الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

قد تصل درجة الحب والولاء وشدّة الشوق في الإنسان إلى درجة بحيث يرى نفسه «عبداً» أو «غلاماً» لمن يحبه ويوده ، وما ذلك إلّا إمعاناً منه في إبراز الحب وإظهار التصاغر أمام حبيبه.

ومن هذا المنطلق تجد الكثير من ذوي النفوس الطاهرة والأرواح الزكية يعشقون الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويهيمون به وبالأولياء والصالحين إلى درجة يدفعهم ذلك الحب والشوق والمودة لهم إلى أن يسمّوا أبناءهم «بعبد النبي» أو «عبد الحسين» ، وغير ذلك من الأسماء التي تبدأ بكلمة «عبد» ، وفي الحقيقة أنّ هذه التسمية هي انعكاس طبيعي وتعبير بريء عمّا تكن نفوسهم من الحب والولاء والشوق للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيت الوحي عليهم‌السلام.

وليس وراء تلك التسمية غاية أو قصد آخر غير ما ذكرنا ، وما يدرك ذلك إلّا ذوو النفوس الطاهرة والأحاسيس المرهفة.

بعد هذه المقدّمة نشير إلى إشكالية أثارها البعض حول تلك التسمية حيث قالوا :

لا ينبغي للإنسان أن يرتدي برداء العبودية إلّا لله سبحانه ، لأنّ هذا الرداء من شأنه سبحانه وتعالى وحده لا يشاركه فيه أحد مهما كان ، كما يقول عزوجل : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً). (١)

__________________

(١) مريم ٩٣.

٤٢١

فإذا كان الإنسان عبداً لله سبحانه وتعالى فكيف يصحّ أن نسمّيه ب ـ «عبد زيد» أو «عبد عمرو» فإنّ هذه التسمية تشم منها رائحة الشرك؟!!

جواب الشبهة

من أجل أن تظهر الحقيقة وينجلي الحق ، وليتّضح مدى وهن هذا الإشكال لا بدّ أوّلاً من معرفة وبيان ملاك «العبودية» ثمّ الانتقال للحديث عن «الانحصار وعدم الانحصار» ثانياً.

وبعبارة أُخرى : لا بدّ من التمييز بين العبودية التكوينية التي عجنت مع جوهر الإنسان ، وبين العبودية التشريعية أو القانونية التي قد تنفصل عن الإنسان ، فإنّ ذلك مهم جدّاً في مقام الإجابة عن الشبهة المطروحة فنقول :

إذا كان الملاك في العبودية هو «الخالقية» و «منح الوجود» للطرف المقابل ، فلا شكّ أنّ جميع بني الإنسان يشتركون في هذه العبودية لله سبحانه وتعالى ولا يشاركه فيها أحدٌ أبداً ، وإذا ما وجدنا السيد المسيح عليه‌السلام يقول : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) (١) ، أو نراه سبحانه ينادي المؤمنين بقوله : (يا عِبادِ) ، وبقوله : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) (٢) فإنّ ذلك كلّه منطلق من هذا الملاك ، أعني : ملاك الخالقية ومنح الوجود للإنسان.

ومن الواضح أنّ هذا النوع من العبودية ملازم للإنسان ويستحيل أن ينفك عنه أبداً ، ولا بدّ للإنسان أن ينطلق في عبوديته لله سبحانه ويطيعه ويعبده من خلال هذا الملاك ؛ أمّا إذا كانت العبودية ناشئة من الملاك التشريعي أو العقد

__________________

(١) مريم : ٣٠.

(٢) الزمر : ١٠.

