استقصاء النّظر في القضاء والقدر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

استقصاء النّظر في القضاء والقدر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: السيّد محمّد الحسيني النيسابوري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار أنباء الغيب
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٩

ذنب للظّالم في ظلمه إذا كان من فعله تعالى ، وكيف يحسن منه لعنته وأمر العباد بها؟

الثّالث عشر :

إنّه يلزم من مذهب الأشاعرة هنا عدم التديّن بشيء من الشّرائع والأديان ، لا بدين الإسلام ، ولا بغيره من شرائع الأنبياء السّالفين (١) لأنّ مبنى الأديان على صدق الأنبياء عليهم‌السلام وإنّما يتمّ صدق النّبي بمقدّمتين لا يذهب إليهما الأشاعرة : إحداهما أنّ الله تعالى فعل المعجز على يد مدّعي الرّسالة لأجل تصديقه ولغرض صحّة دعواه ؛ والثّانية أنّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق.

أمّا المقدّمة الاولى : فاستعمل فيه قياس الغائب على الشّاهد ، وقالوا : لو أنّ شخصا ادّعى أنّه رسول السّلطان إلى رعيّته ، ثمّ قال : أيّها السّلطان إن كنت رسولك حقّا فانزع خاتمك من إصبعك ، فنزع السّلطان خاتمه من إصبعه وكرّر ذلك مرارا ، فإنّ الحاضرين إن علموا أنّ السّلطان نزع خاتمه لغرض تصديقه حكموا بأنّه قد أرسله إلى الرّعيّة ، وإن علموا أنّه نزعه للرّاحة أو للعبث أو لأمر آخر أو لا لغرض فإنّه لا يحكمون بأنّه قد صدّقه ، وكذلك النّبي إذا ظهر وادّعى الرّسالة ، وخلق الله المعجز على يده ، إن علم النّاس أنّه تعالى لم يفعل ذلك لغرض تصديقه لم يحكموا بصدقه ، وإلّا حكموا بصدقه ، والأشاعرة منعوا هذه المقدّمة وقالوا إنّ الله تعالى لا يجوز أن يفعل شيئا من الأفعال لغرض البتّة ، فكيف يتحقّق حينئذ العلم بصدق مدّعي الرّسالة؟

أمّا المقدّمة الثانية : فإنّ المعتزلة التجئوا فيها إلى حكم العقل من قبح

__________________

(١) في غير «ح» : السابقين.

٤١

تصديق الكذّاب ، فإذا صدّق الله تعالى مدّعي الرّسالة علمنا أنّه صادق ، لاستحالة القبيح عليه ، وهذه المقدّمة لا تتمشّى على مذهب الأشاعرة ، لأنّ القبائح كلّها مستندة إلى الله تعالى عندهم ، فجاز أن يصدّق الكاذب ، فلا يتحقّق العلم بصدق النّبي الصادق.

الرّابع عشر :

الأشاعرة لم يرضوا بقضاء الله تعالى وقدره ، وحرّموا ذلك على العباد ، لأنّ الله تعالى قضى بالكفر على الكافر وبالمعصية على العاصي وحرّموا الرّضا بالكفر والعصيان. أمّا الإماميّة ، فإنّهم رضوا بقضاء الله تعالى وقدره ، لأنّه تعالى إنّما يقضي بالحقّ ويقدره ، وحاشى الله تعالى أن يقضي بالباطل.

الخامس عشر :

مذهب الأشاعرة يلزم منه انتفاء (١) الوثوق بوعد الله تعالى ووعيده ، وتنتفي فائدة بعثة الأنبياء عليهم‌السلام لأنّ أنواع المعاصي عندهم صادرة عنه تعالى ومن جملتها الكذب ، فجاز أن يكون خبره بالوعد والوعيد كذبا ، فلا يبقى في بعثة الأنبياء فائدة وذلك فساد عظيم تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

السّادس عشر :

لو كانت الأفعال مخلوقة لله تعالى لزم تكليف ما لا يطاق ، وهو قبيح عقلا ، والسّمع قد منع منه ، فقال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢).

السّابع عشر :

إنّ الله تعالى خلق العالم عند الإماميّة والمعتزلة لحكمة ظاهرة وهي إيصال الجود إلى خلقه ، فإنّه قد ثبت أنّ الوجود خير والعدم شرّ ، ولإظهار

__________________

(١) في «م» و «ق» و «ح» : إسقاط.

(٢) سورة البقرة (٢) : ٣٨٦.

٤٢

رحمته ولطف عنايته وطلب معرفته ، كما قال في كتابه العزيز (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ثمّ أرسل الرّسل لإرشاد العالم إلى كيفيّة عبادته على الوجوه الشّرعيّة ، لعجز العقول عن تفاصيل العبادات ، فيثيب المطيع لهم ويعاقب المخالف المعاند ، وإنّما يتمّ ذلك كلّه لو كان الله تعالى يفعل لغرض ، وكان للعبد أثر في أفعاله ، وعلى قول المجبرة لا يتمّ ذلك ، لأنّه تعالى عندهم لا يفعل لغرض ، ولا أثر للعبد البتّة.

