الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ...). (١)

وهكذا في آية ثالثة يشير سبحانه وتعالى إلى قصة يوسف عليه‌السلام وموقف يعقوب عليه‌السلام وزوجته وأولاده وسجودهم أمام يوسف عليه‌السلام بقوله : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً). (٢)

فلو أخذنا بالتعريف اللغوي للعبادة يلزم من ذلك أن يكون سجود الملائكة ـ الذي هو من أعلى مظاهر الخضوع ـ لآدم وسجود يعقوب وزوجته وبنيه ليوسف ، عبادة لآدم وليوسف عليهما‌السلام!!!

ولا يوجد مسلم على وجه الأرض يتفوّه بذلك أبداً.

ومن هنا يظهر أنّ تفسير العبادة بنهاية الخضوع والتذلّل وغير ذلك ممّا جاء في كتب اللغة ، تفسير غير دقيق ، وانّه لا يعطي الضابطة الكلية ، وإنّما هو في الواقع ـ وكما قلنا ـ تفسير بالمعنى الأعم ، ومن هنا إذا قصرنا النظر في تفسير العبادة على هذه التعاريف ، وقلنا بأنّها تعاريف تامّة جامعة للأفراد ومانعة للأغيار ، لزم رمي الأنبياء والصالحين والمرسلين والشهداء والصدّيقين بالشرك ، إذ ليس منهم من لم يتذلّل أو يخشع أو يخضع لوالديه على أقلّ تقدير.

قد يقال في مقام الدفاع عن سجود الملائكة لآدم : إنّ السجود كان في الحقيقة لله وحده وليس لآدم ، وإنّما كان آدم يمثّل دور القبلة بمعنى أنّ السجود كان لله تعالى ولكن باتجاه آدم عليه‌السلام كما يفعل المسلمون حيث يسجدون لله ويجعلون سجودهم باتّجاه القبلة.

لكن يرد على هذا النمط من التفكير والتوجيه أنّه معارض وبصورة تامّة

__________________

(١) البقرة : ٣٤.

(٢) يوسف : ١٠٠.

٨١

للآيات القرآنية ، وذلك لأنّه لو صحّ هذا التوجيه لما كان لامتناع إبليس وتمرده معنى ، حيث قال :

(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً). (١)

فالآية توضح وبجلاء أنّ الأمر كان موجّهاً للملائكة بأن يسجدوا لآدم لا أن يسجدوا باتجاه آدم عليه‌السلام فقط.

وهنا نكتة لا بدّ من أن نلفت انتباه القارئ إليها ، وهي أنّنا حينما ناقشنا آراء أصحاب اللغة وعلماء هذا الفن لا يعني ذلك أبداً التقليل من أهمية عملهم ، أو إثبات بطلان آرائهم بصورة مطلقة ، وذلك لأنّهم في الحقيقة ليسوا في مقام التفسير التفصيلي للمصطلحات ، بل هم في مقام بيان التفسير بصورة إجمالية ، بمعنى آخر أنّهم ليسوا في مقام بيان الحدود والتعريفات المنطقية (الواقعية) وإعطاء الضابطة الكلية المنطقية والعلمية للمصطلحات.

ب : تحليل المسائل التي وردت فيها لفظة العبادة

إنّ اعتماد هذا الطريق هو الآخر لن يوصلنا إلى النتيجة التي نتوخّاها في تعريف العبادة ، بمعنى أنّه لا يمكننا بحال من الأحوال اعتماد هذا الطريق واستقصاء الموارد التي وردت فيها العبادة ، واعتبار ذلك هو المعيار لتمييز العبادة عمّا سواها ، وذلك لأنّه من الواضح أنّ للّغة من الناحية الصناعية والبلاغية أساليبها الخاصة من «الاستعارة ، والمجاز والتشبيه و ... فقد ترد لفظة العبادة في آية أو جملة أو بيت شعر أو حكمة ويراد منها المعنى المجازي ، أو أنّها استعيرت في معنى آخر أو ... ، فعلى سبيل المثال يطلق

__________________

(١) الإسراء : ٦١.

٨٢

لفظ العبادة على من خضع لغرائزه وميوله ، فيقال لشديد الطمع والحريص على كنز المال والثروة أو المنحرف أمام تيار الشهوة الجنسية أو المتلهّف إلى الجاه والسلطان انّه عبد بطنه أو ماله أو فرجه أو عبد المنصب والجاه.

