الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

مواليدهم ، والحزن والأسى بمناسبة شهادتهم ورحيلهم من الدنيا ، وتقبيل المشاهد التي يرقدون فيها ، والأبواب والجدران التي شيّدت على قبورهم الطاهرة ، ونحن إذا حلّلنا عمل المسلمين وقرأنا ما يكمن في تصرّفهم هذا نجد أنّهم لا يقبّلون الأبواب والجدران هياماً منهم بها وشوقاً إليها ، بل أرواحهم ولهى وقلوبهم هائمة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته والصالحين من أنصاره وأتباعه ولكن بما أنّ أيديهم لا تصل إلى تلك الذوات الطاهرة التي هاموا بها لذلك يقبلون آثارهم وما يمت إليهم ، ولسان حالهم كلسان حال مجنون ليلى حيث يقول :

أمرّ على الديار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

صحيح أنّ أماكن الزيارة تتألّف ظاهراً من الأحجار والأخشاب والحديد و ... ، ولكن إظهار المحبّة الباطنية لها والتعلّق بها ، يعكس الحب العميق والمودة الكبيرة التي تصل إلى حد الهيام والوله بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام ، وانّ تلك الأحجار والأخشاب ما اكتسبت قداستها إلّا من إضافتها إليهم عليهم‌السلام ، فمن أحبّ شخصاً أحبّ كلّ ما يمت إليه بصلة وكأنّه حينما يرى تلك الآثار يرى محبوبه حقيقة.

ومن هنا انطلق المسلمون في التعامل مع آثار النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّ ما يمت إليه بصلة ، فإنّ حبهم الشديد للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلهم يبحثون عن كلّ أثر من آثاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من موضع قدم ، أو لباس ، أو قبر أو ساحة حرب ، أو ... فيسارعون إلى تلك الأماكن يحدوهم الشوق لرؤية تلك الآثار.

ولقد كانت سيرة المسلمين بحد من الانتشار والسعة بحيث لا يمكن نقل جميع تلك الصور في هذا الفصل ، ولذلك سنكتفي بنقل نماذج من ذلك.

٤٠١

١. التبرّك بتحنيك الأطفال

كانت السنّة الرائجة في أوساط المسلمين في عصر الرسالة حينما يرزق أحدهم بمولود يأتي به إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحنكه بشيء من التمر ثمّ يدعو له ، يقول ابن حجر في هذا الصدد : في من ذكر في الصحابة من الأطفال الذين ولدوا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض الصحابة من النساء والرجال ممّن مات صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في دون سن التمييز ، ... لغلبة الظن على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رآهم لتوفر دواعي أصحابه على إحضارهم أولادهم عنده حين ولادتهم ليحنكهم ويسمّيهم ويتبرّك عليهم ، والأخبار بذلك كثيرة شهيرة ، ففي «صحيح مسلم» عن عائشة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ؛ وأخرجه الحاكم في كتاب الفتن في «المستدرك» عن عبد الرحمن بن عوف قال : ما كان يولد لأحد مولود إلّا أتى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا له ـ الحديث. (١)

ولما ولد عبد الله بن عباس وكان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبنو هاشم في شعب أبي طالب ، حنكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بريقه.

٢. التبرّك بالمسح واللمس

لم تنحصر مسألة التبرّك والتحنيك بأطفال المسلمين فقط ، بل كان الكبار منهم يصرّون على التبرّك بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث كانوا يطلبون منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يمسح على رءوسهم ويبارك لهم ، ومن هؤلاء زياد بن عبد الله بن مالك الهلالي ، قال ابن حجر : فدخل زياد منزل ميمونة أُمّ المؤمنين وكانت خالته ... فقالت يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه ابن أُختي ، فدعاه فوضع يده على رأسه ثمّ حدرها على طرف أنفه ،

__________________

(١) الإصابة : ١ / ٦ ـ ٧ ؛ الاستيعاب (في حاشية الإصابة) : ٣ / ٦٣١.

٤٠٢

فكان بنو هلال يقولون : ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد.

