الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

الوهابية ، ثمّ تريّثوا إلى أن انقضت أيام الحج وخرج الحاج من مكة ، حينها قصدوا مكة المكرّمة ووصل ابن سعود بقواته إلى مشارف مكة المكرّمة يوم العاشر من محرم فدخلها من دون مقاومة تذكر ، ففعل بها وبأهلها ما فعله جنده بأهل الطائف. (١)

ولقد تعرّض شاه فضل رسول قادري «الهندي» في كتابه «سيف الجبار» إلى الإشارة إلى المنهج الوهابي في مواجهة المسلمين وموقف العلماء منهم فقال في مقدمة كتابه المذكور : أمّا بعد فقد ورد الصحيفة الردية ، أعني : «الرسالة النجدية» ضحوة الجمعة سابع شهر المحرّم سنة ١٢٢١ ه‍ ـ بحرم الله المحترم وبيت الله المكرّم ، وجند شياطين نجد إليها قاصدة ، على نيّات خبيثة وعزائم فاسدة ، والأخبار موحشة غير راشدة ، وما فعلوا بالطائف من القتل والنهب والسبي وهدم مسجد عبد الله بن عباس رضي‌الله‌عنه ، ينذر بإساءة أدبهم في البلد الأمين ، فاجتمع علماء مكة المعظّمة ـ زادها الله شرفاً ـ بعد صلاة الجمعة عند باب الكعبة ، وأكبّوا على مطالعة الرسالة النجديّة ليحقّق ما فيها من الغي والضلال.

وبعد أن تعرّض الشاه فضل لذكر نقاط الخلل والانحراف التي بيّنها علماء مكة في الباب الأوّل من «الرسالة النجدية» قال في خاتمتها :

قالوا ـ أي العلماء ـ : تمّ النظر إلى الباب الأوّل ، وحان العصر ، وقامت الصلاة فقاموا ، فلمّا فرغوا من الصلاة رجعوا وراجعوا في النظر إلى الباب الثاني ، فإذا طائفة من مظلومي الطائف دخلوا المسجد الحرام وانتشر ما جرى عليهم من أيدي الكفرة ، واشتهر أنّهم لاحقون من أهل الحرم وعامدون لقتلهم ، فاضطرب الناس كأنّها قامت الساعة ، فاجتمع العلماء حول المنبر ، وصعد الخطيب أبو حامد عليه وقرأ عليهم الصحيفة الملعونة النجدية ... وقال العلماء والقضاة والمفاتي :

__________________

(١) سيف الجبار المسلول : ٢ وما بعدها.

٦١

سمعتم مقالهم وعلمتم عقائدهم ، فما تقولون فيهم؟

فأجمع كافة العلماء والقضاة والمفاتي على المذاهب الأربعة من أهل مكة الشريفة وسائر بلاد الإسلام الذين جاءوا للحج ـ وكانوا جالسين ومنتظرين لدخول البيت عاشر المحرم ـ وحكموا بكفرهم وبأنّه يجب على أمير مكة الخروج لدفعهم عن الحرم ، ويجب على المسلمين معاونته ومشاركته ، فمن تخلّف بلا عذر يكون آثماً ، ومن قاتلهم يكون مجاهداً ، ومن قتل على أيديهم يكون شهيداً .... (١)

ومن هنا يتّضح أنّ الحركة الوهابية قد أُدينت وفنّدت عقائدها وحكم ببطلانها منذ زمن طويل من قبل علماء المسلمين قاطبة ـ شيعة وسنّة ـ ولم تقتصر مواجهتهم على طائفة دون أُخرى.

__________________

(١) سيف الجبار المسلول على الأعداء : ٢ و ٨٩ ـ ٩٠.

