الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

تعالى ، وانّ القرآن محدث تكلّم الله به بعد أن لم يكن ، وانّه يتكلّم ويسكت ، ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات ، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم ، والتزم بالقول بأنّه لا أوّل للمخلوقات فقال بحوادث لا أوّل لها ، فأثبت الصفة القديمة حادثة ، والمخلوق الحادث قديماً ، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملّة من الملل ، ولا نحلة من النحل ، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاثة والسبعين التي افترقت عليها الأُمّة ، ولا وقفت به مع أُمّة من الأُمم همة. وكلّ ذلك وإن كان كفراً شنيعاً لكنّه نقل جملته بالنسبة إلى ما أحدث في الفروع. (١)

محمد بن شاكر الكتبي (المتوفّى ٧٦٤ ه‍ ـ) وموقفه من ابن تيمية

قال في «فوات الوفيات» في ترجمة ابن تيمية : «إنّه ألّف رسالة في فضل معاوية وفي أنّ ابنه يزيد لا يسب». (٢)

وقال معلّقاً على ذلك : هذه الرسالة تعرب عن نزعته الأُموية ، ويكفي القول في الوالد والولد (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) انّه بدّل الحكومة الإسلامية إلى الملكية الوراثية ، ودعا عباد الله إلى ابنه يزيد ، المتكبّر ، الخمّير ، صاحب الديوك والفهود والقرود ، وأخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر والسطوة والتوعيد والإخافة والتهدّد والرهبة ، وهو يطلع على خبثه ورهقه ، ويعاين سكره وفجوره ، ولما استتبّ الأمر ليزيد أوقع بأهل الحرة الوقيعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها ولا أفحش ، وظن أنّه قد انتقم من أولياء الله ، فقال مجاهراً بكفره :

__________________

(١) المصدر نفسه : ١٠ / ١٨٦. وتوفّي السبكي تقي الدين والد تاج الدين عام ٧٥٦ ه‍ ـ وتوفّي الولد عام ٧٧١ ه‍ ـ.

(٢) فوات الوفيات : ١ / ٧٧.

٤١

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

وهذا هو المروق من الدين ، وقول من لا يرجع إلى الله ولا إلى دينه ولا إلى كتابه ولا إلى رسوله ؛ ثمّ من أغلظ ما انتهك وأعظم ما اخترم سفكه دم الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله ، مع موقعه من رسول الله ، ومكانه منه ، ومنزلته من الدين والفضل ، وشهادة رسول الله له ولأخيه بسيادة شباب أهل الجنة ، اجتراءً على الله ، وكفراً بدينه ، وعداوة لرسوله ، ومجاهدة لعترته ، واستهانة بحرمته ، فكأنّما يقتل به وبأهل بيته قوماً من الكفّار. (١)

شهاب الدين ابن حجر الهيتمي (المتوفّى ٩٧٣ ه‍ ـ)

قال في ترجمة ابن تيمية : ابن تيمية عبد خذله الله ، وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه ، وبذلك صرّح الأئمّة ، الذين بيّنوا فساد أحواله ، وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتّفق على إمامته وجلالته وبلوغه مرتبة الاجتهاد ؛ أبي الحسن السبكي ، وولده التاج ، والشيخ الإمام العز بن جماعة ، وأهل عصرهم.

ثمّ قال : والحاصل أنّه لا يقام لكلامه ـ ابن تيمية ـ وزن ، بل يرمى في كلّ وعر وحزن ، ويعتقد فيه أنّه مبتدع ، مضل ، غال ، عامله الله بعدله ، وأجارنا من مثل طريقته وعقيدته وفعله. (٢)

ولقد كان للمواجهة القوية وردّة الفعل الشديدة من قبل العلماء والمفكّرين

__________________

(١) مأخوذ من كتاب (المعتضد) ، نقله الطبري في تاريخه : ١١ / ٧٧ ، وانظر فوات الوفيات : ١ / ٧٧.

