الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

الشبهة الأُولى

تنطلق هذه الشبهة من نكتة مفادها أنّ القرآن الكريم قد حصر انتفاع الإنسان بالعمل الذي يتصدّى بنفسه للقيام به ويسعى في تحصيله ويبذل الجهد بإنجازه ، حيث قال تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (١) ، ومع هذا التصريح في الآية كيف ينتفع الميّت بعمل لم يبذل فيه أدنى جهد أو سعي؟!!

جواب الشبهة

إنّ الإجابة عن الشبهة المذكورة واضحة ، بشرط بيان المراد من الآية آنفة الذكر ، ومن هنا نقول :

أوّلاً : انّ الآية المباركة بصدد الحديث عن العقاب والجزاء وانّ كلّ إنسان إنّما يجازى بعمله ويؤاخذ به وبما يقترفه هو بنفسه ، ولا علاقة للآية بالثواب والجزاء ، والشاهد على ذلك أنّها تقول :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى* وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى * وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى* أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى * وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى). (٢)

فإنّ ملاحظة لحن الخطاب الوارد في الآيات والذي هو في الحقيقة لحن ذم وتوبيخ ، يظهر وبجلاء أنّ الآية في مقام الحديث عن العقاب والجزاء وخاصة الآية

__________________

(١) النجم : ٣٩.

(٢) النجم : ٣٣ ـ ٤٢.

٤٤١

السابقة عليها والتي تقول : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ومن هنا نعرف أنّ اللام الداخلة على كلمة الإنسان في قوله تعالى (لِلْإِنْسانِ) لا يراد منها الانتفاع ، بل هي بمعنى الاستحقاق ، ولقد أكّد علماء اللغة أنّ أحد معاني «اللام» الاستحقاق كما في قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) ، فعلى هذا الأساس لا علاقة للآية بمسألة الهدية والثواب.

وثانياً : على فرض التسليم بشمولية الآية ودلالتها على الثواب والعقاب معاً ، مع ذلك نقول : يوجد هنا أمران لا ينبغي الخلط بينهما :

١. انّ سعادة الإنسان وشقاءه مرهون بعمله وسلوكه ، فإذا كان محسناً فاعلاً للخيرات فلا ريب أنّه سعيد ، وأمّا إذا كان سيّئ العمل مذموم الطريقة والمنهج فلا ريب أنّ عاقبته الشقاء والخسران ، وهذا أصل قرآنيّ أكّدته آيات الذكر الحكيم حيث قال عزّ من قائل : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها). (٢)

٢. إذا قام الإنسان بعمل صالح ثمّ أهدى ثواب ذلك العمل إلى آخر قد رحل عن هذه الدنيا ، فإنّ الميّت ينتفع بثواب ذلك العمل الصالح.

ولا ريب أنّه لا منافاة بين هذين الأصلين ، لأنّ الأصل يمثّل قاعدة عامّة شاخصة للعيان في حياة الإنسان ، كما أنّ هذا الأصل يبيّن المحور الذي تدور عليه كلّ من السعادة والشقاء. والحال أنّ الأصل الثاني أصل فرعي وحالة استثنائية ، ومن الممكن بيان عدم التنافي بين الأصلين من خلال المثال التالي :

لو فرضنا أنّ إنساناً ما ينصح ولده ويقول له : إنّ سعادتك أو شقاءَك في الحياة رهن بعملك وسعيك ، وإنّ الأمل بالنجاح والسعادة بلا عمل أو كدح

__________________

(١) المطففين : ١.

(٢) فصلت : ٤٦.

