شرح الأصول الخمسة

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي

شرح الأصول الخمسة

المؤلف:

عبد الجبّار بن أحمد الهمداني الأسدآبادي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧

فصل والغرض به الكلام في أن الله تعالى عالم

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو أنه قد صح منه الفعل المحكم ، وصحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما. فإن قيل : وما المحكم من الأفعال؟ قلنا : كل فعل واقع من فاعل على وجه لا يتأتى من سائر القادرين ، وفي الأكثر إنما يظهر ذلك في التأليف ، بأن يقع بعض الأفعال إثر بعض.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين :

أحدهما ، أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم.

والثاني ، أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما.

أما الذي يدل على أنه تعالى قد صح منه الفعل المحكم ، فهو خلقه للحيوانات مع ما فيها من العجائب ، وإدارته للأفلاك وتركيب بعضها على بعض ، وتسخيره الرياح ، وتقديره الشتاء والصيف ، وكل ذلك أظهر وأبلغ في الأحكام من الكتابة المحكمة الحسنة والبيان العظيم.

فإن قيل : ما أنكرتم أن إحكام هذه الأفعال صحيحة من جهة بعض القادرين بالقدرة ، إذ الأصل في ذلك التأليف مقدور لنا؟ قلنا : نفرض الكلام في أول حي خلقه الله تعالى فيسقط الاعتراض. على أنا نعلم الآن من جهة السمع ، أن هذه الأفعال المحكمة من جهة الله تعالى ومن قبله ، لا يشاركه فيها غيره.

وأما الذي يدل على أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما ، فهو أنا وجدنا في الشاهد قادرين : أحدهما ، قد صح منه الفعل المحكم كالكاتب ، والآخر تعذر عليه كالأمي. فمن صح منه ذلك فارق من تعذر عليه بأمر من الأمور ، وليس ذلك الأمر إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه عالما ، لأن الذي يشتبه الحال فيه ليس إلا كونه ظانا ومعتقدا ، وذلك مما لا تأثير له في إحكام الفعل. ألا ترى أن أحدنا في أول ما يمارس الكتابة ويتعلمها قد يظنها ويعتقدها ثم لا يتأتى منه إيقاعها على هذا الوجه المخصوص ، فصح بهذا أن صحة الفعل المحكم دلالة كونه عالما في الشاهد ، وإذا ثبت ذلك في الشاهد ثبت في الغائب ، لأن طرق الأدلة لا تختلف غائبا وشاهدا. ويمكن أن نسأل عن هذه المفارقة وأنها لم عللت أولا ، ثم لم وجب تعليلها بأمر يرجع إلى الجملة؟ والكلام عليه ما ذكرناه في كونه قادرا ، فلا وجه لإعادته.

١٠١

سؤال حول اختلاف الغائب عن الشاهد

فإن قيل : ما أنكرتم أن صحة الفعل المحكم في الشاهد إنما دل على كون فاعله عالما لمطابقة المواضعة والعادة السابقة ، وهذا غير ثابت في حق الله تعالى لأن أفعاله تجري مجرى الابتداء ، إذ لا مواضعة بيننا وبينه ولا عادة؟ قلنا : هذا لا يصح ، لأنا قد ذكرنا أن صحة الفعل المحكم إنما يدل على كون فاعله عالما من حيث صح على أحدهما وتعذر على الآخر حتى لو صح الفعل الحكم من جميع القادرين لم يدل على كونهم عالمين. ألا ترى أن الكتابة الكثيرة كالكتابة اليسيرة في باب الإحكام. ثم إنه لم يدل على كون فاعلها عالما ، لما لم يتعذر على سائر القادرين ودلت الكتابة الكثيرة على ذلك ، لما صحت من أحدهم وتعذرت على الباحثين ، على أن مشايخنا بينوا أن في أفعال القديم تعالى ما يجري الحال فيه على طريقة واحدة ووتيرة مستمرة ، فأشبه الكتابة المحكمة. ألا ترى أنه تعالى أجرى العادة بأن لا يخلق هذه الحيوانات إلا من أجناسها ، حتى لا يخلق الجماد إلا من الجماد ، والبقر إلا من البقر ، والغنم إلا من الغنم ، وكذلك هذه الثمار لا تخلق إلا من أشجار مخصوصة بحيث لا يختلف الحال فيها ، وكذلك فلا تخلق هذه الشهوات المخصوصة إلا في الحيوانات المخصوصة ، وصار الحال في ذلك كالحال في المؤذن ، إذا أذن في أوقات مخصوصة ، لصلوات مخصوصة ، فكما أنه يدل على كونه عالما بأوقات الصلاة ، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل : لو كان الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما ، لوجب فيما ليس بمحكم من الأفعال أن يدل على كونه ليس بعالم ، ومعلوم أن في أفعال القديم ما لا يظهر فيه الإحكام والاتساق ككثير من الصور القبيحة الناقصة؟ قلنا : إن ما ليس بمحكم من الأفعال قد يوجد من العالم ، كما قد يوجد ممن ليس بعالم ، فلا يصح ما ذكرتموه ، وليس يجب إذا وجد في أفعال القديم ما لا يظهر فيه الإحكام والاتساق أن يدل على أنه ليس بعالم ، وإنما يدل على كونه قادرا فقط.

الغرض من خلق الصور القبيحة

فإن قيل : إذا كان الله تعالى قادرا على أن يخلق هذه الصور في غاية الحسن والتمام ، فما الوجه في خلقها ناقصة قبيحة؟ قلنا : الغرض حكمي.

فإن قيل : وما ذلك الغرض؟ قلنا : ليكون لطفا لنا في أداء الواجبات. يبين ذلك ويوضحه ، إن الله تعالى إذا خلقنا وأنعم علينا بضروب النعم وكلفنا الشكر عليها ، فلا

١٠٢

بد من أن يفعل بنا ما نكون عنده أقرب إلى أداء الشكر عليها. فقد خلق هذه الصور غير تامة ليدعونا إلى الشكر على النعم ، إذ المعلوم أن أحدنا إذا رأى صورة ناقصة قبيحة فإنه يكون عند ذلك أقرب إلى أداء الشكر الواجب على تحسين صورته ، وإتمام خلقه.

فإن قيل : فهل يوجد في الأفعال ما يدل على أن فاعله جاهل؟ قلنا : لا ، لأن أقصى ما يقال في هذا الفعل ، المخرمش ، فذلك كما يقع من الجاهل قد يقع أيضا من العالم.

فإن قيل : فهل يوجد من الأفعال ما يدل على أن صاحبه ليس بعالم؟ قلنا نعم ، فإنا إذا علمنا أن أحدنا قد خلص داعيه إلى إيجاد الفعل محكما متسقا ، وكانت الموانع مرتفعة زائلة ثم لا يقع ، دل على أنه غير عالم به ، إذ لو علم به لأوقعه كما يريد.

ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب

ثم إنه رحمه‌الله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة القول في ذلك ، أنه يلزمه أن يعلم أنه تعالى كان عالما فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل أو سهو ، وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح أن تعلم عليها.

أما الذي يدل على أنه تعالى كان عالما فيما لم يزل ، فهو أنه لو لم يكن عالما فيما لم يزل وحصل عالما بعد إذ لم يكن ، لوجب أن يكون عالما بعلم متجدد محدث ، وذلك فاسد لما نبينه من بعد إن شاء الله تعالى.

وأما الذي يدل على أنه جل وعز يكون عالما فيما لا يزال ، هو أنه لا يستحق هذه الصفة لذاته ، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يصح خروجه عنها بحال من الأحوال.

وأما الذي يدل على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح أن تعلم عليها ، فهو أن المعلومات غير مقصورة على بعض العالمين دون بعض فما من معلوم يصح أن يعلمه عالم إلا يصح أن يعلمه سائر العالمين ، فيجب في القديم تعالى صحة أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، وإذا صح وجب ، لأن صفة الذات متى صحت وجبت. فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

١٠٣

فصل والغرض به الكلام في أنه تعالى حي

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو ما قد ثبت أن الله تعالى عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا حيا. وبأي واحدة من الصفتين استدللت جاز ، إلا أنا جمعنا بينهما اقتداء بالشيوخ وتبركا بكلامهم.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين :

أحدهما ، أن الله تعالى عالم قادر.

والثاني أن العالم القادر لا يكون إلا حيا.

أما الأول : فقد تقدم.

وأما الثاني ، فهو أنا نرى في الشاهد ذاتين : أحدهما صح أن يقدر ويعلم كالواحد منا ، والآخر ، لا يصح أن يقدر ويعلم كالجماد ، فمن صح من ذلك فارق من لا يصح من الأمور ، وليس ذلك الأمر إلا صفة ترجع إلى الجملة وهي كونه حيا ، فإذا ثبت هذا في الشاهد ، ثبت في الغائب ، لأن طرق الدلالة لا تختلف شاهدا وغائبا.

فإن قيل : إنا نعلم هذا الحكم في الشاهد اضطرارا فكيف دللتم عليه؟ قلنا : إنا نعلم ضرورة التفرقة بين الحي والجماد ، فأما أن هذه التفرقة ترجع إلى صفة راجعة إلى الجملة فلا تعلم إلا بدليل ، ولهذا فإن نفاة الأحوال يشاركون في العلم بهذه التفرقة ، ثم لا يثبتون الحال على ما نقوله.

حول نفاة الأحوال

فإن قيل : إن من صح أن يحيا فارق من لا يصح أن يحيا ، كما أن من صح أن يعلم ويقدر فارق من لا يصح ذلك فيه ، فلو أوجبتم في هذه المفارقة أن تكون معللة بصفة ترجع إلى الجملة ، لوجب في تلك المفارقة أيضا مثله ، فإن أجبتم إلى ذلك ، لزمكم فيمن اختص بتلك الصفة إذا ما فارق من لا يختص بها ، أن تكون تلك المفارقة لصفة أخرى راجعة إلى الجملة ، والكلام فيها كالكلام في هذه فيتسلسل إلى ما يتناهى ، وهذا محال.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الذي يجب في مجرد المفارقة أن تكون معللة بأمر ما ، ثم إن ذلك الأمر ليس إلا صفة ترجع إلى الجملة ، فإنما يعرف بنظر مستأنف. وقد نظرنا في المفارقة بين من صح أن يعلم ويقدر وبين من لا يصح ذلك فيه ،

١٠٤

فوجدناها معلله بصفة راجعة إلى الجملة ، وليس كذلك المفارقة بين من صح أن يحيا وبين من لا يصح ، فإن من الممكن أن ترجع بها إلى الأمور التي تفتقر الحياة في الوجود إليها ، من التأليف والرطوبة وغيرهما.

الواحد منا حي وجسم فهل يكون الله كذلك؟

فإن قيل : الواحد منا إذا كان عالما قادرا كما يجب أن يكون حيا يجب أن يكون جسما ، فقولوا مثله في القديم تعالى. قلنا : هذا الذي ذكرتم إنما وجب في الواحد منا لعلة ، تلك العلة مفقودة في القديم تعالى ، وهي أن أحدنا عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، والعلم والقدرة يحتاجان إلى محل مخصوص ، والمحل المخصوص لا بد من أن يكون جسما ، وليس كذلك القديم تعالى ، لأنه تعالى قادر لذاته ، فلا يجب إذا كان عالما قادرا أن يكون جسما ، وإن وجب كونه حيا.

فإن قيل : فارضوا منا بمثل هذا الجواب ، فنقول : الواحد منا إذا كان قادرا عالما إنما وجب أن يكون حيا ، لأنه عالم بعلم وقادر بقدرة ، والعلم والقدرة يحتاجان إلى محل فيه حياة ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه عالم لذاته وقادر لذاته ، فلا يحتاج إلى الحياة ، ولا يجب أن يكون حيا.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن العالم القادر إنما وجب أن يكون حيا في الشاهد لتعلق بين هاتين الصفتين ، لا لما ذكرتموه. ألا ترى أن ما دخل في جملة الحي دخل في جملة العالم القادر كاليد الصحيحة ، وما خرج عن جملة الحي خرج عن جملة العالم القادر كاليد المبانة ، ولهذا تقع الكتابة باليد الصحيحة ولا تصح باليد المبانة.

فإن قيل : إن الكتابة إنما تقع باليد الصحيحة لاتصالها بجملة الحي ، وهذا غير ثابت في اليد المبانة ، لا تأثير للاتصال ولا للانفصال في ذلك ، ألا ترى أن الشعر والظفر مع اتصالها بالحي لا تصح بهما الكتابة والفعل ، فإذا لا تأثير لكونه متصلا على ما قالوه.

على أنا نفرض الكلام في اليد الشلاء ، فنقول : إنها لما خرجت عن جملة الحي لم تتأت بها الكتابة ، ولا شيء آخر لخروجها عن جملة الحي. فإذا بأن ذلك إنما هو لعلاقة بين الصفتين ، لا للاتصال وعدم الاتصال.

١٠٥

فإن قيل : فما أنكرتم أن العالم القادر في الشاهد إنما يجب كونه حيا ، لأنه عالم بعلم ، قادر بقدرة ، والعلم والقدرة معينان يرجع حكمهما إلى الجملة ، والجملة لا تعتبر إلا بالحياة ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه شيء واحد لا ثاني له فلا يحتاج إلى الحياة ، فلا يجب أن يكون حيا؟ قلنا : إنما قلنا إن العالم القادر في الشاهد إنما وجب كون حيا لتعلق بين هاتين الصفتين ، لا لما ذكرتموه.