الثامن عشر :

إنّه يلزم إفحام (٢) الأنبياء عليهم‌السلام لأنّ النّبي إذا قال للكافر : آمن بي ، فإذا قال له الكافر : قل للّذي بعثك يخلق فيّ الإيمان بدل الكفر حتّى آمن ، لأنّي لا قدرة لي على مقاهرة القديم انقطع النّبي.

(الأدلّة النّقليّة لمذهب العدليّة)

وأمّا المنقول فوجوه :

الأوّل :

الآيات الدّالّة على مدح المؤمن على إيمانه وذمّ الكافر على كفره والوعد بالثّواب على الطّاعة والعقاب على المعصية ، كقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣) (إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً) (٤) (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٥) (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٦) (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) (٧) (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (٨) (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما

__________________

(١) سورة الذاريات (٥١) : ٥٦.

(٢) أفحمت الخصم إفحاما : إذا أسكتّه بالحجّة.

(٣) سورة النجم (٥٣) : ٣٧.

(٤) سورة الإسراء (١٧) : ٣.

(٥) سورة التوبة (٩) : ١١٤.

(٦) سورة القلم (٦٨) : ٤.

(٧) سورة مريم (١٩) : ٣٧.

(٨) سورة تبّت (١١١) : ١.

٤٣

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

الثّاني :

الآيات الدالّة على المجازاة على الأفعال ، قال الله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٢) (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٣) (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٤) (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى) (٥) (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) (٦) (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٨) (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) (٩) (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) (١٠) (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١١) (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا) (١٢) (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) (١٣) (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (١٤) ولو لا أن يكون العبد فاعلا لما استحقّ الجزاء عليه من ثواب أو عقاب ، ولم يتحقّق المجازاة والمقابلة بإزاء الأفعال.

الثّالث :

الآيات الدالّة على أنّ أفعال العباد مستندة إليهم وصادرة عنهم ، كقوله

__________________

(١) سورة النحل (١٦) : ٣٢.

(٢) سورة المؤمن (٤٠) : ١٧.

(٣) سورة الجاثية (٤٥) : ٢٨.

(٤) سورة الأعراف (٧) : ١٦٤ ، سورة الإسراء (١٧) : ١٥ ، سورة فاطر (٣٥) : ١٨ ، سورة الزمر (٣٩) : ٧ ، سورة النجم (٥٣) : ٣٨.

(٥) سورة طه (٢٠) : ١٥.

(٦) سورة الرحمن (٥٥) : ٦٠.

(٧) سورة النمل (٢٧) : ٩٠.

(٨) سورة الأنعام (٦) : ١٦٠.

(٩) سورة فاطر (٣٥) : ٣٠.

(١٠) سورة طه (٢٠) : ١٢٤.

(١١) سورة الشورى (٤٢) : ٤٠.

(١٢) سورة البقرة (٢) : ٨٦.

(١٣) سورة البقرة (٢) : ٢٨٦.

(١٤) سورة الصافّات (٣٧) : ٦١.

٤٤

تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) (١) (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (٢) (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣) (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٤) (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) (٥) (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (٦) (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٧) (ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٨) (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (٩) (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) (١٠) (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ) (١١) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٢).

الرّابع :

إنّ الله تعالى نزّه نفسه أن يكون أفعاله مثل أفعال المخلوقين من التفاوت والاختلاف ، فقال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (١٣) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١٤) والكفر ليس بحسن.

الخامس :

إنّ الله نزّه نفسه عن الظّلم ، فقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَ

__________________

(١) سورة البقرة (٢) : ٧٩.

(٢) سورة يونس (١٠) : ٦٦.

(٣) سورة الأنفال (٨) : ٥٣.

(٤) سورة يوسف (١٢) : ١٨.

(٥) سورة المائدة (٥) : ٣٠.

(٦) سورة النساء (٤) : ١٢٣.

(٧) سورة الطور (٥٢) : ٢١.

(٨) سورة إبراهيم (١٤) : ٢٢.

(٩) سورة البقرة (٢) : ٢٧٤.

(١٠) سورة فاطر (٣٥) : ٢٩.

(١١) سورة البقرة (٢) : ٢٨٢.

(١٢) سورة البقرة (٢) : ٦.

(١٣) سورة الملك (٢٧) : ٣.

(١٤) سورة السجدة (٣٢) : ٧.

٤٥

النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (١) (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) (٢) (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣) (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤) (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) (٥) (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٦) (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (٧) (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٨).

السّادس :

إنّه تعالى ذمّ عباده على الكفر والمعاصي الصادرة عنهم ووبّخهم على ذلك ومنعهم عنه ، فقال الله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٩) ويقبح منه تعالى أن يخلق الكفر في الكافر ويوبّخه عليه مع عجز العبد عن مقاهرته تعالى وإيقاع خلاف إرادته ، كيف يحسن منه أن يقول : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (١٠) وهو المانع لهم ، ويقول لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١١) وقد كان لإبليس أن يلتجئ إلى قوله : أنت المانع لي ، والقاهر على ترك السجود ، ولا أتمكّن من مقاهرتك ، ولم يعتذر بالافتخار على آدم ، ومثل هذا الانكار كمثل شخص حبس عبده فى بيت ، وجعله بحيث لا يتمكّن من الخروج منه ، ثمّ يقول له : ما منعك من الخروج عنه إلى قضاء أشغالي؟ ويعاقبه على ذلك بأنواع العقوبات ، ولا شكّ عند العقلاء أنّ هذا قبيح.