ومن الواضح انّ إفراط هؤلاء في الأكل أو كنز المال وتكديس الثروة وطلب الجاه والمنصب لا يكون عاملاً في إدخالهم في قائمة المشركين وإطلاق لفظ الشرك المصطلح عليهم أبداً ، نعم انّ العامل الذي جوّز استعمال هذه اللفظة في حقّهم هو انّهم تركوا زمام أُمورهم بيد تلك الغرائز والشهوات والميول تقودهم حيث تشاء ، ولذا عدّوا بنظر الناس عابدين لبطونهم ومناصبهم ، ... بل انّ هذه الاستعمالات المجازية جاءت في القرآن الكريم نفسه في موارد شبيهة لتلك الموارد المذكورة حيث قال :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). (١)

فالإنسان الغارق في الغضب أو الشهوة والمنحرف مع ميوله وأهوائه المتساهل في أداء العبادات والتارك للفرائض أو شارب الخمر والمرتكب للزنا ، مطيع للشيطان ، وقد اقترف بعمله هذا المعاصي والموبقات ، ولكن ذلك لا يعني أنّه يعبد الشيطان كعبادة الله سبحانه ، أو كعبادة المشركين للأصنام ، ولأجل ذلك لا يكون مشركاً محكوماً عليه بأحكام الشرك ، وخارجاً عن عداد المسلمين وزمرتهم مع أنّه من عبدة الشيطان بالمعنى الوسيع الأعم من الحقيقي والمجازي.

ومن هنا يكون اعتماد هذين الطريقين ـ وإن كانا لا يخلوان من فائدة ما ـ

__________________

(١) يس : ٦٠.

٨٣

غير مُجد في إيصالنا إلى الغاية المنشودة والهدف المقصود في «تعريف العبادة تعريفاً منطقياً» ، بل لا بدّ من اعتماد الطريق الثالث الذي سيأتي الحديث عنه في الفرع التالي.

ج. تحليل الخصائص القطعية والعناصر المقوّمة للعبادة

إنّ الباحث الموضوعي إذا أراد أن يحلّل مفهوم العبادة ويحدّد الخصائص والعناصر المقوّمة لها ، لا ريب أنّه سيواجه خصوصيتين أساسيتين : إحداهما ظاهرية والأُخرى باطنية ، وهاتان الخصوصيتان بمثابة عنصري الأُوكسجين والهيدروجين المقوّمين لحقيقة الماء ، ومن هنا فإنّ هاتين الخصوصيتين سيكون لهما الأثر الفاعل في تحديد ملاك العبادة وتميّزها عن غيرها.

وهذه الخصائص يمكن اقتناصها من أفعال العباد وعقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين وعبادة المشركين.

ثمّ إنّ الإمعان في هذا المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن : الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له.

من هنا يتّضح انّ العنصرين المقوّمين للعبادة ، هما :

١. الفعل المنبئ عن الخضوع والتذلّل.

٢. العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الخاصية الأُولى : والتي يمكن مشاهدتها في جميع مصاديق العبادة ولمسها بسهولة من خلال «الخضوع والتذلّل والخشوع» أمام الطرف المقابل ،

٨٤

أو بعمل خارجي كالركوع والسجود والانحناء ، بل الانحناء بالرأس ، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّة وخضوع أمام موجود ما. ولا شكّ أنّ جميع المفاهيم تشترك في هذه الخصوصية من قبيل «العبادة ، التكريم ، الطاعة ، إحياء الذكريات» وغيرها ، فالكلّ تشتمل على خصوصية الخضوع والخشوع والتذلّل. ومن هنا لا يمكن أن تكون تلك الخصوصية هي المائز الرئيسي والمعيار الأساسي لتحديد المفهوم الحقيقي والمراد النهائي من العبادة ، أو تحديد المصاديق الواقعية للعبادة ، لذلك اقتضى الأمر أن نفتش عن الحقيقة الثانية وأن ندرسها بدقّة وإمعان للتمكّن من خلالها من تمييز المصاديق الواقعية والحقيقية للعبادة عن المصاديق التي تشبه بظاهرها العبادة وليست هي عبادة حقيقية فنقول :

إنّ معرفة الأهداف والأغراض الباطنية تكمن في تحليل الهدف الذي ينشدونه من العبادة والخضوع ، فممّا لا ريب فيه أنّ الهدف الذي ينشده الموحّد المؤمن بالله تعالى يختلف اختلافاً جوهرياً عن الهدف الذي ينشده غيره.