٤٤٢

خيال واه وحلم باطل ، فهل تعني تلك النصيحة أنّه لا يحقّ لهذا الابن أن يتلقّى الهدية من الآخرين ، أو إذا تلقّاها لا تزيده نفعاً؟ أو أنّ استلامه للهدية يُعدّ مخالفة لنصيحة الأب وإرشاده؟

فلا ريب انّ الإجابة عن هذا التساؤل بالنفي قطعاً ، وذلك لأنّ الأب في واقع الأمر بصدد بيان قاعدة كلّية وأصل عام تسير عليه الحياة وتدور عليه رحاها والنجاح أو الإخفاق فيها ، وأمّا الانتفاع بهدايا الآخرين ومنحهم فهو حالة استثنائية ، فإنّ الأب يقول لولده : اعتمد على نفسك وسعيك وجهدك ودع التكاسل والبطالة والاعتماد على الآخرين بالكلية ، ولكن ذلك لا يمنع أن تحصل وفي حالات خاصة واستثنائية بين الحين والآخر على هدية أو هبة تنتفع بها في حياتك.

الشبهة الثانية

تقوم هذه الشبهة على الحصر الوارد في الحديث النبوي الشريف حيث حصر انتفاع الإنسان بعد موته بثلاثة أُمور لم يكن من ضمنها انتفاع الإنسان بعمل غيره ، لأنّ الحديث النبوي قال : «إذا مات الإنسان ، انقطع عمله إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له».

جواب الشبهة

إنّ الحديث ناظر إلى تلك الأعمال التي تصدر من الإنسان بصورة مباشرة ، وليس بالخفي أنّ الإنسان إذا مات انقطعت الأعمال التي يقوم بها بنفسه وبصورة مباشرة إلّا الثلاثة التي بقي أثرها بعده ولم تمت بموته.

٤٤٣

وعلى هذا الأساس لا توجد بين الحديث وبين انتفاع الإنسان بعمل يقوم به غيره أيّة صلة أو علاقة ، بل أنّ هيكل الحديث المستثنى «انقطع عمله» والمستثنى منه «إلّا من ثلاثة» ناظر إلى الأعمال التي يقوم بها الإنسان بصورة مباشرة وأنّ محور الحديث يدور حول بيان انقطاع عمل الإنسان بموته إلّا ما استثني في الحديث ، وليس الحديث بصدد بيان الانتفاع بثواب العمل الذي يقوم به غيره ويهدي ثوابه إليه.

الشبهة الثالثة

إنّ العبادات على صنفين : بعضها يقبل النيابة كالصدقة والحج ، والبعض الآخر لا يقبل النيابة كالصلاة وقراءة القرآن والصيام ، وحينئذ كيف يتصدّى الإنسان للنيابة عن الميت في أُمور لا تقبل النيابة أصلاً؟!

جواب الشبهة

إنّ قبول العمل للنيابة أو عدم قبوله لا بدّ أن يؤخذ من الشرع ، فالشارع هو الذي يحدّد ذلك ، فعلى سبيل المثال : الإسلام لا يقبل النيابة ، فلو تشهد الإنسان الشهادتين ألف مرة ـ نيابة عن الكافر ـ لا يجدي الكافر نفعاً أبداً ، وأمّا الصوم مثلاً فلا ريب أنّ الروايات قد أكّدت قبوله للنيابة فقد روي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من مات وعليه صيام ، صام عنه وليّه». (١)

ونظير ذلك الروايات التي ذكرناها في صدر البحث ، وحينئذ كيف يدّعي المستشكل أنّ الصلاة لا تقبل النيابة في الوقت الذي يعترف به بقبول الحجّ

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ١٥٥ ، باب قضاء الصيام عن الميت.

٤٤٤

للنيابة ، والحال أنّ من أعمال الحجّ الواجبة صلاة الطواف؟! فلا ريب أنّ العمل إذا قبل النيابة في مورد يقبلها في المورد الآخر بلا فرق بين الموردين أبداً.

ولقد روى الإمام أحمد في مسنده الحديث التالي :

ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله تبارك وتعالى والدار الآخرة إلّا غفر له ، واقرأوها على موتاكم. (١)

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٢٦.