٤٢٢

الاجتماعي ، فحينئذ لا تكون العبوديّة هنا منحصرة بالله سبحانه وتعالى ، بل يمكن ـ وتحت شروط خاصة وظروف معينة ـ أن يكون الإنسان عبداً لغيره ، نشير هنا إلى كلا النموذجين :

١. طالما هيمن الطواغيت والمستكبرون على مقدّرات المستضعفين والمحرومين واسترقّوهم بحيث أصبحوا بمنزلة السلعة تباع وتشترى في أسواق النخاسة ، ولم ينحصر الأمر بهم بل امتد ليشمل أبناءهم وذراريهم ، وليس التاريخ الأُوروبي والأمريكي ببعيد عنّا ، حيث كانوا ولفترة قريبة جداً يزاولون تجارة الرق ، بل كان كسب الكثير منهم قائماً على أساس سرقة واختطاف الإنسان الأسود في إفريقيا وشحنه بطريقة مأساوية جداً في سفن لا تتوفر فيها أبسط الوسائل لنقل الإنسان ، بل كانت تمارس بحقّهم أقسى أنواع المعاملة ، وأنت إذا نظرت إلى المجتمع الأُوروبي أو الأمريكي تجد الكثير من نسل أُولئك الأفارقة الذين اختطفوا من أرضهم وأُرسلوا قسراً إلى تلك البلاد. ولقد عارض الإسلام هذا النوع من الاسترقاق والعبودية. وسعى للقضاء على ظاهرة الرق ، وإذا ما وجدنا الإسلام قد أجاز ذلك في الحروب الشرعية فلأجل الحفاظ على حياة الأسرى ، ولكنّه في الوقت نفسه جعل لهم أحكاماً خاصة تؤول في النتيجة إلى تحريرهم وخلاصهم ، وقد بحثت هذه القضية مفصّلاً في أبواب الفقه الإسلامي.

٢. انّ القرآن الكريم قسّم الناس إلى صنفين ، فقال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) (١) ، ولا ريب أنّه ليس المقصود في الآية هو العبد التكويني ، وذلك لأنّ العبودية بهذا المعنى لا تختص بصنف من الناس دون صنف ، بل الكلّ فيها

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

٤٢٣

سواسية فالجميع عبيد له سبحانه ، إذاً المقصود من الآية «العبد» مقابل «الحرّ» ، فلا بدّ حينئذ من بيان هذه العبودية ، وانّ العبد الذي جاء ذكره في القرآن عبد لمن؟

لا ريب أنّ المراد منه الإنسان الذي يكون عبداً لغيره ، والذي يمتلك زمام أُموره ويتسلّط عليه وفقاً للقانون والتشريع الإسلامي.

وفي آية أُخرى نجد القرآن المجيد وفي مجال الحثّ على التزويج والترغيب فيه يقول :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ). (١)

وحينئذ نتساءل الآية تقصد عبد من؟ وأمة من؟ لا شكّ أنّها تقصد العبد أو الأمة اللذين تسلط عليهما مالكهما بطريقة شرعية.

بعد هذه المقدمة يتّضح لنا وبجلاء أنّ العبودية النابعة من الخالقية والربوبية لا يمكن أن تضاف إلى غيره سبحانه وتعالى ، فالكلّ عبيده بما فيهم الأنبياء والأولياء فضلاً عن عامّة الناس ، وأمّا العبودية النابعة من التشريع والتقنين فمن الممكن أن تنسب إلى غيره سبحانه فيقال : «زيد غلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، و «قنبر غلام علي» و «فلان عبد زيد» و «فلانة أمة فلان» وهكذا.

وبالالتفات إلى هذين النوعين من العبودية نفهم : أنّ العبودية القانونية رمز للطاعة والتبعية للمولى ، أي ينبغي على العبد أو الأمة إطاعة مولاهما واتّباع أوامره ونواهيه ، ولقد حدّد الفقه الإسلامي دائرة تلك الأوامر والنواهي ومقدار دائرة حقّ المولى على عبيده وإمائه. ومن هنا نعرف انّ الغاية من تسمية الأبناء ب ـ «عبد النبي»

__________________

(١) النور : ٣٢.

