الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

عالم الطبيعة بحيث تصبح نفسه قادرة على التصرّف فيه بإذن الله تعالى وبدون أن يعتمد على الأسباب الطبيعية. وحينئذ يكون قادراً على القيام بسلسلة من الأعمال الخارقة للعادة من قبيل المعجزات والكرامات.

ولإثبات هذا الادّعاء نأتي بطائفة من آيات الذكر الحكيم والتي تشهد بوضوح على أنّ أولياء الله يستطيعون ـ ولمصلحة ما ـ التصرّف في عالم الطبيعة.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى القدرة العظيمة التي وهبها الله سبحانه للأنبياء عليهم‌السلام في التصرف ـ بإذنه ـ في عالم الطبيعة ، نكتفي هنا بالإشارة وبصورة مختصرة إلى بعضهم عليهم‌السلام ، وهم : يوسف ، سليمان ، والمسيح عليهم‌السلام.

الف : تصرّف يوسف عليه‌السلام في ردّ البصر إلى والده

أكّد القرآن الكريم هذه القصة بقوله :

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ* وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ* قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ* فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً). (١)

وأنت ترى أنّ القرآن الكريم يؤكّد تلك الحقيقة في ضمن آيتين :

١. (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً).

٢. وقوله : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً).

ولا ريب أنّ المعافي والمشافي الواقعي هو الله سبحانه وتعالى ، ولكن ـ وكما

__________________

(١) يوسف : ٩٣ ـ ٩٦.

٣٨١

قلنا ـ إنّه قد شاءت الإرادة الإلهية أن يجري الفيض الإلهي على مخلوقاته سبحانه عن طريق الأسباب الأعم من (الطبيعية وغير الطبيعية).

ولا شكّ هنا أنّ لإرادة يوسف عليه‌السلام تأثيراً واضحاً ، وأنّه أرجع القدرة الباصرة إلى أبيه تحت ظل القدرة والفيض الإلهي الذي منح له عليه‌السلام.

وهنا سؤال يطرح نفسه وهو : لما ذا استعمل يوسف عليه‌السلام هذه الوسيلة البسيطة جداً ـ القميص ـ ولم يستعمل وسيلة أعقد من ذلك؟

والجواب : انّ منهج الأنبياء في الإتيان بالمعجزة والصالحين في القيام بالكرامات هو اعتماد الوسائل البسيطة جدّاً في القيام بالأعمال العظيمة ، وذلك لكي يذعن الجميع بارتباطهم بالسماء وتلقّيهم قدراتهم من ذي القدرة الغير المتناهية ، وإلّا فلو استفادوا من الأسباب والعلل المعقدة والوسائل المتطوّرة لنسب الناس تلك النتائج إلى تلك العلل والأسباب المعقّدة ، وأخيراً لنسبوها إلى علم الأنبياء وإمكاناتهم المادية مثلاً. وحينها تنتفي الغاية والهدف من وراء المعجزة.

ب. أصحاب سليمان عليه‌السلام والقدرات العجيبة

كلّنا يعلم أنّ سليمان عليه‌السلام استدعى ملكة سبأ للحضور عنده ، ولكنّه وقبل أن تحضر عنده بلقيس ، سأل الحاضرين في نادية وأصحابه قائلاً :

(يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ). (١)

فانبرى أحد الحاضرين ملبياً الدعوة ومظهراً استعداده للإتيان به بسرعة فائقة ، فقال :

__________________

(١) النمل : ٣٨.