٤٤٥
٤٤٦

الفصل الثامن عشر

الحلف على الله بحقّ أوليائه الصالحين

٤٤٧
٤٤٨

لقد أولى القرآن الكريم المؤمنين الذين يدعون الله تضرعاً وخفية ويطلبون منه العفو وغفران الذنوب ، أهمية خاصة ووصفهم بصفات ونعوت كثيرة كالصابرين ، والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار و ... قال تعالى : (الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ). (١)

فلو انّ إنساناً قام في جوف الليل ثمّ أسبغ ـ وضوءه وتوجه إلى الله مصلّياً صلاة الليل ذارفاً دموع الخوف راجياً منه ، متضرعاً إليه سبحانه وتعالى قائلاً :

«اللهمّ إنّي أسألك بحقّ المستغفرين بالأسحار اغفر لي ذنبي».

فكيف يمكن اعتبار الحلف على الله سبحانه بمقام ومنزلة الموحّدين الصالحين الذائبين في التوحيد والإخلاص له سبحانه ، نوعاً من الشرك في العبادة؟!

ولقد أوضحنا في بحوثنا السابقة انّ المعيار في العبادة هو : الخضوع مقابل موجود يعتقد أنّه ربّ أو أنّه منشأ لبعض الأعمال الإلهية ، والحال أنّ الموحّدين الذين يقسمون على الله بحقّ الأنبياء والأولياء ومنزلتهم عليهم‌السلام لا ينطلقون من هذا الاعتقاد المنحرف ، بل أقصى ما يعتقدونه في حقّهم أنّهم عباد مقربون لله سبحانه

__________________

(١) آل عمران : ١٧.

٤٤٩

يحبّهم الله ويحبّونه.

إذا اتّضح ذلك وتبيّن انّ القسم على الله تعالى بحقّ الأولياء ليس عبادة لهم ولا شركاً به سبحانه ، ننقل الكلام للحديث عن الشق الثاني من البحث ونركّز البحث حوله ، وهو : هل أنّ القسم على الله تعالى بحقّ الأولياء جائز أم لا؟ لأنّه من الممكن أن يكون الشيء ليس بعبادة لغيره سبحانه ، ولكنّه في نفس الوقت غير جائز في نظر الشرع؟

وفي مقام الإجابة عن التساؤل المطروح لا بدّ من الرجوع إلى الأحاديث والروايات الإسلامية الواردة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام واستنطاقها لتنجلي الحقيقة وينكشف الواقع ، وها نحن نشير إلى الأدلّة التي تبيح مثل هذا القسم ، وهي :

١. لقد ورد القسم في الدعاء الذي علّمه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرجل الضرير ـ والذي تحدّثنا عنه سابقاً ـ نرى أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم الرجل أن يقول بعد الوضوء والصلاة ـ : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبي الرحمة». (١)

صحيح انّه لم ترد في الحديث لفظة «القسم» أو «الحلف» ولكن استعمال لفظة «الباء» في قوله : «بنبيّك» تتضمن معنى القسم.

وحينئذ يطرح السؤال التالي نفسه : إذا كان القسم على الله بأوليائه أمراً محرماً فكيف علّم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرجل الضرير هذا الدعاء الذي يتضمّن حقيقة ذلك القسم؟!

٢. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الدعاء لمن خرج من بيته

__________________

(١) انظر ص ٣١٠ ـ ٣١١ من هذا الكتاب.

٤٥٠

قاصداً الصلاة في المسجد :

«اللهمّ إنّي أسألك بحقّ السائلين عليك ، وأسألك بحقّ ممشاي هذا ...». (١)

قد يدّعي المخالف ضعف الحديث لوجود عطية العوفي في سلسلة سنده ، وإذا كان الحديث ضعيفاً يسقط عن الاعتبار ولا يصح الاستدلال به.

ولكن يرد على هذا الادّعاء أنّنا قد أثبتنا أنّ عطية العوفي لا غمز فيه إلّا من جهة حبّه وولائه لأهل بيت الوحي والنبوة (٢) هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى أنّ ابن خزيمة قد روى الحديث بطريق صحيح لدى أهل السنّة.

٣. عن ع (٣) مر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا اقترف آدم الخطيئة ، قال : يا ربّ! أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال الله : يا آدم وكيف عرفت محمداً إذ لم أخلقه؟ قال : يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت في من روحك ، رفعت رأسي ، فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، فعلمت أنّك لم تُضفْ إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك ...». (٤)

ولا يوجد أدنى إشكال في سند الحديث ، لأنّ أحاديث المستدرك من ناحية القيمة والاعتبار العلمي كالأحاديث الواردة في الصحيحين.

