استقصاء النّظر في القضاء والقدر

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

استقصاء النّظر في القضاء والقدر

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: السيّد محمّد الحسيني النيسابوري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار أنباء الغيب
الطبعة: ١
الصفحات: ١٠٩

المؤمنين عليه‌السلام قال لولده : تفقّه في الدّين ، فإنّ الفقهاء ورثة الأنبياء (١). وإنّ طالب العلم ليستغفر له من في السّماوات ومن في الأرض حتّى الطّير في الهواء والحوت في البحر ، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به (٢).

وإيّاك وكتمان العلم ومنعه عن المستحقّين لبذله ، فإنّ الله تعالى يقول : (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٣).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا ظهرت البدع في أمّتي ، فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله تعالى» (٤).

وقال عليه‌السلام : «لا تؤتوا الحكمة غير أهلها فتظلموها ، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم» (٥).

وعليك بتلاوة الكتاب العزيز ، والتفكّر في معانيه ، وامتثال أوامره ونواهيه ، وتتبّع الأخبار النبويّة والآثار المحمّديّة ، والبحث عن معانيها ، واستقصاء النّظر فيها ....

هذا الكتاب

قال الشيخ آقا بزرگ الطّهراني : استقصاء البحث والنّظر في مسائل القضاء والقدر ، عبّر به كذلك في الخلاصة ، وقد يقال له : استقصاء النّظر. ثمّ قال ثانيا : استقصاء النظر لآية الله العلّامة الحلّي ، كما في كشف الحجب ، لكن

__________________

(١) بحار الأنوار ١ : ٢١٦.

(٢) بحار الأنوار ١ : ١٦٤ و ١٧٢.

(٣) سورة البقرة (٢) : ١٥٩.

(٤) بحار الأنوار ١٠٨ : ١٥ و ١١٨.

(٥) بحار الأنوار ٢ : ٧٨.

٢١

مرّ آنفا أنّ اسمه استقصاء البحث والنظر كما صرّح به في الخلاصة.

أقول : في النسخ المطبوعة الموجودة فعلا من الخلاصة : استقصاء النظر في القضاء والقدر ، وفي مفتتح النسخ الخطّيّة من الكتاب : استقصاء النظر في البحث عن القضاء والقدر.

ألّف العلّامة هذا الكتاب للسّلطان الجايتو محمّد خدابنده لمّا سأله بيان الأدلّة الدالّة على أنّ للعبد اختيار في أفعاله وأنّه غير مجبور عليها ، فبيّن المؤلّف فيه مذاهب الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة ، ثمّ سرد الأباطيل الّذي يلزم من قول الأشعريّين ، فأجاب عن أهمّ احتجاجاتهم حلّا ونقضا ، وقال : إنّا نعلم بالضّرورة أنّا فاعلون ، ثمّ أشار إلى ثمانية عشر قسما من الآيات الدّالّة على استناد الأفعال إلى العباد.

وألّف بعض علماء السنّة من الهنود كتابا في ردّ هذا الكتاب ، فسلّط الله تعالى عليه السّيف الصارم السيّد الشهيد نور الله التستري ، فألّف كتابه الموسوم ب «النور الأنور والنور الأزهر في تنوير خفايا رسالة القضاء والقدر» فزيّف فيه اعتراضات الهندي على العلّامة الحلّي ، كما سلّطه الله أيضا على روزبهان الّذي ألّف كتابا في ردّ «كشف الحقّ ونهج الصدق» للعلّامة الحلّي بتأليف كتابه القيّم : «إحقاق الحق وإزهاق الباطل» ردّا عليه.

