ، كما في الضارب ، فإنه لما كان مشتقا من الضرب سبق العلم بالمشتق منه على العلم بالمشتق ، حتى ما لم نعلم وقوع الضرب من قبله لم نعلمه ضاربا ، فكان يجب مثل ذلك في مسألتنا.

والمعلوم أنهم لا يعرفون العلم معنى يوجب كون الذات عالما ، وإنما يستعملون هذه اللفظة في العالم مرة ، وفي المعلوم مرة أخرى. يقولون : جرى هذا بعلمي ، أي وأنا عالم به. وربما يقولون هذا علم أبي حنيفة وعلم الشافعي ، أي معلومهما ، فكيف يقال : إن قولنا عالم مشتق من العلم.

١٣٦

وبعد ، فإن هذه الطريقة توجب عليهم أن يثبتوا لله تعالى علوما كثيرة ، لأن قولنا عالم إذا أفاد العلم من طريق الاشتقاق ، فقولنا أعلم لا بد من أن يفيد زيادة العلوم والقوم لا يقولون بذلك ، لأن عندهم أن الله تعالى عالم بعلم واحد.

ومنها ، هو أن قالوا إن أحدنا إذا علم القديم تعالى عالما فلا يخلو ، إما أن يتعلق علم بذاته ، أو بمعنى سوى ذاته. لا يجوز أن يتعلق بذاته فقط ، لأن أحدنا يعلم ذاته تعالى وإن لم يعلم كونه عالما ، فليس إلا أنه متعلق بمعنى سوى ذاته ، وهو الذي نقوله.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن علمه هذا لا يتعلق بذاته تعالى فقط ، ولا بمعنى سوى ذاته ، وإنما يتعلق بذاته على الصفة ، كما نقوله في علم الواحد منا بحدوث الأجسام ، لأنه لا يتعلق بذات الجسم ، فقد كان يعلم ذاته وإن لم يعلم كونه محدثا ، ولا بمعنى سوى ذاته ، لاستحالة أن يكون المحدث محدثا لمعنى ، لأن ذلك المعنى لو كان معدوما والعدم بلا ابتداء ، فيلزم قدم المحدث وكذلك إن كان قديما ، وإن كان محدثا فقد شارك الجسم فيما له ولأجله احتاج إلى هذا المعنى ، فيجب أن يكون لمحدثا لمعنى آخر فيتسلسل.

فإن قيل : هذا يبين أن له عزوجل بكونه عالما حالا وصفة ، ونحن لا نسلم ذلك فدلوا عليه ، قلنا : الدليل على ذلك ، هو ما قد ثبت أن أحدنا يستحيل أن يكون عالما بالشيء بعلم في جزء من قبله ، وجاهلا بذلك الشيء بجهل في جزء آخر من قلبه ، فلو لا أنهما يوجبان للجملة صفتين متضادتين وإلا لما استحال ذلك.

فإن قيل : استحالة اجتماعهما لتضادهما ، قلنا : تضادهما لا يخلو إما أن يكون على الجملة ، أو على المحل. فإن كان على الجملة فهو الذي نقوله ، وإن كان على المحل فإنما يستحيل احتماله إذا كان محله واحدا ، وهاهنا قد تغاير بهما المحل فيجب صحة وجودها على الحد الذي ذكرناه ، فلما استحال ، تبينا أن ذلك من حيث يوجب كل واحد من المعنيين صفة معاكسة لما يوجبه الآخر على ما نقوله.

ومما يقولونه : إن صحة الفعل المحكم دلالة العلم ، والأدلة لا تختلف.

وجوابنا ، أنه حكم صادر عن الجملة فلا يدل على ما يختص البعض.