٦٢

٤

روّاد المواجهة الفكرية مع ابن عبد الوهاب

لقد تعرّضت حركة محمد بن عبد الوهاب وأفكاره الشاذّة وتصوّراته الباطلة لموجة من الردّ والتفنيد قام بها ثلّة من العلماء والمفكّرين الواعين في الحرمين الشريفين وغيرهما من الأقطار الإسلامية ، أثبتوا خلالها وهن تلك الأفكار الهدّامة وشذوذها وابتعادها عن هدي الإسلام وروحه السامية ومفاهيمه الحقّة ، واعتبروا أنّ ابن عبد الوهاب شخصية منحرفة عن الصراط المستقيم ، وأنّه مجرّد بوق من أبواق الفكر السلفي لابن تيمية يردّد ما طرحه هو وتلميذه ابن قيّم الجوزية.

ولكي تنجلي الحقيقة نأتي هنا بأسمائهم وأسماء مصنّفاتهم في هذا الصدد :

كان على رأس قائمة الرادّين عليه أخوه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب ، في كتابه الموسوم «الصواعق الإلهية» حيث جاء فيه :

«إنّ هذه الأُمور ـ التي كفّر بها الوهابيون المسلمين ـ حدثت من قبل زمن الإمام أحمد بن حنبل في زمان أئمّة الإسلام وأنكرها من أنكرها منهم ، ولا زالت حتّى ملأت بلاد الإسلام كلّها ، وفُعلت هذه الأفاعيل كلّها التي تكفرون بها ، ولم

٦٣

يُرو عن أحد من أئمّة المسلمين أنّهم كفّروا بذلك ، ولا قالوا هؤلاء مرتدّون ، ولا أمروا بجهادهم ، ولا سمّوا بلاد المسلمين بلاد شرك وحرب كما قلتم أنتم ، بل كفّرتم من لم يُكفّر بهذه الأفاعيل وإن لم يفعلها ...». (١)

وهكذا توالت الردود على ابن عبد الوهاب من قبل الكثير من العلماء والشخصيات الإسلامية السنيّة مفنّدة آراءه ومبطلة نظرياته ، منهم :

١. الشيخ العلّامة عبد الله بن عبد اللطيف الشافعي في كتابه «تجريد سيف الجهاد لمدّعي الاجتهاد».

٢. العلّامة عفيف الدين عبد الله بن داود الحنبلي في كتابه الموسوم «الصواعق والردود».

٣. العلّامة المحقّق محمد بن عبد الرحمن ابن عفالق الحنبلي ، مؤلف «تحكُّم المقلّدين بمن ادّعى تجديد الدين».

٤. أحمد بن علي القباني البصري ، ألّف رسالة ، تقع في نحو عشر كراريس عقد فصولها كافّة للرد على معتقدات ابن عبد الوهاب وتزييفها وإبطالها.

٥. الشيخ عطاء الله المكي صاحب «الصارم الهندي في عنق النجدي».

هذه بعض المصنّفات التي تصدّى فيها أصحابها للرد على الوهابية ، وهناك ردود كثيرة لم نذكرها هنا روماً للاختصار ، وقد أوردناها في موسوعتنا «بحوث في الملل والنحل» الجزء الرابع ، ص ٣٥٤ ـ ٣٥٩ ، فمن رغب في المزيد من التفصيل فعليه بمراجعتها.

__________________

(١) الصواعق الإلهية : ٣٨.

٦٤

الردود الشيعية

وهكذا أدلى الشيعة بدلوهم في هذه القضية ، وساهم علماؤهم في التصدّي لأفكار الرجل ودحض مدّعياته وتزييف آرائه ، وقد بذلوا جهوداً جبارة في هذا المجال ، وجاءوا بما يعجز اللسان عن وصفه. وكان رائدهم في هذا المضمار المرجع المعروف المرحوم آية الله الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، حيث صنّف كتاباً في الردّ على الوهابية تحت عنوان «منهج الرشاد لمن أراد السداد» كشف فيه عن حقيقة الوهابية وزيف أفكارها ، كتبه ردّاً على الرسالة التي بعثها سعود بن عبد العزيز إليه يشرح فيها مواقفه من الوهابية ، وقد أرسل الشيخ نسخة من الكتاب إلى الأمير المذكور والذي كان معروفاً بميوله الوهابية المتعصّبة.