(٢) الفتاوى الحديثية : ٨٦. ونقله الشيخ محمد بخيت (المتوفّى ١٣٥٤ ه‍ ـ) في كتابه «تطهير الفؤاد» : ٩ ، طبع مصر.

٤٢

المسلمين تجاه آراء الرجل ومعتقداته أثرها الفاعل في اندحارها وانكفائها ووضعها في زاوية النسيان ، وإهمالها اهمالاً كاملاً ، وكأنّها لم توجد يوماً ما في الوسط الإسلامي.

وكان موقف العلماء هذا ـ وبحق ـ تجسيداً حيّاً وامتثالاً رائعاً لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا ظهرت البدع في أُمّتي فليظهر العالم علمه ، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله». (١)

وهكذا اختفى مذهب ابن تيمية وأفكاره ونظرياته عن الأنظار ، إلّا ما كان منها في كتب تلميذه ابن قيم الجوزية (٦٩١ ـ ٧٥١ ه‍ ـ) ، بل حتى تلميذه ابن قيّم الجوزية نفسه وقف متحدّياً أُستاذه في كتاب «الروح».

هذه هي إطلالة سريعة على شخصية ابن تيمية ، وموقف علماء المسلمين منها ، وبيان سبب انزوائها وخفائها فترة طويلة من الزمن ، وحان الوقت للبحث عن العوامل والأسباب التي أدّت إلى إحياء أفكاره من جديد وطرح نظرياته في أوساط المسلمين في القرن الثاني عشر الهجري ، لتخرجها من الظلام وتنفض عنها غبار الإهمال. وهذا ما نبحثه في الموضوع التالي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الكافي : ١ / ٥٤ ، باب البدع والرأي.

٤٣
٤٤

الفصل الثالث

الوهابية ، الأُسس الفكرية ، والمنهج العملي

٤٥
٤٦

١ : الظروف التي أُثيرت فيها أفكار ابن تيمية من جديد

قد اتّضح جلياً في الفصل السابق أنّ ابن تيمية أثار أفكاره ونظرياته في وقت كان يعيش فيه العالم الإسلامي أقسى الظروف وأشد الصعاب والتحدّيات ، ويواجه أعتى الجيوش الغازية من جهتي المشرق والمغرب المتمثّلة بالمغول والصليبيّين ، وكان العالم الإسلامي في تلك البرهة ـ وكما هو واضح ـ بأمسّ الحاجة إلى الوحدة والاتّحاد والتآخي والالتفاف حول المشتركات ونبذ العوامل التي تثير الفرقة والتشتت والانقسام وتثير الجدل.

ومن هنا لو فرضنا ـ جدلاً ـ أنّ أفكار الرجل ومعتقداته كانت قائمة على أُسس متينة وأدلّة محكمة يدعمها القرآن الكريم والسنّة المطهّرة ودليل العقل ، إلّا أنّه ممّا لا ريب فيه أنّ الرجل لم يكن موفقاً في توقيته لإثارة أفكاره من الناحيتين المكانية والزمانية معاً.

هذا إذا سلّمنا بصحّة آراء الرجل ونظرياته ، وأغمضنا النظر عن الموقف الصارم الذي وقفه علماء الإسلام منه ، سواء في ذلك المعاصرون وغير المعاصرين ، فكيف إذا سلّطنا الضوء على آرائه التي تزخر كلّ واحد منها بالمتناقضات ،

٤٧

وتحمل في طياتها من الخلل والسقم ما لا يخفى ، وبيّنا وهنها وضعفها وبعدها عن منطق العقل والبرهان ومفاهيم القرآن والسنّة المطهّرة ، كما سيتّضح ذلك من البحوث القادمة إن شاء الله تعالى؟!