٣٨٢

(أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ). (١)

فنهض وزير سليمان وابن أُخته «آصف بن برخيا» ـ كما يقول المفسّرون ـ وأعلن عن استعداده للإتيان به قبل أن يرتد إلى سليمان طرفه ، قال تعالى :

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي). (٢)

ولا بدّ من الإمعان في الآيات الكريمة لنرى من هو فاعل هذه الأعمال العجيبة ـ الإتيان بعرش بلقيس ـ عبر مسافات طويلة جداً وبطرفة عين فقط؟

الظاهر من الآيات أنّ فاعل تلك الأُمور العجيبة هو أصحاب سليمان أنفسهم ـ ولكن بإذنه سبحانه ـ ويمكن تأكيد ذلك من خلال النقاط التالية :

أوّلاً : أنّ سليمان عليه‌السلام قد طلب منهم مباشرة القيام بهذا العمل ، وهذا يعني أنّه كان عليه‌السلام يعلم من حالهم أنّهم قادرون على القيام بمثل تلك الأعمال الخارقة للعادة.

ثانياً : انّ الشخص الذي أبدى استعداده للقيام بالمهمة والإتيان بالعرش قبل أن يقوم سليمان من مقامه ، أردف كلامه بالجملة التالية فقال : (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ).

ومن الواضح أنّه إذا لم يكن للشخص المذكور دور في العمل لما كان لقوله : (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) أيّ معنى ، بل يصبح ذلك القول لغواً.

__________________

(١) النمل : ٣٩.

(٢) النمل : ٤٠.

٣٨٣

ثالثاً : أنّ الشخص الآخر الذي قال : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) نسب الإتيان بهذا العمل الخارق للعادة إلى نفسه ، وقال : (أَنَا آتِيكَ ...).

وهل يوجد أصرح من هذا التعبير القرآني الكريم الذي يبيّن بما لا لبس فيه بأنّ أصحاب النفوس الطاهرة والأرواح الزكية يمتلكون من القدرات والإمكانات العجيبة والمحيّرة للعقول في الإتيان بالمعجزات والكرامات ، وحينئذ لا يبقى مجال للمشكّكين للتشكيك أو الميل نحو التأويلات الباردة التي لا تقوم على أساس علمي.

رابعاً : أن الله سبحانه وتعالى قد صرّح بالسبب الذي جعل وزير سليمان قادراً على القيام بذلك العمل بسرعة زمانية قياسية ، وهو انّ هذا الإنسان كان يمتلك علماً غير العلم المتوفّر لدى سائر الناس ، بل هو من نوع العلوم الخاصة بعباد الله سبحانه وتعالى ، فقال : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ).

ج. سليمان عليه‌السلام والقدرات العجيبة

يصرّح القرآن الكريم بالقدرات التي كان سليمان عليه‌السلام يمتلكها ، فقال تعالى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ). (١)

والأمر الجدير بالاهتمام هو أنّ الآية المباركة تؤكّد وبصراحة تامة أنّ حركة الريح وتعيين الجهة التي تتحرك فيها خاضع لأمر سليمان وإرادته النافذة ، فيقول

__________________

(١) الأنبياء : ٨١.

٣٨٤

سبحانه : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ).

وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ ...). (١)

وهذا يعني أنّ سليمان عليه‌السلام كان يطوي المسافات البعيدة بفترة زمنية قصيرة بحيث يقطع في يوم واحد المسافة التي كان يقطعها غيره خلال شهرين متتاليين.

نعم ، صحيح أنّ الله سبحانه وتعالى هو الذي سخّر الرياح وروّحها لسليمان إلّا أنّ جملة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) تدلّ بصراحة أنّ لأمر سليمان وإرادته دوراً بارزاً في الاستفادة من هذه الظاهرة الطبيعية ، كما في تعيين الوقت وتحديد المسير وإيقاف الحركة ، وغير ذلك.

د. قدرات السيد المسيح عليه‌السلام وتصرّفاته

لقد نسب القرآن الكريم إلى السيد المسيح عليه‌السلام أعمالاً خارقة للعادة ، تنبع جميعها من القدرة الباطنية والإرادة الخلّاقة له عليه‌السلام ، حيث قال تعالى :

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ). (٢)

ففي هذه الآية نسب المسيح عليه‌السلام إلى نفسه مجموعة من الأعمال التي يقوم بها ، وهي :

١. أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.

__________________

(١) سبأ : ١٢.