وهكذا قام حفيده المرحوم آية الله الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء في الرد على الوهابية بعد الجريمة التي اقترفوها في حقّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وهدمهم لمراقدهم الطاهرة في البقيع عام ١٣٤٤ ه‍ ـ ، فصنّف الشيخ (قدس‌سره) كتابه المعروف «الآيات البيّنات في قمع البدع والضلالات» الذي استطاع أن يفنّد فيه آراءهم اعتماداً على المنهج القرآني ومنطق الوحي.

ثمّ توالت سلسلة الردود وما زالت تترى ، ومن تلك الردود التي يشار إليها بالبنان ما قام به العلّامة الكبير والمصلح الفقيه آية الله السيد محسن الأمين العاملي حيث صنّف كتابه الموسوم ب ـ «كشف الارتياب عن أتباع محمد بن عبد الوهاب» أجلى فيه الحقيقة وأزاح الستار عن الكثير من الأُمور والمسائل الغامضة ، والكتاب يُعدّ وبحق من الكتب التي لا يستغني عنها الباحث في هذا المجال.

هذه نماذج قليلة للردود الشيعية ، ولو أردنا استقصاء ذلك لطال بنا المقام.

٦٥

٥

الانعطاف في بعض الاتجاهات الوهابية

من المسلّم به أنّ الوهابية تقوم أُسسها على الفكر السلفي المتحجّر الذي لا يسمح بأيّ نوع من أنواع الحداثة والتجديد في جميع نواحي الحياة البشرية ، وحين استولى عبد العزيز بن عبد الرحمن في عام ١٣٤٤ ه‍ ـ على الحرمين الشريفين وأحكم قبضته على تلك البقاع المقدّسة واستتب له الأمر وجد نفسه مضطراً إلى إحداث نوع من الانفتاح في حكومته لتنسجم مع الواقع المعاصر له في ذلك الوقت ، وانّ النهج البدوي الذي كان يعتمده الوهابيون في حياتهم لا بدّ أن يتغيّر نوعاً ما ، ولذلك وافق على دخول بعض مظاهر الحداثة إلى بلاده كالهاتف ووسائط النقل والدراجات النارية والهوائية و ... الأمر الذي أثار حفيظة وغضب أتباعه المتعصّبين ، الذي يعبّر عنهم في تاريخ المملكة بالإخوان ، فأثاروا له مشكلة خاصة تكمن في إصرارهم على السير على النهج الوهابي السابق وتطبيق مبادئ الوهابية ، فرموه بموالاة الكفّار الإنجليز ، والتساهل في الدين ، وأنكروا عليه ألقاب السلطان والملك وتطويل شاربه وثوبه ولبس العقال وغير ذلك ، واعتبروا استعمال الهاتف واللاسلكي ووسائط النقل كالسيارات بدعاً ، لأنّها من صنع الإفرنج.

٦٦

ولقد أشار الكاتب المصري أحمد أمين في ضمن حديثه عن الوهابية إلى حقيقة الفكر الوهابي في ذلك الوقت ، وأنّ ما يرى منهم الآن يختلف اختلافاً جوهرياً عمّا كانوا عليه في تلك الحقبة ، حيث قال :

إنّهم ـ أي الوهابية ـ لم يمسّوا الحياة العقلية ، ولم يعملوا على ترقيتها إلّا في دائرة التعليم الديني ، ولم ينظروا إلى مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها ، وكان كثير منهم يرون أنّ ما عدا قطرهم من الأقطار الإسلامية التي تنتشر فيها البدع ـ حسب اعتقادهم ـ ليست ممالك إسلامية ، وأنّ دارهم دار جهاد ، فلمّا تولّت حكومة ابن سعود الحاضرة كان لا بدّ أن تواجه هذه الظروف وتقف أمام منطق الحوادث ، ورأت نفسها أمام قوتين قويتين لا مَعْدى (أي لا بدّ) لها عن مسايرتهما :

قوّة رجال الدين في نجد المتمسّكين أشدّ التمسّك بتعاليم ابن عبد الوهاب والمتشدّدين أمام كلّ جديد ، فكانوا يَرَون أنّ التلغراف السلكي واللاسلكي والسيارات والعجلات من البدع التي لا يرضى عنها الدين.