__________________

(١) سورة يونس (١٠) : ٤٤.

(٢) سورة النساء (٤) : ٤٠.

(٣) سورة فصلت (٤١) : ٤٦.

(٤) سورة النحل (١٦) : ١١٨.

(٥) سورة المؤمن (٤٠) : ١٧.

(٦) سورة الإسراء (١٧) : ٧١ ، والنساء (٤) : ٤٩ و ٧٧.

(٧) سورة النساء (٤) : ١٢٤.

(٨) سورة المؤمن (٤٠) : ٣١.

(٩) سورة البقرة (٢) : ٢٨.

(١٠) سورة الإسراء (١٧) : ٩٤ ، الكهف (١٨) : ٥٥.

(١١) سورة الأعراف (٧) : ١٢.

٤٦

وقال الله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (١) وقال موسى عليه‌السلام : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ) (٢) وقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٣) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٤) (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥) (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٦) إلى غير ذلك من الآيات.

السّابع :

الآيات الدالّة على العفو ، كقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ) (٧) (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) (٨) (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٩) وإنّما يتحقّق العفو والغفران لو صدر الذّنب عن العبد.

الثّامن :

الآيات الدالّة على الانكار ، كقوله تعالى : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (١٠) (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (١١) (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (١٢) (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (١٣) (لِمَ تَكْفُرُونَ) (١٤) وكيف يحسن منه تعالى التّعنيف على ذلك وهو الفاعل له؟ وكيف يحول بين العبد والإيمان ، ثمّ يقول : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (١٥) وذهب

__________________

(١) سورة النساء (٤) : ٣٩.

(٢) سورة طه (٢٠) : ٩٢.

(٣) سورة المدثر (٧٤) : ٤٩.

(٤) سورة الانشقاق (٨٤) : ٢٠.

(٥) سورة التحريم (٦٦) : ١.

(٦) سورة التوبة (٩) : ٤٣.

(٧) سورة التوبة (٩) : ٤٣.

(٨) سورة آل عمران (٣) : ٣١.

(٩) سورة النساء (٤) : ٤٨.

(١٠) سورة آل عمران (٣) : ٧١.

(١١) سورة آل عمران (٣) : ٩٩.

(١٢) سورة يونس (١٠) : ٣٢ ، الزمر (٣٩) : ٦.

(١٣) سورة المؤمن (٤٠) : ٦٢ ، الأنعام (٦) : ٩٥ ، يونس (١٠) : ٣٤ ، فاطر (٣٥) : ٣.

(١٤) سورة آل عمران (٣) : ٧٠ و ٩٨.

(١٥) سورة النساء (٤) : ٣٩.

٤٧

بهم عن الرّشد ، ثمّ قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (١) وكيف يضلّهم عن الدّين حتّى يعرضوا ، ثمّ يقول : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٢)؟

التّاسع :

الآيات الدالّة على أنّه تعالى خيّر عباده في أفعالهم ، وجعلها معلّقة بمشيّتهم ، فقال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٣) (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٤) (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٥) (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٦) (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٧) (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٨).

العاشر :

الآيات الدالّة على الانكار على من نفى المشيّة عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى ، فقال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (٩) (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) (١٠).

الحادي عشر :

الآيات الدالّة على أنّه تعالى أمر العباد بالمسارعة إلى فعل الطّاعات ، فقال : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١١) (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) (١٢) (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١٣)

__________________

(١) سورة التكوير (٨١) : ٢٦.

(٢) سورة المدثر (٧٤) : ٤٩.

(٣) سورة الكهف (١٨) : ٢٩.

(٤) سورة فصلت (٤١) : ٤٠.

(٥) سورة المدثر (٧٤) : ٣٧.

(٦) سورة المدثر (٧٤) : ٥٥ ، عبس (٨٠) : ١٢.

(٧) سورة المزمل (٧٣) : ١٩.

(٨) سورة النبأ (٧٨) : ٣٩.

(٩) سورة الأنعام (٦) : ١٤٨.

(١٠) سورة الزخرف (٤٣) : ٢٠.

(١١) سورة آل عمران (٣) : ١٣٣.

(١٢) سورة البقرة (٢) : ١٤٨ ، والمائدة (٥) : ٤٨.

(١٣) سورة الواقعة (٥٦) : ١٠ ، ١١.

٤٨

الثّاني عشر :

الآيات الدالّة على أمر العباد بالأفعال ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١) (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (٢) (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ) (٣) (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٤) (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) (٥) (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) (٦) (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٧) (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٨).