فإن قيل : كونه عالما قادرا فرع على كونه حيا ، والاستدلال بكونه قادرا عالما عليه ، استدلال بفرع الشيء على أصله ، قلنا : إنما كان يلزم لو لم نعلم كونه عالما قادرا ما لم نعلم كونه حيا ، وليس كذلك ، فإن العلم لا يجب مطابقته للمعلوم في الترتيب ، بل ربما يطابقه كما في كونه حيا مع كونه مدركا ، وربما لا يطابقه كما في كونه قادرا مع صحة الفعل ، وكما في كونه حيا مع كونه عالما قادرا. يبين ذلك ويوضحه ، أن القديم تعالى وكونه قادرا أصل لحدوث العالم ، وحدوث العالم فرع على الله وعلى كونه قادرا ، ثم إنا نستدل بحدوث العالم على الله تعالى ، لا ذلك إلا أنه لا يجب في العلم أن يكون مطابقا للمعلوم في الترتيب.

فإن قيل : إن الواحد منا إذا كان حيا كما صح أن يكون عالما قادرا ، يصح أن يكون مشتهيا ونافرا ، فجوزوا مثل ذلك في الغائب وإلا فما الفرق؟ قلنا : الفرق أن كونه حيا إنما يصحح كونه مشتهيا ونافرا بشرط جواز الزيادة والنقصان عليه ، والزيادة والنقصان لا يجوزان على الله تعالى ، فلا يجب إذا كان حيا صحة أن يكون مشتهيا ونافرا. وليس كذلك في كونه قادرا وعالما ، لأن كونه حيا إنما نصححهما لا بشرط ، ففارق أحدهما الآخر ، وجرى ما ذكرته مجرى أن يقال : إذا كان الله تعالى حيا لزمه صحة أن يكون جاهلا ، لأن كونه حيا كما يصحح كونه عالما يصحح كونه جاهلا ، فكما أنا نقول إن كونه حيا إنما يصحح كونه جاهلا بشرط أن لا يجب كونه عالما ، فهذا الشرط مفقود في حق القديم تعالى ، كذلك في مسألتنا.

فإن قيل : هذا كله ينبني على أن كونه حيا صفة زائدة على كونه قادرا ، والمخالف لا يساعدكم عليه ، فبينوا ذلك وإلا كنتم مستدلين بالشيء على نفسه ، قيل له : إن الذي يعرف به اختلاف الصفتين لا يعدو أحد أمور ثلاثة ، إما الإدراك على مثل ما نقوله في السواد والبياض أنهما مختلفين لأن الإدراك يقتضي اختلافهما ، وإما الوجدان من من النفس ، وإما اختلاف الحكمين على مثل ما نقوله في كونه قادرا وعالما فإنه لما

١٠٦

كان من حكم كونه قادرا صحة الفعل ومن حكم كونه عالما صحة الفعل على وجه الإحكام والاتساق وهما مختلفان علمنا باختلافهما اختلاف الصفتين. إذا ثبت هذا ، ومعلوم أن حكم كونه قادرا صحة الفعل ، وحكم كونه حيا صحة الإدراك ، وهما مختلفان ، وجب في الصفتين أيضا أن تكونا مختلفتين ، ولا يمكن معرفة اختلافهما إلا بهذه الطريقة ، إذ الإدراك لا يتناولهما ولا هما يوجدان من النفس.

فإن قيل : إن هذين الحكمين على اختلافهما يرجعان إلى صفة واحدة وهي كونه قادرا ويستندان إليها ، كما أن صحة إدراك الجوهر بحاستين واحتمال الأعراض ومنعه مثله أن يحصل بحيث هو مستند إلى صفة واحدة وهي التحيز ، وإن كانت الأحكام مختلفة.

قلنا : هذا غير صحيح وذلك لأن أحد الحكمين ينبئ عن صفة مختلفة في الذوات وهي صحة الفعل ، والحكم الآخر ينبئ عن صفة متماثلة وهي صحة الإدراك ، فلو كان المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة. لوجب في الصفة وهي واحدة أن تكون مختلفة متماثلة في الذوات ، وهذا لا يجوز.

يبين ما ذكرناه ويوضحه ، أن ما صح فعله من زيد لا يصح إلا منه ، وليس كذلك ما يدركه زيد ، فإنه ما من مدرك إلا ويصح أن يدركه ، فكيف يصح في هذين الحكمين أن يكونا راجعين إلى صفة واحدة.

وبعد ، فلو كان المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة ، لوجب في كل من صح فيه الإدراك أن يصح منه الفعل والمعلوم خلافه ، فإن المريض المدنف مع أن إدراكه أقوى من إدراك الصحيح السليم ، قد لا يتأتى الفعل منه على الحد الذي يتأتى من الصحيح.

وبعد فلو كان المرجع بالحكمين إلى صفة واحدة ، لوجب في كل عضو يصح به الإدراك أن يصح به الفعل ابتداء فيجب أن يتأتى الفعل من شحمة الأذن ابتداء ، ومعلوم خلافه.

فإن قيل : لا يصح ذلك لمنع وهو فقد المفصل ، قلنا : إن تختص ما به الشحمة من الرخاوة والغضروف من الصلابة ، يجري مجرى المفصل ، فكان يجب أن يتأتى بها الفعل لو كان المنع ما ذكرتموه ، وقد عرف خلافه.

١٠٧

ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب

ثم إنه رحمه‌الله أورد في آخر الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة القول في ذلك ، أنه يجب أن يعلم أنه تعالى كان حيا فيما لم يزل ، ويكون حيا فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، لا بموت ، ولا بما يجري مجرى ذلك.

ولا تحتاج في هذا الباب إلا ما احتجت إليه في باب كونه قادرا ، نحو أن تعلم أنه قادر على جميع أجناس المقدورات من كل جنس إلى ما لا يتناهى ، ولا إلى ما احتجت إليه في باب كونه عالما ، نحو أن يعلم كونه عالما جميع المعلومات على سائر الوجوه التي يصح أن يعلم كونه عليها ، لأن ذلك فرع التعلق وهذه الصفة غير متعلقة.

أما الذي يدل على أنه كان حيا فيما لم يزل ، فهو أنه لو لم يكن حيا وحصل حيا بعد إذ لم يكن لوجب أن يكون حيا بحياة محدثة ، وسنبطل القول فيه إن شاء الله تعالى. وليس لقائل أن يقول أليس أنه تعالى حصل مدركا بعد أن لم يكن ، ولم يجب أن يكون مدركا بإدراك محدث ، فهلا جاز مثله في مسألتنا. لأنا قد أجبنا عن هذا في الفصل المتقدم.