النسخ المعتمدة عليها في التحقيق

بحمد الله نسخ الكتاب شائعة فتوجد منها في ايران قريب عشرين نسخة ، واعتمدنا في تصحيح الكتاب على خمس نسخ خطّيّة ، ونسخة مطبوعة في العراق سابقا أصفها للقارىء الكريم :

٢٢

نسخة «ح»

هي نسخة قيّمة مصحّحة ، بخطّ تلميذ المؤلّف حيدر بن علي بن حيدر الآملي وقعت في مجموعة عليها إنهاء فخر المحقّقين ولد العلّامة بخطّه الشريف استفدت منها كثيرا فجعلتها أصلا للعمل ، النسخة موجودة في مكتبة المجلس النيابي بطهران تحت رقم ٤٩٥٣.

نسخة «ش»

هذه النسخة من مخطوطات جامع گوهرشاد وقعت في مجموعة فيها رسالة اخرى للعلّامة المؤلّف مكتوبة في آخرها : بلغ عرضا وقبالا بنسخة الأصل الّتي بخطّ المصنّف دام ظلّه ، فصحّ إلّا ما زاغ عنه النظر وحسّ عنه البصر وكتبي في شوّال سنة اثني عشرة وسبع مائة ، كذا في المنتسخ ، ابن محمّد إبراهيم خليل الله الحسيني شهر شوّال ١٠٧٧. أقول : مع ذلك كانت النسخة مغلوطة وفيها سقطات ، فلعلّ الشهادة كانت مختصّة بالرّسالة الثّانية من المجموعة فقط.

نسخة «آ»

وهي نسخة جيّدة الخطّ من مخطوطات مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام تحت رقم ٣١٤ ، فرغ من كتابتها شاه محمّد بن زين العابدين في عشر الاولى من جمادى الثانية من شهور سنة ١٠٤٢.

نسخة «ق»

سقطت خطبة الكتاب من هذه النسخة ، وعليها تملّكات متعدّدة بعد الألف ولا يرى فيها اسم الناسخ وتاريخ النسخ ، لكن سنة وقفها يعود إلى ١٠٦٧ ، وهي أيضا موجودة في مكتبة الرضويّة تحت رقم ٤٥.

٢٣

نسخة «ج»

وهي أيضا من مخطوطات مكتبة المجلس النيابي تحت رقم ٤٩٥٤ كتبها مير جعفر بن عبد الله الحسيني في عام ١٠٦٩ ، وفي هذه المكتبة أيضا توجد نسخ مخطوطة اخرى.

نسخة «م»

هي النسخة المطبوعة في سنة ١٣٥٤ بمطبعة الراعي في النجف وفيها سقطات مضرّة ومخلّة بالمراد ولعلّها سقطت عند الطبع نشره علي الخاقاني مع إنقاذ البشر من الجبر والقدر للسيّد المرتضى.

هذا والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا وهو خير موفّق ومعين.

منتصف ليلة ٢٧ من شهر شعبان المعظّم سنة ٢٤١١ ه‍

السيّد محمّد الحسيني النيشابوري

عفى الله عنه وعن والديه

٢٤

٢٥

٢٦

٢٧

٢٨

٢٩
٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الحكيم الغفّار (١) القديم القهّار ، العظيم الستّار ، الّذي خلق الإنسان ومنحه بالاقتدار ، وأنعم عليه بالتّكليف المستند إلى الإرادة والاختيار ، ووعده على فعل الطّاعة عقبى الدار ، وتوعّده على المعصية بدخول النّار ، جزاءا على أفعاله بمقتضى العدل من غير إكراه ولا ظلم ولا إجبار ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد النّبي المختار ، المبعوث من ولد معد بن نزار ، وعلى عترته الأماجد الأطهار ، المعصومين من الخطأ والزّلل حالتي الإيراد والإصدار ، صلاة تتعاقب عليهم تعاقب الأعصار.

أمّا بعد : فإنّه لمّا كان السّلطان الأعظم ، الحاكم في رقاب الامم ، سلطان سلاطين العرب والعجم ، شاهنشاه المعظّم ، غياث الملّة والحقّ والدّين ،

__________________

(١) في «م» و «ج» : العليم.