(٢) آل عمران : ٤٩.

٣٨٥

٢. (فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ).

٣. (أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) (من ولد فاقداً للبصر).

٤. أُبرئ (الْأَبْرَصَ).

٥. (أُحْيِ الْمَوْتى).

فالسيد المسيح عليه‌السلام كان يرى نفسه فاعلاً لتلك الأعمال جميعها ، وليس معنى ذلك أنّه عليه‌السلام كان يطلب من الله ويدعوه أن يقوم هو سبحانه بتلك الأُمور ، بل كان هو عليه‌السلام يقوم بها ولكن (بِإِذْنِ اللهِ) ، وهنا لا بدّ من معرفة المراد والمقصود من الإذن الإلهي : فهل هو الإذن اللفظي؟ أم هو شيء آخر؟

لا ريب أنّه ليس من قبيل الإذن اللفظي والإجازة القولية ، وإنّما المقصود منه هو الإذن الباطني ، بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى يمنح عباده الصالحين والمخلصين قدرات خارقة وإمكانات كبيرة جداً ، يستطيعون من خلالها القيام بتلك الأُمور العجيبة والمحيّرة.

والشاهد على هذا التفسير أنّ الإنسان بحاجة إلى الإذن الإلهي حتى في القيام بالأُمور الاعتيادية فضلاً عن الأُمور الخارقة للعادة ، فبدون إذنه سبحانه يعجز عن القيام بأبسط الأُمور ، وهذا يعني أنّ المقصود من إذنه سبحانه هو منحه القدرة والطاقة على الإتيان بالفعل والقيام بالعمل ، ومن هنا نجد السيد المسيح عليه‌السلام ينسب الأفعال الواردة في الآية إلى نفسه ، بل في آية أُخرى نجد أنّ الله سبحانه وتعالى ينسب وبصراحة تلك الأفعال إلى السيد المسيح عليه‌السلام حيث يقول تعالى :

(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ

٣٨٦

بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي). (١)

ولا بدّ من الإمعان في الجمل الواردة في الآية لنرى من هو الفاعل وفقاً للرؤية القرآنية؟ انّ الله سبحانه وتعالى لم يقل انّي أنا الذي أخلق الطير ، أو أشفي الأكمه ، أو أُحيي الموتى ، بل قال تعالى :

١. (إِذْ تَخْلُقُ).

٢. (وَتُبْرِئُ).

٣. (إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى).

وهل يوجد أصرح من ذلك في نسبة الأفعال إلى السيد المسيح عليه‌السلام؟!

ولكن ومن أجل أن يرتفع اللبس ويتّضح للجميع أنّه لا يوجد مخلوق ـ مهما كان نبيّاً أو غيره ـ يقدر على الإيجاد والإبداع بصورة مستقلة ـ ولكي يبطل القرآن الكريم بعض الأفكار المنحرفة القائلة بالثنوية ، أو القائلة بأنّ الإنسان محتاج في وجوده إلى الله فقط ، وأمّا في أفعاله وأعماله فهو مستقل عن ذلك استقلالاً كاملاً وغير محتاج إلى الله تعالى. نعم لكي يبطل القرآن الكريم كلّ هذه المزاعم الباطلة والأفكار الواهية قيّد جميع الأفعال التي كان يقوم بها السيد المسيح عليه‌السلام بإذنه سبحانه وتعالى ، ليؤكّد سبحانه التوحيد في الفاعلية ويصونه من الانحراف والقول بالثنوية.

نكتفي بهذا المقدار من التصرفات التكوينية للأنبياء والتي تتم جميعها بإذن من الله سبحانه ، ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه بمراجعة القرآن الكريم ، والموسوعات التفسيرية ، والموسوعات الحديثية ، وكذلك «نهج البلاغة» ذلك الأثر

__________________

(١) المائدة : ١١٠.