٤٢٤

أو «عبد الحسين» هو تشبيه الأطفال بالعبد القانوني الذي جوهر حقيقته هو الطاعة ، فيكون المعنى هكذا : كما أنّ العبد القانوني مطيع وتابع لمولاه ، فهكذا صاحب هذا الاسم ـ أي الوليد ـ هو عبد للنبي أو لسيد الشهداء ومطيع لهما.

وبعبارة أُخرى : انّ مصطلح «العبد» يراد به هنا «المطيع» ، وهذا المعنى قد استعمل في اللغة العربية (١) ، والمسلمون وطبقاً لقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) هم في الحقيقة مطيعون لله وللرسول ولأُولي الأمر وتابعين لهم.

والعجب انّ الذين تثار حميتهم وتنبض عروق الغيرة على الدين في أبدانهم حينما يسمعون بمثل تلك التسميات ، تجدهم في نفس الوقت يقفون موقف الخائر الذليل والعبد المطيع أمام السلاطين والحكام غير الشرعيين ، ولا يكتفون بذلك ، بل يسبغون عليهم ـ زوراً وبهتاناً ـ صفة أمير المؤمنين!!!

ولقد أشارت الصحف في المملكة العربية السعودية إلى نماذج من ذلك حينما تصدّى الملك «فيصل بن عبد العزيز» لمنصب القيادة في السعودية بعد أخيه «سعود بن عبد العزيز» حيث خاطبه في حينها مفتي الديار السعودية السابق «ابن باز» بلقب أمير المؤمنين ، الأمر الذي اعتذر منه الملك فيصل نفسه ووجده لقباً كبيراً لا يستحقه.

ولقد أشارت الصحف والمجلات في المملكة إلى تلك المذكرات ، وقد طالعتها بنفسي.

__________________

(١) انظر المنجد : مادة «عبد».

(٢) النساء : ٥٩.

٤٢٥
٤٢٦

الفصل السابع عشر

إهداء ثواب العمل الصالح إلى الموتى

٤٢٧
٤٢٨

أثبتت البحوث العلمية والفلسفية أنّ الموت لا يمثّل نهاية حياة الإنسان وفناءَها ، بل هو في الحقيقة ، يمثّل نقلة من عالم إلى عالم آخر ، كما أثبتت تلك البحوث أنّ حقيقة الإنسان وجوهره لا يتمثّل في بدنه المادي حتّى تنعدم بانعدامه ، بل الذي يمثّل حقيقة الإنسان وواقعه هو روحه ونفسه ، وهذه لا تفنى ولا تنعدم ، بموت الجسد وفنائه ، وانّما تنتقل لتعيش في بدن يناسب مقامها الجديد في ذلك العالم الذي أطلق عليه العلماء والمفكّرون اسم «عالم البرزخ».

وبما أنّنا قد تعرضنا لهذه المسألة في البحوث السابقة «بحث الحياة البرزخية» بالبحث والتحقيق ، لذا نكتفي بما ذكرناه سابقاً ولا نعيد البحث فيها هنا مرّة أُخرى ، ونركّز البحث على محل النزاع ، وهو : هل الموتى ينتفعون بعمل الأحياء؟

وبعبارة أُخرى : إذا قام الإنسان الحي بعمل صالح ثمّ أهدى ثواب ذلك العمل إلى والده أو أُمّه أو لقريب منه ممّن كانوا قد رحلوا عن هذه الحياة ، فهل يا ترى ينتفع هؤلاء الموتى بذلك العمل ويعود ذلك العمل عليهم بالفائدة ، أم لا؟

وفي مقام الإجابة عن هذا التساؤل لا بدّ من مراجعة آيات الذكر الحكيم والروايات الواردة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام لتحدد لنا الإجابة عن ذلك ، لأنّها هي المرجع الوحيد في الإجابة عن مثل تلك التساؤلات.