الثّالث عشر :

الآيات الدالّة على حثّ الله تعالى عباده على الاستعانة به ، فقال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٩) (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) (١٠) (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١١) وكيف يجوز أن يخلق فينا الكفر والظّلم وأنواع المعاصي ويأمرنا بالاستعانة به ، والشّيطان مبرّأ عندهم من فعل شيء البتّة ويأمرنا بالاستعاذة منه ، وقد كان الواجب على قولهم الاستعانة بالشّيطان والاستعاذة به من الله تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

الرّابع عشر :

__________________

(١) سورة النساء (٤) : ٥٩ ، محمّد (٤٧) : ٣٣.

(٢) سورة البقرة (٢) : ٤٣ ، ٨٣ ، ١١٠ ، وفي السور ٤ : ٧٧ ، ١٠ : ٨٧ ، ٢٤ : ٥٦ ، ٣٠ : ٣١ ، ٧٣ : ٢٠.

(٣) سورة الأحقاف (٤٦) : ٣١.

(٤) سورة الأنفال (٨) : ٢٤.

(٥) سورة الحج (٢٢) : ٧٧.

(٦) سورة النساء (٤) : ١٧٠.

(٧) سورة الزمر (٣٩) : ٥٥.

(٨) سورة الزمر (٣٩) : ٥٤. أقول : هذه نموذج قليلة من الآيات الكثيرة الدالّة على أمره تعالى العباد بالأفعال.

(٩) سورة الفاتحة (١) : ٥.

(١٠) سورة الأعراف (٧) : ١٢٨.

(١١) سورة النحل (١٦) : ٩٨.

٤٩

الآيات الدالّة على فعل الله تعالى اللّطف للعباد (١) قال الله تعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (٢) (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) (٣) (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) (٤) (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (٥) (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٦) وإذا كانت الأفعال من الله تعالى ، فأيّ فائدة تقع في اللّطف المقرّب إليها مع أنّها من فعله تعالى.

الخامس عشر :

الآيات الدالّة على اعتراف الكفّار والعصاة باستناد أفعالهم إليهم ، كقوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ـ إلى قوله ـ (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) (٧) وقوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٨) الخ ، وقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) (٩) (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) ـ إلى قوله ـ (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (١٠) (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١١) وغير ذلك من الآيات.

السّادس عشر :

__________________

(١) اللّطف هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطّاعة وأبعد من فعل المعصية ، ولم يكن له حظّ في التمكين ، ولم يبلغ حدّ الإلجاء ، هذا هو اللّطف المقرّب.

(٢) سورة التوبة (٩) : ١٢٦.

(٣) سورة الزخرف (٤٣) : ٣٣.

(٤) سورة الشورى (٤٢) : ٢٧.

(٥) سورة آل عمران (٣) : ١٥٩.

(٦) سورة العنكبوت (٢٩) : ٤٥.

(٧) سورة سبأ (٣٤) : ٣١ ، ٣٢.

(٨) سورة المدثر (٧٤) : ٤٣.

(٩) سورة الملك (٦٧) : ٨.

(١٠) سورة الأعراف (٧) : ٣٩.

(١١) سورة النساء (٤) : ١٦٠.

٥٠

الآيات الدالّة على تحسّر الكفّار في الآخرة ، والنّدم على الكفر والمعصية ، وطلب الرّجوع إلى الدّنيا ليفعلوا الخير ، مع أنّهم في المرّة الثانية مقهورون على فعل الكفر والمعاصي ، فأيّ فائدة لهم في ذلك ، وقد كان طريق الاعتذار أنّ هذه الأفعال ليست صادرة عنّا باختيارنا ، بل هي من فعل الله تعالى وقضائه ، ولا اختيار لنا فيها ، قال الله تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) (١) (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (٢) (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) (٣) (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٤)

السّابع عشر :

الآيات الدالّة على نكس رءوس الكفّار واستحيائهم من الله تعالى ، كقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) (٥) وأيّ موجب لنكس رءوسهم ، والحياء اللّاحق بهم ، مع أنّهم غير قادرين على ترك المعصية ، وأنّها من فعل الله تعالى؟

الثّامن عشر :

القرآن إنّما نزّل حجّة لله على عباده ، وكذا إرسال الرّسل ، قال الله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٦) وأيّ حجّة أعظم على الله من حجّة الكفّار؟ فإنّ لهم أن يقولوا كيف تأمرنا بالإيمان وقد خلقت فينا ضدّه؟ وإنّه لا

__________________

(١) سورة فاطر (٣٥) : ٣٧.

(٢) سورة المؤمنون (٢٣) : ١٠٧.

(٣) سورة المؤمنون (٢٣) : ١٠٠.

(٤) سورة الزمر (٣٩) : ٥٨.

(٥) سورة السجدة (٣٢) : ١٢.

(٦) سورة النساء (٤) : ١٦٥.

٥١

قدرة لنا عليه ، ولا على أن نقهر مرادك ، وكيف تنهانا عن الكفر وقد خلقته فينا؟ وأيّ عذر لله تعالى عن ذلك ، وما يكون جوابه تعالى عند الأشاعرة عن هذا الإلزام (١)؟!

