الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

وذلك بتقدير كلمة «رب» في جميع الجمل والآيات ، فقوله سبحانه : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ ...) يعني «وربّ الشمس» ، «وربّ القمر» وهكذا ، وبالنتيجة ترجع حقيقة القسم إلى القسم بذاته سبحانه ، وهذا أمر لا ضير فيه ولا مانع منه.

ومن الواضح انّ هذا التأويل من المصاديق البارزة للتفسير بالرأي ، الذي ينطلق من العقائد والآراء السابقة التي دفعت صاحبها إلى أن ينحو هذا المنحى من التأويل ظناً منه أن يستطيع بذلك إيجاد حالة من الوئام بين الآيات الكريمة وبين ما ذهب إليه من المعتقد!!!

الحلف بغير الله في السنّة النبوية

لقد سارت السنّة النبوية على منوال القرآن الكريم حيث جاء فيها نماذج كثيرة من الأحاديث والروايات التي تمّ فيها الحلف بغير الله سبحانه وتعالى ، نشير إلى بعضها :

١. قال مسلم في صحيحه :

«جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أيّ الصدقة أعظم أجراً؟

فقال : «أما وأبيك لتنبّأنّه ، أن تُصدّق وأنت صحيح شحيح ، تخشى الفقر وتأمل البقاء». (١)

٢. وروى مسلم أيضاً :

جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من نجد ـ يسأل عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خمس صلوات في اليوم والليل».

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٩٤ ، باب أفضل الصدقة من كتاب الزكاة.

٤٦١

فقال : هل عليّ غيرهن؟ قال : «لا ... إلّا أن تطوّع ، وصيام شهر رمضان».

فقال : هل عليّ غيره؟

قال : «لا ... إلّا أن تطوّع» ، وذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الزكاة.

فقال الرجل : هل عليّ غيره؟ قال : «لا إلّا أن تطوع».

فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفلح ـ وأبيه ـ إن صدق».

أو قال : «دخل الجنة ـ وأبيه ـ إن صدق». (١)

ولم يختص الأمر بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل تجد ربيب الرسالة وتلميذ النبي الأكرم والنموذج السامي للرجال المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب يضمّن خطبه وكلماته ـ التي تنبع كلّها من عين الرسالة المحمدية وتنهل من نميرها ـ بهذا النحو من الحلف ، فيقسم عليه‌السلام كثيراً بنفسه ويقول : «لعمري» (٢) أو يقسم بعمر أب مخاطبه فيقول : «لعمر أبيك». (٣)

وقد حلف غير واحد من الصحابة بغيره سبحانه ، فهذا أبو بكر بن أبي قحافة ـ على ما يرويه مالك في الموطّأ ـ قد حلف بغير الله ، قال مالك : إنّ رجلاً من أهل اليمن أقطع اليد والرجل ، قدم فنزل على أبي بكر فشكا إليه انّ عامل اليمن قد ظلمه ، فكان يصلّي من الليل ، فيقول أبو بكر : «وأبيك ما ليلك بليل سارق». (٤)

__________________

(١) صحيح مسلم : ١ / ٣٢ ، باب ما هو الإسلام.

(٢) انظر نهج البلاغة : الخطبة ٢٤ ، ٣٣ ، ٥٦ ، ٨٩.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ٢٥.

(٤) موطأ مالك بشرح الزرقاني : ٤ / ١٥٩ ، الحديث ٥٨٠.

٤٦٢

إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلام الأئمّة عليهم‌السلام والصحابة.

فقهاء أهل السنّة والحلف بغير الله

قال ابن قدامة في كتابه «المغني» ـ الذي كتبه وفقاً لفقه الإمام أحمد بن حنبل ـ : وقال أصحابنا الحلف برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمين موجبة للكفّارة ، وروي عن أحمد أنّه قال : إذا حلف بحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحنث فعليه الكفّارة. قال أصحابنا : لأنّه أحد شرطي الشهادة ، فالحلف به موجب للكفّارة كالحلف باسم الله تعالى. (١)

وأمّا الحنفية فيقولون : إنّ الحلف بالأب والحياة ، كقول الرجل : وأبيك ، أو : وحياتك ... وما شابه ، مكروه.