٣٨٧

الخالد لسيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثمّ لا بدّ من الإشارة إلى مسألة مهمة وهي : تصوّر البعض من الكتّاب أنّ القول بالولاية التكوينية للأنبياء والأولياء والاعتقاد بأنّهم قادرون على التصرّف في عالم الخلق ، يُعدّ نوعاً من الشرك ، غافلين عن أنّ تسلّط الإنسان على التصرّف في عالم الخلق يتم بصورتين ، هما :

١. انّ نفس الإنسان يمتلك تلك الهيمنة والسلطة والقدرة ، وبحسب الاصطلاح يمتلك «القدرة الذاتية» على ذلك.

٢. القدرة والاستعداد النابعة من القدرة الإلهية ، وانّ الله سبحانه وتعالى ـ ولمصالح ما ـ يمنح بعض الأفراد تلك القدرات ، ويفيض عليهم بتلك المواهب بحيث يستطيعون القيام بتلك الأعمال الخارقة.

ولا ريب أنّ الصورة الأُولى باطلة قطعاً وأنّها نوع من الشرك ، فكلّ نظرية تذهب إلى أنّ الإنسان مستقل في أعماله وأفعاله ـ الظاهرية أو الباطنية ـ عن الله سبحانه فهي نظرية إلحادية وشرك بالله تعالى. وأمّا الصورة الثانية فلا شكّ في صحّتها وانسجامها مع التوحيد ، بل هي عين التوحيد ، لأنّها مستقاة من القدرة الإلهية المطلقة.

وفي الختام نقول : إنّه ومع الالتفات إلى المقامات والمواهب التي يمنحها الله سبحانه لأوليائه الصالحين ، فلا ينبغي الترديد والتشكيك بصحّة الكرامات التي تصدر عنهم في أثناء حياتهم أو بعد رحيلهم إلى الرفيق الأعلى ، وذلك لأنّ كرامة السيد المسيح عليه‌السلام لا تنحصر بحياته الدنيوية وفي عالم المادة فقط ، بل هي نتيجة لقربه المعنوي عليه‌السلام ، ومن الواضح أنّ القرب المعنوي محفوظ دائماً ، سواء في الحياة الدنيا ، أو في عالم البرزخ.

٣٨٨

الفصل الرابع عشر

التبرّك بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثاره

٣٨٩
٣٩٠

التبرّك بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثاره

من مراتب التوحيد ، التوحيد في الخالقية ، بمعنى أنّه لا يوجد للعالم إلّا خالق واحد ، وأنّ العالم بكلّ تجلّياته المختلفة مخلوق له سبحانه ، وانّ جميع الظواهر المادية وغير المادية فاقدة ذاتاً لكلّ أنواع الكمال ، وإذا ما تحلّت ظاهراً بالكمال فما ذلك إلّا في ظل المشيئة والإرادة الإلهية.

وهذا الأصل من الأُصول المتسالم عليها بين الموحّدين والمشركين ، وهذا ما أشارت إليه آيات الذكر الحكيم التي جاءت على نحو السؤال والجواب أو على نحو القضية الشرطية ، ومنها قوله تعالى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ). (١)

نعم ، انّ الاختلاف بين الموحّدين وبين مشركي عصر الرسالة كان في «المدبريّة» حيث كان يرى الموحّدون انّ «المدبرية» أيضاً تنحصر في الله سبحانه فهو الخالق وهو المدبّر في آن واحد ، وأمّا المشركون فقد كانوا يرون أنّ لآلهتهم المزيّفة نصيباً في تدبير العالم وإدارة شئونه.

وهنا مسألة جديرة بالاهتمام ينبغي الالتفات إليها وهي أنّ حصر الخالقية

__________________

(١) العنكبوت : ٦١.