وعلى كلّ حال فقد تعرّضت أفكار ابن تيمية للنقد والتفنيد منذ الأيام الأُولى لإثارتها ، ولقد كانت الردود والنقود بدرجة من القوّة والمتانة بحيث استطاعت أن تدحر آراءه ومذهبه وتقصيهما عن الساحة في السنين الأُولى ؛ ولكن بالرغم من ذلك وبعد خمسة قرون من الانزواء والإهمال ، أخذت تلك الآراء في العودة إلى الساحة الإسلامية والظهور في الأوساط العلمية من جديد على يد رجل يدعى محمد بن عبد الوهاب. حيث تمكّن الرجل من نفض غبار العزلة والانزواء عنها وإعادتها إلى الوجود ، ولكن لا على أساس من المنطق والدليل والبرهان ، بل تحت سطوة السلطان وحد السيف ، ممّا أودى بحياة الكثير من المسلمين وسلب ذراريهم ونهب أموالهم ، ويكفي في إثبات ذلك مطالعة تاريخ الجزيرة العربية في تلك الفترة وما تلاها. وبهذا تمكّن الرجل من إحداث شرخ في جسد الأُمة الإسلامية وتمزيق صفّها من جديد.

والغريب في الأمر ـ والذي يؤسف له بشدة ـ أنّ إثارة أفكار ابن تيمية من قبل محمد بن عبد الوهاب قد تمّت في ظروف شديدة الحساسية والخطورة بنحو لا تقل عن حساسية وخطورة الظروف التي أثار ابن تيمية أفكاره فيها ، إن لم تكن أشدّ خطورة وحسّاسية ، وكأنّه قد وضعت تلك الأفكار من أجل إيجاد الفرقة والتشتّت والتصدّع في جسد الأُمّة الإسلامية في أحلك الظروف وأصعبها!!

فلقد روّج محمد بن عبد الوهاب ـ والذي نسبت الطريقة إليه ـ لتلك

٤٨

الأفكار مدعوماً بالحماية والإسناد العسكري من قبل بعض شيوخ قبائل نجد ، وشرع في غزو المناطق الإسلامية في الحجاز والعراق والشام واليمن ، ما بين النصف الثاني من القرن الثاني عشر إلى أوّليات القرن الثالث عشر الهجري المقارن للتاسع عشر الميلادي في الوقت الذي كانت فيه البلاد الإسلامية تتعرّض لحملة صليبية جديدة من أربعة محاور.

فلقد استطاع الإنجليز السيطرة على القسم الأعظم من الأراضي الهندية ، وتمكّنوا من إنهاء الامبراطورية التيمورية الإسلامية فيها بقوّة السلاح تارة ، وبالخديعة والمكر أُخرى. وكان يجول في أذهانهم حلم الهيمنة على أراضي البنجاب وكابل والخليج الفارسي ، ولقد كانت طلائع جيوشهم تسير بخطى متواصلة زاحفة باتّجاه جنوب إيران وغربه.

وأمّا الفرنسيون فقد تمكّنوا وبقيادة نابليون من احتلال كلّ من مصر وسورية وفلسطين والهيمنة على مقدّراتها في الوقت الذي كانت فيه الامبراطورية الإسلامية العثمانية منشغلة بكيفية معالجة المشكلة في الأراضي الهندية.

ومن جهة ثالثة نجد الروس (من أتباع الروم الشرقية) أيضاً يفكّرون في التوسّع من خلال اقتطاع جزء من أشلاء جسد الأُمّة الإسلامية ، وذلك في محورين : الأوّل : يتمثّل في التقدّم باتّجاه القسطنطينية وفلسطين ، والمحور الثاني يتمثّل في الزحف نحو الأراضي الإيرانية وصولاً إلى الخليج الفارسي.

ومن هنا جعلوا في أولويات عملهم الهيمنة العسكرية على الأراضي الإيرانية وتوابع الامبراطورية العثمانية في أُوروبا والقفقاز.

بل حتى الأمريكان اشرأبّت أعناقهم وسال لعابهم للهيمنة على بعض الأراضي الإسلامية وإمكاناتها ، في شمال إفريقيا ، وقد قاموا فعلاً ولتحقيق حلمهم

٤٩

هذا بالغارة على المدن الليبية والجزائرية.