٤٢٩

وقبل البدء بدراسة الآيات لا بدّ من التذكير بنكتة مهمة ، وهي : انّ من المفاهيم الإسلامية الثابتة والأُصول الواضحة انّ الإيمان إذا لم يقترن بالعمل لا يجدي نفعاً ولا يكون سبباً للنجاة في ذلك العالم ، من هنا نجد أنّ آيات الذكر الحكيم في الغالب تقرن الإيمان بالعمل كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، ومن هنا لا يمكن للإنسان أن يتكئ على إيمانه فقط ، أو على عمل ابنه أو صديقه أو ... ، بل لا بدّ لمن يتوخّى النجاة ويروم الفوز بالنعيم أن يقرن إيمانه بالعمل الصالح.

نعم ظهرت على الساحة الفكرية الإسلامية في نهاية القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني فرقة كلامية يقال لها : «المرجئة» ذهبت إلى كفاية الإيمان ولم تعر للعمل الصالح أهمية تذكر ، فتصدّى لهذه الفرقة أئمّة الهدى عليهم‌السلام وبيّنوا نقاط الخلل والانحراف الكامن في طيّ هذه النظرية ، كما حذّروا المسلمين عامّة وشيعتهم خاصة من الانجراف مع هذا التيار المنحرف ، وخاصة بالنسبة إلى الشباب حيث قالوا عليهم‌السلام : «بادروا أولادكم بالأدب قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة». (١)

كما واجه الأئمّة عليهم‌السلام النظرية الأُخرى التي ترى في الانتساب إلى بيت الرسالة عاملاً للفوز والنجاح حتّى إذا لم يقترن ذلك الانتساب بالعمل الصالح ، وقد اعتبر الأئمّة عليهم‌السلام انّ هذه النظرية هي الأُخرى لا أساس لها من الصحة ولا تقوم على أُسس قرآنية متينة ، بل هي في الحقيقة تمثّل امتداداً للفكر اليهودي المنحرف المتمثّل في قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). (٢)

ومن هنا ندرك جيداً انّ نجاة الإنسان وفوزه مقترنان بالإيمان أوّلاً والعمل

__________________

(١) الكافي : ٦ / ٤٧ ، الحديث ٥.

(٢) المائدة : ١٨.

٤٣٠

الصالح ثانياً ، وأمّا الاتّكاء على مجرد الإيمان أو مجرد العلاقة النسبية بأهل بيت الوحي فهو في الواقع تفكير خاطئ ورؤية باطلة لا يصحّ الاعتماد عليها والركون إليها أبداً.

ولأمير المؤمنين وإمام البلاغة وسيد الفصاحة كلام رائع في هذا المجال ، حيث يقول عليه‌السلام مؤكداً على العمل :

١. «ألا وإنّ اليوم عمل ولا حساب ، وغداً حسابٌ ولا عمل». (١)

٢. «ألا وإنّ اليوم المضمارُ وغداً السباق ، والسبقة الجنة ، والغاية النار ، أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته ، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه». (٢)

ومع التسليم بهذا الأصل والمفهوم الإسلامي الثابت يبقى السؤال الذي أثرناه مطروحاً ، هل ينتفع الميت بعمل الحي أم لا؟

وفي مقام الإجابة عن التساؤل المطروح ، لا بدّ من الإشارة إلى مقدّمة ضرورية ، وهي :

انّ عمل الإنسان الحي بالنسبة إلى الميت تتصوّر على صنفين :

١. تارة يكون للميت دور في العمل الصادر من الحي.

٢. وتارة أُخرى لا يكون له أيّ دور في ذلك العمل إلّا كونه مؤمناً فقط.

ولا كلام في النوع الأوّل الذي يكون للإنسان المتوفّى دور في صدور العمل من الحي ، فلا ريب أنّه يستفيد منه وينتفع به ، ويكفي شاهداً على ذلك الحديث المروي عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي رواه الفريقان ، فعن أبي هريرة قال : قال

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة ٤٢.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٢٨.