وما أحسن قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام لمّا سأله الشّامي ، أكان مسيرك إلى الشّام بقضاء الله وقدره؟ فقال عليه‌السلام : «ويحك ، لعلّك ظننت قضاء لازما ، وقدرا حاتما؟ ولو كان ذلك كذلك لبطل الثّواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، إنّ الله سبحانه وتعالى أمر عباده تخييرا ، ونهاهم تحذيرا ، وكلّف يسيرا ولم يكلّف عسيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الأنبياء لغوا ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثا ، ولا خلق السّماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)» (٢)

__________________

(١) أقول : زاد المؤلّف العلّامة في بعض مؤلّفاته وجها آخر عليها ، وهو الآيات الدالّة على اعتراف الأنبياء عليهم‌السلام ببعض أفعالهم ، وإضافتها إلى أنفسهم ، كقوله تعالى حكاية عن آدم عليه‌السلام : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) الأعراف (٧) : ٢٣ ، وعن يونس عليه‌السلام : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) الأنبياء (٢١) : ٨٧ ، وعن موسى عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) القصص (٢٨) : ١٦ ، وقال يعقوب عليه‌السلام لأولاده : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) يوسف (١٢) : ١٦ ، وقال يوسف عليه‌السلام : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) يوسف (١٢) : ١٨ ، وقال نوح عليه‌السلام : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) هود (١١) : ٤٧ ، فهذه الآيات تدلّ على اعتراف الأنبياء عليهم‌السلام بكونهم فاعلين لأفعالهم.

(٢) سورة ص (٣٨) : ٢٧. تمام الرواية كما ذكرها المؤلّف في شرحه على التجريد : ٣٤٢ ، عن الأصبغ بن نباتة لمّا انصرف من صفّين فإنّه قام إليه شيخ ، فقال : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن

٥٢

فانظر إلى توبيخه عليه‌السلام للشّامي وتنذيره بقوله : «ويحك» ، مع أنّها كلمة توبيخ ، حيث ظنّ أنّ القضاء لازم له.

ثمّ إلى قوله : «لو كان قضاء لازما لبطل الثّواب والعقاب ، وسقط الوعد و

__________________

مسيرنا إلى الشام ، أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : والّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما وطئنا موطئا ، ولا هبطنا واديا ، ولا علونا تلعة إلّا بقضاء الله وقدره ، فقال له الشيخ : عند الله أحتسب عنائي؟ ما أرى لي من الأجر شيئا ، فقال عليه‌السلام له : مه ، أيّها الشيخ ، بل عظّم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرّين ، فقال الشيخ : كيف؟ والقضاء والقدر ساقانا ، فقال عليه‌السلام : ويحك ، لعلّك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، والأمر والنهي ، ولم تأت لائمة من الله لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذّمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجنود الشيطان ، وشهود الزّور ، وأهل العمى عن الصواب ، وهم قدريّة هذه الامّة ومجوسها ، إنّ الله تعالى أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلّف يسيرا ، لم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرّسل عبثا ، ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) فقال الشيخ : وما القضاء والقدر اللّذان ما سرنا إلّا بهما؟ فقال عليه‌السلام : هو الأمر من الله تعالى والحكم ، وتلا قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) الإسراء (١٧) : ٢٣ ، فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته

يوم النّشور من الرّحمن رضوانا

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربّك عنّا منه إحسانا

رواها الكليني في الكافي ١ : ١٥٥ ، والصدوق في التوحيد : ٣٨٠ ، ٣٨٢ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٣٩ ، والمفيد في الإرشاد ١ : ١٢٠ ، والحرّاني في تحف العقول : ٤٦٨ ، والطبرسي في الاحتجاج ١ : ٢٠٨ ، والسيد الرضي في نهج البلاغة : ٤٨١ ، والكراجكي في كنز الفوائد ١ ٣٦٣.

٥٣

الوعيد» لأنّه يكون ظلما من الله تعالى ، والله منزّه عنه ، وكما أنّه يسقط الثّواب والعقاب ، والوعد والوعيد على خلق الأجسام والأعراض الّتي لا يقدر عليها إلّا الله تعالى ، كذا يجب أن يسقط ذلك على خلق الطّاعة والمعصية الصادرين عن الله تعالى ، ولكن لمّا ثبت الوعد والوعيد ، والثّواب والعقاب ، دلّ على بطلان القول بالقضاء اللّازم.

ثمّ انظر إلى قوله عليه‌السلام : «أمر عباده تخييرا ، ونهاهم تحذيرا» والله تعالى لم يقهر عباده على فعل الطّاعة ، ولا على اجتناب المعصية ، إذ لو كان كذلك لبطل التكليف ، وكان الفعل مستندا إلى الله تعالى ، بل أمر عباده أن يوقعوا الفعل على اختيارهم وإرادتهم ، فإن فعلوه أثابهم ، وإن تركوه عاقبهم ، وكذا حذّرهم في النّهي إنّهم متى فعلوا المنهيّ عنه عذّبهم.