وهكذا توالت الأحداث المريعة واشتدت الهجمة على البلاد الإسلامية ، ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ ، بل نشبت ـ وفي تلك البرهة أيضاً ـ الحرب بين الامبراطورية العثمانية والنمسا حول صربيا ، وكذلك تمّ التحالف العسكري بين الأُسطولين الهولندي والانجليزي لإحكام الطوق على العاصمة الجزائرية ومحاصرتها.

في هذه الظروف العصيبة والمحنة الشديدة التي يعيشها العالم الإسلامي والتي كانوا فيها في أمسّ الحاجة إلى الوحدة ولمّ الشمل والتكاتف ورصّ الصفوف في وجه القوات الغازية ، يعلن محمد بن عبد الوهاب حملته على المسلمين متّهماً إيّاهم بالشرك والخروج عن خط التوحيد ، لإيمانهم ب ـ «طلب الشفاعة من الصالحين» ، أو «زيارة قبور الأولياء» ، وغير ذلك من المعتقدات ، وقد أعمل هو وأتباعه فيهم السيف وقتل الأنفس ونهب الأموال وسبى الذراري ، معتبراً كلّ ما يقوم به جهاداً في سبيل الله ومواجهة للمشركين والكافرين!!!

ولم يسلم من سيفه ولسانه السنّة والشيعة على السواء ممّن كانوا في العراق والشام واليمن وغيرها.

والأنكى من ذلك والأعجب أنّه أصدر ـ باعتباره يرى نفسه فقيهاً ـ فتوى لم يسبقه أحد من المسلمين فيها ، حيث أفتى فيها بكفر المسلمين وجواز قتلهم واستباحة أموالهم ، ودعا أتباعه ومريديه لغزو البلاد الإسلامية وإعمال السيف فيهم إن لم يتوبوا ، كلّ ذلك تحت ستار الشرك والخروج من الدين ، الأمر الذي كانت له مردودات سلبية ونتائج عكسية طوال هذه الفترة.

قال في كتابه «كشف الشبهات» : «من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم

٥٠

ويسألهم الشفاعة ويتوكّل عليهم كفر إجماعاً». (١)

وقال أيضاً : إنّ من نخا نبيّاً أو ملكاً أو ندبه أو استغاث به ، فقد خرج من الإسلام ، وهذا هو الكفر الذي قاتلهم عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢)

إنّ القسوة والصلافة التي تكمن في هذا المذهب وصلت إلى حدّ لا يصدّق ، وما مظاهر القسوة من القتل والاغتيالات و ... التي يقوم بها الوهابيون الآن في الباكستان وأفغانستان إلّا نماذج حيّة لهذا الوجه القبيح.

إذا عرفنا ذلك نعطف الكلام إلى دراسة حياة مؤسّس المذهب الوهابي ، وتسليط الضوء على سلوكه ومنهجه في الحركة.

__________________

(١) كشف الشبهات : ٨٧.

(٢) نفس المصدر : ٥٨.

٥١

٢

محمد بن عبد الوهاب

نشأته ووفاته

ولد محمد بن عبد الوهاب سنة ١١١٥ ه‍ ـ في مدينة «العيينة» في نجد ، وكان والده الشيخ عبد الوهاب رجلاً صالحاً متّقياً ، بحيث يُعدّ من قضاة المدينة ، تلقّى محمد بن عبد الوهاب دروسه الفقهية ـ الفقه الحنبلي ـ في موطنه ، ثمّ سافر إلى المدينة ليكمل دراسته فشرع فيها بدراسة الحديث والفقه.