ثمّ قال ابن حجر : وذكر ابن سعد القصة مطولة عن هشام بن الكلبي ... وقال الشاعر لعلي بن زياد المذكور :

يا ابن الذي مسح الرسول برأسه

ودعا له بالخير عند المسجد

مازال ذاك النور في عرنينه

حتى تبوأ بيته في ملحد (١)

٣. التبرّك بماء وضوء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

من الظواهر البارزة والأعمال الرائجة في حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبرّك الصحابة بماء وضوئه وغسله ، بحيث كانوا لا يدعون قطرة منه تسقط على الأرض ، وإذا كان ذلك الماء كثيراً يشربونه للبركة ، وقد نقل عروة بن مسعود ، موفد قريش إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلح الحديبية ، الصورة التالية :

يا معشر قريش إنّي قد وفدت على الملوك ، على قيصر في ملكه بالشام ، وعلى النجاشي بأرض الحبشة ، وعلى كسرى بالعراق ، وإنّي والله ما رأيت ملكاً هو أعظم ممّن هو بين ظهريه من محمد في أصحابه ، والله ما يشدّون إليه النظر ، وما يرفعون عنده الصوت ، وما يتوضأ بوضوء إلّا ازدحموا عليه ، أيّهم يظفر منه بشيء .... (٢)

٤. التبرّك بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ألف : روى الحاكم في «المستدرك» عن داود بن صالح ، قال :

__________________

(١) الإصابة : ١ / ٥٣٩ ـ ٥٤٠ ، رقم الترجمة ٢٨٥٦.

(٢) كنز العمال : ١٠ / ٤٩٣ ؛ سيرة زيني دحلان : ٢ / ٢٤٦ ، صحيح مسلم : ٣ / ١٩٤٣ (فضائل ابن موسى).

٤٠٣

«أقبل مروان يوماً فوجد رجلاً واضعاً وجهه على القبر ، فأخذ برقبته ، ثمّ قال : هل تدري ما تصنع؟

فأقبل عليه فإذا هو أبو أيّوب الأنصاري ، فقال : نَعم ، إنّي لم آت الحجر ، إنّما جئت رسول الله ولم آت الحجر ، سمعت رسول الله يقول : «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا على الدين إذا وليه غيرُ أهله». (١)

إنّ هذه الظاهرة التي نقلها الحاكم في «المستدرك» تحكي أنّ سيرة صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت قائمة على التبرّك بقبره الشريف بوضع الخد عليه ، كما تحكي في الوقت نفسه عداء مروان وغيره من رجال البيت الأُموي وخصومتهم للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى.

ب : أقام الصحابي الكبير ومؤذن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلال الحبشي في الشام في عهد عمر بن الخطاب ، فرأى في منامه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول له :

«ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال؟

فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين عليهما‌السلام ، فجعل يضمّهما ويقبلهما ...». (٢)

ج : انّ فاطمة الزهراء عليها‌السلام سيدة نساء العالمين بنت رسول الله ، حضرت عند قبر أبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذت قبضة من تراب القبر تشمّه وتبكي ، وهي تقول :

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٤ / ٥٦٠ ، رقم الحديث ٨٥٧١.

(٢) أُسد الغابة : ١ / ٢٨.

٤٠٤

ما ذا على من شمّ تربة أحمد

ألّا يشم مدى الزمان غواليا

صبّت عليّ مصائب ل ـ وأنّها

صُبّت على الأيام صِرن لياليا (١)

ومن الواضح إنّ هذا التصرّف من السيدة الزهراء عليها‌السلام يدلّ على جواز التبرّك بقبر رسول الله وتربته الطاهرة.

نكتفي هنا بذكر هذه المجموعة القليلة جداً من بين الكثير من الوقائع التي تحكي عن اتّفاق الصحابة على التبرّك بآثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومَن تتبّع كتب السير والحديث والتاريخ والصحاح والمسانيد يرى أنّ مسألة التبرّك بالنبي والصالحين قد بلغت حدّ التواتر بحيث يستحيل عند العقل أن تكون موضوعة ومجعولة.