٣١

اولجايتو خدابنده محمّد (١) مالك وجه الأرض ثبّت الله ملكه إلى يوم النّشر والعرض ، وأيّده (٢) بالألطاف الربّانيّة ، وأيّده (٣) بالعنايات الإلهيّة ، وقرن دولته بالخلود إلى يوم الموعود ، ولا زالت الرّقاب خاضعة لعظمته ، والقلوب خاشعة لهيبته (٤) والدّنيا معمورة بدوام دولته ، والأحكام نافذة على وفق إرادته ، والآمال متوجّهة نحو كعبته ، والنّصر محفوظا (٥) بألويته (٦) بمحمّد وعترته فأمنحه (٧) الله بالقوّة القدسيّة ، وخصّه بالكمالات النّفسانيّة ، والقريحة الوقّادة (٨) والفكرة الصحيحة النقّادة ، وفاق في ذلك على جميع الامم ، وزاد علما وفضلا على فضلاء من تأخّر وتقدّم ، وألهمه الله تعالى العدل في رعيّته ، والإحسان إلى العلماء من أهل مملكته ، وإفاضة (٩) الخير والإنعام على جميع الأنام ، وبرّز حكمه النّافذ في الأقطار لا زال ممتثلا في الأعصار.

__________________

(١) السّلطان شاه محمّد اولجايتو خدابنده أحد السّلاطين الإيلخانيّة المغوليّة ، تشيّع على يد العلّامة المؤلّف في قصّة أشرت إليها في ترجمته ، فقرّبه منه وأمر له ولتلاميذه بمدرسة سيّارة تنتقل بانتقاله أينما سافر معه ، ويعلم هذا ممّا يوجد في آخر بعض مؤلّفاته من أنّه : وقع الفراغ منه في المدرسة السيّارة السّلطانيّة في كرمانشاهان ، وقال في آخر الموجود من كتاب الألفين : وكتب حسن بن مطهّر ببلدة جرجان في صحبة السّلطان الأعظم غياث الدّين محمّد اولجايتو خلّد الله ملكه ، وصنّف في سفره هذا أيضا الرّسالة السعديّة ، ولأجل هذا السّلطان صنّف العلّامة كتب : كشف الحق ، منهاج الكرامة ، رسالة وقوع النّسخ ، وهذا الكتاب.

(٢) في «ش» و «آ» : أبّده.

(٣) في «ق» و «ج» و «م» : أمدّه.

(٤) في «ش» و «آ» و «ج» : من هيبته.

(٥) في «ش» وهامش «ح» : محفوفا.

(٦) ألوية جمع اللّواء : علم الجيش.

(٧) في غير «ح» : قد منحه.

(٨) رجل وقّاد : سريع توقّد القلب.

(٩) في «ح» و «ق» و «آ» : أفاضه.

٣٢

أمرني بسطر (١) الأدلّة الدالّة على أنّ للعبد اختيارا في أفعاله ، وأنّه غير مجبور عليها ، قابلت ذلك الأمر المطاع بالامتثال والاتّباع ، وسارعت في إنشاء هذه الرّسالة الموسومة ب «استقصاء النّظر في البحث عن القضاء والقدر» المشتملة على حجج الفريقين وأدلّة الخصمين ، وأوضحت الحقّ منهما بالبرهان الواضح ، والدليل اللّائح ، قاصدا في ذلك تحقيق الحقّ ، وارتكاب نهج الصدق ، واستعمال الانصاف ، واجتناب البغي والاعتساف ، وطلب الحقّ أين (٢) كان ، والوصول إليه بقدر الإمكان ، والله الموفّق والمعين ، وقبل الخوض في الأدلّة نقرّر محلّ النّزاع ، فنقول :

(مذهب الجهميّة والأشاعرة في الأفعال)

ذهب جهم بن صفوان (٣) إلى أنّه لا فعل للعبد البتّة ، وأنّ الفاعل لجميع الأشياء هو الله تعالى لا غير ، ولا قدرة للعبد.