وقوّة التيار المدني الذي يتطلّب نظام الحكم فيه كثيراً من وسائل المدنية الحديثة ، كما يتطلّب المصانعة والمداراة ، فاختطّت لنفسها طريقاً وسطاً شاقّاً بين القوّتين. فقد عدلت نظرها إلى الأقطار الإسلامية الأُخرى وعدتهم مسلمين ، وبدأت تنشر التعليم الديني وتنظم الإدارة الحكومية على شيء من النمط الحديث ... وما أشقه عملاً ، التوفيق بين علماء نجد ومقتضيات الزمن ، وبين طبائع البادية ومطالب الحضارة.

ومن حسن (١) الحظ أنّ الحكام السعوديين هم أنفسهم ضاقوا ذرعاً بالكثير

__________________

(١) زعماء الإصلاح في العصر الحديث : ٢٠ ـ ٢١.

٦٧

من العقائد الوهابية المتحجّرة والرجعية التي تكبّل أقدام الناس وتقيّد أيديهم بشتّى القيود ، وتسعى إلى إلغاء السنن الثبوتية والمواريث التاريخية المشتركة والأُسلوب الخشن الذي يعتمده الوهابيون في نشر دعوتهم ومواجهة الأفكار الأُخرى المخالفة لهم بنحو أنّهم يقفون حجر عثرة أمام أيّ ظاهرة عصرية تحت غطاء البدعة والخروج عن الدين.

نعم لقد ضاق هؤلاء الحكّام ذرعاً بهذا المنهج المتخلّف ، وبالإضافة إلى ذلك كان للتواصل الحضاري بين المسلمين فيما بينهم من جهة ، وفيما بينهم وبين غيرهم من جهة أُخرى ، وانتصار الجمهورية الإسلامية المباركة ودعوتها إلى توحيد الصفوف ولم شمل المسلمين ومواجهة الاستكبار والصهيونية وغير ذلك ، كان لكلّ ذلك دوره الفاعل في أن تغيّر الحكومة السعودية من أُسلوبها في التعامل ومنطقها في الحوار ورؤيتها إلى أبناء العالم الإسلامي ، وتعيد النظر في الكثير من الأفكار الوهابية المبنية على تكفير الآخرين وإخراجهم من الدين.

٦٨

الفصل الرابع

حدود التوحيد والشرك في العبادة

٦٩
٧٠

من الواضح والجلي أنّ كلّ من أمعن النظر في خلق السماوات والأرض عامّة والإنسان خاصّة يدرك جيداً أنّ لخلق العالم والإنسان من قبل الحكيم العزيز ، هدفاً وغاية يتطلّبها ، وفي الحقيقة أنّ هذا الهدف ، وتلك الغاية تعود إلى المخلوقات نفسها ، وأنّ الله القدير غني عن تلك الأهداف والغايات ومنزّه عنها ، فلا يعود عليه شيء من النفع أو الزيادة أو الضرر والخسارة في حالة عدم خلقهم. فإذا أخذنا تلك القضية بنظر الاعتبار يتّضح لنا حينئذ وبجلاء أمران مسلّمان ، هما :

١. انّ الله تعالى غني ولا يمكن أن تتطرق الحاجة والنقص إلى ذاته المقدّسة أبداً.

٢. انّ الله خالق حكيم ، فلا بدّ أن يتجلّى أثر حكمته في خلقه ، بمعنى أنّه يجب أن ينزّه فعله تعالى عن العبث واللغو ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.