هذه نماذج من الروايات التي نقلت عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا الأحاديث الواردة عن طريق أئمّة الهدى فكثيرة جداً ، وكلّها تثبت بما لا مزيد عليه أنّهم عليهم‌السلام

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٢٥٦ ، برقم ٧٧٨ ؛ مسند أحمد : ٣ / ٢١.

(٢) انظر صفحة ٣٣٠ من هذا الكتاب.

(٣) انظر تعليقة المحقّق فؤاد عبد الباقي على سنن ابن ماجة.

(٤) مستدرك الحاكم : ٢ / ٦١٥ ؛ الدر المنثور : ١ / ٥٩ ؛ روح المعاني : ١ / ٢١٧.

٤٥١

كانوا دائماً يقسمون على الله بحقّ أوليائه الصالحين ، ويكفي شاهداً على ما نقول مراجعة الصحيفة السجادية لتتّضح الحقيقة بأجلى صورها.

٤. يقول عليه‌السلام في دعائه يوم عرفة مناجياً ربّه :

«بحقّ من انتخبت من خلقك ، وبمن اصطفيته لنفسك ، بحقّ من اخترت من بريّتك ، ومن اجتبيت لشأنك ، بحقّ من وصلت طاعته بطاعتك ، ومن نيطت معاداته بمعاداتك». (١)

٥. وعند ما زار الإمام الصادق عليه‌السلام مرقد جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام دعا في ختام الزيارة :

«اللهمّ استجب دعائي ، واقبل ثنائي ، واجمع بيني وبين أوليائي ، بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين». (٢)

وكما ذكرنا أنّ الأدعية المروية عن أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين عليهم‌السلام تشتمل على الكثير من تلك الأقسام ولا يسع المقام لذكرها جميعاً.

وبعد أن اتّضح لنا جواز ذلك النوع من الطلب والقسم على الله تعالى ، ننقل الكلام للحديث عن مسألة أُخرى وهي : التعرض لأدلّة المانعين ونقدها ، فقد تمسّك المانعون بأدلّة ، منها :

انّه لا حق للمخلوق على الخالق

لقد تمسّك المانعون بهذا الدليل قائلين : «إنّ المسألة بحقّ المخلوقين لا تجوز ، لأنّه لا حق للمخلوق على الخالق». (٣)

__________________

(١) الصحيفة السجادية : الدعاء ٤٧.

(٢) مصباح المتهجّد : ٦٨٢.

(٣) كشف الارتياب : ٣٣١ ، نقلاً عن القدوري.

٤٥٢

الجواب

يمكن الرد على هذا النمط من الاستدلال بطريقين :

الطريق الأوّل : انّ هذا الاستدلال من قبيل الاجتهاد في مقابل النصّ ، إذ من الواضح لكلّ من راجع القرآن الكريم والسنّة المطهّرة يجد عدداً من الآيات والروايات التي تحكي أنّ للمخلوق حقّاً في ذمّة الخالق ، وها نحن نشير إلى نماذج من كلا المصدرين الأساسيّين :

القرآن الكريم والحقوق المذكورة

١. قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ). (١)

٢. وقوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ). (٢)

٣. وفي آية ثالثة : (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ). (٣)

٤. وفي رابعة قال عزّ من قائل : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ). (٤)

ومع وجود هذه الآيات كيف يسيغ الإنسان لنفسه السعي وراء التأويلات الباردة التي لا تنبع إلّا من نظريات باطلة وتوهّمات لا أساس لها من الصحّة.

السنّة والحقوق المذكورة

بالإضافة إلى ما سبق من الآيات الكريمة ، هناك مجموعة كبرى من

__________________

(١) الروم : ٤٧.

(٢) التوبة : ١١١.

(٣) يونس : ١٠٣.

(٤) النساء : ١٧.