وأما الذي يدل على أنه تعالى يكون حيا فيما لا يزال ، فهو أنه يستحق هذه الصفة لذاته ، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، فعلى هذا يجب القول في هذا الفصل.

فصل والغرض به الكلام في كونه تعالى سميعا بصيرا مدركا للمدركات

وقبل الشروع في هذه المسألة لا بد أن نبين حقيقة السميع والبصير والسامع والمبصر والمدرك والفرق بينها.

أما السميع البصير ، فهو المختص بحال لكونه عليها يصح أن يسمع المسموع ويبصر المبصر إذا وجدا.

وأما السامع والمبصر فهو أن يسمع المسموع ويبصر المبصر في الحال ، وكذلك المدرك. ولهذا قلنا إن الله تعالى كان سميعا بصيرا فيما لم يزل ولم نقل إنه سامع مبصر فيما لم يزل لفقد المسموع والمبصر. وعلى هذا قول شيخنا أبي علي أن السامع والمبصر متعد ، والسميع والبصير غير متعد.

١٠٨

إذا ثبت هذا فاعلم أن هذه مسألة خلاف بين الناس.

الخلاف بين البصريين والبغدادين حول الإدراك

فعند شيوخنا البصريين أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات ، وأن كونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا ، وأما عند مشايخنا البغداديين ، هو أنه تعالى مدرك للمدركات على معنى أنه عالم بها ، وليس له بكونه مدركا صفة زائدة على كونه حيا. فعند هذا لا بد من بيان أن المدرك له بكونه مدركا صفة ، وأن هذه الصفة إنما يستحقها الواحد منا لكونه حيا بشرط صحة الحاسة وارتفاع الموانع.

أما الذي يدل على أن الله تعالى سميع بصير مدرك للمدركات ، هو أنه حي لا آفة به ، والموانع المعقولة مرتفعة ، فيجب أن يدرك المدركات.

وأما الذي يدل على أن المدرك له بكونه مدركا صفة ، هو أن أحدنا يفصل بين حاله إذا كان مدركا وبين حاله إذا لم يكن مدركا ، وأجلى الأمور ما يجده الإنسان من نفسه. ولا يمكن أن يرجع بهذه التفرقة إلى كونه عالما حيا.

فإن قيل : ولم قلتم ذلك؟ قيل له : لأن أحدنا لو غمض عينيه فإنه لا يدرك ما بين يديه مع كونه حيا ، فلو لا أن كونه مدركا أمر زائد عليه وإلا لم يجز ذلك. وبعد ، فإن كونه حيا مما لا يتعلق بالغير ، وكونه مدركا متعلق بالغير ، فكيف يجوز أن يكون أحدهما هو الآخر؟ هذا هو الكلام في أن كونه مدركا لا يرجع إلى كونه حيا.

وأما الكلام في أنه صفة زائدة على كونه عالما ، فهو أن الذي به يعرف تغاير الصفتين أن تثبت إحداهما مع فقد الأخرى ، وهذا ثابت في مسألتنا ، لأنه قد ثبت العلم مع فقد الإدراك ، وثبت الإدراك مع فقد العلم.

أما ثبوت العلم مع فقد الإدراك ، فهو أن أحدنا يعلم القديم تعالى ولا يدركه ، وكذلك فإنه يعلم الجوهر الواحد وكثيرا من الأعراض ولا يدركها ، وكذلك يعلم المعدومات ولا يدركها.

وأما ثبوت الإدراك مع فقد العلم ، فهو أن النائم قد يدرك قرص البق والبراغيث حتى يتأذى به ، وقد يكون شيئا لا يثبته ولا يعلمه ، وكذلك فإنه يدرك الحديث الذي بحضرته ولا يعلمه ، وكذلك فإنه يرى الشيء من بعيد فيظنه أسود فإذا هو أخضر.

يبين هذه الجملة ، أن أحدنا لو أخبره نبي صادق أن الله تعالى أحدث جسما فإنه

١٠٩

يعلم لا محالة ، ثم إذا أدركه وجد مزية وحالا لم يكن يجدهما في الحالة الأولى ، وليست تلك المزية إلا ما قلناه.

فإن قيل : ولم قلتم إن صحة الإدراك هو لكونه حيا؟ قيل له : لأن ما دخل في جملة الحي صح الإدراك به كاليد الصحيحة ، وما خرج عن كونه حيا خرج عن صحة الإدراك به كاليد المبانة.

فإن قيل : إنما لم يصح الإدراك باليد المبانة لأنها منفصلة عنه ، قلنا ، إنا قد ذكرنا أنه مما لا تأثير للاتصال والانفصال في ذلك. على أنا نفرض الكلام في اليد الشلاء ، فإنها متصلة مع أن الإدراك بها لا يصح ، وكذلك بالشعر والظفر مع اتصالهما بالحي ولم يصح بهما الإدراك لما خرجا عن جملة الحي ، فصح وتقرر ما أردناه.

فإن قيل : قد بينتم أن صحة الإدراك إنما هو لكونه حيا ، فبينوا أن المقتضى لذلك إنما هو كونه حيا بشرط وجود المدرك ، حتى إذا ثبتت هذه الصفة في القديم تعالى ، وجب القضاء بكونه مدركا للمدركات.

قيل له : الذي يدل على ذلك ، أن أحدنا متى كان حيا والحالة صحيحة والموانع مرتفعة والمدرك موجود فلا بد من أن يدركه لا محالة ، ولن يكون هكذا إلا ولهذه الأمور تأثيرا لأن الحكم يدور عليها نفيا وإثباتا ، فلا يخلو ، إما أن يكون الكل شرطا والمؤثر غيرها ، أو الكل مقتضى ، أو بعضها شرط والباقي مقتضى.

لا جائز أن يقال : إن الكل شرط والمؤثر غيرها ، وإلا لزم في الواحد منا مع صحة الحالة وارتفاع الموانع وجود المدرك أن لا يدركه لعدم ذلك المؤثر والمعلوم خلافه. وبهذه الطريقة أبطلنا القول بأن الإدراك معنى.

ولا أن يقال : إن الكل مقتضى ، لأن الأمور الكبيرة المختلفة لا يجوز اجتماعها على اقتضاء حكم وإيجابه ، فلم يبق إلا أن يقال : إن البعض شرط والباقي مقتض.

ولا يجوز أن يقال : إن صحة الحاسة هو المؤثر ، لأنه ليس المرجع بها إلا إلى تأليف مخصوص ، والتأليف لا حظ له في إيجاب كون الحي مدركا لأن هذه الصفة ترجع إلى الجملة ، وحكم التأليف مقصور على محله.