من هنا ومن خلال هذين الأصلين نصل إلى النتيجة التالية : وهي أنّ خلق العالم والإنسان لم يكن بالأمر العبثي أبداً ، بل أنّهما خلقا لهدف وغاية ويتطلّب كلّ منهما الغاية والهدف الذي خلق من أجله ، وانّ نتيجة هذا الهدف في الحقيقة ، ترجع إلى المخلوق نفسه لا إلى الله سبحانه.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحقيقة بقوله :

٧١

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ). (١)

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : ما هو الهدف وما هي الغاية من خلق الإنسان؟

في مقام الإجابة عن هذا التساؤل وبصورة إجمالية نقول : إنّ معرفة الله سبحانه وصفاته الجلالية والجمالية ، ثمّ سوق الروح والنفس الإنسانية نحو الذات الإلهية وتزيينها بتلك الصفات ـ تلك الفضائل والسجايا والخصال الأخلاقية العليا والسامية التي يكمن تكامل الإنسان ورقيّه فيها ـ يرسم لنا الهدف من خلق الإنسان وإيجاده.

وذلك لأنّ معرفة الله ـ وبالحد الممكن ـ تُعدّ نوعاً من أنواع الاتّصال بمركز الكمال المطلق ، كما أنّ تزيين النفس بالفضائل الأخلاقية والسجايا الإنسانية الفضلى ، يُعدّ تجلياً لإنسانية الإنسان وعلامة على وصوله إلى قمّة الكمال.

ثمّ إنّ الإنسان في سعيه وكدحه للوصول إلى نيل الكمال يعتمد مجموعة من السبل والوسائط التي تأخذ بيده لنيل مبتغاه والحصول على غايته ، وهذه الوسائط عبارة عن :

الف : تنمية الغرائز الباطنية النزيهة

إنّ غريزة معرفة الله والميل نحو الفضائل والأخلاق السامية والنفرة من السجايا والخصال الرذيلة من الأُمور التي عجنت في طينة الإنسان وخلقته ، وقد هيمنت على وجوده بصورة واضحة بنحو ترجّح دائماً كفّة الأُمور المعنوية والمفاهيم الأخلاقية ، ولقد أثبتت العلوم الحديثة هذا النوع من الميول والغرائز ،

__________________

(١) المؤمنون : ١١٥.

٧٢

فاعتبروا أنّ «غريزة التديّن» أو «الشعور الديني» عاملاً فاعلاً في ظهور الميل إلى ما وراء الطبيعة ، كما اعتبروا «غريزة حب الجمال» عاملاً أساسياً في ظهور القيم الأخلاقية ، وأنّ تلك الغريزة هي المنبع الأساسي لتلك الفضائل والسجايا.

وفي الحقيقة أنّ تلك الميول «الغرائز الباطنية النزيهة» هي بمنزلة العامل الأساسي للإنسان ورأس ماله الأوّل الذي يستطيع من خلال تنميته أن يخطو الخطوة الأُولى في طريق الكمال والرقي المعنوي ، وإلّا ـ أي إن لم ينمّ تلك الغرائز ـ فإنّه سيبقى بعيداً عن قمّة ذلك الكمال ويعيش بعيداً عن كل المثل الأخلاقية العليا.

ب : العقل

إنّ العقل هو الوسيلة الأُخرى التي تأخذ بيد الإنسان نحو الكمال ، وهو الضياء الساطع والمصباح المنير الذي ينير للإنسان طريقه ، ويبدّد الظلام الحالك الذي يعترض مسيرة حياته ، من هنا تكون الاستفادة من هذه النعمة الإلهية العظيمة ـ على أفضل وجه وأكمله ـ عاملاً أساسياً آخر في سوق الإنسان نحو الكمال ووصوله إلى قمّة الرقي الإنساني والتطوّر الحضاري.

ج : الأنبياء والمصلحون الإلهيّون

إنّ الوسيلة الثالثة التي تأخذ بيد الإنسان نحو الكمال وتسوقه نحو الرقي تتمثّل في الأنبياء والصالحين من عباد الله الذين جاءوا بتعاليم وإرشادات سامية وبرامج متكاملة للهداية والاستقامة والصيانة من الضلال والانحراف ، بل أنّ قسماً من مهام الأنبياء ومسئولياتهم تكمن في تنمية الاستعدادات والقدرات

٧٣

الكامنة في الإنسان ، وتهذيب تلك الغرائز والميول الإنسانية النزيهة وتطهيرها عمّا يشوبها من عوامل الدنس والانحراف اعتماداً على المنهج السماوي الذي جاءوا به ، وكأنّ وظيفتهم عليهم‌السلام تشبه إلى حد ما وظيفة المهندس الذي يستغل إمكاناته ووسائله لاستنباط الكامن في الطبيعة من القدرات والإمكانات المخزونة فيها.

ولقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذه الحقيقة بقوله عليه‌السلام :

«فبعث فيهم رُسُله ، وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته ، ويذكّروهم منسيّ نعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول». (١)

والحقيقة أنّ هذا الميثاق هو نفس الأُمور الفطرية والميول الباطنية التي عجنت في خلقة الإنسان ، وأنّ خلق الإنسان مقروناً بهذه الغرائز والميول يُعد نوع ميثاق وعهد على الالتزام به والسير على نهجه.

ومن بين الأُمور الفطرية والجبلية من الغرائز الباطنية النزيهة التي حظيت باهتمام جاد ونالت منزلة خاصة هي غريزة الميل إلى التوحيد والوحدانية. الأمر الذي تتلخّص فيه جميع رسالات السماء وبرامج المصلحين الإلهيّين. ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله سبحانه :

(وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ). (٢)

إنّ هذه الآية المباركة ونظائرها من الآيات تشهد وبوضوح على أنّ نظرية «التوحيد في العبادة» وعبادة الله الواحد القهّار وحده لا شريك له ، ونفي عبادة

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة الأُولى.

(٢) النحل : ٣٦.

٧٤

كلّ ما عداه من الآلهة المزيّفة ، تمثّل عصارة فكر الأنبياء ورسالاتهم ، وأنّها بمنزلة الجوهرة الأساسية ، في جميع تعاليمهم وأفكارهم ونظرياتهم عليهم‌السلام. من هنا نجد أنّ جميع الديانات الإبراهيمية تؤكّد وبصورة شديدة على هذا الأصل وتضع التوحيد في العبادة والوحدانية على رأس قائمة تعاليمها.

إنّ هذا الأصل وإن تعرّض وعلى طول التاريخ البشري إلى نوع من الانحراف ، وزاغ عنه الناس بعض الشيء حتّى أنّهم عبدوا شخصاً ، كالسيد المسيح عليه‌السلام أو غير السيد المسيح من الأُمور المادية ، ولكن بقي هذا الأصل يلمع في قلوب وعقول وأرواح أصحاب الضمائر الحيّة والنفوس الطاهرة والعقول المستنيرة ، ، فنظروا إلى جميع الشرائع الإلهية على أنّها شرائع توحيدية ، وأنّ التوحيد هو الأصل المسلّم بين أتباع تلك الشرائع ، من هنا نجد القرآن الكريم وفي مقام الاحتجاج على اليهود والنصارى يؤكّد على هذا الأصل المشترك ، ويذكّرهم به ويحثّهم للعودة إليه ، حيث قال سبحانه :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). (١)

مراتب التوحيد

إنّ للتوحيد مراتب بيّنها علماء الإسلام في كتبهم التفسيرية والكلامية ، وإنّ «التوحيد في العبادة» يمثّل في الواقع أحد تلك المراتب وفرعاً من فروع التوحيد التي تتمثّل في :

__________________

(١) آل عمران : ٦٤.

٧٥

ألف : التوحيد في الذات

أو ما يعبّر عنه بالتوحيد الذاتي ، والمراد منه هو : أنّه سبحانه واحد لا نظير له ، فرد لا مثيل له ، كما قال تعالى :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). (١)

ب : التوحيد في الخالقية

والمراد منه : انّه ليس في صفحة الوجود خالق أصيل غير الله ، ولا مؤثر مستقل سواه ، وانّ تأثير سائر الأسباب الطبيعية وغيرها بأمره وإذنه وإرادته سبحانه ، قال تعالى :

(قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ). (٢)

ج : التوحيد في الربوبية والتدبير

والمراد منه انّ للكون مدبراً واحداً ، ومتصرّفاً فرداً لا يشاركه في التدبير شيء آخر ، وانّ تدبير الملائكة وسائر الأسباب بأمره وإذنه ، قال تعالى :

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ). (٣)

د. التوحيد في العبادة

والمراد منه حصر العبادة في الله وحده سبحانه فلا معبود إلّا هو ، لا

__________________

(١) الإخلاص : ١.