٤٣١

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله ، إلّا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له». (١)

فالحديث الشريف يشير إلى ثلاثة أُمور يبقى ثوابها يتابع الإنسان حتى بعد رحيله من هذه الدنيا ، وهي :

١. الصدقة الجارية كبناء المسجد ، أو تعبيد الطرق أو إقامة جسر ، أو بناء مستشفى ، أو تشييد مدرسة ، وغير ذلك من أعمال الخير التي ينتفع بها الناس.

٢. علم ينتفع به.

٣. ولد صالح يدعو له.

ولا ريب انّ الإنسان ينتفع بهذه الأعمال انطلاقاً من دوره الفاعل في نشوئها في حياته كالبناء ، أو التأليف ، أو إعداد الولد الصالح وتربيته تربية إسلامية صحيحة.

روى جرير بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فعمل بها بعده ، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أُجورهم شيء ؛ ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعمل بها بعده ، كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء». (٢)

إذاً عودة أثر العمل على الميت ـ سواء كان ذلك الأثر ثواباً أو عقاباً ـ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالدور الذي يقوم به الميت في أثناء حياته في إظهار السنّة ـ حسنة كانت أم سيئة ـ ، إذ لو لم يقم هو بذلك العمل لما استنّ به غيره من الناس ولم يعمل بها أحد بعده.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٥ / ٧٣ ، باب «وصول ثواب الصدقات إلى الميت» من كتاب الإلهيات.

(٢) صحيح مسلم : ٨ / ٦١ ، باب «من سنّ سنة حسنة أو سيئة» من كتاب العلم.

٤٣٢

نعم يقع البحث في العمل من الصنف الثاني الذي لم يكن للميت دور فيه أبداً فإذا قام الإنسان الحي بعمل صالح فهل يستطيع أن يهدي ثوابه إلى الميت أم لا؟ وهل ينتفع به الميت أم لا؟

إنّ القرآن الكريم والسنّة المطهّرة يؤكّدان ذلك ، وأنّه يمكن للإنسان أن يهدي ثواب ذلك العمل ، هذا من جهة ومن جهة أُخرى الميت ينتفع بذلك العمل وإن لم يكن له دور فيه. فإذا استغفر الحي للميت ، أو قام بعمل صالح من صوم أو صلاة أو صدقة أو برّ ـ إمّا نيابة عن الميت أو بدون أن يقصد النيابة ـ ثمّ أهدى ثوابه للميت ، فلا ريب أنّ الميت ينتفع بذلك ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى نماذج متعدّدة من الاستغفار للآخرين وانتفاعهم بها ، مثل :

استغفار الملائكة للمؤمنين

لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بوضوح تام لا لبس فيه وأكّد أنّ الملائكة تستغفر للمؤمنين ، فإذا لم يكن في هذا الاستغفار فائدة تعود على الميت ، فحينئذ يكون طلب الاستغفار لغواً لا طائل وراءه. ومن تلك الآيات :

١. قوله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ). (١)

٢. وقوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٢)

__________________

(١) المؤمن : ٧.

(٢) الشورى : ٥.

٤٣٣

٣. في الآيتين السابقتين كان الحديث عن استغفار الملائكة للمؤمنين ، وأمّا الآية الثالثة فتتحدث عن استغفار المؤمنين للمؤمنين ، حيث قال سبحانه :

(الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (١)

إنّ الآيات الثلاث المذكورة تحكي عن انتفاع الموتى باستغفار الملائكة والمؤمنين ، ولكن الأمر لا ينحصر بالاستغفار فقط ، بل الفائدة أوسع من ذلك وأشمل ، وهذا ما أكّدته الروايات الكثيرة ، فقد وردت في مجال الإحسان إلى الموتى روايات كثيرة منتشرة في المصادر الحديثية كلّها تؤكّد حقيقة انتفاع الميت بعمل الحي ، وها نحن نستعرض تلك الروايات ضمن العناوين التالية :

١. انتفاع الميّت بالصوم والحجّ النيابيّين

وقد ورد في هذا المجال روايات متعدّدة ، منها :

الف : انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من مات وعليه صيام ، صام عنه وليّه». (٢)

ب : روى ابن عباس : أنّ امرأة أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إنّ أُمّي ماتت وعليها صوم شهر فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟».