ولا أن يقال : إن المؤثر هو ارتفاع الموانع ، لأنه راجع إلى النفي وكونه مدركا أمر ثابت ، والأحكام الثابتة لا تعلل بما يرجع إلى النفي.

١١٠

ولا يجوز أن يقال أيضا : إن المؤثر هو وجود المدرك ، لأنه لو كان كذلك لجاز أن يدرك الحي منا المدرك وإن غمض عينيه ، والمعلوم خلافه.

ومتى قيل إن فتح الجفن شرط ، قلنا : إن العلة لا يجوز أن تقف في باب الإيجاب على شرط منفصل عنها ، وأيضا فإن أحدنا قد يدرك السواد الحال في محل منفصل عنه ، ولو كان علة في كونه مدركا لم يجز ذلك ، لأن من حق العلة أن تختص بالمعلول غاية الاختصاص ، وهذا السواد مما لا اختصاص له به ولا تعلق. وأيضا فلو كان وجود المدرك علة في كون الحي مدركا ، لوجب إذا أدرك السواد في محل والبياض في محل آخر ، أن يحصل على صفتين ضدين وذلك مستحيل.

فإن قال : إنما لم يجب ذلك لتغاير بحالهما ، قلنا : الصفتان إذا تضادتا على الجملة فلا فرق فيما يوجبهما بين أن يكون في محل واحد وبين أن يكون في محال متغيرة ، ألا ترى أن العلم والجهل لما تضادا على الجملة لم تقترن الحال بين أن يكون محلهما واحدا وبين أن يكون محلهما متغايرا ، لذلك فالإرادة والكراهة لما كان تضادهما على الجملة ، لم يفترق الحال فيه بين أن يكون محلهما واحدا وبين أن يكون متغايرا ، حتى أنه كما أنه لا يجوز أن يريد الشيء ويكرهه بإرادة وكراهة موجودتين في جزء من قبله ، كذلك لا يجوز أن يكون مريدا وكارها لذلك الشيء الواحد بإرادة في جزء من قلبه وكراهة في جزء آخر من قلبه ، كذلك في مسألتنا. فهذه جملة ما يحصل في ذلك.

شبه حول الإدراك وكونه صفة لله

واعلم ، أن المخالف أورد شبها في هذا الباب.

من جملتها ، أن القديم لو حصل مدركا بعد أن لم يكن مدركا لوجب أن يكون مدركا بإدراك ، كما أن الجسم لما تحرك بعد أن لم يكن متحركا وجب أن يكون متحركا بحركة ، وذلك محال.

والجواب عنها ، أن الفرق بين الموضعين هو أن الجسم حصل متحركا مع الجواز ، وليس كذلك المدرك فإنه لم يحصل مدركا مع الجواز ، بل حصل على هذه الصفة مع وجوب أن يحصل عليها ، ففارق أحدهما الآخر.

ومنها ، هو أن قالوا : لو حصل القديم تعالى مدركا لوجب أن يكون قد تغير ،

١١١

والتغير لا يجوز على القديم تعالى ، فليس إلا أنه غير مدرك.

والجواب : ما تعنون بالتغير؟ أتريدون به أنه حصل على صفة بعد إذ لم يكن عليها ، أو تريدون أنه صار غير ما كان ، على ما تقوله العرب في المحل إذا وجد فيه بياض بعد أن كان أسود أنه تغير على معنى أنه صار غير ما كان؟

فإن أردتم به الأول ، فذلك كلام لا فائدة فيه ، وينزل منزلة قول القائل لو حصل القديم تعالى مدركا بعد أن لم يكن ، لحصل مدركا بعد أن لم يكن ، وذلك فاسد.

وإن أردتم به الثاني ، فمن أين أنه تعالى إذا حصل على صفة لم يكن عليها وجب أن يكون قد تغير وصار غير ما كان.

ثم يقال لهم ولم لا يجوز عليه هذا النوع من التغير؟ فإن قالوا : لأن ذلك من سمات الحوادث ، قلنا : لا نسلم ذلك فبينوه ، وإذا راموا بيانه لم يجدوا إليه سبيلا.

ومنها ، هو أنه تعالى لو كان مدركا لوجب احتياجه إلى الحاسة ، وأن تختلف حواسه بحسب اختلاف المحسوسات ، حتى إن كان المدرك صوتا احتاج إلى حاسة السمع ، وإن كان المدرك طعما احتاج إلى حاسة الذوق ، وكذلك الكلام في البواقي كما في الواحد منا ، والمعلوم خلافه ، فيجب أن لا يكون مدركا.

والجواب ، أن أحدنا إنما يحتاج في إدراك هذه المدركات إلى الحواس لأنه حي بحياة ، والحياة لا يصيح الإدراك بها إلا بعد استعمال محلها في الإدراك ضربا من الاستعمال ، والقديم تعالى حي لذاته ، ففارق أحدهما الآخر.

ومنها ، هو أنهم قالوا : لو كان الله تعالى مدركا لوجب أن يسمى ذائقا وشاما ولامسا ، والمعلوم خلافه ، فيجب أن لا يكون مدركا.

والجواب : إن الشام ليس باسم للمدرك فقط ، وإنما هو اسم لمن يستجلب المشموم إلى الخيشوم طلبا لإدراكه ، وكذلك الذائق اسم لمن يجمع بين محل الطعم وبين لهاته طلبا للادراك به ، وكذلك الملامس فإنه اسم لمن يجمع بين محل حاسته وبين الملموس ، والقديم تعالى يدرك هذه المدركات لا على هذا الحد ، فليس يجب أن تجري عليه هذه الأسماء ، فصح ما قلناه.

١١٢

ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب

ثم إنه رحمه‌الله أورد في آخر هذا الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة القول في ذلك ، أنه يجب أن يعلم أنه تعالى كان سميعا بصيرا فيما لم يزل ، وسيكون سميعا بصيرا فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، لأن المرجع بذلك ليس إلى إلا إلى كونه حيا لا آفة به ، وهذا ثابت للقديم تعالى في كل حال ، ويعلم أنه لم يكن سامعا مبصرا فيما لم يزل ، ولا يكون سامعا مبصرا فيما لا يزال لفقد المسموع والمبصر ، ويعلم أنه مدرك للمدركات الآن ، وهي موجودة.

خلاف بين القاضي وشيخه أبي القاسم

وهذه مسألة خلاف بيننا وبين شيخنا أبي القاسم بن سهلويه الملقب بقاتل الأشعري ، وسبب تلقيبه به أنه ناظر الأشعري في مسألة فانقطع وحم ومات.

فعندنا أنه تعالى مدرك للمدركات أجمع ألما كان أو غيره ، وعنده أن الله تعالى مدرك للمدركات جملة ، ما عدا الألم واللذة.