نتيجة البحث

إنّ دراسة التاريخ الإسلامي وسيرة المسلمين في صدر الإسلام تكشف وبوضوح أنّ التبرّك بآثار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكلّ ما يرتبط به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقبره ، وتربته ، وعصاه ، وملابسه ، والصلاة في الأماكن التي صلّى فيها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو مشى فيها ، وكلّ ذلك كان يمثّل في الواقع ثقافة إسلامية رائجة في ذلك الوقت ، وكانوا يرومون من ورائه أحد أمرين :

١. التبرّك بالآثار تيمّناً بها لغاية استنزال الفيض الإلهي من خلال ذلك الطريق ، كما حدث ليعقوب عليه‌السلام عن طريق قميص ولده يوسف عليه‌السلام.

٢. الدافع والباعث لهم هو حبّهم ومودتهم للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ يحثّانهم لتكريم كلّ ما ينتسب إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من درع ، أو سيف ، أو ملابس ، أو قدح

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٤٠٥ ؛ المواهب اللدنية : ٤ / ٥٦٣.

٤٠٥

قد شرب بها ، أو بئر ، أو عصاً كان قد استعملها ، أو خاتم ، أو ... ، فكلّ تلك الآثار كانت مورد اهتمام أصحابه وأنصاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كان الخلفاء يتوارثون ختمه وخاتمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي الختام نرى من اللازم التذكير بمسألتين مهمتين ، هما :

المسألة الأُولى : كانت للإمام أحمد بن حنبل ـ إمام الحنابلة والذي له منزلة وقداسة خاصة في أوساط أهل السنّة ـ رؤية ثاقبة في مسألة التبرّك ، وهذا ما أكّدته كلماته التي نقلت عنه وكذلك سيرته ، فمن ذلك :

قال العز بن جماعة الحموي الشافعي (المتوفّى ٨١٩ ه‍ ـ) في كتاب «العلل والسؤالات» قال عبد الله : سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتبرّك بمسّه ويقبّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك رجاء ثواب الله تعالى : قال : لا بأس به. (١)

وقال العلّامة أحمد بن محمد المقري المالكي (المتوفّى ١٠٤١ ه‍ ـ) في «فتح المتعال» نقلاً عن ولي الدين العراقي قال : أخبر الحافظ أبو سعيد بن العلا ، قال : رأيت في كلام أحمد بن حنبل في جزء قديم عليه خط ابن ناصر (٢) وغيره من الحفّاظ : انّ الإمام أحمد سُئل عن تقبيل قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقبيل منبره؟ فقال : لا بأس بذلك.

قال : فأريناه التقي ابن تيمية فصار يتعجّب من ذلك ، ويقول : عجبت من أحمد عندي جليل ، هذا كلامه أو معنى كلامه.

وقال : وأي عجب في ذلك وقد روينا عن الإمام أحمد أنّه غسل قميصاً

__________________

(١) وفاء الوفا : ٢ / ٤٤٣.

(٢) هو الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضل البغدادي توفّي سنة ٥٥٠ ه‍ ـ قال ابن الجوزي في المنتظم : ١٠ / ١٦٣ : «كان حافظاً متقناً ثقة لا مغمز فيه».

٤٠٦

للشافعي وشرب الماء الذي غسله به. (١)

وإذا كان هذا تعظيمه لأهل العلم ، فما بالك بمقادير الصحابة وكيف بآثار الأنبياء عليهم‌السلام؟ (٢)

المسألة الثانية : لقد بحث الكثير من العلماء في مسألة التبرّك ، إلّا أنّه قد صنف مؤخراً كتابان قيّمان في هذا المجال قد بذل مؤلّفاهما غاية الجهد ، ودرسا المسألة من جميع أبعادها ، وسلّطا الضوء على كافة الخفايا التي تكمن في البحث وأوضحا بما لا مزيد عليه تلك القضية البالغة الأهمية. والكتاب الأوّل لأحد أعلام أهل السنّة ، والثاني لعالم شيعي ، والكتابان هما :

١. «تبرّك الصحابة بآثار النبي والصالحين» للعلّامة المحقّق والمؤرّخ الخبير محمد طاهر بن عبد القادر بن محمود المكي ، طبع الكتاب في القاهرة ، مطبعة المدني ، عام ١٣٨٥ ه‍ ـ. ق.