٣٩١

والمدبّرية في الله سبحانه لا يعني بحال من الأحوال نفي تأثير الظواهر المادية وغير المادية بعضها بالبعض الآخر ، وذلك لأنّه قد أثبتت آيات الذكر الحكيم وكذلك الأدلّة العلمية والفلسفية أنّ عالم الخلق قائم على سلسلة من العلل والمعاليل ، وبعبارة أُخرى : الأسباب والمسبّبات ، وأنّ الظاهرة المتقدّمة تؤثر ـ وتحت شرائط خاصة ـ في الظاهرة اللاحقة. ولكن جميع تلك التجلّيات «المؤثّر» و «المؤثّرية» و «الأثر» كلّها تخضع لمشيئته وإرادته سبحانه ، فشعاع الشمس ، وتلألؤ القمر ، والإحراق للنار ، ونمو النباتات بواسطة الماء ، وغير ذلك من الظواهر ، كلّها إنّما تعمل عملها وتؤثر أثرها في ظل إرادته سبحانه ، وإذا ما انقطعت الإرادة الإلهية ولو لحظة واحدة لم يبق من عالم الخلق شيء يذكر أبداً.

ولمزيد التوضيح نقول : إنّ في عالم الوجود يوجد سبب واحد يتّصف بالأصالة والواقعية وهو الله سبحانه ، ولكن وفي نفس الوقت يوجد في قلب عالم الوجود سلسلة من الأسباب والعلل الفرعية والتبعية التي تعمل في إطار إرادته ومشيئته سبحانه وتعالى ، فعلى سبيل المثال نمو الأشجار وحياة الإنسان يخضعان لسلسلة من العلل والأسباب الطبيعية بحيث لو انتفت لانتفى وجود النبات والإنسان قطعاً. وهذه الأسباب تتمثّل في الماء والهواء والنور و ... ، ومن هنا يمكن اعتبار تلك الأسباب والعلل من جنود الله سبحانه التي تخضع لأوامره وتمتثل مقرراته سبحانه.

ولقد صرحت الآية ٢٢ من سورة البقرة بهذا المؤثر التبعي ، أو ما يصطلح عليه الفلاسفة ب ـ «المؤثّر الظلي» حيث جاء فيها :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ

٣٩٢

ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). (١)

فإنّ الحرف «ب» في قوله «به» يعطي معنى السببيّة ، وهذا تصريح بمؤثّرية الماء في نمو الثمار.

ومن الأُصول المسلّمة لدى علماء الطبيعة عامّة والأحياء خاصة هو البحث عن العلاقات بين الظواهر المتنوعة لغرض معرفة الأسباب والعلل الطبيعية والمادية ، لكي يتسنّى لهم من خلال تلك المعرفة الاستفادة من المنافع الناجمة عنها ، واجتناب الاضرار التي قد تواجههم في ذلك.

إنّ نقطة الخلل في التفكير المادي تكمن في أنّهم نظروا إلى عالم المادة نظرة أُحادية الجانب بحيث اعتبروا تلك العلل والأسباب التبعية والظلية أسباباً وعللاً مستقلة غافلين عمّا وراء المادة من عالم غيبي هو الفاعل والسبب الحقيقي والواقعي وهو المدبّر للعالم والمانح للأسباب والعلل المادية قدرة الفاعلية وإمكانية التأثير ، وهو الذي رسم للعالم المادي وغير المادي مساره ونهجه الذي ينبغي السير عليه.

الله واهب السببية وسالبها

ومن هنا يظهر أنّ الله سبحانه وتعالى في الوقت الذي يهب السببية والفاعلية للأشياء ، فيمنح الشمس القدرة على الإشعاع ، والقمر القدرة على الإضاءة ، والماء القدرة على الإنبات ، و ... هو نفسه سبحانه وتعالى قادر أيضاً على سلب ذلك كلّه من العلل والأسباب الطبيعية ، فالنار التي تمتلك القدرة على إحراق الأخضر واليابس تتحول وفي طرفة عين إلى برد وسلام على إبراهيم عليه‌السلام

__________________

(١) البقرة : ٢٢.