وأمّا الشافعية فيقولون : إنّ الحلف بغير الله ـ لو لم يكن باعتقاد الشرك ـ فهو مكروه.

وأمّا المالكية فيقولون : إنّ القسم بالعظماء والمقدّسات ـ كالنبي والكعبة ـ فيه قولان : الحرمة والكراهة.

إلى هنا (٢) اتّضح ومن خلال الآيات والروايات وكلمات الأصحاب حكم المسألة ، نعم ثمّة أحاديث استدلّ بها المخالفون على المنع عن الحلف بغير الله ، نحاول هنا التعرّض لها بالدراسة والتحقيق ، لنرى مدى مصداقيتها ومقدار دلالتها.

__________________

(١) المغني : ٩ / ٥١٧.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٧٥ ، كتاب اليمين ؛ إرشاد الساري : ٩ / ٣٥٨ نقل فيه الكراهة عن مالك.

٤٦٣

أدلّة القائلين بالتحريم

تمسّك المخالفون للحلف بغير الله بحديثين ، هما :

الحديث الأوّل : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع عمر ، وهو يقول : وأبي ، فقال : إنّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو يسكت. (١)

والجواب : انّ الحديث لا يدلّ على ما يرومه المخالف ، وذلك : لأنّ النهي عن الحلف بالآباء قد جاء ، لأنّهم كانوا ـ في الغالب ـ مشركين وعبدة للأوثان ، فلم تكن لهم حرمة ولا كرامة حتى يحلف أحد بهم ، والشاهد على ذلك أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جعل آباءهم قرناء مع الطواغيت تارة ، ومع الأنداد تارة أُخرى ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً :

«لا تحلفوا بآبائكم ، ولا بأُمّهاتكم ، ولا بالأنداد». (٣)

وهذان الحديثان يؤكّدان أنّ المنهيّ عنه هو الحلف بالآباء الكافرين الذين كانوا يعبدون الأنداد والطواغيت ، ومن هنا يكون النهي متوجهاً إلى مورد خاص ، فأين هذا من حلف المسلم بالوجودات المقدّسة ، كالقرآن والكعبة والأنبياء والأولياء؟!

وكيف يمكن الاستدلال بالحديث المذكور على ما يرومه المخالف؟!

الحديث الثاني : جاء ابن عمر رجل فقال : أحلف بالكعبة؟ قال له : لا ، ولكن احلف بربّ الكعبة ، فإنّ عمر كان يحلف بأبيه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٧ ؛ سنن الترمذي : ٤ / ١٠٩ ؛ سنن النسائي : ٧ / ٤ ـ ٥.

(٢) سنن النسائي : ٧ / ٧ ـ ٨.

(٣) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٧٨.

٤٦٤

تحلف بأبيك ، فإنّ من حلف بغير الله فقد أشرك». (١)

والحديث يتألّف من ثلاثة مقاطع ، هي :

الف : جاء رجل ابن عمر ، فسأله هل يحق له الحلف بالكعبة؟ فنهاه ابن عمر.

ب : انّ عمر كان يحلف بأبيه عند رسول الله فنهاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك.

ج : القاعدة الكلية التي ذكرها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي : «من حلف بغير الله فقد أشرك». (٢)

أمّا اجتهاد ابن عمر حيث عدّ الحلف بالكعبة من مصاديق الحديث ، فهو اجتهاد منه وحجّة عليه دون غيره.

وأمّا أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّ حلف عمر بأبيه من أقسام الشرك ، فلأجل أنّ أباه كان مشركاً ، وقد قلنا : إنّ الرواية ناظرة إلى هذا النوع من الحلف.