٢. «التبرك» بقلم المحقّق الخبير آية الله علي الأحمدي الميانجي (١٣٤٤ ـ ١٤٢١ ه‍ ـ) ، فقد تتبّع (قدس‌سره) في كتابه هذا وبنحو يثير الإعجاب حقّاً ـ المسألة من جميع أبعادها التاريخية والحديثية و ... ، وأثبت بما لا مزيد عليه وبنحو لا يدع للترديد أو الشكّ مجالاً في أنّ سيرة المسلمين عامّة والصحابة والتابعين خاصة كانت قائمة على التبرّك بآثار النبي والصالحين.

وفي الختام : إنّ ما نشاهده اليوم عند قبر خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما يقوم به من يطلق عليهم لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المنع عن تقبيل ضريح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يمت إليه بصلة تحت غطاء الاتّهام بالشرك والابتداع و ... ، ففي

__________________

(١) ذكره ابن الجوزي في مناقب أحمد : ٤٥٥ ، وابن كثير في تاريخه : ١٠ / ٣٣١.

(٢) انظر الغدير : ٥ / ١٥٠ ـ ١٥١.

٤٠٧

الحقيقة أنّ ما تقوم به هذه اللجان ذنب لا يغتفر ، وانحراف فكري نابع عن عدم إدراك المفاهيم الإسلامية ، ولو أنّ مشايخ هذه الطائفة سمحت بانعقاد مؤتمر إسلامي يجتمع فيه علماء الفرق الإسلامية لدراسة المسألة من جذورها ، لرفع الكثير من الإبهام ، وأُزيل الكثير من اللبس ، ولانكشفت القضية بأجلى صورها ، ولحلّ بدل التكفير والتفسيق الود والألفة الإسلامية ، ولحل الوئام بدل العداوة والخصام.

٤٠٨

الفصل الخامس عشر

تكريم مواليد أولياء الله

٤٠٩
٤١٠

يشهد التاريخ الإسلامي ومنذ زمن طويل أنّ مسلمي العالم كانوا يحيون ذكرى ميلاد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث يعتلي الخطباء الخطاب المنابر ، والمتحدّثون منصّات الحديث لبيان فضائله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والثناء عليه ، وبيان السجايا الأخلاقية والخلق الرفيع الذي كان يتحلّى به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صحيح أنّ التاريخ لم يحدّد لنا الزمن الذي نشأت به تلك الظاهرة بصورة دقيقة ، إلّا أنّ المسلّم به هو أنّ جذورها تمتد إلى مئات السنين من عمر التاريخ الإسلامي ، وأنّها كانت رائجة في مختلف أقطار العالم الإسلامي.

فهذا أحمد بن محمد المعروف بالقسطلاني من مشاهير أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العاشر (المتوفّى ٩٢٣ ه‍ ـ) ينقل لنا صورة عن سيرة المسلمين في الاحتفاء بذكرى الرسول الأكرم وتكريم تلك المناسبة ، إذ يقول :

ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه‌السلام ، ويعملون الولائم ، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم. وممّا جرب من خواصه أنّه أمان في ذلك العام ، وبشرى عاجلة بنيل البغية والمرام ، فرحم الله امرأً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً ، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعياه داء. (١)

__________________

(١) المواهب اللدنية : ١ / ١٤٨.

٤١١

وأمّا الحسين بن محمد بن الحسن المعروف ب ـ «الدياربكري» (المتوفّى ٩٦٠ ه‍ ـ) والذي يُعدّ أحد القضاة في مكة المكرّمة ، فهو الآخر يكتب في تاريخه :

ولا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده عليه‌السلام ، ويعملون الولائم ، ويتصدّقون في لياليه بأنواع الصدقات ، ويظهرون السرور ، ويزيدون في المبرّات ، ويعتنون بقراءة مولده الكريم ، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عميم. (١)

فهذان النصّان لعالمين من علماء القرن العاشر الميلادي يكشفان وبوضح تام أنّ ظاهرة الاحتفاء بذكرى مولد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأولياء والصالحين كانت من المظاهر التي تضرب بجذورها في أعماق التاريخ الإسلامي ، وكانت على مرأى ومسمع من علماء المسلمين الكبار ولم يستنكر منهم أحد هذا العمل ممّا يدلّ على صحّته وجواز إقامته ، كما أنّهم كانوا يرون انّ هذه الظاهرة نوعاً من إظهار الحب والمودة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكلّنا يعلم أنّ من المفاهيم المسلّمة والأُصول الثابتة في الفكر الإسلامي هو إظهار الحب والولاء والمودة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما أكّدته آيات الذكر الحكيم ، حيث قال تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (٢)

كما أكّدت ذلك أيضاً الأحاديث النبوية الشريفة ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) تاريخ الخميس : ١ / ٣٢٣.