قالت : نعم.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فدين الله أحقّ بالقضاء». (٣)

__________________

(١) الحشر : ١٠.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ١٥٥ ، باب قضاء الصيام عن الميت.

(٣) نفس المصدر.

٤٣٤

ج : عن عبد الله بن عطاء ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : بينا أنا جالس عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أتته امرأة فقالت : إنّي تصدّقت على أُمّي بجارية وانّها ماتت ، قال : فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وجب أجرك» ، ثمّ قالت : يا رسول الله إنّه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها؟ قال : «صومي عنها» قالت : إنّها لم تحجّ قط أفأحجّ عنها؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حجّي عنها». (١)

٢. انتفاع الميت بالصدقة عنه

إنّ الروايات الواردة في هذا المجال كثيرة لا يمكن حصرها هنا ، ولذا نكتفي بذكر روايتين منها يكفي نقلهما للإجابة عن بعض الإشكالات المطروحة :

الف : قالت عائشة : إنّ رجلاً أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله إنّ أُمّي اقتلعت نفسها ، ولم توص وأظنها لو تكلّمت تصدقت ، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم». (٢)

ب : عن سعد بن عبادة ، أنّه قال : يا رسول الله إنّ أُمّ سعد ماتت فأي الصدقة أفضل؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الماء». فحفر بئراً وقال : هذه لأُمّ سعد. (٣)

وإذا أردنا أن نحلّل تلك الروايات نقول :

إنّ الإنسان قد يقوم بسلسلة من الأعمال الصالحة من دون تعهد مسبق ثمّ يهدي ثوابها إلى الموتى ، فإنّ من المسلّم به أنّ الأعمال التي تصدر من الإنسان ويراد بها وجه الله تعالى والتقرّب إليه ، فإنّ الله سبحانه يثيب على ذلك ويجزي

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٧٣ ، باب دخول ثواب الصدقات إلى الميت.

(٣) سنن أبي داود : ٢ / ١٣٠ برقم ١٦٨١.

٤٣٥

المحسنين ، ولكن هذا الثواب والجزاء تفضّل منه سبحانه وتعالى وليس للعبد أو عمله استحقاق على الله ، وانطلاقاً من هذا التفضّل والعطف الإلهي والرحمة الربانية جاءت الروايات لتجيز العمل النيابي عن الميت ، ليتسنّى للميت الحصول على ذلك الفضل الرباني والرحمة الإلهية.

النذر لأولياء الله

إنّ النذر سنّة معروفة بين كافّة المسلمين في العالم كلّه ، وخاصة في البلاد التي تحتضن قبور أولياء الله وعباده الصالحين.

ولقد تعارف بين المسلمين النذر لله وإهداء ثوابه للنبي أو لعترته الطاهرة أو لأحد الصالحين ، فيقول الناذر : «لله عليّ» ثمّ يهدي ثوابه للنبي مثلاً ، ولا مانع من ذلك أبداً.

إذا عرفنا ذلك الأصل حينها تتّضح لنا وبجلاء معنى قول الناذر في بعض الأحيان : «لله عليّ أن أذبح شاة للنبي أو للوصي» ، فإنّ مفاد كلمة «لله» غير مفاد كلمة «للنبي» قطعاً ، وإن كانت الكلمتان مقرونتين بحرف اللّام ، ولكن مفاد الحرف في لفظ الجلالة غير مفاده في لفظ النبي ، وذلك لأنّ معنى اللام في الأوّل يراد به التقرّب والقيام بالفعل لله تعالى وحده ، والحال أنّ المراد من اللام في الثاني «النبي» ينصرف إلى معنى آخر ويراد به معنى الانتفاع والاستفادة ، ومن حسن الحظ انّ كلا التعبيرين قد وردا في الذكر الحكيم حيث قال سبحانه :

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ). (١)

وفي آية أُخرى قال تعالى :

__________________

(١) سبأ : ٤٦.