وبعبارة أُخرى : انّ الموحّدين عامّة والوثنيين كلّهم ، وعبدة الشمس والكواكب يعتقدون بألوهية معبوداتهم ، فالاعتقاد بألوهية المعبود بهذا المعنى هو المقوّم لصدق العبادة ، ولكن الهدف يختلف بينهم اختلافاً جوهرياً كما قلنا ، ومن هنا يقتضي الأمر أن نسلّط الضوء على تلك الأهداف ، فهدف الموحّدين وأتباع الرسالات التوحيدية يرتبط بدرجة ومرتبة إخلاصهم ومقدار معرفتهم ودرجة فهمهم لمعبودهم تعالى ، ولذلك يمكن تصنيف الخصوصية الباطنية لهؤلاء الموحّدين إلى صورتين :

٨٥

١. الهدف الذي ينشده الخاصة (العارفون) من الموحّدين.

٢. الهدف الذي ينشده العامّة من المؤمنين.

١. الهدف الذي ينشده العارفون بالله

إنّ الهدف الذي ينشده الخاصّة من الناس والذي يطلق عليهم حسب الاصطلاح لفظ «العارفون» الذين يرتبطون بمركز الحق ارتباطاً خاصاً ، فإنّ من الواضح انّ هذه الطائفة من الناس تبتغي من وراء العبادة هدفاً خاصاً وتنشد غرضاً فريداً من نوعه من خلال عملهم هذا ، وهذا الهدف يتمثّل في العشق والوله والذوبان في معشوقهم ومعبودهم ، وانّ إدراكهم ومعرفتهم بالجمال المطلق قد هيمن على وجودهم بنحو جعلهم تتسمّر أقدامهم ، وتخضع أعناقهم ، وتنشد أعينهم إلى المعشوق والخضوع له وعبادته من دون أن يفكّروا ولو يسيراً في الجزاء المادي : جنة أو نار ، أو ثواب أو عقاب.

وبعبارة أُخرى : انّ المحرّك الأصلي والدافع الأساسي لهم في الخضوع والخشوع والتذلّل للحق المطلق هو عشق الجمال والكمال المتجلّي في الله سبحانه والذوبان في الذات الإلهية بنحو لا يرون غيره ولا يرتبطون بسواه.

ولقد أشارت الأحاديث الإسلامية الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة إلى هذه الحقيقة ، واعتبرت هذا النوع من العبادة عبادة الأحرار الذين تخلّصوا من كلّ الميول والرغبات المادية وعشقوا الله وفنوا فيه. ومن تلك الأحاديث : «وقوم عبدوا الله عزوجل حبّاً فتلك عبادة الأحرار». (١)

ولا ريب أنّ هذا الهدف السامي منحصر بثلّة من المؤمنين ولا يعمّ سائر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ / ٥٥ ، الباب ٩ من أبواب مقدّمة العبادات ، الحديث ١.

٨٦

الناس من أصحاب الديانات التوحيدية ، بل انّه يختص بتلك الثلّة من الصالحين الذين وصلوا قمّة الكمال الإنساني بنحو أضحى حاديهم ورائدهم إلى العبادة والخضوع لله هو الحب والعشق الإلهي لا غير.

٢. الهدف الذي ينشده عامّة المؤمنين

إنّ الهدف الذي ينشده عامّة المؤمنين والعامل الذي يحدوهم إلى العبادة والخضوع لله سبحانه وتعالى يكمن في عاملين أساسيّين ، هما :

الف : شعورهم بأنّ الله تعالى هو خالق الكون ومانح الوجود ومفيضه ، وأنّه منبع الحياة.

ب : شعورهم ـ بالإضافة إلى كونه خالقاً ـ بأنّه تعالى هو ربّ العالم ومدبّره ، وانّ العالم مرتبط به وجوداً وإدامة ، أي أنّ تدبير العالم موكول إليه سبحانه ولم يفوض ذلك لغيره. وانّ مصير العالم والإنسان في الدنيا والآخرة بيده ، كما أنّ بداية خلقهم بيده عزوجل ، وأنّه هو الملجأ والملاذ في قضاء الحاجات وإفاضة البركات ، وأنّ رفع النقص والحاجة عن الإنسان بيده لا بيد سواه.

إنّ من يمعن النظر في القرآن الكريم وآياته يرى أنّها قد أشارت إلى هذه الحقيقة وشهدت بها ، ورتّبتها بصورة واضحة. إذ نرى الآيات عند ما تتحدّث عن الخالقية وانّ الخالق للكون والإنسان هو الله سبحانه ، تردف تلك الشهادة بالمدبّرية ، وتؤكّد أنّه هو المدبّر لا غير وانّ أمر العالم بيده ، وبعد أن تنتهي من هذه الحقيقة الثانية تنتقل إلى المسألة الثالثة فتطرحها وهي «الدعوة إلى العبادة». ومن الواضح أنّ هذا التسلسل الثلاثي للمطالب يوصلنا إلى النتيجة التالية :

٨٧

إنّ عبادة الله معلولة ووليدة شعورين في داخل الإنسان ، هما : الشعور بكونه تعالى خالقاً ، والآخر الشعور بكونه تعالى ربّاً مدبّراً للعالم قال تعالى :

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ). (١)

وقد أشارت الآية إلى أربعة أُمور وبصورة متسلسلة هي :

ألف : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).