(٢) التوبة : ٢٤.

٤١٢

«والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبَّ الناس إليه من والده وولده». (١)

والروايات الواردة في هذا المجال بحدّ من الكثرة بحيث لا يمكن ذكرها هنا ، ومن هنا نكتفي بالرواية السابقة فقط.

ثمّ إنّ من المسلّم به هو أنّ المسلمين حينما يحيون ذكرى مولد الرسول الأكرم ويحتفلون بهذه المناسبة العظيمة لا يحدوهم في ذلك إلّا دافع إظهار الحب والولاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتعبير عن مدى ولائهم وإخلاصهم ومودتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيبرزون ما يكمن في صدورهم ويكن في ضمائرهم من حبّ وشوق له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقد حثّ القرآن الكريم المسلمين ـ بالإضافة إلى الإيمان بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى تعزيره وتكريمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال سبحانه وتعالى :

(فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). (٢)

فمن الواضح أنّ الآية الكريمة توجه إلى المسلمين مجموعة من الدساتير ، وهي :

١. (آمَنُوا بِهِ).

٢. (عَزَّرُوهُ).

٣. (نَصَرُوهُ).

٤. (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ).

__________________

(١) جامع الأُصول : ١ / ٢٣٧ ، برقم ٣١.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

٤١٣

ومع الالتفات إلى هذه الدساتير الأربعة ، يكون الاحتفال بمولده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإحياء تلك المناسبة العطرة ، موافقاً لدستوره سبحانه ، وامتثالاً لأمره حيث عبّر سبحانه بقوله : (وَعَزَّرُوهُ).

ثمّ إنّ القرآن الكريم حينما يعد النعم الإلهية التي أنعم بها على رسوله الكريم يعد منها نعمة رفع الذكر ، حيث يقول عزّ من قائل :

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ* وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ* وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ). (١)

ولا ريب أنّ إقامة مجالس الفرح التي يقيمها المسلمون بمناسبة ذكرى ولادة الرسول الأكرم والاحتفاء بها هو مصداق بارز من مصاديق رفع الذكر ، وتجسيم جليّ لمفاد قوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ).

وحينئذ نتساءل واستناداً لما ورد في الآيات والروايات السابقة ، ما هو حكم مجالس الاحتفال بمولد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا خلت من المحرمات العارضة ، كاستعمال وسائل الطرب واللهو والغناء؟ فهل هي من مصاديق تكريم الرسول الأعظم أم تحقيره؟

وهل هي من مصاديق إظهار المودة والولاء أم من مصاديق العداوة له والبغضاء والشحناء؟ وهل هي من مصاديق رفع الذكر أم طمسه؟

لا شكّ أنّ الجواب أنّها من مصاديق التكريم وإظهار المودّة والولاء ورفع الذكر وإعلاء الكلمة ، وحينئذ يطرح السؤال الآخر نفسه : فهل يا ترى عملٌ بهذه المواصفات الحسنة والمميزات السامية يمكن أن يكون أمراً محرماً ينهى الشارع عنه ويعاقب عليه؟!

__________________

(١) الانشراح : ١ ـ ٤.

٤١٤

ذرائع المخالفين

لقد تمسّك المخالفون لإقامة مجالس التكريم والاحتفال بذكرى المولد بذريعتين أدنى ما يقال عنها : إنّها واهية ولا تعتمد على منهج موضوعي ، وها نحن نتعرض لبيان هاتين الذريعتين بالنقد والتحليل :

١. إنّ تلك الاحتفالات لم ترد في الكتاب ولا السنّة

يدّعي المخالفون لإقامة مجالس الذكر والاحتفال أنّ هذه المجالس لم يرد لها ذكر في الكتاب ولا في السنّة المطهّرة ، وإذا كانت كذلك فهي بدعة ، ولا ريب أنّ البدعة أمر محرّم نهى الشارع عنه.