(٢) الرعد : ١٦.

(٣) يونس : ٣.

٧٦

يشاركه فيها شيء مهما كان ، وهذا الأصل ممّا اتّفق عليه الموحّدون فلا نجد موحّداً يجوّز عبادة غير الله سبحانه.

إنّ من بين المراتب التي ذكرناها للتوحيد تعتبر هذه المرتبة الأخيرة «التوحيد في العبادة» المحور الأساسي في بحثنا هنا وإن كانت المراتب الأُخرى تحظى هي الأُخرى باهتمام خاص من البحث والدراسة.

وحينما قلنا : إنّ محور بحثنا هنا هو «التوحيد في العبادة» فلا يعني أنّ هذا الأصل في الحقيقة وقع فيه الشكّ أو الترديد في كلّيته أو عموميته ، أو وقع فيه الالتباس حتى نأتي لإزاحة الستار عن وجه هذا الأصل الأصيل ، بل في الحقيقة أنّ كلية وعمومية هذا الأصل من الأُصول المسلّمة التي لا خدشة فيها أبداً وانّ جميع الموحّدين متّفقون على هذا الأصل كما قلنا ، فالكلّ شعارهم وكما صرّح القرآن الكريم به (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).

بل لا يمكن أن يدخل الإنسان في قائمة المسلمين ويُعدّ من زمرتهم ما لم يُسلِّم أوّلاً بهذا الأصل الأصيل ، وانّ إنكاره بمنزلة الارتداد عن الدين والخروج من ربقته ، فهذا الأصل لا بدّ من الالتزام به ابتداءً واستمراراً. وانّ إنكاره يساوي إنكار الإسلام من الأساس.

نعم وقع الكلام في بعض المصاديق والجزئيات من قبيل : «الاستغاثة بالأولياء وطلب الدعاء منهم والتوسّل بهم» و «طلب الشفاعة من الأنبياء» و «تكريم مواليد الأنبياء ووفياتهم» ، فهل ذلك يُعدّ من مصاديق العبادة لهم حتى يحكم على مرتكبه بالشرك لأنّه عبد غير الله أو لا؟ فإنّ البعض اعتبروا أنّ كلّ ذلك من مصاديق عبادة غير الله سبحانه وأنّه من الشرك الذي يخرج الإنسان من الإسلام!!!

٧٧

من هنا عقدنا العزم لدراسة هذه المسألة الحسّاسة ؛ ولا بدّ من تركيز البحث على هذه النقطة لتنجلي لنا حقيقة الأمر في هذه الأُمور التي يقوم بها المسلمون من طلب الشفاعة والاحتفال ، وما هي حقيقتها؟ وهل هي من الأُمور التي تنافي التوحيد وتعدّ من الشرك أم لا؟ وهل انّ عبادة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شرك وخروج من التوحيد أو انّ مجرّد تكريمه وتبجيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاحتفال بمولده يعتبر هو الآخر شركاً وخروجاً عن الدين؟

إنّ حلّ هذه الإشكالية والخروج بنتيجة منطقية وعلمية يكمن في دراسة العبادة وتعريفها تعريفاً منطقياً وعلمياً ، لكي نضع الحد المائز بين العبادة وغيرها ومعرفة الأُمور المشكوكة والفصل بين «التكريم» وبين «العبادة» ، فما لم نعرّف العبادة تعريفاً دقيقاً لا يمكن بحال من الأحوال القضاء البات في تلك الإشكالات التي أُثيرت أو تثار في هذا المجال.