وكان يبدو على قسمات وجهه وفلتات لسانه بين الحين والآخر ، ما يكتمه ويخفيه من المعتقدات ، وقد كان محمد بن عبد الوهاب ممّن يتفرّس مشايخه وأساتذته فيه الضلال ، حينما كان يتردّد إلى مكة والمدينة لأخذ العلم من علمائها ، وعند ما كان يدرس على الشيخ محمد بن سليمان الكردي والشيخ محمد حياة السندي كانا يتفرّسان فيه الغواية والإلحاد ، بل يتفرّس غيرهما فيه مثل ذلك ، وكان ينطق الكلّ بأنّه سيضلّ الله تعالى هذا الرجل ويضلّ به من أشقاه من عباده ، حتّى أنّ والده عبد الوهاب وهو من العلماء الصالحين كان يتفرّس فيه الإلحاد ويحذّر الناس منه ، وانّ أخاه سليمان ألّف كتاباً في الرد على ما أحدثه من البدع

٥٢

والعقائد الزائفة». (١)

وبعد دراسته في المدينة طاف في كثير من بلاد العالم الإسلامي ، فأقام نحو أربع سنين في البصرة ، وخمس سنين في بغداد ، وسنة في كردستان ، وسنتين في همدان ، ثمّ رحل إلى اصفهان ، ثمّ شدّ الرحال إلى قم ، بعدها توجّه نحو الأحساء مارّاً بمدينة البصرة ، ثمّ إلى «حُرَيملة» محل إقامة والده. (٢)

ولم يكن محمد بن عبد الوهاب يجرأ على الإعلان عن أفكاره وعقائده ما دام أبوه حيّاً ، وإن كانت تقع بينهما بين الحين والآخر مشادّات ومنازعات ، ولكن بعد رحيل والده في سنة ١١٥٣ ه‍ ـ ، أزاح الستار عن عقائده وأعلن في الملأ العام عمّا تنطوي عليه نفسه من أفكار وعقائد خاصة.

ولقد كان لحركته هذه ردة فعل بين أهل «حريملة» ، فأوجدت ضجّة بينهم فهمّوا بقتله ، فلم يجد بدّاً من الهرب إلى «عيينة» مسقط رأسه ودار نشأته ، وقد تعاهد هو وأميرها «عثمان بن معمر» على أن يشدّ كلّ أزر الآخر ، فيترك الأمير الحرية للشيخ في إظهار الدعوة والعمل على نشرها ، لقاء أن يقوم محمد بن عبد الوهاب بدوره وبشتى الوسائل لسيطرة الأمير على نجد بكاملها. (٣)

لم يطل عمر التحالف بين ابن عبد الوهاب والأمير ابن معمر ، لأنّ سليمان الحميدي صاحب الأحساء والقطيف أمر عثمان بن معمر ـ وكان أقوى منه ـ أن يقتل الشيخ فاضطر على أثرها ابن عبد الوهاب للتوجّه إلى «الدرعية» وكان أميرها آنذاك محمد بن سعود جد الأُسرة الحاكمة في السعودية «آل سعود» وتم

__________________

(١) الفجر الصادق : ١٧ ؛ فتنة الوهابية : ٦٦.

(٢) تاريخ نجد : ١١١ ـ ١١٣.

(٣) هذه هي الوهابية : ١١٢.

٥٣

إبرام الاتّفاق بين الأمير والشيخ على غرار ما كان قد تم بينه وبين ابن معمر ، فقد وهب الشيخ نجد وعربانها لابن سعود ، ولتوطيد تلك العلاقة وإحكام الأمر بينهما زوّج محمد بن سعود ابنه عبد العزيز من إحدى بنات محمد بن عبد الوهاب.

بدأ ابن عبد الوهاب حملته التبليغية تحت ظل التحالف الجديد ودعمه المادي والعسكري ، فجمع الشيخ أنصاره وأتباعه وحثّهم على غزو البلدان المجاورة المسلمة ، أو الدخول في الدعوة الجديدة ، وهكذا بدأ سيل الغنائم والأموال يسيل باتّجاه الدرعية ، تلك المدينة الفقيرة ، ولم تكن تلك الغنائم إلّا أموال المسلمين الذين أعمل الشيخ وأتباعه فيهم السيف وتركهم أشلاء متناثرة وسبى ذراريهم ونهب أموالهم تحت ذريعة التهمة بالشرك والارتداد عن الدين ، وهكذا أباح الشيخ أموال المسلمين لجيشه ومناصريه!! حتّى أنّ الآلوسي ـ المعروف بميوله الوهابية ـ ينقل عن المؤرخ ابن بشر النجدي إشارة واضحة إلى حالة النهب والسلب التي اعتمدها الوهابيون.