٣٩٣

بإرادته ومشيئته سبحانه : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ* قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ). (١)

وهو سبحانه الذي يسلب البحر الكثير من خصائصه ويحوله من حالة إلى حالة أُخرى تختلف اختلافاً جوهرياً مع طبيعة الماء في الحالات الاعتيادية ، وهذا ما نشاهده في قصة نبي الله موسى عليه‌السلام حيث قال تعالى :

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ). (٢)

ومن هنا ندرك بما لا مزيد عليه أنّ الله تعالى هو واهب الأسباب فاعليتها ، وهو نفسه قادر على سلب ذلك كلّه منها.

تجلّيات أُخرى لمنح السببية والفاعلية

لقد تعلّقت الإرادة الإلهية بأن تصدر الظواهر من عللها وأسبابها الطبيعية ، ولكن قد يحدث ـ ولمصالح ما تقتضي ذلك ـ أن تصدر الظاهرة من غير مجراها الطبيعي ، وذلك فيما إذا أراد الأنبياء عليهم‌السلام إثبات أو تأكيد ارتباطهم بالسماء. فحينئذ تقع على أيديهم ما يصطلح عليه عنوان «المعجزة».

ولا ريب أنّ معاجز الأنبياء ـ وبلا استثناء ـ تسير من خلال هذا الطريق ، فمن المسلّم أنّ تحوّل العصا إلى ثعبان مبين ، وانفلاق البحر بضربه بالعصا ، أو إعادة البصر إلى الأكمه وشفاء الأمراض المستعصية و ... كلّ ذلك في الواقع وليد

__________________

(١) الأنبياء : ٦٨ ـ ٦٩.

(٢) الشعراء : ٦١ ـ ٦٣.

٣٩٤

عوامل وأسباب غير طبيعية ، ولسنا هنا في صدد بيان ماهيتها.

يتّضح من خلال هذا البيان انّ الفيض الإلهي يصب على الإنسان في الأعم الأغلب من خلال الأسباب والعلل الطبيعية ، ولكن قد يصب ذلك الفيض في بعض الأحيان من غير مجراه الطبيعي ، وهذا ما يطلق عليه عنوان «المعجزة» ، وهذا فيما إذا كان الفاعل بصدد إثبات صدقه في ادّعاء النبوة وارتباطه بالسماء وعالم الغيب ، أمّا إذا لم يكن الفعل مقترناً بدعوى النبوة فحينئذ يكون من قبيل «الكرامة».

كرامتان لمريم عليها‌السلام

لقد ذكر القرآن كرامتين كبيرتين للسيدة مريم عليها‌السلام.

١. انّها عليها‌السلام كانت تجد رزقها في محراب عبادتها ، وهذا ما أشارت إليه الآية التالية :

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). (١)

٢. حينما جاءها المخاض إلى جذع النخلة تلقت النداء الإلهي (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا). (٢)

والملاحظ من الآيتين أنّ السيدة مريم عليها‌السلام كانت تتلقّى رزقها والرطب

__________________

(١) آل عمران : ٣٧.

(٢) مريم : ٢٥.

٣٩٥

الجني من غير المجاري الطبيعية ، وما ذلك إلّا لمقامها ومنزلتها الرفيعة عند الله سبحانه والروح الزكية والنفس الطاهرة التي كانت تتحلّى بها ، وهذه كرامة عظيمة لمريم عليها‌السلام ، ومن المعلوم أنّ مريم ما كانت تدّعي مقاماً ما.

إلى هنا تعرفنا على ما يتعلّق بمصطلحي : «المعجزة» ، و «الكرامة» ، ومن الحريّ بنا أن نتعرّف على مصطلح ومفهوم آخر وهو «التبرّك».

ما هو التبرّك؟

التبرّك لغة مشتق من «البركة» بمعنى الزيادة في النعمة.

وأمّا اصطلاحاً فهو : طلب الموحّدين إفاضة النعم عليهم وزيادة البركة من خلال التبرّك بالذوات الصالحة للنبي الأكرم والصالحين من عباده ، أو التبرّك بآثارهم الباقية.