التعريف المنطقي للعبادة

إنّ تعريف أيّ مفهوم أو علم ينبغي أن تتوفر فيه ـ بالإضافة إلى الاختصار ـ صفتان ، هما : الجامعية ، والمانعية. بمعنى أن يكون التعريف جامعاً لكلّ أفراده ومصاديقه يشملها ولا يشذّ منه فرد منها ، وأن يكون مانعاً ، بمعنى أنّه يمنع دخول الأغيار ـ المصاديق الغريبة ـ تحت هذا التعريف ولا يسمح لأي فرد غريب في الدخول تحت خيمته. وبالاعتماد على هذه الضابطة لا بدّ أن يكون تعريف العبادة بنحو تتوفّر فيه الخصوصيات المذكورة ليتسنّى لنا من خلالها وضع اليد على المصاديق الحقيقية للعبادة ، وبيان المصاديق المغايرة لها ، وليتسنّى لنا أيضاً تجنب الخلط بين المصاديق بعضها بالبعض الآخر.

٧٨

وبالطبع لو تمكّنا من تعريف العبادة تعريفاً منطقياً ، فلا ريب أنّه سَتُحلّ لنا كثير من العقد والإشكالات وترتفع حينئذ الكثير من نقاط الاختلاف في القضاء والحكم.

طرق الوصول إلى تعريف العبادة

لكي نصل إلى تعريف العبادة تعريفاً صحيحاً توجد أمامنا مجموعة من الطرق التي ينبغي اعتمادها ، وهي :

أ. مراجعة المعاجم اللغوية.

ب. تحليل المسائل التي وردت فيها لفظة العبادة.

ج. تحليل الخصائص القطعية والعناصر المقوّمة للعبادة ، سواء كانت هذه العبادة عبادة الموحّدين أم عبادة الوثنيّين.

والجدير بالذكر انّ اعتماد الطريق الأوّل ـ معاجم اللغة ـ لا يوصلنا إلى النتيجة المطلوبة والهدف المنشود من إعطاء الضابطة الدقيقة لتمييز مصاديق العبادة عن غيرها. نعم الذي يوصلنا إلى الهدف المنشود ويضيء لنا الطريق ويحدّد لنا الضابطة الأساسية هو اعتماد الطريق الثالث من تلك الطرق. وها نحن نتعرض لدراسة هذه الطرق واحداً تلو الآخر.

الف : العبادة في المعاجم اللغوية

كما ذكرنا أنّ من الطرق التي يجب دراستها لتحديد مفهوم العبادة وتفسير المعنى المراد منها هو الرجوع إلى الكتب والمعاجم اللغوية ، ونحن هنا نسلك هذا الطريق لنرى ما ذا يقول أصحابها.

٧٩

قال ابن منظور في «لسان العرب» : «أصل العبودية : الخضوع والتذلّل».

وقال الراغب الاصفهاني في «المفردات» : «العبودية : إظهار التذلّل ، والعبادة أبلغ منها ، لأنّها غاية التذلّل ، ولا يستحقّ إلّا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى».

وقال الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» : «العبادة الطاعة».

وقال ابن فارس في «المقاييس» : «العبد : الذي هو أصل العبادة ، له أصلان متضادان ، والأوّل من ذينك الأصلين ، يدلّ على لين وذل ، والآخر على شدّة وغلظ». (١)

والملاحظ على هذه التعاريف جميعاً أنّها لا تعطي الضابطة الدقيقة لحقيقة العبادة ، بل كلّ هذه التفاسير تعطي المعنى الأعم ، فليس التذلّل وإظهار الخضوع والطاعة نفس العبادة ، وإلّا يلزم الالتزام بأُمور لا يصحّ لمسلم الالتزام بها من قبيل :

إنّه يلزم أن يكون خضوع الولد أمام الوالد ، والتلميذ أمام الأُستاذ ، والجندي أمام القائد عبادة لهم!!!

والحال أنّنا نجد أن القرآن الكريم قد حثّ وبصراحة على بعض تلك الأُمور منها قوله سبحانه في حقّ الوالدين :

(وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ). (٢)

وفي آية أُخرى نجد الباري تعالى يأمر الملائكة بالسجود لآدم عليه‌السلام ، حيث قال تعالى :

__________________

(١) انظر : لسان العرب ، مفردات الراغب ، قاموس اللغة ، مقاييس اللغة ، مادة «عبد».

(٢) الإسراء : ٢٤.

٨٠