ثمّ إلى قوله : «وكلّف يسيرا ولم يكلّف عسيرا» وهو مبطل قواعد المجبّرة الّذين قالوا إنّ الله تعالى كلّف عباده بالمحال وبما لا قدرة لهم عليه ، وأيّ يسر في ذلك ، وأيّ عسر أعظم منه؟

ثمّ إلى قوله عليه‌السلام : «ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها» فإنّه يبطل قواعدهم أيضا ، فإنّه لا يلزم من المعصية الصادرة عن العباد ، مع أنّه تعالى لم يردها منهم كونه مغلوبا ، لأنّه تعالى إنّما يكون مغلوبا لو لم يتمكّن من فعل ضدّ إرادتهم ، لكنّه تعالى متمكّن قادر عليه ، وإنّما لم يفعله لأنّه أراد إيقاع الفعل من العبد على جهة الاختيار.

ثمّ انظر إلى قوله عليه‌السلام : «ولم يرسل الأنبياء لغوا ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثا ، ولا خلق السّماوات والأرض وما بينهما باطلا» كما قال تعالى فإنّه مبطل لقواعدهم أيضا ، حيث يقولون إنّه تعالى لا يفعل لغرض ، ولا لمصلحة ، ولا

٥٤

لحكمة ، ولم يخلق الرّجل للمشي ، ولا اليد للبطش ، ولا اللّسان للنّطق ، إلى غير ذلك من الأعضاء ، ولم يخلق السّماوات والأرض وما بينهما لحكمة ، ولا لغاية ، ولا لغرض البتّة ، بل خلق جميع ذلك لا لفائدة راجعة إليه ، ولا إلى خلقه ، بل لا لفائدة أصلا ، وهذا بعينه هو العبث والباطل واللّعب ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وسأل أبو حنيفة (١) مولانا الكاظم عليه‌السلام فقال : المعصية ممّن؟ فقال عليه‌السلام : «المعصية إمّا من العبد ، أو من الله تعالى ، أو منهما ، فإن كانت من الله تعالى فهو أعدل وأنصف من أن يعذّب (٢) عبده الضّعيف ويأخذه بما لم يفعله ، وإن كانت المعصية منهما فهو شريكه والقويّ أولى بانصاف عبده الضّعيف ، وإن كانت المعصية من العبد وحده فعليه وقع الأمر ، وإليه توجّه الذّمّ والمدح ، وهو أحقّ بالثّواب والعقاب ، ووجبت له الجنّة والنّار» فقال أبو حنيفة : ذرّيّة بعضها من بعض ، والله سميع عليم (٣).

__________________

(١) هو النّعمان بن ثابت الكوفي مولاهم ، ذكره الشّيخ الطوسي في أصحاب الصادق عليه‌السلام. قال الذّهبي في ميزان الاعتدال : ضعّفه النسائي من جهة حفظه ، وابن عدي وآخرون. وقال الجصّاص : له فتاوي عجيبة ، منها ما أفتى به من أنّ الرّجل إذا استأجره امرأة على الزّنا لم يحدّ ، لأنّ الله تعالى سمّى المهر أجرا ؛ وله قياسات عجيبة ، فقد قال بطهارة الكلب ، ولكنّه ذهب إلى نجاسة لعابه ، قياسا له بنجاسة لحمه بعد موته. وقال الغزالي : فأمّا أبو حنيفة فقد قلّب الشّريعة ظهرا لبطن ، وشوّش مسلكها ، وغيّر نظامها ، وأردف جميع قواعد الشّرع بأصل هدم به شرع محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقال ابن الجوزي في جملة كلامه : وبعد هذا فاتّفق الكلّ على طعن فيه ، قلت : ومع ذلك إليه ينتمي المذهب الحنفي ؛ ولد سنة ٨٠ وتوفّي سنة ١٥٠.

(٢) في «ج» و «ق» و «م» : يظلم.

(٣) رواه الصدوق في الأمالي ٣٣٥ / ٤ ، والتوحيد ٩٦ / ٦ ، عيون أخبار الرضا ١ : ١٣٨ / ٣٧ ، و

٥٥

(أدلّة الأشاعرة)

احتجّت الأشاعرة بوجوه :

الأوّل :

إنّ العبد لو كان فاعلا ، فإن لم يتمكّن من التّرك لزم الجبر ، وإن تمكّن ، فإن لم يفتقر الترجيح إلى مرجّح لزم ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجّح وهو محال ، وإن افتقر ، فذلك المرجّح إن وجب معه الفعل لزم الجبر ، وإلّا عاد البحث إليه فيتسلسل.

الثّاني :

إنّ الله تعالى إن علم وقوع الفعل وجب وقوعه (١) وإلّا لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا وهو محال ، وإن علم عدمه استحال وقوعه ، وعلى كلا التقديرين يلزم الجبر.

الثّالث :

إنّ العبد لو كان فاعلا لكان مع الله تعالى وهو محال.