٤٥٣

الأحاديث الشريفة في هذا المجال نقتطف منها بعض النماذج :

١. «حقّ على الله عون من نكح التماس العفاف ممّا حرّم الله». (١)

٢. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة حقّ على الله عونهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريدُ الأداء ، والناكح الذي يريد التعفّف». (٢)

٣. «أتدري ما حقّ العباد على الله ...». (٣)

الطريق الثاني : صحيح انّه لا حق لمخلوق في ذمّة الخالق ، لأنّ عباد الله لا يملكون شيئاً حتّى يكون لهم حقّ على الله تعالى ، نعم ، انّ المقصود من الحق ـ في تلك العبارات ـ هو الجزاء والمنزلة التي تفضل الله بها على عباده حيث منحهم هذا الحقّ مقابل طاعتهم وانقيادهم له سبحانه ، فهو في الحقيقة مزيد من التفضّل والعناية واللطف منه تعالى ، فهذا «الحق» الذي نقسم به على الله ، حق جعله الله ، لا أنّ العبد له حقّ على الله ، وهذا مثل القرض الذي يستقرضه الله من عباده في قوله سبحانه :

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً). (٤)

حقّاً انّ درك المعارف الإسلامية الحقة يحتاج إلى رؤية ثاقبة وبصيرة نافذة تستطيع الغور في الأعماق للحصول على الجواهر والدرر القرآنية والحديثية.

__________________

(١) الجامع الصغير للسيوطي : ٢ / ٣٣.

(٢) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٤١.

(٣) النهاية لابن الأثير : مادة «حق».

(٤) البقرة : ٢٤٥.

٤٥٤

الفصل التاسع عشر

الحلف بغير الله تعالى

٤٥٥
٤٥٦

كان البحث في السابق يدور حول القسم على الله بحقّ الأولياء الصالحين بنحو يتوسّل الإنسان بمقامات ومنازل الأولياء ويقسم على الله تعالى بها ، لينجح طلبته ويستجيب دعاءه.

وأمّا البحث في المقام فيدور حول مسألة أُخرى ألا وهي «الحلف بغير الله تعالى» ، فمن السائد بين المسلمين أنّهم وفي محادثاتهم اليومية يقسمون بالنبي الأكرم أو القرآن الكريم فيقول أحدهم لصاحبه : أقسم بالرسول إنّي لم أفعل الفعل الفلاني ، أو أقسم بالقرآن الكريم إنّي سأفعل كذا ، وحينئذ يطرح السؤال التالي نفسه : ما هو حكم هذا النوع من القسم في الشرع الإسلامي؟

وقبل الإجابة عن هذا التساؤل نقدّم مقدّمة نشير فيها إلى مسألتين ، هما :

١. ما هي الغاية من القسم بغير الله في القرآن الكريم؟

إنّه سبحانه وتعالى حلف في القرآن الكريم بأشياء غير ذاته سبحانه يربو عددها على الأربعين ، منها : الحلف بالتين والزيتون ، وطور سينين ، والبلد الأمين ، والليل والنّهار ، والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر ، والطور ، والكتاب المسطور ، والبيت المعمور ، والسقف المرفوع ، والبحر المسجور ، والحلف بعمر النبي ، فقال عزّ من قائل :

٤٥٧

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ). (١)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى * وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى). (٢)

(وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ). (٣)

(وَالطُّورِ* وَكِتابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ). (٤)

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ). (٥)

فإذا أمعنا النظر في هذه الآيات يظهر لنا أنّ الهدف من وراء قسمه سبحانه وتعالى بهذه الموجودات يكمن في أحد الأمرين التاليين :

الهدف الأوّل : حثّ الإنسان وتحفيزه للاهتمام بتلك الموجودات ، والبحث والتفكير فيها ، ودراستها لمعرفة السرّ الكامن فيها ، والذي جعلها موضع اهتمام الباري تعالى إلى الحد الذي يقسم بها تعالى شأنه ، وممّا لا ريب فيه أنّ التفكّر في خلق السماوات والأرض من أهمّ صفات وخصوصيات المؤمنين ، وقد حثّ القرآن الكريم المؤمنين إلى ذلك وأثنى على المتفكّرين كما في قوله تعالى :

(قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). (٦)

وقال تعالى في آية أُخرى :

__________________

(١) التين : ١ ـ ٣.