والذي يدل على ما نقوله ، أن كونه تعالى مدركا لما يدركه ، إنما هو لكونه حيا لا آفة به ، وهذا حاله مع بعض المدركات كحاله مع سائرها ، فيجب أن يكون مدركا للجميع أو لا يكون مدركا لشيء منها. فأما أن يكون مدركا لشيء منها دون شيء فلا.

وشبهته في هذا الباب ، شبهتان اثنتان :

إحداهما ، أن الألم إنما يدرك بمحل الحياة في محل الحياة ، وهذا يستحيل على القديم تعالى فيجب أن لا يدركه.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن الواحد منا إذا أدرك الألم بمحل الحياة في محل الحياة فلأنه حي بحياة ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه حي لذاته فلا تجب فيه هذه القضية. وصار الحال في الألم كالحال في الحر والبرد ، فكما لا يقال إنه تعالى لا يدركهما لأنهما يدركان بمحل الحياة في غير محل الحياة وهذا يستحيل في القديم تعالى لما كانت هذه القضية إنما وجبت في الواحد منا لأنه حي بحياة ، وليس كذلك القديم ، كذلك في مسألتنا.

والثانية ، هو أنه تعالى لو كان مدركا للألم واللذة لوجب أن يسمى ألما وملتذا ،

١١٣

والمعلوم خلافه.

والجواب عنه ، أن الواحد منا إنما يسمى ألما وملتذا لأنه يدرك الألم مع النفرة واللذة مع الشهوة ، والشهوة والنفرة مستحيلتان على الله تعالى ، ففارق أحدهم الآخر.

فصل والغرض به الكلام في كونه تعالى موجودا

وقبل أن ندل عليه لا بد من أن نذكر حقيقة الموجود والمعدوم.

أما الموجود ، فعلى ما ذكره شيخنا أبو عبد الله البصري وشيوخنا البغداديون أنه الكائن الثابت ، وهذا لا يصح ، لأن قولنا موجود أظهر منه ، ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود. وبعد ، فإن الكائن إنما هو الثابت ، والثابت إنما هو الكائن ، فيكون في الحد إذا تكرار مستغنى عنه. وبعد ، فإن الكائن إنما يستعمل في الجوهر الذي حصل في حيز فكيف يصح تحديد الموجود به.

وذكر قاضي القضاة في حد الموجود ، أنه المختص بصفة تظهر عندها الصفات والأحكام.

وهذا وإن كان كذلك إلا أن إيراده على طريقة التحديد لا يصح ، لأنه أشكل من قولنا موجود ، ومن حق الحد أن يكون أظهر منه ، فالأولى أن لا يحد الموجود بحد ، لأن كل ما يذكر في حده فقولنا موجود أكشف منه وأوضح.

فلو سئلنا عن حقيقة الموجود ، فالواجب أن نشير إلى هذه الموجودات.

وأما المعدومات ، فعلى ما قاله شيخنا أبو عبد الله البصري : أنه المنتفى الذي ليس بكائن لا ثابت.

وهذا لا يصح ، لأن المنتفى إنما يستعمل في المعدوم الذي وجد مرة ثم عدم أخرى ، فيخرج عن الحد كثير من المعدومات ، ومن حق الحد أن يكون جامعا مانعا لا يخرج منه ما هو منه ، ولا يدخل فيه ما ليس منه. وبعد فإن قول المنتفي ، هو قوله ليس بكائن ولا ثابت ، فيكون تكرارا لا فائدة فيه ، فالأولى أن يحد المعدوم بأنه المعلوم الذي ليس بموجود ، ولا يلزمنا على هذا أن يكون ثاني القديم عزوجل والفناء معدومين لأنهما ليس بمعلومين.

إذا ثبت هذا فاعلم أنا لا نحتاج إلى إقامة الدليل له على وجود هذه الموجودات ، لأنا نشاهدها ونعلم وجودها بالاضطرار ، وليس كذلك القديم تعالى فإنا

١١٤

لا نشاهده عزوجل ، فاحتجنا إلى إقامة الدليل عليه.

وتحرير الدلالة على ذلك ، أنه عالم قادر ، والعالم القادر لا يكون إلا موجودا.

وهذه الدلالة مبنية على أصلين ، أحدهما ، أنه تعالى عالم قادر وقد تقدمه ، والثاني ، أن العالم القادر لا يكون إلا موجودا فلا يمكن رده إلى الشاهد ، لأنا لو قلنا : إن الواحد منا إذا كان عالما قادرا لا بد من أن يكون موجودا فكذلك القديم تعالى ، كان لقائل أن يقول : إن الواحد منا إنما يجب أن يكون موجودا لأنه عالم بعلم ، وقادر بقدرة ، والعلم والقدرة يحتاجان إلى محل مبنى مبنية مخصوصة ، والمحل المبني على هذا الوجه لا بد من أن يكون موجودا ، وليس كذلك القديم تعالى لأنه عالم لذاته ، وقادر لذاته ، فلا يجب وجوده وإن كان عالما قادرا.

فالأولى أن نسلك طريقة على غير هذه الطريقة فنقول : إن القادر له تعلق بالمقدور ، والعالم له تعلق بالمعلوم ، والعدم يحيل التعليق ، فلو كان القديم تعالى معدوما لم يصح كونه قادرا ولا عالما ، والمعلوم خلافه.

فإن قيل : وما المراد بقولكم إن القادر له تعلق بالمقدور ، والعالم له تعلق بالمعلوم؟ قلنا : المراد بذلك ، أن القادر يصح منه إيجاد ما قدر عليه إن لم يكن منع ، والعالم يصح منه إيجاد ما قدر عليه على وجه الإحكام والاتساق إذا لم يكن هناك ثمة منع.

فإن قيل : ولم قلتم : إن العدم يحيل التعلق؟ قلنا : لأنا قد علمنا أن الإرادة إذا وجدت تعلقت ، وإذا عدمت زال تعلقها. وإنما زال تعلقها لعدمها ، فكل ما شاركها في العدم وجب أن يشاركها في زوال التعلق.

فإن قيل : ولم قلتم إن الإرادة متى عدمت زال تعلقها ، ثم لم قلتم إن زوال تعلقها لعدمها؟ قلنا : أما الذي يدل على أن الإرادة متى عدمت زال تعلقها ، هو أنه لو لم يزل لكان لا يخلو ، إما أن تكون متعلقة بنفس ما كانت متعلقة به ، أو متعلقة بغير ما كانت متعلقة به ، لا يجوز أن تكون متعلقة به ، لأنه ما من مراد إلا ويجوز أن ينقضي ويمضي ، والإرادة مما لا يجوز تعلقها بالماضي والمنقضي ، ولا يجوز أن تكون متعلقة بغير ما كانت متعلقه به لأن في ذلك انقلابها عما هي عليه في ذاتها واتصافها بصفة تخالفها وهذا لا يجوز.