ب : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ).

ج : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ).

وبعد أن أشارت الآية إلى أنّ الله هو الخالق وهو المدبّر وأنّ تأثير جميع الموجودات تابع لإذنه سبحانه وإرادته ، عطفت الكلام على العبادة وحصرها به فقالت : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) باعتباره سبحانه هو الغني المطلق ، وهو الجدير بأن يعبد دون سواه ، لأنّ غيره موجودات فقيرة ومحتاجة فلا تستحق العبادة أبداً. (٢)

__________________

(١) يونس : ٣.

(٢) قد يقال : لما ذا جاء التعبير في الآية المباركة عن المؤثرات الأُخرى بلفظ «الشفيع»؟

والجواب واضح : وذلك لأنّ «شفيع» مأخوذ من «الشفع» بمعنى الزوج ، وهو يقابل الفرد ، وبما أنّ العلل الطبيعية أو أيّ مؤثر آخر في عالم الوجود لا يمكن أن يؤثر ما لم يضم إليه الإذن الإلهي. من هنا أطلق لفظ «الشفيع» على تلك العلل والمؤثرات ، وكأنّ تأثير المؤثرات وفاعلية العلل الأُخرى اقترنت بالمشيئة الإلهية ، وضمّت إليها. فعلى سبيل المثال إذا كان لضياء الشمس ونور القمر والماء دورٌ في نمو النباتات والحيوانات الأُخرى ، فما هي ـ في الحقيقة ـ إلّا مظهراً من مظاهر المشيئة والإرادة الإلهية.

٨٨

ثمّ إنّ الموحّدين الذين تربّوا في أحضان الرسالة المحمدية ونهلوا من منبع الوحي الإلهي العذب وعينه الصافية ، ساروا في مجال الحقل المعرفي طبقاً للمعارف السماوية ، وخطوا خطوات سريعة في كسب العلم والمعرفة ، فأدركوا أنّ الله هو خالقهم وهو المدبّر لأُمورهم ولا مؤثر في الكون إلّا بإذنه سبحانه ، من هنا خضعوا لله وخشعت قلوبهم له وذلّت أعناقهم أمام هيبته سبحانه ، ووقفوا أمامه رافعين أكفّهم بالدعاء طالبين منه المغفرة ، ومتوسّلين إليه سبحانه في أن يقضي حوائجهم وينجز لهم ما وعدهم وأن يأخذ بأيديهم إلى ما فيه الخير والصلاح ، ساعين إلى كسب رضاه واجتناب سخطه سبحانه من خلال امتثال أوامره والاجتناب عن نواهيه تعالى ، رافضين عبادة غيره من الموجودات الأُخرى مهما كانت ، وكأنّ لسان حال الجميع يقول :

(لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ). (١)

الهدف الذي ينشده المشركون من العبادة

لا شكّ انّ تكريم وتبجيل وتعظيم المشركين لمعبوداتهم يُعدّ عبادة لها وإن كانت تلك العبادة باطلة ولا تجدي نفعاً ولا تدفع ضرراً.

ولكن لا بدّ من تركيز البحث على معرفة الأهداف والغايات التي ينشدها المشركون ويبغونها من وراء عبادتهم لتلك الآلهة الباطلة والمزيّفة. وقبل أن نشرع في بيان تلك الأهداف والغايات لا بدّ من تقديم البحث عن مسألة أُخرى وهي : الإشارة إلى المراحل والمراتب المختلفة للشرك.

نقول : ينقسم المشركون على هذا الصعيد إلى قسمين أو طائفتين ، هما :

__________________

(١) يونس : ٤٩.

٨٩

ألف : طائفة من المشركين ذهبت إلى أنّ الله الأزليّ والأبديّ قد تجلّى في ثلاثة مظاهر ، وهذا ما نشاهده في الديانة الهندوسية حيث قامت ديانتهم على الأُسس التالية :

١. البراهما : الخالق.

٢. ويشنو : الواقي.

٣. سيفا : المهلك أو المبيد.