شهادة ابن بشر النجدي

«... وكان أهل الدرعيّة ـ يومئذ ـ في غاية الضيق والحاجة ، وكانوا يحترفون لأجل معاشهم ....

ولقد شاهدت ضيقهم في أوّل الأمر ، ثمّ رأيت الدرعيّة بعد ذلك ـ في زمن سعود ـ وما عند أهلها من الأموال الكثيرة والأسلحة المحلّاة بالذهب والفضّة ، والخيل الجياد والنجائب العُمانيات ، والملابس الفاخرة ، وغير ذلك من أسباب الثروة التامة ، بحيث يعجز عن عدّه اللسان ويكلُّ عن تفصيله البيان.

٥٤

ونظرتُ إلى موسمها يوماً ـ في الموضع المعروف بالباطن ـ فرأيت موسم الرجال في جانب وموسم النساء في جانب آخر ، فرأيت من الذهب والفضة والأسلحة والإبل والغنم والخيل والألبسة الفاخرة وسائر المآكل ما لا يمكن وصفه ، والموسم ممتدٌّ مدّ البصر ، وكنت أسمع أصوات البائعين والمشترين وقولهم : بعتُ واشتريت كدويّ النحل ...». (١)

__________________

(١) تاريخ نجد للآلوسي : ١١٧ ـ ١١٨.

٥٥

٣

العوامل التي ساعدت على انتشار الفكر الوهابي

هناك عاملان أساسيان ساعدا في نشر الوهابية في أوساط أبناء الجزيرة العربية ، هما :

١. الدعم السياسي والعسكري من قبل أُسرة آل سعود.

٢. بعد المجتمع النجدي عن الحضارة والمفاهيم الإسلامية الحقّة.

وعلى هذا الأساس كان الوهابيون يشنّون الغارات والمعارك في نجد وخارجها ـ كاليمن والحجاز ونواحي سورية والعراق ـ وكانوا يبيحون التصرّف بالمدن ـ التي يسيطرون عليها ـ كيفما يشاءون ، فإن أمكنهم ضمُّ تلك الأراضي إلى ممتلكاتهم وعقاراتهم فعلوا ذلك ؛ وإلّا اكتفوا بنهب الغنائم منها. (١)

وممّا لا ريب فيه أنّ كلّ نظرية جديدة ـ وخاصة إذا كانت تتستر بستار التوحيد وترفع شعار الإصلاح ـ تجتذب إليها الكثير من الأعوان والمؤيدين والأنصار في أيّامها الأُولى وتنفذ إلى قلوب الكثير من الناس ، وخاصة إذا طرحت في أوساط بعيدة عن العلم والمعرفة ، ومن الملاحظ أنّ حركة محمد بن عبد الوهاب

__________________

(١) جزيرة العرب في القرن العشرين : ٣٤١.

٥٦

قد حصلت على هاتين الخاصيتين : التظاهر بالدفاع عن التوحيد والإصلاح في المجتمع ، والثاني طرحها في أجواء بعيدة عن العلم والمعرفة ، ممّا ساعدها على إغفال واستقطاب الكثيرين.