جواب الشبهة

لقد تعرضنا في الفصل الذي عقدناه لدراسة البدعة وبيّنا هناك انّ الملاك في كون الشيء «بدعة» هو أن لا يوجد له جذور في القرآن الكريم والسنّة النبوية ، والحال إذا نظرنا إلى ظاهرة إقامة مجالس الاحتفال بالمولد وتكريم الرسول الأعظم نجد أنّ لهذه الظاهرة جذورها في القرآن الكريم حيث حثّت الآيات الكريمة على تكريمه وتعظيمه وتعزيره و ....

وأمّا الأحاديث الإسلامية ، فصحيح أنّه لم يرد حديث ينص على إحياء ذكرى المولد النبوي بصورة مباشرة ، ولا يوجد مسلم يدّعي وجود حديث من هذا القبيل ، لكن المسلمين الذين يقومون بإحياء تلك المناسبات

٤١٥

يستدلّون على شرعية عملهم هذا بقولهم : إنّ الله تعالى قد أمرنا ـ بما لا ريب فيه ـ بإظهار الود والولاء للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على طول السنة ، فمن حقّنا أن نستعمل تلك المناسبات الكريمة لتجسيد ذلك الأمر ، وامتثال ما أمر به سبحانه وتعالى.

وفي الختام نشير إلى نكتة قرآنية ظريفة ، وهي أنّ السيد المسيح عليه‌السلام دعا الله سبحانه وتعالى أن ينزل عليه وعلى الحواريين معه مائدة من السماء واعتبروا يوم نزول هذه المائدة مناسبة جديرة بالاهتمام والاحتفاء بها واعتبارها عيداً لهم ، ولقد أشار الذكر الحكيم إلى ذلك بقوله : (رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ). (١)

فإذا كانت تلك النعمة المحدودة التي تشبع البطن وتسد الرمق بصورة مؤقتة تستحق هذا الاهتمام والاحتفاء بها ، وإقامة الاحتفال بمناسبة نزولها ، فلما ذا يا ترى يحرم على المسلمين الاحتفال بالنعم الكبرى التي أنزلها الله سبحانه وتعالى عليهم ، مثل نعمة وجود الرسول الأكرم ، أو نعمة مبعثه المبارك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك النعم العظيمة والخالدة؟ أو لما ذا لا يحق لهم إقامة مجالس الفرح والسرور بتلك المناسبات العطرة؟!!

٢. إنّ الاحتفال نوع من العبادة

والعجيب أنّ البعض يرى أنّ الاحتفال بتلك المناسبة وإقامة مجالس الفرح والسرور ، الروحية والمعنوية هو عبادة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينبغي على المسلمين التنزّه عنها ، حيث يقول :

«الذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هو نوع من العبادة لهم وتعظيمهم». (٢)

__________________

(١) المائدة : ١١٤.

(٢) فتح المجيد : ١٥٤.

٤١٦

إنّ مركز الخلل في هذا التفكير هو أنّ أصحاب هذا الاتّجاه اعتبروا كلّ تعظيم عبادة ، والحال أنّ حقيقة مفهوم العبادة تتحقّق مع وجود شرطين أساسيّين ، هما : التعظيم أوّلاً ، وأن يكون هذا التعظيم والخشوع والخضوع مقترناً ونابعاً من الاعتقاد بكون «المخشوع له» ربّاً أو فوّضت إليه بعض صفات الرب ثانياً.

والحال أنّ القائمين بتلك المجالس في جميع أرجاء العالم منزهون من هذا الاعتقاد الخاطئ ، بل يعتقدون اعتقاداً راسخاً أنّ النبي الأكرم رسول كريم وواسطة بينهم وبين الله تعالى.

أضف إلى ذلك لو سلّمنا بأنّ التعظيم يعتبر نوعاً من العبادة ، فحينئذ لا تجد موحداً على وجه الأرض أبداً ، لأنّه ما من إنسان إلّا ويعظّم شيئاً آخر ، مثل الأب والأُمّ أو الأُستاذ أو ... ، وهل تجد عاقلاً يلتزم بهذه النتيجة الواضحة البطلان؟!

٤١٧
٤١٨

الفصل السادس عشر

تسمية الأبناء بعبد النبي أو عبد الحسين

٤١٩
٤٢٠