وأما الذي يدل على أن زوال تعلقها لعدمها ، فهو أنه لا يخلو ، إما أن يكون

١١٥

زوال تعلقها لعدمها على ما نقوله ، أو لتقضي مرادها ، أو لخروجها من أن توجب الصفة للمريد ، أو لخروجها عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات ، أو لأن الوجود شرط فيه. لا يجوز أن يكون لتقضي مرادها لأن الإرادة قد تخرج عن التعلق وإن لم ينقض مرادها ، ألا ترى أن أحدنا إذا أراد قدوم زيد قد يبدو له ولما قدم زيد بعد ، ولا لخروجها من أن توجب الصفة للمريد لوجهين ، أحدهما ، أن خروجها من أن توجب الصفة للمريد إنما هو لعدمها ، فقد عاد الأمر إلى ما قلناه ولكن بواسطة ، والثاني : أنه ليس بأن يقال إنما زال تعلقها لخروجها من أن توجب الصفة للمريد ، أولى من أن يقال خروجها من أن توجب الصفة للمريد إنما هو لزوال تعلقها ، فلا تتميز العلة من المعلل به. ولا يجوز أن يكون زوال تعلقها لخروجها عن الصفة المقتضاة عن صفة الذات ، لأنه لو لا العدم لما خرجت الإرادة عن هذه الصفة ، فقد عاد الأمر إلى زوال تعلقها لعدمها ولكن بواسطة. وبهذه الطريقة يبطل القسم الآخر وهو أن يكون زوال تعلقها لعدمها ، لأن الوجود شرط فيه ، لأنه لو لم يكن العدم محيلا للتعلق لم يكن الوجود موجبا للتعلق فلم يبق إلا أن يكون زوال تعلقها لعدمها على ما نقوله.

فإن قيل : إن زوال التعلق نفي ، والعدم نفي ، وتعليل النفي بالنفي محال. ألا ترى أنه لا يقال إن الجسم إنما لم يكن متحركا لفقد الحركة.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أن تعليل النفي بالنفي لا يجوز إذا كانت العلة موجبة ، فأما إذا كانت العلة كاشفة فإنه يجوز. وعلى هذا يقال إنما لم يصح منه الفعل لأنه ليس بقادر.

فإن قيل : لو كان العدم محيلا للتعلق لوجب أن يكون الوجود موجبا للتعلق ، وهذا يقتضي في الموجودات كلها أن تكون متعلقة ، ومعلوم خلافه ، فإن السواد والحلاوة والطعم مما لا تعلق لها.

والأصل في الجواب عن ذلك ، أنه ليس يجب في أمر من الأمور إذا أحال حكما من الأحكام ، أن يكون نقيض ذلك الأمر يوجب ذلك الحكم. ألا ترى أن عدم المحيل يحيل حلول السواد فيه ، وليس يجب في وجوده أن يوجب حلول السواد فيه.

فإن قيل : إن هذه القضية إنما وجبت في الإرادة لأنها علة والقديم تعالى ليس بعلة ، قلنا : مخالفة القديم تعالى للإرادة ليس بأكثر من مخالفة هذه المتعلقات بعضها لبعض ، وهذه المتعلقات مع اختلافها واختلاف أنواعها وأجناسها متفقة في أنها متى

١١٦

وجدت تعلقت ، ومتى عدمت زال تعلقها فيجب مثله في القديم تعالى.

وقد استدل قاضي القضاة على المسألة بأن قال : قد ثبت أنه تعالى قادر ، والقادر لا يصح منه الفعل إلا إذا كان موجودا ، كما أن القدرة لا يصح الفعل بها إلا وهي موجودة ، وهذا إن لم يبن على ما ذكرناه ، لم يصح الاعتماد عليه.

ما يلزم المكلف معرفته

ثم إنه رحمه [الله] (١) أورد في آخر هذا الفصل ما يلزم المكلف معرفته في هذا الباب.

وجملة القول في ذلك هو أن تعلم أنه تعالى كان موجودا فيما لم يزل ، ويكون موجودا فيما لا يزال ، ولا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال. ولا تحتاج في هذا الباب إلى مثل ما احتجت إليه في باب كونه قادرا وعالما ، لأن ذلك من فرع التعلق ، وصار الحال في هذا كالحال في كونه تعالى حيا.

أما الذي يدل على أنه تعالى كان موجودا فيما لم يزل ، فهو أنه تعالى لو لم يكن موجودا فيما لم يزل وحصل كذلك بعد إذ لم يكن ، لاحتاج إلى موجد يوجده ، وذلك محال.

وأما الذي يدل على أنه تعالى يكون موجودا فيما لا يزال ، فهو أنه يستحق هذه الصفة لذاته ، والموصوف بصفة من صفات الذات لا يجوز خروجه عنها بحال من الأحوال ، فهذه جملة الكلام في هذا الفصل.

فصل والغرض به الكلام في كونه تعالى قديما

وقبل الدلالة على ذلك ، فاعلم :

أن القديم في أصل اللغة هو ما تقادم وجوده ، ولهذا يقال بناء قديم ، ورسم قديم ، وعلى هذا قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٢٩].

وأما في اصطلاح المتكلمين ، فهو ما لا أول لوجوده ، والله تعالى هو الموجود الذي لا أول لوجوده ، ولذلك وصفناه بالقديم.

__________________

(١) زيادة من المصحح.

١١٧

وتحرير الدلالة على ذلك ، هو أنه تعالى لو لم [يكن] (١) قديما لكان محدثا ، لأن الموجود يتردد بين هذين الوصفين ، فإذا لم يكن على أحدهما كان على الآخر لا محالة. فلو كان القديم تعالى محدثا لاحتاج إلى محدث ، وذلك المحدث إما أن يكون قديما أو محدثا ، فإن كان محدثا كان الكلام في محدثه كالكلام فيه ، فإما أن ينتهي إلى صانع قديم على ما نقوله ، أو يتسلسل إلى ما لا نهاية ولا انقطاع من المحدثين ومحدثي المحدثين ، وذلك يوجب أن لا يصح وجود شيء من هذه الحوادث ، وقد عرف خلافه.

فإن قيل ومن أين ذلك؟ قلنا : لأن ما وقف وجوده على وجود ما لا انقطاع له ولا تناهي لم يصح وجوده ، ويقتضي ما ذكرناه من استحالة حدوث شيء من هذه الحوادث. ألا ترى أن أحدنا لو قال لا آكل هذه التفاحة ما لم آكل تفاحات لا تتناهى ، لم يصح أكله لهذه التفاحة قط ، لما وقف ذلك على وجود ما لا يتناهى. كذلك لو قال إني لا أدخل هذه الدار حتى أدخل دورا لا تتناهى ، فإنه لا يدخلها البتة لما ذكرناه ، فلما وجدت هذه الحوادث صح أنها مستترة إلى صانع قديم تنتهي إليه الحوادث على ما نقوله.