يقول جميل صدقي الزهاوي : لما رأى ابن عبد الوهاب أنّ قاطبة بلاد نجد بعيدون عن عالم الحضارة ، لم يزالوا على البساطة والسذاجة في الفطرة ، وقد ساد عليهم الجهل حتّى لم تبق للعلوم العقلية عندهم مكانة ولا رواج ، وجد هنالك من قلوبهم ما هو صالح لأن تزرع فيه بذور الفساد ممّا كانت نفسه تنزع إليه وتمنّيه به من قديم الزمان ، وهو الحصول على رئاسة عظيمة ينالها باسم الدين ـ إلى أن قال : ـ فلم يجد للحصول على أُمنيته طريقاً بين أُولئك ، إلّا أن يدّعي أنّه مجدِّد في الدين ، مجتهد في أحكامه. (١)

بل انّ شعارات الحركة انطلت على بعض الشخصيات أيضاً ، فقد انخدع بها السيد محمد بن إسماعيل الأمير (١٠٩٩ ـ ١١٨٦ ه‍ ـ) مؤلف كتاب «سُبُل السلام في شرح بلوغ المرام» فإنّه لمّا بلغه ـ في اليمن ـ من أحوال الشيخ النجدي ودعوته إلى التوحيد ، تفاعل مع الحدث ، فأنشأ قصيدته المشهورة والتي كان مطلعها :

سلام على نجد ومن حلّ في نجد

وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

ثمّ حقّق الأحوال من بعض من وصل إلى اليمن ووجد الأمر على عكس ما روي له ، فأنشأ يقول في قصيدة ثانية تائباً عمّا قاله أوّلاً :

رجعت عن القول الذي قلت في نجد

فقد صحّ لي عنه خلاف الذي عندي

__________________

(١) الفجر الصادق : ١٤.

٥٧

وقد صرّح بسبب توبته ومغالاته في التوهب ، حيث قال : وقد قدم إلينا الشيخ الفاضل عبد الرحمن النجدي ، ووصف لنا من أحوال ابن عبد الوهاب أشياء أنكرناها عليه من سفك الدماء ونهب الأموال والتجرّي على قتل النفوس ، ولو بالاغتيال ، وتكفيره الأُمّة المحمديّة في جميع الأقطار ، فبقي فينا تردّد فيما نقله ذلك الشيخ ، حتى قدم إلينا الشيخ «مربد» وله نباهة ومعه بعض رسائل ابن عبد الوهاب التي جمعها في وجه تكفير أهل الإيمان ، وقتلهم ونهبهم وحقّق لنا أحواله ، فعرفنا أحوال رجل عرف من الشريعة شطراً ، ولم يمعن النظر ، ولا قرأ على من يهديه نهج الهداية ، ويدلّه على العلوم النافعة ويفقهه ، بل طالع بعض مؤلّفات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وقلّدهما من غير إتقان مع أنّهما يحرمان التقليد. (١)

الوهابيون والعتبات المقدّسة

لقد مثّلت المجازر الوهابية في العتبات المقدّسة صفحة سوداء من تاريخ الوهابية ، وقد اعترف بهذه الحقيقة المرّة الكاتب الوهابي صلاح الدين المختار حيث قال : وفي سنة ١٢١٦ ه‍ ـ جهّز سعود بن عبد العزيز بن محمد جيشاً جراراً من أعراب نجد وعشائر الجنوب والحجاز وتهامة وسائر البلاد ، فقصد العراق فوصل في شهر ذي القعدة إلى مدينة كربلاء فحاصرها ، فهدم برج المدينة ومنارتها ودخل المدينة بالعنوة ، وأعمل السيف فيهم ، فقتل من وجد في الأسواق والشوارع والبيوت ، وترك المدينة عند الظهر بعد أن استولى على الأموال والغنائم الكثيرة ، وتوقّف ليستريح في أرض يقال لها «الأبيض» ، فأخرج خمس الغنائم له ثمّ قسّم

__________________

(١) كشف الارتياب : ٨.