ومما يتعلقون به من هذا الضرب ، قولهم : إن العالم منا محتاج إلى العلم ، فلا يخلو ، إما أن يكون احتياجه إلى العلم لمجرد هذه الصفة ، أو لجوازها. لا يجوز أن يقال إن حاجته إلى العلم لجواز هذه الصفة لأن الجواز ثابت في الجاهل ، فلم يبق إلا

١٣٧

أن يكون احتياجه إلى ذلك لمجرد هذه الصفة ، ومجرد هذه الصفة ثابت في القديم تعالى ، فيجب أن يكون عالما بعلم.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن العالم منا يحتاج إلى العلم لا لمجرد هذه الصفة ولا لجوازها ، بل لتجددها مع جواز أن لا تتجدد ، وهذا غير ثابت في القديم تعالى ، فلا يجب أن يكون عالما بعلم.

ثم يقال لهم : إن الموجود منا يحتاج إلى موجود ، فلا يخلو ، إما أن يكون احتياجه إلى هذا الموجود لمجرد الصفة ، أو لجوازها. لا جائز أن يكون احتياجه إلى ذلك لجواز هذه الصفة لأن الجواز ثابت في المعدوم فلا يحتاج إلى الموجود ، فلم يبق إلا أن يكون احتياجه إلى موجد يوجده لمجرد الوجود ، وهذا ثابت في القديم تعالى فيجب أن يحتاج إلى موجد يوجده ، فكما أنهم يقولون إن الموجود منا لا يحتاج إلى موجد لمجرد هذه الصفة ولا لجوازها ، بل إنما يحتاج إلى ذلك لتجدد هذه الصفة مع جواز أن لا تتجدد ، وهذا غير ثابت في القديم تعالى ، كذلك في مسألتنا.

فهذا هو الكلام فيما استدلوا به ابتداء على أنه تعالى عالم بعلم ، والجواب عنه.

الضرب الثاني من شبههم على أنه تعالى عالم لذاته وقولهم إنه عالم بعلم

وأما الضرب الثاني من شبههم ، فنحو قولهم : أنه تعالى لو كان عالما لذاته ، لوجب أن تكون ذاته بصفة العلم ، لأن العلم إنما يتبين عما ليس بعلم بإيجابه كون الذات عالما ، حتى لو لم يوجب ذلك لم يكن علما. وربما يغيرون العبارة فيقولون : إنه تعالى لو كان عالما لمعنى ، لوجب في ذلك المعنى أن يكون بصفة العلم ، وكذلك إذا كان عالما لذاته وجب في ذاته أن تكون بصفة العلم ، وفي ذلك ما نريده.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنهم إنما يوردون هذه الشبهة لاعتقادهم الخطأ فينا ، أنا سلكنا في قولنا أنه تعالى عالم لذاته طريقة التعليل ، وجعلنا ذاته تعالى كالعلة في هذه الصفة ولا يحتاج إلى شيء آخر ، وصار الحال في ذلك كالحال في قولنا في الجوهر أنه جوهر لذاته ، على معنى أن ذاته كاف في حصول هذه الصفة وأن به يقع الاستغناء عما عداه ، فكيف يصح كلامهم.

وأما قولهم : إن العلم يتبين عما ليس بعلم بإيجابه كونه الذات عالما ، حتى أنه لو لم يوجب خرج عن كونه علما فليس بأولى من أن يعكس فيقال : إنما أوجب كون العالم عالما لكونه علما ، حتى أنه لو لم يكن علما لم يكن ليوجب هذه الصفة ، وهذا

١٣٨

يقتضي أن لا تتميز العلة عن المعلل به ، ومن شأن ما نجعله علة أن يكون متميزا من المعلل به ، بل ما قلناه أولى لأن في هذا اتباع الصفة للعلة ، وما ذكروه اتباع العلة للصفة وذلك عكس الواجب.

وأما ما قالوه من أنه لو كان عالما لمعنى لوجب في ذلك المعنى أن يكون بصفة العلم ، وكذلك إذا كان عالما لذاته وجب في ذاته أن تكون بصفة العلم ، فذلك جمع بين أمرين من غير علة تجمعهما فلا يقبل.