وأمّا القاعدة الكلية فالقدر المتيقّن من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما إذا كان المحلوف به شيئاً يعدّ الحلف به شركاً ، كالحلف بالأنداد والطواغيت والآباء الكافرين ، فهذا الذي قصده النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يعمّ الحلف بالمقدّسات كالقرآن والكعبة وغيرهما ، والشاهد على ذلك ما روي عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال :

«من حلف فقال في حلفه باللات والعزّى ، فليقل : لا إله إلّا الله». (٣)

وهذا الحديث وبضميمة ما قبله يدلّ على أنّه ما زالت رواسب الجاهلية فاعلة في المجتمع ولم يمح أثرها من أذهان المسلمين بصورة كلّية ، ولذلك كانت

__________________

(١ و ٢) السنن الكبرى : ١٠ / ٢٩ ؛ مسند أحمد : ١ / ٢ ؛ ٤٧ / ٣٤ ، ٦٧ ، ٧٨ ، ١٢٥.

(٣) سنن النسائي : ٧ / ٨.

٤٦٥

تصدر منهم بين الحين والآخر أمثال تلك الشطحات ، فيقسمون بأُمور لا يرضاها الشارع ، ولذلك وقف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام هذه الحالة محاولاً قلع تلك الآثار والقضاء عليها بالكامل.

ومن هذا المنطلق لا يمكن حمل كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحلف بالمقدّسات الإسلامية التي لها منزلتها ومقامها لدى الله سبحانه وتعالى.

نعم ، الحلف بغير الله لا يصحّ في القضاء وفض الخصومات ، بل لا بدّ من الحلف بالله جلّ جلاله ، أو بإحدى صفاته التي هي رمز ذاته ، وقد ثبت هذا بالدليل ولا علاقة له بالبحث. (١)

__________________

(١) انظر كتابنا ، نظام القضاء والشهادة في الشريعة الإسلامية الغرّاء : ١ / ٤٧١.

٤٦٦

الفصل العشرون

البكاء على الميّت

٤٦٧
٤٦٨

البكاء على الميّت (١)

الحزن والتأثر عند فقدان الأحبة أمر جُبلت عليه الفطرة الإنسانية ، فإذا ابتلي بمصاب عزيز من أعزّائه أو فلذة من أفلاذ كبده وأرحامه ، يحسّ بحزن شديد يتعقّبه ذرف الدموع على وجناته ، دون أن يستطيع أن يتمالك حزنه أو بكاءه.

ولا أجد أحداً ينكر هذه الحقيقة إنكار جد وموضوعية ، ومن الواضح بمكان أنّ الإسلام دين الفطرة يجاريها ولا يخالفها.

قال سبحانه : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). (٢)

ولا يمكن لتشريع عالمىّ أن يحرم الحزن والبكاء على فقد الأحبة إذا لم يقترن بشيء يغضب الرب.

ومن حسن الحظ نرى أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان ساروا على وفق الفطرة.

فهذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي على ولده إبراهيم ، ويقول : «العين تدمع ، والقلب يحزن ، ولا نقول إلّا ما يرضي ربنا ، وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون». (٣)

__________________

(١) هذا الفصل مستل من كتاب «بحوث قرآنية في التوحيد والشرك» للمصنّف.

(٢) الروم : ٣٠.

(٣) سنن أبي داود : ١ / ٥٨ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٨٢.

٤٦٩

روى أصحاب السِّيَر والتاريخ ، أنّه لمّا احتضر إبراهيم ابن النبي ، جاء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجده في حجر أُمّه ، فأخذه ووضعهُ في حجره ، وقال : «يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من الله شيئاً ـ ثمّ ذرفت عيناه ـ وقال : إنّا بك يا إبراهيم لمحزونون ، تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولو لا أنّه أمرٌ حقٌّ ووعدٌ صدقٌ وأنّها سبيل مأتيّة لحزَنّا عليك حزناً شديداً أشدّ من هذا».