وذهب الأشاعرة والنجّاريّة إلى أنّ الله تعالى هو الموجد للأفعال بأجمعها لكنّ العبد مكتسب لأفعاله ، فأثبتوا للعبد قدرة غير مؤثّرة في الفعل بل الفعل صادر من الله تعالى ، وهذا في الحقيقة هو مذهب جهم بن صفوان لكن لمّا خاف (٤) أبو الحسن الأشعري (٥) أنّ الشّناعة تلزمه من إسقاط فائدة التكليف ، و

__________________

(١) في غير «ج» : سألني بنظر.

(٢) في «م» : كيف.

(٣) هو أبو محرز السّمرقندي رأس الجهميّة ، كان يقضي في عسكر الحارث بن سريج الخارج على أمراء خراسان ، فقبض عليه نصر بن سيّار وأمر بقتله ، فقتل في سنة ١٢٨ ه‍.

(٤) في «م» : رأى ، وفي غير «ج» : قال.

(٥) هو علي بن إسماعيل بن إسحاق الأشعرى ، قدوة الأشاعرة الّذين اشتهروا به ، كان معتزليّا ثمّ

٣٣

عدم الفرق بين حركتنا يمنة ويسرة وصعودنا إلى السّماء اعتذر بإثبات القدرة ، ولكن لمّا لم يجعل أثرا ساوى قول جهم بن صفوان.

(مذهب العدليّة)

أمّا الإماميّة والمعتزلة ، فإنّهم قسّموا الأفعال إلى ما يتعلّق بقصودنا ودواعينا ، وإرادتنا واختيارنا ، كحركتنا الاختياريّة الصادرة عنّا ، كالحركة يمنة ويسرة ، وإلى ما لا يتعلّق بقصودنا ودواعينا ، كالآثار الّتي يفعلها الله تعالى فينا من الألوان (١) وحركة النموّ والتغذية ، وحركة النّبض وغير ذلك ، وهو مذهب الحكماء.

والحقّ أنّا فاعلون (٢) ويدلّ عليه العقل والنّقل.

(الأدلّة العقليّة لمذهب العدليّة)

أمّا العقل فلوجوه :

الأوّل :

إنّا نعلم بالضّرورة الفرق بين حركتنا الاختياريّة والاضطراريّة ، وحركة الجماد ، ونعلم بالضّرورة قدرتنا على الحركة الاولى ، كحركتنا يمنة ويسرة ، وعجزنا عن الثانية ، كحركتنا إلى السماء ، وحركة الواقع من شاهق ، وانتفاء

__________________

انقلب لمنافرة حدثت بينه وبين أبي علي الجبائي ، ولد سنة ٢٦٠ وتوفّي سنة ٣٢٤ ه‍ ، له كتب منها : اللّمع ، الموجز ، إيضاح البرهان ، التبيين عن اصول الدّين.

(١) في «ح» و «ش» و «آ» : الأكوان.

(٢) في «ج» و «ق» و «م» : أنّا نعلم بالضرورة أنّا فاعلون.

٣٤

قدرة الجماد ، ومن أسند الأفعال إلى الله تعالى ينفي الفرق بينهما ، ويحكم بنفي ما قضت الضرورة بثبوته.

قال أبو الهذيل العلّاف (١) ـ ونعم ما قال ـ : حمار بشر أعقل من بشر ، فإنّ حمار بشر لو أتيت به إلى جدول صغير وضربته للعبور فإنّه يطفر (٢) ولو أتيت به إلى جدول كبير وضربته فإنّه لا يطفر ويروغ عنه لأنّه فرق بين ما يقدر على طفره وما لا يقدر عليه ، وبشر لا يفرق بين المقدور عليه وغير المقدور.