لقد حصل في المائة الثالثة قبل الميلاد تحوّل في الديانة البراهماتية أدّى إلى ظهور الديانة الهندوسية إذ ذهبت هذه الديانة إلى أنّ الله الأزلي والأبديّ ، قد تجلى في الآلهة الثلاثة التي ذكرناها (١) ويوجد في أحد المتاحف الهندية تمثال لذلك الثالوث المقدّس بهيئة ثلاثة جماجم متلاصقة فيما بينها.

والذي يؤسف له أنّ الديانة المسيحية في القرون الخمسة الأُولى من عمرها وبسبب التأثّر بالأفكار الفلسفية اليونانية والشرقية قد ابتليت هي الأُخرى بالقول بالتثليث ، ولكنّه بصورة جديدة تحت عنوان : الأب ، الابن ، روح القدس.

يقول المستر هاكس : تتألف طبيعة الإله من ثلاثة أقانيم ، هي : الإله الأب ، والابن ، وروح القدس. إلى أن يقول : ولا بدّ أن يعرف أنّ هذه الأقانيم متّحدة الرتبة والعمل. (٢)

__________________

(١) العقائد الوثنية في الديانة النصرانية : ١٠.

(٢) قاموس الكتاب المقدس : ٣٤٤ (باللغة الفارسية) ، ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم أشار إلى حقيقة تبعية الديانة النصرانية للهندوسية والتقاطها منها نظرية التثليث حيث جاء في الآية ٣٠ من سورة التوبة قوله تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ).

٩٠

ولا ريب أنّ هذا النوع من الشرك الهندوسي أو النصراني يضاد التوحيد الذاتي مضادة تامة ، وذلك باعتبار أنّ هذا النوع من الشرك يثبت تركّب الذات الإلهية ، والقول بالتوحيد الذاتي ينافي هذا التركيب ويثبت بساطة الذات الإلهية.

والمهم في بحثنا هنا هو دراسة نوع الشرك الذي كان رائجاً في العصر الجاهلي وعصر نزول الوحي على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الشرك الذي تعرضت له الكثير من آيات الذكر الحكيم وهو الذي يعتمده الكثير من الباحثين المعاصرين في الدراسات المطروحة في مجال التوحيد والشرك.

إنّ من طالع آيات الذكر الحكيم وتاريخ الجزيرة العربية يدرك أنّ المجتمع الجاهلي لم يكن منحرفاً عن التوحيد في الخالقية ، بل كانوا يؤمنون بأنّ الخالق للكون والإنسان والموجد لهما هو الله سبحانه ، وهذا ما أشارت إليه بعض آيات الذكر الحكيم. (١)

نعم انّ شركهم يتمثّل في المرحلة الأُخرى ، وهي مرحلة الشرك في الربوبية وتدبير عالم الخلق ، بمعنى أنّهم يعتقدون أنّ الخالق للعالم هو الله وحده ولكنّهم يعتقدون في نفس الوقت أنّ المدبّر للعالم والذي بيده مصيره ومصيرهم هو «الأصنام» ، لأنّ الله سبحانه قد فوّض أمر التدبير إليها.

إنّ كتب الملل والنحل وإن أشارت إلى نقاط مهمة وأساسية في مجال عقائد أبناء المجتمع الجاهلي وطريقة تفكيرهم (٢) ، ولكنّ أوثق المصادر

__________________

(١) انظر : العنكبوت : ٦١ ؛ لقمان : ٢٥.

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ، وبلوغ الأرب في أحوال العرب : ٣ / ٨٠ ؛ والمعضل في تاريخ العرب قبل الإسلام : ٩ / ١٩.

٩١

وأحكمها وأتقنها والذي يمكن الاعتماد عليه بصورة كاملة والركون إليه في بيان عقائدهم ونظرياتهم الدينية وآلهتهم المزيّفة والباطلة هو القرآن الكريم ، حيث تحدّث عن تلك العقائد في مناسبات مختلفة ، وأزاح الستار عن الكثير من الأُمور التي تدور في هذا الفلك ، ومنها أنّه بيّن الأهداف والغايات التي ينشدونها من وراء عبادتهم وطاعتهم للأصنام والأوثان.

ومن هنا يكتسب بحثنا أهمية قصوى وقيمة عليا ، وها نحن نقتفي أثر القرآن الكريم ونستمد العون من آياته المباركة لمعرفة الأهداف التي ينشدها المشركون من العبادة ، وهذه الأهداف تتمثل بالأُمور التالية :

الهدف الأوّل : طلب النصرة والعزّة

إنّ مشركي العصر الجاهلي ـ وعلى العكس من الموحّدين ـ يعتقدون أنّ عزّة المجتمع الإنساني وانتصاره على الأعداء والخصوم تقع بيد الأصنام ، فهي التي تتمكّن من تحقيق ذلك متى شاءت وأرادت.