٤٣٦

(إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ). (١)

وعلى هذا الأساس لا يمكن عدّ هذا النوع من التعبير علامة للشرك بالله وعبادة لغيره ، بل انّ هذا التعبير نفسه قد ورد في حديث سعد بن عبادة الذي مرّ ذكره حيث قال : «هذه لأُمّ سعد».

المعيار هو النيّة لا ظاهر العمل

روى المحدّثون عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّما الأعمال بالنيات». (٢)

ومن هذا المنطلق واعتماداً على هذا الأصل الإسلامي المسلّم لا بدّ من التفريق ووضع المائز بين العمل الذي يقوم به الموحّدون من النذر أو الذبح للنبي أو الأولياء وبين ما يقوم به المشركون تجاه أصنامهم وأوثانهم ، فإنّ العملين وإن اتّحدا ظاهراً وشكلاً ، ولكنّهما يختلفان جوهراً وحقيقة ، فلا يمكن قياس أحدهما بالآخر. لأنّ الإنسان الموحّد إنّما ينذر لله وحده ويذبح طمعاً في نيل ثوابه وجزائه تعالى ، والحال انّ المشركين يذبحون باسم أوثانهم ويطلبون الثواب منها ، فكيف يا ترى جعل العملين عملاً واحداً والتسوية بينهما؟!!

فإذا كان المعيار في الحكم هو ظاهر العمل ، فلا شكّ انّ ظاهر أعمال الحجّ لدى المسلمين يشبه عمل المشركين ، فهم يطوفون حول أصنامهم ونحن نطوف حول الكعبة المشرفة ونقبّلها ، وهم ينحرون في منى لأصنامهم ونحن أيضاً ننحر في ذلك اليوم ، ولكن هل من الصحيح التسوية بين العملين اعتماداً على الشكل الظاهري للعمل وإغفال جانب النيّة التي تدفع الإنسان إلى القيام بذلك

__________________

(١) التوبة : ٦٠.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ١.

٤٣٧

الفعل؟!!

فلا ريب أنّ المحرّك والدافع للمشركين هو التزلّف للأوثان والتقرب إليها والطمع بنيل رضاها ، والحال انّ المحرك الذي يدفع الموحّدين هو التزلّف والتقرب لله وحده لا شريك له والطمع بنيل ثوابه والفوز بالجنة والرضوان ، ولقد أكّدت الروايات صحّة هذا العمل وأضفت عليه صفة الشرعية.

إذا عرفنا ذلك كلّه نعطف عنان القلم للحديث عن نظرية علماء أهل السنّة في هذا المجال وما يذهبون إليه.

نظرية المحقّقين من أهل السنّة

لأجل إتمام الفائدة واتّضاح الأمر جليّاً نأتي هنا بكلمتين لعلمَيْن ومفكّرين من أهل السنّة ، وهما :

الأوّل : الخالدي البغدادي (المتوفّى سنة ١٢٩٩ ه‍ ـ) حيث قال في كتابه «صلح الإخوان» : إنّ المسألة تدور مدار نيات الناذرين ، وإنّما الأعمال بالنيّات ، فإن كان قصد الناذر الميت نفسه والتقرب إليه بذلك لم يجز ، قولاً واحداً. وإن كان قصده وجه الله تعالى وانتفاع الأحياء ـ بوجه من الوجوه ـ وثوابه لذلك المنذور له ـ سواء عيّن وجهاً من وجوه الانتفاع ، أو أطلق القول فيه وكان هناك ما يطّرد الصرف فيه في عرف الناس ، أو أقرباء الميّت أو نحو ذلك ، ففي هذه الصورة يجب الوفاء بالنذور. (١)

الثاني : العزامي في كتابه «فرقان القرآن» حيث قال :

ومن استخبر حال من يفعل ذلك من المسلمين ، وجدهم لا يقصدون

__________________

(١) صلح الإخوان للخالدي : ١٠٢ وما بعده.