وهذا لا يعني أنّ المتبرّك يسد في وجهه الطرق والأسباب الطبيعية لتحقيق مراده والأُمور التي يتوخّاها ، بل في الوقت الذي يعتمد فيه الأسباب والعلل الطبيعية ، يبقي أمامه باب التبرّك مفتوحاً ليتسنّى له من خلاله نيل الفيض الإلهي النازل من خلال هذا الطريق بالإضافة إلى الفيوضات النازلة من خلال الطرق والأسباب الطبيعية.

ومن المسلّم به أنّه لا توجد علاقة مادية بين آثار الأنبياء عليهم‌السلام والصالحين ، وبين الخيرات التي يجنيها الإنسان من خلال هذا الطريق ، ولكن ـ كما قلنا سابقاً ـ انّ الفيوضات الإلهية تارة تفاض على العباد من غير مجاريها الطبيعية حيث تتعلّق الإرادة الإلهية بأن تلبّى حاجات الإنسان المؤمن عن طريق التبرّك بشخص النبي أو الآثار المتبقية منه ، وهذه الحقيقة قد أكّدتها آيات الذكر الحكيم والروايات المتواترة ، أضف إلى ذلك أنّه لا يوجد مانع عقلي يمنع عن فاعلية آثار النبي

٣٩٦

والصالحين في تلبية حاجات الإنسان وإنجاح طلبته.

وها نحن نستعرض بعض الآيات الواردة في هذا الصدد :

١. التبرّك بمقام إبراهيم عليه‌السلام

لقد اعتبر الله سبحانه وتعالى بعض الأراضي التي لامست بدن دعاة التوحيد ، محلاً للعبادة. فعلى سبيل المثال جعل من مقام إبراهيم عليه‌السلام مصلّى ، حيث قال سبحانه :

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى). (١)

ولا ريب أنّ الصلاة نفسها لا تختلف من الناحية الجوهرية ، سواء أُقيمت في هذا المقام أو سائر نقاط المسجد ، وهذا يكشف عن أنّ المقام المذكور قد اكتسب بسبب وجود النبي إبراهيم عليه‌السلام ميزة أُخرى ، فأصبح مكاناً مباركاً ، لذلك تجد المصلّي يأتي بصلاته هناك لأجل التبرّك بذلك المكان الطاهر.

وفي موضع آخر من القرآن نجد الله سبحانه وتعالى يعتبر «المسعى» ـ وهو المسافة الواقعة بين الصفا والمروة ـ محلاً للعبادة ، وما ذلك إلّا لأنّ السيدة الطاهرة والموحّدة «هاجر» قد لامست بقدميها المباركتين هذه الأرض سبعة أشواط بحثاً عن الماء ، وليس لذلك الأمر علّة إلّا التبرّك بهذه البقعة المقدّسة التي لامست جزءاً من بدن أُمّ إسماعيل عليه وعليها‌السلام.

٢. قميص يوسف عليه‌السلام وعودة البصر إلى يعقوب

لقد عانى يعقوب عليه‌السلام ألم فراق ولده العزيز يوسف عليه‌السلام ردحاً طويلاً من

__________________

(١) البقرة : ١٢٥.

٣٩٧

الزمن ، ولقد بكاه طوال تلك المدّة حتّى فقد بصره إلى الدرجة التي وصفه فيها الذكر الحكيم بقوله : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ). (١)

فشاءت الإرادة الإلهية أن يعود إلى يعقوب بصره عن طريق قميص ولده يوسف عليه‌السلام حيث قال تعالى على لسان يوسف عليه‌السلام : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً). (٢)

ولا ريب أنّ قميص يوسف عليه‌السلام لا يختلف من الناحية المادية أو من ناحية الشكل عن غيره ، ولكن تعلّقت الإرادة الإلهية بأن يصدر الفيض الإلهي إلى عبده يعقوب من خلال هذا الطريق ، وقد صرّح القرآن الكريم بهذه الحقيقة حيث قال سبحانه :

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً). (٣)