ولمّا قال له عبد الرحمن بن عوف : أو لم تكن نهيت عن البكاء؟ أجاب بقوله : «لا ، ولكن نهيتُ عن صوتين أحمقين وآخرين ، صوت عند مصيبة وخمش وجوه وشقّ جيوب ورنّة شيطان ، وصوت عند نغمة لهو ، وهذه رحمة ، ومن لا يَرحم لا يُرحَم». (١)

وليس هذا أوّل وآخر بكاء منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ابتلائه بمصاب أعزّائه ، بل بكى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ابنه «طاهر» وقال : «إنّ العين تذرف ، وإنّ الدمع يغلب والقلب يحزن ، ولا نعصي الله عزوجل». (٢)

وقد قام العلّامة الأميني في موسوعته الكبيرة «الغدير» بجمع موارد كثيرة بكى فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والتابعون على موتاهم وأعزّائهم عند افتقادهم ، وإليك نصّ ما جاء به ذلك المتتبع الخبير.

وهذا هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أُصيب حمزة رضي‌الله‌عنه وجاءت صفيّة بنت عبد المطلّب رضي‌الله‌عنها تطلبه ، فحال بينها وبينه الأنصار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعوها ، فجلست عنده فجعلت إذا بكت بكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا نشجت نَشَجَ ،

__________________

(١) السيرة الحلبية : ٣ / ٣٤٨.

(٢) مجمع الزوائد للهيثمي : ٣ / ٨.

٤٧٠

وكانت فاطمة عليها‌السلام تبكي ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّما بكت يبكي ، وقال : لن أُصاب بمثلك أبداً. (١)

ولمّا رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أُحد بكت نساء الأنصار على شهدائهن ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «لكن حمزة لا بواكي له» ، فرجع الأنصار فقالوا لنسائهم : لا تبكين أحداً حتّى تبدأن بحمزة ، قال : فذاك فيهم إلى اليوم لا يبكين ميّتاً إلّا بدأن بحمزة. (٢)

وهذا هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينعى جعفراً ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، وعيناه تذرفان. (٣)

وهذا هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زار قبر أُمّه وبكى عليها وأبكى من حوله. (٤)

وهذا هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّل عثمان بن مظعون وهو ميّت ودموعه تسيل على خدّه. (٥)

وهذا هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبكي على ابن لبعض بناته ، فقال له عبادة بن الصامت : ما هذا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : «الرحمة التي جعلها الله في بني آدم ، وإنّما يرحم الله من عباده الرحماء». (٦)

وهذه الصدّيقة الطاهرة تبكي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول : «يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه ، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه جنّة الفردوس

__________________

(١) إمتاع المقريزي : ١٥٤.

(٢) مجمع الزوائد : ٦ / ١٢٠.

(٣) صحيح البخاري : كتاب المناقب في علامات النبوّة في الإسلام ؛ سنن البيهقي : ٤ / ٧٠.

(٤) سنن البيهقي : ٤ / ٧٠ ؛ تاريخ الخطيب البغدادي : ٧ / ٢٨٩.

(٥) سنن أبي داود : ٢ / ٦٣ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٤٥.

(٦) سنن أبي داود : ٢ / ٥٨ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٨١.

٤٧١

مأواه». (١)

وهذه هي ـ سلام الله عليها ـ وقفت على قبر أبيها الطاهر ، وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعتها على عينها وبكت ، وأنشأت تقول :

ما ذا على مَن شمَّ تربة أحمد

أن لا يشمَّ مدى الزمان غواليا

صُبّت عليَّ مصائبٌ لو أنّها

صُبّت على الأيّام صِرن لياليا

وهذا أبو بكر بن أبي قحافة يبكي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرثيه بقوله :

يا عين فابكي ولا تسأمي

وحُقَّ البكاء على السيّد

وهذا حسّان بن ثابت يبكيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول :

ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت

عيون ومثلاها من الجفن أسعد

ويقول :

يُبكّون من تبكي السّماوات يومه

ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد

ويقول :

يا عين جودي بدمع منك إسبال

ولا تملنَّ من سحّ وإعوال

__________________

(١) صحيح البخاري ، باب مرض النبي ووفاته ؛ مسند أبي داود : ٢ / ١٩٧ ؛ سنن النسائي : ٤ / ١٣ ؛ مستدرك الحاكم : ٣ / ١٦٣ ؛ تاريخ الخطيب : ٦ / ٢٦٢.

٤٧٢

وهذه «أروى» بنت عبد المطّلب تبكي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترثيه بقولها :

ألا يا عين! ويحكِ أسعديني

بدمعك ما بقيت وطاوعيني

ألا يا عين! ويحك واستهلّي

على نور البلاد وأسعديني

وهذه عاتكة بنت عبد المطّلب ترثيه وتقول :

عينيَّ جودا طوال الدّهر وانهمِرا

سكباً وسحّاً بدمع غير تعذير

يا عين فاسحنفري بالدَّمع واحتفلي

حتّى الممات بسجل غير منذور

يا عين فانهملي بالدّمع واجتهدي

للمصطفى دون خلق الله بالنور

وهذه صفيّة بنت عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :

أفاطمُ بكّي ولا تسأمي

بصحبك ما طلع الكوكبُ

هو المرء يُبكى وحقّ البكاء

هو الماجد السيّد الطيِّبُ

وتقول :

أعينيّ! جودا بدمع سجْم

يبادر غرباً بما مُنهدمْ

أعينيّ! فاسحنفرا وأسكبا

بوجد وحزن شديد الألمْ

٤٧٣

وهذه هند بنت الحارث بن عبد المطّلب تبكي عليه وترثيه وتقول :

يا عين جودي بدمع منك وابتدري

كما تنزّل ماء الغيث فانثعبا

وهذه هند بنت أثاثة ترثيه وتقول :

ألا يا عين! بكّي لا تملّي

فقد بكر النعيُّ بمن هويتُ

وهذه عاتكة بنت زيد ترثيه وتقول :

وأمست مراكبه أوحشت

وقد كان يركبها زينها

وأمست تُبكّي على سيِّد

تردَّد عبرتها عينها

وهذه أُمّ أيمن ترثيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقول :

عين جودي فإنّ بذلك للدم

ع شفاء فاكثري من بكاء

بدموع غزيرة منك حتّى

يقضي الله فيك خير القضاء

وهذه عمّة جابر بن عبد الله جاءت يوم أُحُد تبكي على أخيها عبد الله بن

٤٧٤

عمر ، وقال جابر : فجعلتُ أبكي وجعل القوم ينهوني ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينهاني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أبكوه ولا تبكوه فو الله ما زالت الملائكة تظلّله بأجنحتها حتى دفنتموه». (١)

دليل المانعين

نعم روي عن عمر بن الخطّاب وعبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الميّت يعذَّب ببكاء أهله». (٢)

أقول : إنّ ظاهر هذا الحديث يخالف فعل الخليفة في مواطن كثيرة أثبتها التاريخ.

منها : أنّه بكى على النعمان بن مقرن المزني لَمّا جاءه نعيه ، فخرج ونعاه إلى الناس على المنبر ، ووضع يده على رأسه يبكي. (٣)

ومنها : بكاؤه على خالد بن الوليد عند ما مات وامتنعت النساء من البكاء عليه ، فلما انتهى ذلك إلى عمر ، قال : وما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دمعهنّ على أبي سليمان ما لم يكن لغواً ولا لقلقة. (٤)

ومنها : بكاؤه على أخيه زيد بن الخطّاب ، وكان صحبه رجل من بني عدي ابن كعب فرجع إلى المدينة ، فلمّا رآه عمر دمعت عيناه ، وقال : وخلّفت زيداً قاضياً وأتيتني. (٥)

فالبكاء المتكرّر من الخليفة يهدينا إلى أنّ المراد من الحديث ـ لو صحّ سنده ـ

__________________

(١) الغدير : ٦ / ١٦٤ ـ ١٦٧.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٤١ ـ ٤٤ ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.