(٢) الضحى : ١ ـ ٢.

(٣) الفجر : ١ ـ ٤.

(٤) الطور : ١ ـ ٦.

(٥) الحجر : ٧٢.

(٦) يونس : ١٠١.

٤٥٨

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ). (١)

كما أقسم القرآن الكريم بالشمس والقمر والنهار والليل ، فقال عزّ من قائل :

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها* وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها* وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها* وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها* وَالسَّماءِ وَما بَناها* وَالْأَرْضِ وَما طَحاها). (٢)

إذاً يمكن أن تكون الغاية من وراء كلّ هذه الأقسام هو تحريك الناس وحثّهم ودفعهم إلى الفكر والتأمّل في آيات الله سبحانه ، ليتسنّى لهم من خلال هذا الطريق الحسّي التصديق بخالقها ، والإذعان لعظمته ، وترسيخ وإحكام أُسسهم التوحيدية والإيمانية.

الهدف الثاني : يمكن أن يكون الهدف من وراء ذلك القسم إظهار المنزلة والمقام والفضيلة التي يتحلّى بها المقسم به لدى الله سبحانه ، كما في القسم بذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال تعالى :

(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).

٢. القرآن أُسوة وقدوة

إنّ القرآن الكريم كتاب هداية للبشر ، والناس يتّخذونه قدوة وأُسوة لهم ،

__________________

(١) آل عمران : ١٩١.

(٢) الشمس : ١ ـ ٦.

٤٥٩

يهتدون بهديه ، ويسيرون على واضح نهجه ، ومن المعلوم أنّه قد ورد فيه الكثير من الآيات التي يقسم بها بغير الله سبحانه ، ممّا يدلّ ـ وبوضوح تام ـ على أنّ هذا النوع من القسم ليس بدعة في الدين ولا شركاً بالله سبحانه وتعالى ، كما يثبت أنّه ليس من الأمر المحرّم والمنهيّ عنه ، إذ لو كان كذلك لكان المفروض أن يحذر القرآن الكريم أو السنّة المطهرة منه ، أو يذكران الناس بأنّ ذلك القسم من خصائص الله تعالى ، فلا يحق لأحد مهما كان مشاركته في هذه الخصوصية.

وهذا ليس بالأمر العجيب ، ففي الوقت الذي نجد فيه القرآن الكريم يصف الله سبحانه «بالكبرياء» (١) نجد العقل والروايات قد بيّنت أنّ الكبرياء من صفات الله تعالى ، لأنّ ذاته سبحانه تفيض كمالاً وجمالاً ، وأما غيره فلا يحق له الاتّصاف بهذا الوصف ، لأنّه فاقد لكلّ أنواع الكمال ، وكلّ ما يملكه غيره انّما هو من فيضه وسببه وأفضاله سبحانه وتعالى.

ثمّ إنّ وجود هذا الكم الهائل من الأقسام في القرآن الكريم إذا لم يكن جميلاً ومستحسناً ، فعلى أقلّ تقدير أنّه ليس بالأمر المستقبح. هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى لو كان ذلك شركاً منهياً عنه ، فهذا يعني أنّ الله تعالى هو نفسه قد وفّر الأرضية المناسبة لذلك الشرك من خلال ما أورده من آيات القسم!!!

يتّضح من ذلك أنّه لا محذور في هذا النوع من القسم والذي يعبّر في الغالب عن العظمة والكرامة لا غير.

ثمّ إنّ البعض من المخالفين لمّا واجهوا هذا المنطق القويم والبرهان النيّر ، والدليل المستحكم حاولوا الهروب من المأزق الحرج بالتوسّل بتأويلات ضعيفة لا نصيب لها من الحقّ ، فقالوا : إنّ حقيقة هذه الأقسام ترجع إلى قسم واحد لا أكثر ،

__________________

(١) انظر الحشر : ٢٣.

٤٦٠