ومن هذا المنطلق تراهم يتوجّهون إليها بخشوع وتذلّل طالبين منها المدد والنصرة والعزة والغلبة ، ولقد أشار القرآن الكريم في آياته المباركة إلى كلّ من نظرية الموحّدين والمشركين في هذا المجال وبيّن الفارق الجوهري بين النظريتين بما لا لبس فيه ولا يعتريه شك ، وذلك بالنحو التالي :

١. إنّ الموحّدين يعتقدون اعتقاداً جازماً أن العزّة والكرامة والرفعة الاجتماعية وغيرها بيد الله سبحانه وتعالى وحده :

(فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً). (١)

__________________

(١) فاطر : ١٠.

٩٢

أمّا المشركون فيعتقدون انّ ذلك كله بيد الأصنام والأوثان :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). (١)

٢. يعتقد الموحّدون أنّ النصرة والغلبة والفوز على الأعداء وكسب النصر في الحرب وغيرها من ساحات الصراع بيد الله سبحانه وحده ويردّدون دائماً قوله تعالى :

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). (٢)

وأمّا المشركون فيعتقدون أنّ ذلك بيد آلهتهم المصطنعة :

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ). (٣)

الهدف الثاني : انّهم يملكون مقام الشفاعة

إنّ الهدف الثاني والغاية الأُخرى التي ينشدها المشركون من آلهتهم المزيّفة (الأصنام) هو طلب الشفاعة حيث كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم تلك مالكة لمقام الشفاعة ، بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك حيث اعتقدوا أنّ شفاعة آلهتهم مطلقة وأنّها غير مشروطة بشرط وغير مقيّدة بقيد ، ويكفي في نيل تلك الشفاعة عبادة تلك الآلهة والخضوع أمامهم فقط ليكونوا لهم شفعاء يقربونهم من الله سبحانه.

ولقد ردّ القرآن الكريم على هذه النظرية الزائفة ، وأبطل هذا الادّعاء الواهي ، حيث قال سبحانه نافياً الشفاعة عمّا سواه سبحانه ، وانّه لا شفيع إلّا

__________________

(١) مريم : ٨١.

(٢) آل عمران : ١٢٦.

(٣) يس : ٧٤.

٩٣

من بعد إذنه :

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). (١)

ولقد أشارت إلى هذه الحقيقة آيات أُخرى من الذكر الحكيم. (٢)

الهدف الثالث : الأفعال الإلهية

إنّ هذا النوع من التفكير لم يكن من النظريات المخترعة من قبل العرب في العصر الجاهلي ، بل انّ هذا النوع من التفكير يضرب بجذوره في أعماق التاريخ ، ويظهر لنا ذلك بوضوح من خلال الآيات التي تعرضت للحديث عن قصة النبي إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وحواره مع المشركين في عصره ، فكان إبراهيم عليه‌السلام يؤكّد أنّ مصدر الأفعال والنعم التي يتنعم بها هو خاصة والناس عامّة هو الله وحده حيث جاء في حواره معهم :

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ). (٣)

فأنت تلاحظ هنا أنّ بطل التوحيد إبراهيم الخليل عليه‌السلام ينسب الأفعال التالية : الهداية ، الإطعام والسقي ، الشفاء من المرض ، الموت والحياة ، وغفران الذنوب إلى الله الواحد الأحد ، وبما أنّه عليه‌السلام في مقام الرد على مشركي عصره في مدينة (بابل) يظهر لنا وبجلاء ـ من خلال عنصر المقابلة ـ أنّهم كانوا

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) انظر : الزخرف : ٨٦ ، مريم : ٨٧.

(٣) الشعراء : ٧٨ ـ ٨٢.

٩٤

يعتقدون أنّ تلك الأفعال والنعم بيد آلهتهم الباطلة ، إذ بإمكانها أن تهديهم وتطعمهم وتسقيهم وتشفيهم من الأمراض وتميتهم وتحييهم و ... ، ومن هنا خضعوا لها وعبدوها.

ومن هنا أيضاً يتّضح الهدف الثالث الذي ينشده المشركون من خلال عبادتهم لتلك الآلهة ، وهذا الهدف يتمثّل في الحصول على الهداية والنعم المادية والأُخروية.