الثّاني :

إنّه لو كانت الأفعال كلّها منسوبة إلى الله تعالى لم يبق عندنا فرق بين من أحسن إلينا غاية الإحسان ، ومن أساء إلينا غاية الإساءة طول عمره ، وكان يقبح منّا شكر الأوّل ومدحه ، وذمّ الثاني ، لأنّ الفعلين صادران عن الله تعالى لا عن الفاعلين ، ولمّا علمنا بطلان ذلك ، وأنّه يحسن مدح الأوّل وذمّ الثاني علمنا أنّ العلم باستناد الأفعال إلينا قطعيّ لا يقبل الشكّ.

الثّالث :

إنّه لو كانت الأفعال صادرة عن الله تعالى قبح منه أن يأمرنا وينهانا ويكلّفنا ، كما أنّه يقبح من أحدنا أمر الزّمن بالطّيران إلى السّماء ، لأنّا عاجزون عن امتثال هذه الأفعال ، لاستحالة صدورها عنّا

كما أنّ الزّمن عاجز عن ذلك ؛ وكما أنّه يقبح منّا أمر الواقع من شاهق

__________________

(١) هو محمد بن عبد الله بن مكحول البصري المشتهر بالعلّاف من زعماء المعتزلة وممّن شيّد أركان الاعتزال ، وإليه تنتمي الفرقة الهذيليّة من المعتزلة ، له كتب ، منها : كتاب الملابس ، وكتاب في مناظراته مع علي الميثمي ؛ توفي ببلدة سرّ من رأى سنة ٢٣٥ ، وقيل غيرها.

(٢) الطفرة : الوثوب في ارتفاع.

٣٥

بالحركة والسّكون ، كذا يقبح أمر المكلّف بالطّاعة واجتناب المعصية ، لعجزه عنهما ووقوعهما بغيره ؛ لكنّ الله قد أمر ونهى ، وأنذر وحذّر ، ووعد وتوعّد ، وكيف يحسن منه تعالى أن يقول : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (١) (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٢) وهو الّذي فعل الزّنا عندهم ، والسّرقة ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

الرّابع :

إنّ أفعالنا نعلم بالضّرورة أنّها تقع عند قصودنا ودواعينا وبحسبهما ، وتنتفي عند كراهتنا وصوارفنا ، فإنّا إذا أردنا الحركة يمنة فعلناها ولا يقع منّا سكون ولا الحركة يسرة ، ولو لا استنادها إلينا لجاز أن تقع وإن كرهناها ، وأن لا تقع وإن أردناها.

الخامس :

إنّه يلزم منه أن يكون الله تعالى في غاية الظّلم للعباد ، والجور ـ تعالى الله عن ذلك ـ لأنّه يخلق فينا المعاصي وأنواع الكفر والشّرك ويعذّبنا عليها ، ولا فرق بين خلقه الكفر في الكافر ، وخلق لونه وطوله ، فكما يلزم الظّلم لو عذّبه على لونه وطوله ، فكذا يلزم الظّلم لو عذّبه على الكفر الّذي خلقه فيه ، وقد نزّه الله تعالى نفسه ، فقال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣) (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٤) فأيّ ظلم أعظم من تعذيب الغير (٥) على فعل يصدر من الظّالم لا حيلة للمظلوم فيه ، ولا يتمكّن من تركه.

__________________

(١) سورة النور (٢٤) : ٢.

(٢) سورة المائدة (٥) : ٣٨.

(٣) سورة فصّلت (٤١) : ٤٦.

(٤) سورة غافر (٤٠) : ٣١.

(٥) في «ش» : العبد.

٣٦

ومن أغرب الأشياء وأعجبها أنّهم ينزّهون أنفسهم عن المعاصي والكفر وأنواع الفساد ، وينزّهون إبليس عن ذلك أيضا ، ووصفوا الله تعالى بذلك ، وقد كذّبهم الله تعالى في كتابه العزيز ، فقال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (١) وقال : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٢) والأشاعرة يقولون : إنّه يريد منهم الكفر ، وأيّ عاقل يرضى لنفسه مذهبا يلزم منه تكذيب الله تعالى.