__________________

الحرّاني في تحف العقول : ٤١٢ ، والطبرسي في الاحتجاج ٢ : ٣٨٨ ، ثمّ قال : وفي ذلك يقول الشاعر :

لم تخل أفعالنا اللّاتي نذمّ بها

إحدى ثلاث معان حين نأتيها

إمّا تفرّد بارينا بصنعتها

فيسقط اللّوم عنّا حين ننشيها

أو كان يشركنا فيها ، فيلحقه

ما سوف يلحقنا من لائم فيها

أو لم يكن لإلهي في جنايتها

ذنب فما الذّنب إلّا ذنب جانيها

(١) فإنّه تعالى قد علم في الأزل وقوع ما يقع ، وعدم وقوع ما لا يقع ، وما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب الوقوع ، وما علم عدمه فهو ممتنع الوقوع ، وهما غير مقدورين للعبد ، فيلزم الجبر.

٥٦

الرّابع :

إنّ الإيمان لو أراده الله تعالى من الكافر لزم عجز الله ، لأنّ الكافر قد وقع مراده وهو الكفر ، والله تعالى لم يقع مراده وهو الإيمان.

(الجواب عن أدلّة الأشاعرة)

والجواب عن الأوّل من حيث المعارضة ، ومن حيث الحلّ :

أمّا المعارضة : فإنّا نورد دليلهم في حقّ الله تعالى ونقول : الله تعالى إذا فعل فعلا فإن لم يتمكّن من تركه لزم الجبر ، وأن لا يكون الله تعالى مختارا في أفعاله ، بل يكون موجبا وهو كفر ، لأنّه مذهب الفلاسفة ، وإن تمكّن من التّرك كانت قدرته على الفعل والتّرك واحدة ، فإذا رجّح الفعل فإن لم يفتقر إلى مرجّح لزم ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجّح ، وهو محال عندهم ، وإن افتقر إلى مرجّح ، فذلك المرجّح إن وجب معه الفعل لزم الجبر ، فيكون الله تعالى موجبا وهو محال ، وإن لم يجب عاد البحث فيه ، فما هو جوابهم عن الله تعالى هو جوابنا عن العبد.

وأمّا الحلّ : فإنّا نقول أوّلا : إنّه يجب معه الفعل (١) ، قوله : يلزم الجبر. قلنا : لا نسلّم ، فإنّ الفعل هنا يجب بقدرة العبد وإرادته ، والجبر إنّما يلزم لو وجب لا

__________________

(١) أي إنّا نختار أنّ المرجّح هو الإرادة ووجوب الفعل من قبلها ، وهذا الوجوب لا ينافي الاختيار والتمكّن من الترك بالنظر إلى نفس القدرة ، بل يحقّقه ، لأنّ القادر هو الّذي يصحّ منه الفعل والترك قبل الإرادة ، وإن وجب بعد تعلّق الإرادة به فهو واجب بالغير ، ومن المقرّر أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد ، ولا شبهة أنّ هذا الوجوب وجوب بالغير ، فلو كان منافيا للاختيار لما وجد قادر مختار أصلا.

٥٧

بقدرته وإرادته.

وأمّا ثانيا : فإنّا نقول : إنّه لا يجب معه الفعل (١) ، قوله يلزم ترجيح أحد الطرفين المساويين على الآخر لا لمرجّح. قلنا : نمنع تساويهما ، بل يكون الفعل أرجح وإن لم ينته إلى حدّ الوجوب ، وترجيح الرّاجح ليس بمحال.

وأمّا ثالثا : فإنّا نمنع استحالة ترجيح أحد الطرفين المتساويين على الآخر عند القادر لا لمرجّح (٢) فإنّ العلم القطعي حاصل بأنّ الجائع إذا قدّم إليه رغيفان متساويان فإنّه يتناول أحدهما من غير أن ينتظر وجود مرجّح ؛ وأنّ العطشان إذا وجد ماءين متساويين فإنّه يتناول أحدهما ولا يموت عطشا إلى أن يحصل له المرجّح ؛ والهارب من السّبع إذا اعترضه طريقان متساويان فإنّه يسلك أحدهما ولا ينتظر وجود المرجّح.

__________________

(١) لأنّا نمنع أن يحتاج الفعل إلى مرجّح ملزم ، بل يكفي في صدوره وبقاء الاختيار رجحان الصدور وأولويّة أحدهما على الآخر ، ولا ينتهي الرّجحان إلى الوجوب ، ولو سلّمناه نمنع لزوم الفعل ، لأنّه خلاف الوجدان ، فإنّا نجد أنفسنا معه قادرا ومختارا في انتخاب الفعل على الترك أو بالعكس ، فلا يلزم الجبر ، ولا الترجيح بلا مرجّح.