الهدف الرابع : الاعتقاد بأنّ آلهتهم أنداد لله ومتكافئة معه

إنّ الآيات التالية توضّح وبجلاء عقيدة المشركين في آلهتهم (أصنامهم) ونسبتها إلى الله سبحانه ، حيث تصرّح بأنّهم يعتقدون أنّ هذه الآلهة أنداد لله سبحانه ونظراء له ـ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً ـ حيث قال تعالى :

الف : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ). (١)

والأنداد لغة جمع «ند» بمعنى «المثل» و «النظير» ، بمعنى أنّهم يعتقدون أنّ آلهتهم مثل الله تناظره وتساويه وتكافئه ، وهذا يعني أنّهم يعتقدون أنّ آلهتهم تناظر الله وتشابهه في القدرة على القيام بجميع الأفعال التي يقوم بها سبحانه من : الإحياء ، الإماتة ، الرزق ، الشقاء ، الهداية ، غفران الذنوب وحطّ الخطايا و ... ، فجميع تلك الأفعال التي يعتقد الموحّدون أنّها من خصائصه سبحانه ، وأنّه لا يقدر أيّ مخلوق مهما كان على القيام بها بصورة مستقلة ؛ تجد المشركين يعتقدون بأنّ أصنامهم وآلهتهم المزعومة قادرة هي الأُخرى على القيام

__________________

(١) البقرة : ١٦٥.

٩٥

بها بصورة مستقلة ، وأنّه لا فرق بينها وبين الله في هذه الأُمور.

ب : قوله تعالى : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ). (١)

يتّضح ـ بما لا مزيد عليه ـ من خلال هذه الطائفة من الآيات المباركة الهدف الذي ينشده المشركون من وراء عبادتهم لآلهتهم المصطنعة والمزيفة.

خلاصة البحث

١. انّ مشركي عصر الرسالة كان يعتقدون بآلهة صغار قد فوّض الله سبحانه إليها ـ بعد أن خلقها ـ أُموراً مهمة ، منها : تدبير العالم.

وبعبارة أُخرى : أنّهم منحوا آلهتهم مقام «الربوبية» بحيث اعتقدوا أنّهم يملكون قدرة التصرّف في العالم وإدارته ، ومن هذا المنطلق ولهذا الغرض خضعوا لهم وعبدوهم.

إنّ ربوبية تلك الأصنام والآلهة وسيطرتهم على العالم ، ليس لها معيار معيّن وحدّ خاص حيث نرى في بعض الأحيان أنّ المشركين خطوا خطوات خطيرة في شمولية وسعة حدود تلك الآلهة ، وذلك في عصر النبي إبراهيم عليه‌السلام حيث جعلوا بيدهم نزول المطر ، وشفاء المرضى وحطّ الذنوب وغفرانها والشفاعة.

يذكر ابن هشام : انّ عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أُموره ، فلمّا قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق ، رآهم يعبدون

__________________

(١) الشعراء : ٩٧ ـ ٩٨.

٩٦

الأصنام ، فقال لهم : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا له : هذه أصنام نعبدها ، فنستمطرها فتمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ؛ فقال لهم :

أفلا تعطونني منها صنماً ، فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه؟ فأعطوه صنماً يقال له هبل ، فقدم به مكة فنصبه ، وأمر الناس بعبادته وتعظيمه. (١)

إذاً استمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها يكشف عن أنّ بعض المشركين كانوا يعتقدون بأنّ لهذه الأوثان دخلاً في تدبير شئون الكون وحياة الإنسان.

٢. قد يتصوّر البعض أنّ نظرية المشركين في حقّ آلهتهم لا تتعدى القول بأنّهم يملكون مقام الشفاعة المقبولة لدى الله سبحانه وتعالى.

ولكن الإمعان في آيات الذكر الحكيم يوضح لنا وبجلاء وهن هذا التصوّر وبطلان هذا الرأي ، فإنّ آيات الذكر الحكيم ـ والتي ذكرنا بعضها ـ تصرّح بأنّ المشركين كانوا يعتقدون لآلهتهم أكثر من مقام الشفاعة ، حيث كانوا يؤمنون بأنّ : العزة والذلّة ، النصر والهزيمة ، الشفاعة والمغفرة ، كلّ ذلك بيد آلهتهم المزعومة ، وكأنّ آلهتهم قد هيمنت على المقام الربوبي وأخذت على عاتقها القيام ببعض الأفعال التي هي من خصائص ، الشأن الإلهي.