السّادس :

إنّه يلزم منه أن يكون الكافر مطيعا لله تعالى بكفره ، لأنّه قد فعل ما هو مراد الله تعالى وهو الكفر ولم يفعل ما يكرهه الله تعالى وهو الإيمان ، لأنّ الإيمان عندهم غير مراد الله تعالى من الكافر ، بل هو ممّا يكرهه الله تعالى من الكافر ؛ وأيّ عاقل يرضى لنفسه اعتقادا بأنّ الكفر إطاعة ، وأنّ الإيمان معصية ، نعوذ بالله تعالى من ذلك.

السّابع :

إنّه يلزم منه نسبة السّفه إلى الله تعالى ، وأنّه يفعل ضدّ الحكمة ، لأنّ العقلاء إنّما يأمرون الغير بما يريدون إيقاعه منه ، وينهون عمّا يكرهون إيقاعه منه ، وإنّ من أراد من غيره فعلا ونهاه عنه ، ومن كره فعلا وأمر به نسبه العقلاء إلى الحمق والسّفه.

(شبهة الأشاعرة في الإيمان والجواب عنها)

والأشاعرة يقولون : إنّ الله تعالى كره الإيمان من الكافر وأمر به وأراد

__________________

(١) سورة الأعراف (٧) : ٢٨.

(٢) سورة الزمر (٣٩) : ٧.

٣٧

الكفر منه ونهاه عنه ، وأيّ عاقل يرضى لنفسه نسبة السّفه إلى الله تعالى وهو الحكيم في أفعاله ، كما قال : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (١) ووصف نفسه بأنّه حكيم (٢) وقولهم يضادّ ذلك ؛ فإن اعتذروا بأنّ الأمر قد يتحقّق بدون الإرادة ، كما في السيّد إذا ضرب عبده ، وطلب السّلطان الانتقام منه ، فاعتذر بأنّه لا يطيعني ، فيقول له السّلطان : مره حتّى أعرف عدم إطاعته ، فإنّ السيّد إذا أمره لم يرد منه الفعل.

قلنا : هذا خطأ من وجوه :

أوّلها : إنّه مثال جزئي لا نظير له ، ولا مثال سواه ، فكيف يصحّ منّا حمل أوامر الله تعالى ونواهيه ، وأوامر العقلاء ونواهيهم على هذه المثال الجزئي النّادر ، مع أنّ جميع الأوامر والنّواهي لا ينفكّ عن الإرادة والكراهة؟

وثانيها : إنّا نمنع أمر السيّد هنا بل يوجد صيغة الأمر ولا يأمره أمرا حقيقيّا.

وثالثها : إنّ السيّد كما لا يريد الفعل ، كذا لا يطلبه ، فإنّ السيّد يطلب إقامة عذره وتمهيده عند السّلطان ، وليس ذلك بطلب الفعل منه كما أنّه ليس بإرادته ، فإذا امتنعت الإرادة هنا يمتنع الطلب مع اتّفاقهم على إثبات طلب الفعل منه.

ورابعها : إنّ السيّد يكره على الأمر بما لا يريد والبحث إنّما هو في غير المكره ، ولا يلزم من الانفكاك عند الإكراه الانفكاك مع الاختيار.

الثّامن :

يلزم جواز أن يعذّب الله تعالى سيّد الرّسل العذاب الدّائم ، ويخلّد إبليس

__________________

(١) سورة الملك (٦٧) : ٣.

(٢) جاء وصفه تعالى بأنّه حكيم في أكثر من سبع وثلاثين آية ، فراجع القرآن.