(٢) هذا الوجه من كلام المصنّف يكون إلزاما للأشاعرة أو أكثرهم حيث جوّزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجّح ، لمجرّد الإرادة بلا داع يختصّ بها ، ومثّلوا بما ذكره المصنّف من الأمثلة الوجدانية ؛ وممّن صرّح بنسبة ذلك إلى الشيخ الأشعري سيف الدّين الأبهري الأشعري في مبحث الحسن والقبح من حاشيته على شرح المختصر. بل تجاوزوا عن ذلك أيضا وقالوا بجواز ترجيح المرجوح على الراجح وتفضيل المفضول على الفاضل ، فوضعوا حديثا في شأن أبي بكر وهو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لو وضع أبو بكر في كفّة ميزان ، وجميع النّاس في كفّة اخرى لترجّحت الكفّة الّتي كان فيها أبو بكر. ولا يلتفت إلى ما نقل عن البهلول في ردّ ذلك من أنّه لو صحّ هذا لكان في ذلك الميزان عيب البتّة ، لأنّه كان رافضيّا.

٥٨

والأصل في ذلك أنّ القادر يفعل بواسطة القصد والاختيار ، ودعوى الدّاعي إلى الفعل ، وهذا الدّاعي هو علم الفاعل ، أو ظنّه بأنّ ما يفعله خير أو نافع فيه ، وهو يقصد الخير ، فإذا تعدّد طريقه وتساوى الطريقان في حصوله فإنّه يسلك أحدهما من غير مرجّح ، لأنّ مطلوبه يحصل بكلّ واحد من الطريقين ، فالمراد هو القدر المشترك ، والخصوصيّات لا مدخل لها في قصده ، بل أيّما حصل حصل مقصوده.

والجواب عن الثّاني من حيث المعارضة ومن حيث الحلّ :

أمّا المعارضة : فإنّ دليلهم وارد في حقّ الله تعالى ، لأنّه تعالى إن علم وقوع الفعل عنه ، فإن جاز أن لا يقع لزم تجويز الجهل عليه تعالى ، وإن امتنع لزم الجبر وانتفاء قدرة الله ، فيكون الله تعالى موجبا لا مختارا وذلك عين الكفر.

وأمّا الحلّ : فنقول : العلم تابع للمعلوم ، وحكاية عنه ، وغير مؤثّر فيه ، والحكاية قد تتقدّم المحكيّ ، كما تقول : غدا تطلع الشّمس من المشرق ، فإنّه حكاية عن طلوع الشّمس متقدّمة عليه ، وقد تتأخّر عن المحكي ، ولا يلزم منه وجوب المعلوم ، وذلك لأنّ العلم والمعلوم أمران متطابقان ، ولا علم إلّا وبإزائه معلوم ، والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم دون العلم (١) فإذا تعلّق العلم بوجود زيد في الدّار ، فلو لا أن يكون لوجود زيد في الدّار تحقّق إمّا قبل العلم أو بعده أو معه لم يتعلّق العلم به ، فهو تابع غير مؤثّر في المعلوم إيجابا أو امتناعا.

__________________

(١) إذ لو لم يكن المعلوم لم يكن علم.

٥٩

نعم إذا فرضت تعلّق العلم به ، فقد فرضت وقوع المعلوم ، لأنّ فرض وقوع أحد المتطابقين يستدعي فرض وقوع الآخر ، فإذا فرضت وقوع المعلوم حصل له وجوب لاحق (١) وكذا إذا فرضت ما يطابقه ، وكما أنّ هذا الوجوب مع فرض وقوع المعلوم لا يؤثّر في الإمكان الذّاتي للمعلوم ، كذا فرض العلم الّذي هو مطابقه ، ولا فرق بين علم الله تعالى في ذلك وعلم الواحد منّا ، فإنّا إذا علمنا وجود زيد في الدّار ، لو لم يكن موجودا لزم أن لا يكون ما فرضناه علما ، وانقلاب الحقائق محال ، فيجب أن يكون زيد موجودا حتّى يمكن تحقّق علمنا به ؛ وكما أنّ وجود زيد في الدّار يكون مستندا إلى إرادته وقدرته ، لا إلى علمنا ، كذلك علم الله تعالى غير مؤثّر في المعلوم.

والجواب عن الثّالث أنّه خطأ ، فإنّ الشّركة إنّما تتحقّق لو قلنا إنّ العبد قادر لذاته على جميع الأشياء ، غير مغلوب في شيء ممّا يريده ، وأمّا إذا قلنا إنّ الله تعالى قد منحه قدرة وإرادة باعتبارهما يؤثّر في بعض الأفعال ، وإنّ الله قادر على تعجيزه وقهره وسلب قدرته وإرادته ، فإنّه لا يلزم أن يكون شريكا لله تعالى.

والجواب عن الرّابع أنّ العجز إنّما يلزم لو لم يقدر الله تعالى على قهر الكافر على الإيمان ، أمّا على تقدير أن يقدر الله على قهره عليه وإجباره فإنّه لا يكون عجزا ، لكنّ الله لا يريد منه إيقاع الإيمان كرها ، بل على سبيل الاختيار ، لئلّا يقبح التكليف منه تعالى ، فأيّ عجز يتحقّق حينئذ إذا لم يؤمن العبد باختياره؟

__________________

(١) حصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن ، فإنّ كلّ ممكن على الإطلاق إذا فرض موجودا فإنّه حالة وجوده يمتنع عدمه ، لامتناع اجتماع النقيضين ، وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا ، مع أنّه ممكن بالنظر إلى ذاته.

٦٠