(٣) العقد الفريد : ٣ / ٢٣٥.

(٤) العقد الفريد : ٣ / ٢٣٥.

(٥) العقد الفريد : ٣ / ٢٣٥.

٤٧٥

معنى آخر ، كيف وأنّ ظاهر الحديث لو قلنا به فإنّه يخالف الذكر الحكيم ، أعني قوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). فأيّ معنى (١) لتعذيب الميّت ببكاء غيره عليه!!

فقه الحديث

كلّ هذه النقول توقِفنا على أنّ المراد من الحديث «إنّ الميّت يعذَّب ...» ـ إن صحّ سنده ـ غير ما يفهم من ظاهره ، وقد كان محتفّاً بقرائن سقطت عند النقل ، ولأجل ذلك توهّم البعض حرمة البكاء على الميّت استناداً إلى هذا الحديث ، غافلاً عن مرمى الحديث ومغزاه.

أخرج مسلم في صحيحه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : ذكر عند عائشة قول ابن عمر : الميت يعذب ببكاء أهله عليه ، فقالت : رحم الله أبا عبد الرحمن ، سمع شيئاً فلم يحفظه ، إنّما مرّت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة يهودي ، وهم يبكون عليه ، فقال : أنتم تبكون وانّه ليعذب. (٢)

وأخرج أبو داود في سننه عن عروة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه ، فذكر ذلك لعائشة فقالت ـ وهي تعني ابن عمر ـ : إنّما مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قبر يهودي فقال : إنّ صاحب هذا ليُعذَّب وأهله يبكون عليه. ثمّ قرأت (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (٣)

قال الشافعي : ما روت عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشبه أن يكون محفوظاً

__________________

(١) فاطر : ١٨.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٤٤ ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.

(٣) سنن أبي داود : ٣ / ١٩٤ ، برقم ٣١٢٩.

٤٧٦

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدلالة الكتاب والسنّة ، فإن قيل : فأين دلالة الكتاب؟ قيل : في قوله عزوجل : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ...) و (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢) وقوله : (... لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى).

فإن قيل : (٣) أين دلالة السنّة؟ قيل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل : «ابنك هذا؟» قال : نعم ، قال : «أما إنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه». فأعلم رسول الله مثلما أعلم الله من أنّ جناية كلّ امرئ عليه ، كما أنّ عمله لا لغيره ولا عليه. (٤)

وأخرج مسلم عن ابن عباس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الميت يعذّب ببكاء أهله عليه» ، فقال ابن عباس : فلمّا مات عمر ذكرت ذلك لعائشة ، فقالت : يرحم الله عمر ، لا والله ما حدّث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّ الله يعذّب المؤمن ببكاء أحد ، ولكن قال : إنّ الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ، قال : وقالت عائشة : حسبكم القرآن : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى). (٥)

وما أخرجه مسلم عن هشام بن عروة هو الحقّ دون ما أخرجه عن ابن عباس لأنّ تعذيب الكافر ببكاء أهله عليه يضاد الذكر الحكيم.

والحمد لله ربّ العالمين

__________________

(١) النجم : ٣٩.

(٢) الزلزلة : ٧ ـ ٨.

(٣) طه : ١٥.

(٤) اختلاف الحديث بهامش كتاب الأُمّ للشافعي : ٧ / ٢٦٧.

(٥) صحيح مسلم : ٣ / ٤٣ ، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من كتاب الصلاة.

٤٧٧
٤٧٨

الفهارس

١. فهرس مصادر التأليف

٢. فهرس المحتويات

٤٧٩
٤٨٠