٣٨

وفرعون بالجنان ويورثهما إيّاها ، حيث إنّه لا مدخل للطّاعة والمعصية في استحقاق الثّواب والعقاب عندهم ، فيبطل جميع التكاليف ويلتجئ كلّ عاقل إلى الرّاحة من التكاليف ، ويفعل أنواع الملاذّ والمعاصي والملاهي المحرّمة ، وترك التكاليف الشاقّة ، إذ لا فرق بين ارتكاب المشاقّ وامتثال الأوامر بالطّاعات ، وبين ارتكاب أنواع الفسوق ، بل يجب أن يحكم بسفه الزّاهد العابد المنفق أمواله في أصناف الخير ، من بناء المساجد والرّبط والمدارس ، لأنّه يعجل لنفسه ارتكاب المشقّة ، ويخرج ما يحتاج إليه من الأموال لغرض لا يحصل بفعل ذلك ، بل يحصل به العذاب ، ويترك الرّاحة والملاذّ والملاهي ، مع أنّه قد يحصل به النّعيم المؤبّد ، وأيّ عاقل يرضى لنفسه مثل هذا المذهب المؤدّي إلى خراب العالم ، واختلال نظام النّوع الإنساني ، واضطراب الشّريعة المحمّديّة صلى‌الله‌عليه‌وآله.

التّاسع :

إنّه يلزم منه الكفر ، وعدم الجزم بصدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وانتفاء الوثوق بشيء من الشّرائع والأديان ، لأنّ الكفر والإضلال ، وجميع أنواع المعاصي وأنواع الفسوق ، ودعوى الكذّابين في النبوّة صادرة عنه تعالى وواقعة بإرادته ، فجاز أن يكون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره من الأنبياء المتقدّمين كموسى وعيسى وغيرهما عليهم‌السلام قد ادّعوا النبوّة وهم كذّابون ، وإنّه تعالى خلق المعجز عقيب دعواهم لإضلال (١) الخلق ، لأنّ العصاة والفسّاق والكفّار في العالم أكثر من المطيعين ، لقوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (٣)

__________________

(١) في «ح» و «ش» و «آ» : لإضلالهم.

(٢) سورة سبأ (٣٤) : ١٣.

(٣) سورة ص (٣٨) : ٢٤.

٣٩

فتكون عادته تعالى جارية بالإضلال ، فكيف يعرف صدق الأنبياء حينئذ ، وأيّ طريق يوصلنا إلى ذلك ، مع علمنا بأنّه تعالى يضلّ العالم ، ويفعل بهم ضدّ الحقّ ، ولا يريد هدايتهم ، ولا إرشادهم؟ فنعوذ بالله تعالى من المصير إلى هذا المذهب المؤدّي إلى ذلك.

العاشر :

الأشاعرة شاكّون في حصول النّجاة لهم ولأنبيائهم ، إذ لا يمكنهم الجزم بذلك ، فإنّ الثّواب والعقاب غير مستحقّين عندهم بفعل الطّاعات والمعاصي ، بل جاز أن يعذّب الله المؤمن ، بل النّبي ، ويثيب الكافر على ما تقدّم ، والشكّ كفر نعوذ بالله من ذلك.

الحادي عشر :

إنّه يلزم منه أن يصف الله تعالى نفسه بوصف غير متحقّق له وذلك كفر ، بيان ذلك أنّه تعالى وصف نفسه بالرّحمة والغفران والعفو ، وإنّما يتحقّق ذلك لو كان الله تعالى مستحقّا للعقاب في جنب الفسّاق بحيث يتحقّق بإسقاط العفو والغفران والرحمة ، وإلّا فأين يتحقّق العفو إذا لم يكن مستحقّا لعقاب العصاة ، وإنّما يتحقّق العقاب لو كان العصيان مستندا إلى العبد ، أمّا إذا (١) كان مستندا إلى الله تعالى ، واقعا بإرادته لم يكن له (٢) على العاصي حقّ.

الثّاني عشر :

إذا كانت الأفعال واقعة بإرادته وقدرته تعالى كيف يتحقّق الظّلم من العباد ، وكيف يحسن منه تعالى أن يقول : (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٣) وأيّ

__________________

(١) في «ش» و «آ» : ما ، في «ق» : لو.

(٢) له في «م» فقط.

(٣) سورة هود (١١) : ١٨.

٤٠