٤٣٨

بذبائحهم ونذورهم للأموات ـ من الأنبياء والأولياء ـ إلّا الصدقة عنهم وجعل ثوابها إليهم ، وقد علموا أنّ إجماع أهل السنّة منعقد على أنّ صدقة الأحياء نافعة للأموات ، واصلة إليهم ، والأحاديث في ذلك صحيحه مشهورة. (١)

ومنها ما نقله أبو داود عن ميمونة بنت كردم قالت : خرجت مع أبي في حجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... إلى أن قالت : فقال (أبي) : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّي نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم ، قال : لا أعلم إلّا أنّها قالت خمسين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هل بها من الأوثان شيء»؟ قال : لا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأوف بما نذرت به لله». (٢)

ومن الملاحظ أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ركّز في جوابه على وجود الأوثان في المنطقة ممّا يحكي أنّ النذر المحرّم هو النذر للأصنام والأوثان ، لأنّه كان من عادات عرب الجاهلية ، ولقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله : ((وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ... (ذلِكُمْ فِسْقٌ)). (٣)

ومن يمعن النظر في سلوك ومنهج الزائرين وطريقة تصرفهم في العتبات المقدّسة ومراقد الأولياء الصالحين ، يصل إلى نتيجة قطعية ويكتشف بما لا مزيد عليه أنّ هؤلاء يذبحون باسمه ولغرض الفوز برضاه والتقرب إليه سبحانه ثمّ انتفاع صاحب القبر بثواب ذلك العمل من جهة وانتفاع الفقراء والمحتاجين من جهة ثانية.

__________________

(١) فرقان القرآن : ١٣٣.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ١٠٤ ، ح ٣٣١٤.

(٣) المائدة : ٣.

٤٣٩

فتوى فقهاء أهل السنّة

بما انّ المسألة من المسائل الفقهية لذلك من الجدير بنا أن نشير إلى فتاوى فقهاء أهل السنّة ، لتتّضح حقيقة الحال وليتجلّى الأمر بأحسن صورة ، وقد قسّم هؤلاء المسألة إلى صورتين ، هما :

الف : إذا أوصى الميت بالقيام بعد وفاته بعمل صالح فقد أجمع الفقهاء الأربعة على لزوم تنفيذ الوصيّة ، وقالوا : الميت ينتفع بعمل الحي.

ب : إذا لم يوص الميت ، ولكن تصدّى أبناؤه وذووه للقيام بالعمل نيابة عنه ، فقد أفتى بصحّة هذا العمل جميع الفقهاء إلّا الإمام مالكاً.

١. قال فقهاء الحنابلة : الحج يقبل النيابة وكذلك العمرة ... ومن توفّي قبل أن يحجّ الحج الواجب عليه ، سواء كان ذلك بعذر أو بغير عذر ، وجب أن يخرج من جميع ماله نفقة حجّة وعمرة ، ولو لم يوص. (١)

٢. وأمّا فقهاء الحنفية فقالوا : إذا لم يوص ـ الميت ـ وتبرّع أحد الورثة أو غيرهم ، فإنّه يرجى قبول حجّهم عنه إن شاء الله تعالى. (٢)

٣. وأمّا الشافعية فقالوا : فإن عجز عن مباشرة الحجّ بنفسه يحجّ عنه الغير بعد موته من تركته. (٣)

ونحن إذا أردنا استعراض جميع كلمات وآراء علماء أهل السنّة لطال بنا المقام ، لذا نكتفي بهذا المقدار ، ونعطف عنان القلم للحديث عن الشبهات المثارة هنا ، وهي :

__________________

(١ و ٢ و ٣) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٥٧١ ، ٥٦٧ ، ٥٦٩ ، كتاب الحج ، مباحث الحج عن الغير.

٤٤٠