ثمّ إنّ الاعتقاد بمقام الشفاعة المقبولة للأصنام والأوثان لدى الله سبحانه وتعالى ، وإن كان اعتقاداً باطلاً ، مع هذا لا يمكن أن يُعدّ مائزاً خاصاً لجعلهم أنداداً ونظراء ومتكافئين مع الله سبحانه ، ومن هنا نجد حالة الحسرة والخيبة بادية على وجوه المشركين مظهرين الندامة على ما اقترفوه من الخطأ في الاعتقاد وحيث تصرّح الآية المباركة بندمهم هذا فتقول : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ١ / ٧٦ ـ ٧٧.

٩٧

وهذا واضح بأنّهم كانوا على اعتقاد بأنّ آلهتهم الباطلة تساوي الإله الحقيقي لا أنّهم يعتقدون بمجرّد مقام الشفاعة المقبولة لهم فقط.

٣. انّ هدف المشركين في عبادتهم للأوثان ، نابع من اعتقادهم القلبي وإيمانهم بأنّ آلهتهم لها مقامات خاصة تتمكن من خلالها من إدارة العالم وتدبير شئونه و ... ، ومن هذا المنطلق وبناءً على هذا الاعتقاد عبدوهم وخضعوا لهم باعتبارهم «آلهة» و «أرباب» و «يملكون مقام الشفاعة والهداية و ...».

٤. مع الالتفات إلى الأُمور السابقة يمكن أن نعرّف العبادة تعريفاً دقيقاً فنقول : العبادة عبارة عن الخضوع الصادر لمن يتّخذه الخاضع إلهاً ، ولقد أجاد المرحوم الشيخ جواد البلاغي حينما عرفها بقوله : العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتّخذه الخاضع إلهاً ، ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالألوهيّة. (١) سواء كانت هذه الألوهية حقّة كما في اعتقاد الموحّدين ، أو كانت باطلة كما في اعتقاد المشركين.

٥. إذا عرفنا أنّ مقوّم العبادة عبارة عن اعتقاد السائل والخاضع والداعي أو المنادي بأنّ المسئول والمخضوع له «إله» و «ربّ» يملك شيئاً ممّا يرجع إليه في عاجله أو آجله ، في مسيره ومصيره ، وإنّه يقوم بذلك لكونه خالقاً أو مفوضاً إليه من قبل الخالق ، فيقوم على وجه الاستقلال والأصالة ، نستطيع أن نقضي في الأعمال التي يقوم بها أتباع الأنبياء ومحبّوهم ، بأنّها ليست عبادة أبداً ، وإنّما هي من مصاديق التكريم والاحترام ، وإن بلغت نهاية التذلّل ، لأنّها لا تنطلق من اعتقاد الخاضع بألوهية النبي ، ولا ربوبيته ، بل تنطلق من الاعتقاد بكونهم عباد الله

__________________

(١) آلاء الرحمن : ٥٧.

٩٨

الصالحين ، وعباده المكرمين الذين لا يعصون الله وهم بأمره يعملون ، نظير :

١. تقبيل الأضرحة وأبواب المشاهد التي تضمّ أجساد الأنبياء والأولياء ، فإنّ ذلك ليس عبادة لصاحب القبر والمشهد ، لفقدان عنصر العبادة فيما يفعله الإنسان من التقبيل واللّمس وما شابه ذلك.

٢. إقامة الصلاة في مشاهد الأولياء تبركاً بالأرض التي تضمّنت جسد النبيّ أو الإمام ، كما نتبرّك بالصلاة عند مقام إبراهيم اتّباعاً لقوله تعالى : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). (١)

٣. التوسّل بالنبي ، سواء كان توسّلاً بذاته وشخصه ، أو بمقامه وشخصيته أو بدعائه في حال حياته ومماته ؛ فإنّ ذلك كلّه لا يكون عبادة ، لعدم الاعتقاد بألوهية النبي ولا ربوبيته.

٤. طلب الشفاعة من الأنبياء أو النبيّ الأكرم ليس شركاً ، لأنّه يطلبها منه بقيد أنّه عبد مأذون ، لا أنّه مفوّض إليه أمرها.

هذه خلاصة البحث حول حصر العبادة بالله سبحانه وحدودها وحدود الشرك ، وإذا أمعنت النظر فيما ذكرنا يمكنك الإجابة عن الكثير ممّا أثارته بعض المناهج الفكرية في الأوساط الإسلامية حول هذه الأُمور ، التي نسبت جلّ المسلمين إلى الشرك في العبادة مع أنّهم بمنأى عن الشرك! وقد حان الوقت للحديث عن مسألة أُخرى مهمة وهي : «مفهوم البدعة في الدين».

__________________

(١) البقرة : ١٢٥.

٩٩
١٠٠