ثم يقال لهم : أليس أنه تعالى لو كان عالما لمعنى لكان ذلك المعنى قد أوجب الحكم لغيره ، وكان علة فيه ولم يلزم ذلك إذا كان عالما لذاته ، فكيف يصلح ما ذكرتموه ، وهل هذا إلا كأن يقال : الجوهر لو كان جوهرا لمعنى ، لكان لا بد لذلك المعنى من أن يكون على صفة من الصفات ، لها لمكانها يوجب تلك الصفة ، فكذلك الآن وهو جوهر لذاته وجب في ذاته أن يكون بصفة ذلك المعنى ، فكما أن ذلك خلف من الكلام كذلك في مسألتنا.

من شبههم السمعية

وللمخالف في هذا الباب شبه من جهة السمع ، قد تعلقوا بها قد ذكرناه ، وبعضها نذكره الآن.

ممن جملة ما لم نذكره ، تعلقهم بقوله الله سبحانه : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [النساء : ١٦٦] وقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) [الأعراف : ٧] وهذا يدل على أنه تعالى عالم بعلمه.

وربما يستدلون بالسمع على إثبات القدرة لله تعالى ، فيقولون : وإنه تعالى قال : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها) بأييد (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (١) [الذاريات : ٤٧] أي بقوته ، وقال : (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن ، لأن صحة السمع ينبني على كونه عدلا حكيما ، وكونه حكيما ينبني على أنه تعالى عالم لذاته ، فكيف يصح ذلك؟

__________________

(١) في المطبوعة (وإنا لمرسلون) وهو خطأ.

١٣٩

ثم يقال لهم : لا تعلق لكم بالظاهر لأن هذه الباءات إنما تدخل في الآلة كقولهم شيء برجلي ، وأجذب بيدي ، وكتبت بقلمي. وليس العلم بآلة فيما دخل فيه ، فلا يصح التعلق بظاهر الآية. وإذا عدلتم عن الظاهر فلستم بالتأويل أولى منا ، فنحمله على وجه آخر يوافق الدلالة العقلية ، فنقول : قوله عزوجل : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي وهو عالم به ، وقوله تعالى : (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) أي ونحن عالمون به ، وقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أي معلوماته ، والعلم قد يستعمل في العالم مرة وفي المعلوم مرة أخرى ، يقال : جرى هذا بعلمي ، أي وأنا عالم به ، ويقال : هذا علم أبي حنيفة وعلم الشافعي أي معلومها.

وأما ما ذكروه في إثبات القدرة لله تعالى فلا يصح ، لما قد تقدم من أن الاستدلال بالسمع على هذه المسألة غير ممكن.

ثم نقول : قوله تعالى (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [غافر : ٢١] لا يحوز حمله على ظاهره ، لأن الشدة والصلابة إنما تستعمل في الأجسام والله تعالى ليس بجسم ، فيجب حمله على وجه يوافق دلالة العقل ، فنقول : (هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) المراد به وصف اقتداره وأنه أقدر القادرين.

وبعد فلو صح لكم الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ، لصح لنا أيضا فنستدل بقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ). ووجه الاستدلال أنه تعالى لو كان ذا علم على ما ذكرتموه ، لوجب أن يكون فوقه من هو أعلم منه ، لأن العليم إنما يستعمل في مبالغة العالم ، وذلك محال ، فليس إلا أنه يستحيل أنه تعالى عالم بعلم ، فيحب أن يكون عالما لذاته قادرا لذاته على ما نقوله.

فصل ، لما بين رحمه‌الله الكلام فيما يستحقه تعالى من الصفات ، وكيفية استحقاقه لها ، وفرغ من الكلام في ذلك ، تكلم فيما يجب أن ينفي عنه.

نفي الحاجة عن الله

نبدأ من ذلك بكونه غنيا ، لأن الغرض به نفي الحاجة عن القديم تعالى.

وجملة القول في ذلك ، أن الغنى على ضربين : غنى على الإطلاق ، والآخر غنى لا على الإطلاق. أما الغنى على الإطلاق ليس إلا الله تعالى ، وأما الذي ليس كذلك ، فكالواحد منا لأنه لا يستغنى مطلقا وإنما يستغنى بهذا عن ذاك وبشيء عن شيء.

١٤٠