وقد قيل : إنه لو لم يكن صانع العالم قديما لكان محدثا ، لأن الموجود إما قديم وإما محدث ، ول؟ كان محدثا لم يصح منه فعل الجسم ، لأن المحدث لو قدر لم يقدر إلا بقدرة ، والقدرة لا يصح بها فعل الجسم ، فيجب أن يكون قديما.

ما يلزم معرفته في هذا الباب

وأما الذي يلزمك معرفته في هذا الباب ، فقد ذكرناه في باب كونه موجودا ، لأن المرجع بالقدم ليس إلا إلى استمرار الوجود ، فعلى هذا يجري الكلام في هذا الفصل.

فصل والغرض به الكلام في كيفية استحقاقه تعالى لهذه الصفات

والأصل في ذلك ، أن هذه مسألة خلاف بين أهل القبلة.

فعند شيخنا أبي علي أنه تعالى يستحق هذه الصفات الأربع التي هي كونه قادرا عالما حيا موجودا لذاته.

__________________

(١) زيادة من المصحح.

١١٨

وعند شيخنا أبي هاشم يستحقها لما هو عليه في ذاته.

وقال أبو الهذيل : إنه تعالى عالم بعلم هو هو ، وأراد به ما ذكره الشيخ أبو علي ، إلا أنه لم تتلخص له العبارة. ألا ترى أن من يقول : إن الله تعالى عالم بعلم ، لا يقول : إن ذلك العلم هو ذاته تعالى.

فأما عند سليمان بن جرير وغيره من الصفاتية ، فإنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان لا توصف بالوجود ولا بالعدم ، ولا بالحدوث ولا بالقدم.

وعند هشام بن الحكم ، أنه تعالى عالم بعلم محدث.

وعند الكلابية ، أنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان أزلية ، وأراد بالأزلى القديم ، إلا أنه لما رأى المسلمين متفقين على أنه لا قديم مع الله تعالى لم يتجاسر على إطلاق القول بذلك.

ثم نبغ الأشعري ، وأطلق القول بأنه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان قديمة ، لوقاحته وقلة مبالاته بالإسلام والمسلمين.

وتحرير الدلالة على ما نقوله في ذلك ، هو أنه تعالى لو كان عالما بعلم ، لكان لا يخلو ، إما أن يكون معلوما ، أو لا يكون معلوما. فإن لم يكن معلوما لم يجز إثباته ، لأن إثبات ما لا يعلم يفتح باب الجهات. وإن كان معلوما فلا يخلو ، إما أن يكون موجودا أو معدوما. لا يجوز أن يكون معدوما. وإن كان موجودا فلا يخلو ، إما أن يكون قديما ، أو محدثا ، والأقسام كلها باطلة ، فلم يبق إلا أن يكون عالما لذاته على ما نقوله.

فإن قيل : ما أنكرتم أن هذه المعاني صفات ، والصفات لا توصف بالوجود ولا بالعدم ، ولا بالحدوث ولا بالقدم.

قلنا : هذه مناقضة ظاهرة من وجوه ، أحدهما ، أنك قد وصفتها بأنها معان بل سميتها علما وقدرة وحياة ، والثاني ، بأنك وصفتها بأنها صفات ، والثالث ، بأنك وصفتها بأنها لا توصف ، فقد نقضت كلامك من هذه الوجوه.

فإن قيل : هذه المعاني عندنا كالأصول عندكم ، فكما أن هذه القسمة لا تدخل في الأحوال عندكم ، فكذلك لا تدخل عندنا في هذه المعاني.

قلنا : إن هذه المعاني معلومة عندكم فتدخلها قسمة المعلومات ، وليس كذلك

١١٩

الأحوال ، فإنها عندنا غير معلومة بانفرادها ، وإنما الذات عليها تعلم ، ففارق أحدهما الأخر. والذي يدل على أن الأحوال لا تعلم ، أنها لو علمت لتميزت عن غيرها بأحوال أخر ، والكلام في الأحوال تلك ، كالكلام فيها ، يتسلسل إلى ما لا يتناهى من الأحوال ، وذلك محال. على أنكم إن عنيتم بالمعاني ما نريده بالحال فمرحبا بالوفاق.

فإن قالوا : إن هذه المعاني صفات والصفة لا توصف ، إذ لو جاز أن توصف الصفة أدى إلى ما لا يتناهى من الصفات وصفات الصفات.

قلنا : ليس يجب إذا جوزنا أن توصف الصفة ، أن يوجد ما لا يتناهى من الصفات وصفات الصفات ، إذ ليس يلزم على الجواز ما يلزم على الوجوب. وصار الحال فيه كالحال في الحيز إذا قلنا إنه يجوز الإخبار عنه ، فكما لا يلزمنا ما ذكرتموه فيه ، كذلك هاهنا. وهذا لأن الجواز مخالف للوجوب ، فلا يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر.

فإن قيل : أبطلوا هذه الأقسام ليتم لكم ما ذكرتموه.

الدليل على أنه لا يكون عالما بعلم معدوم

قلنا : أما الذي يدل على أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالما بعلم معدوم ، فهو أنه لو جاز أن يكون كذلك لجاز مثله في الواحد منا ، ومعلوم خلافه.

وهذه طريقة مستقيمة يمكن تمشيتها ، ولا يمكن الاعتراض عليها بأن يقال : أليس الله تعالى مريدا بإرادة محدثة موجودة لا في محل ، ولا يجوز ذلك في الواحد منا ، فهلا جاز مثله في مسألتنا. لأن الفرق بينهما ظاهر ، وقد بين ذلك في غير هذا الموضع.

والطريقة المرضية المعروفة في هذا ، هو أن نقول : إن في العدم جهلا كما أن فيه علما ، فلو جاز أن يكون الله تعالى عالما بعلم معدوم ، لجاز أن يكون جاهلا بجهل معدوم ، وذلك يؤدي إلى أن يكون عالما بالشيء جاهلا به دفعة واحدة ، وهذا محال.

ويمكن أن نسلك هذه الطريقة في كونه مريدا وكارها ، فنقول : إن في العدم كراهة كما أن فيه إرادة ، فلو جاز أن يكون الله تعالى مريدا بإرادة معدومة ، لجاز أن يكون كارها بكراهة معدومة ، وهذا يقتضي أن يكون مريدا للشيء كارها له دفعة واحدة ، وهذا محال.

١٢٠