٥٨

الباقي على المقاتلين سهم للراجل وسهمان للفارس. (١)

وأمّا المؤرّخ ابن بشر النجدي فهو الآخر تحدّث عن تلك الهجمات والتجاوزات التي ارتكبها الوهابيون في العتبات المقدّسة. (٢)

وهكذا نقل لنا الكاتب كوران سيز وصف تلك الواقعة حيث قال :

وقد جرت العادة أن يحتفل الشيعة كلّ عام بعيد الغدير في يوم الغدير في النجف الأشرف ، فخرج أهالي كربلاء عن بلدتهم ، فانتهز الوهابيون فرصة غيابهم عن البلدة واقتحموها ، وهم حوالي اثنا عشر ألف جندي ، ولم يكن في البلدة إلّا عدد قليل من الرجال المستضعفين ، قتلهم الوهابيون ولم يبقوا أحداً منهم حيّاً ، ويقدّر عدد الضحايا خلال يوم واحد بثلاثة آلاف.

وأمّا السلب فكان فوق الوصف ، ويقال : إنّ مائتي بعير حمّلت فوق طاقاتها بالمنهوبات الثمينة ، فقد استولى الوهابيون على كلّ الكنوز والأموال الثمينة ، وجرّدوا القبة من صفائح النحاس المطلية بالذهب. (٣)

وقد يتصوّر البعض أنّ الاعتداء والغزو الوهابي اختصّ بالشيعة فقط وأنّ باقي المسلمين كانوا في مأمن ومنأى عن تلك التجاوزات والغارات ، وهذا في الواقع تصوّر ساذج بعيد عن الواقع ، بل الحقيقة أنّ الظلم الوهابي شمل كافّة المسلمين ولم ينج منهم سكان البلاد الإسلامية الأُخرى كالحجاز والشام واليمن ، و ... ، ولا ريب أنّ استقصاء تلك الوقائع والاعتداءات على بلاد المسلمين يحتاج إلى تأليف مفرد ، ولذلك سنكتفي بذكر بعض النماذج فقط.

__________________

(١) تاريخ المملكة العربية السعودية : ٣ / ٧٣.

(٢) عنوان المجد في تاريخ نجد : ١ / ٣٣٧.

(٣) تاريخ البلاد العربية : ١٢٦ ـ ١٢٧.

٥٩

احتلال الطائف عام ١٢١٧ ه‍ ـ

قال الجبرتي : في أواخر عام ١٢١٧ ه‍ ـ ، غار الوهابيّون على الحجاز ، فلمّا قاربوا الطائف خرج إليهم الشريف غالب فهزموه ، فرجع إلى الطائف وأُحرقت داره وهرب إلى مكة ، فحاربوا الطائف ثلاثة أيام حتى دخلوها عنوة ، وقتلوا الرجال وأسروا النساء والأطفال ، وهذا دأبهم في من يحاربهم ، وهدموا قبة ابن عباس في الطائف. (١)

يقول زيني دحلان : فدخلوا البلد عنوة في ذي القعدة سنة ١٢١٧ ه‍ ـ ، فقتلوا الناس قتلاً عاماً حتّى الأطفال ، وكانوا يذبحون الطفل الرضيع على صدر أُمّة ، وكان جماعة من أهل الطائف خرجوا قبل ذلك هاربين فأدركتهم الخيل وقتلت أكثرهم ، وفتّشوا على من توارى في البيوت فقتلوه وقتلوا من في المسجد ـ إلى أن قال : ـ وصارت الأعراب تدخل كلّ يوم إلى الطائف وتنقل المنهوبات حتّى صارت كأمثال الجبال. (٢)

ولقد اعتبر جميل صدقي الزهاوي الهجوم الوهابي على الطائف بمثابة الصفحة السوداء في التاريخ الوهابي ، وانّ ما قاموا به في الطائف هو من أقذر ما اقترفوه من الجرائم. (٣)

وبعد أن نفذ الوهابيون مجزرتهم المروعة وجريمتهم النكراء والإبادة الجماعية في الطائف كتبوا كتاباً إلى علماء مكة يدعونهم فيه إلى الدخول تحت ظل الحركة

__________________

(١) أخبار الحجاز ونجد في تاريخ الجبرتي : ٩٣.

(٢) نفس المصدر : ٩٣.

(٣) الفجر الصادق : ٢٢.

٦٠