٣. تابوت بني إسرائيل والسكينة

لقد وضع موسى عليه‌السلام وفي الأيام الأخيرة من عمره الشريف ، الألواح المقدّسة التي تحتوي على شريعته عليه‌السلام ، ودرعه وسلاحه وآثاره الأُخرى في صندوق ، وجعل الصندوق عند وصيّه «يوشع بن نون» ، ومن هنا اكتسب هذا الصندوق أهمية كبرى لدى بني إسرائيل ، فكانوا يحملونه معهم أثناء الحروب التي تقع بينهم وبين خصومهم متبرّكين به ، ومستنزلين النصر من الله عن طريقه ، وكانوا يعيشون حياة عزيزة ما دام ذلك الصندوق المبارك بين ظهرانيهم ، ولكن لمّا دبّ فيهم الضعف الديني ، وقلّ تأثير الوازع الأخلاقي في أوساطهم ، تمكّن خصومهم من

__________________

(١) يوسف : ٨٤.

(٢) يوسف : ٩٣.

(٣) يوسف : ٩٦.

٣٩٨

هزيمتهم والتغلّب عليهم ، وتمكّنوا كذلك من نهب ذلك الصندوق المبارك.

ولمّا اختار الله سبحانه ـ بعد فترة من الزمن ـ طالوت ملكاً وقائداً لبني إسرائيل ، قال لهم نبيّهم : إنّ آية صدقه وكونه قائداً منصباً من قبله سبحانه هو أن يأتيكم ذلك الصندوق ، ولقد أشار الذكر الحكيم إلى ذلك بقوله سبحانه :

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (١)

والإمعان في الآية المباركة يكشف أنّ القرآن الكريم ينقل لنا على لسان نبيه ، تبرّك بني إسرائيل بذلك الصندوق ويؤكّد كذلك مدى قيمته وشرفه بحيث تحمله الملائكة ، وحينئذ نتساءل لو كان هذا العمل مخالفاً لأُصول التوحيد ومتعارضاً معها ، فكيف يا ترى جاز لذلك النبي أن يلقي إليهم الخبر على نحو البشرى؟!!

٤. التبرّك بمقام أصحاب الكهف

حين اكتشف المؤمنون والموحّدون المكان الذي اختفى فيه الفتية «أصحاب الكهف» فأخذوا يتداولون الأمر بينهم ما ذا نعمل؟ فكان إطباق الجميع واتّفاقهم على أن يبنوا على قبورهم مسجداً ليكون محلاً للعبادة وللتبرّك بالعبادة إلى جنب تلك الأجساد الطاهرة ، ولقد نقل لنا القرآن الكريم هذه الحقيقة بقوله سبحانه :

(قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً). (٢)

__________________

(١) البقرة : ٢٤٨.

(٢) الكهف : ٢١.

٣٩٩

قال المفسّرون : إنّ الهدف من بناء المسجد هو إقامة الصلاة والتبرّك بأجسادهم الطاهرة.

إلى هنا نكتفي بهذه الآيات الأربع ، والتي يكشف الإمعان فيها عن حقيقة واضحة وترشدنا إلى أصل علمي وقرآني جليّ ، وهو أنّ المشيئة الإلهية قد تعلّقت بأن تفاض نعمه ومواهبه المادية والمعنوية على البشر من خلال الأسباب الطبيعية ، بلا فرق بين الأُمور المادية والمعنوية ، فعلى سبيل المثال شاءت الإرادة الإلهية أن تفاض هدايته على البشر عن طريق الأسباب الطبيعية فأرسل لهم الأنبياء مبشّرين ومنذرين.

ولكن في الوقت نفسه قد تتعلّق الإرادة الإلهية بأن يجري فيضه عن طريق الأسباب والطرق والمجاري غير الطبيعية ، وما التبرّك إلّا واحداً من تلك المجاري التي يتمسّك بها الإنسان لاستنزال الفيض الإلهي والنعم الربّانية عليه.

الغرض من التبرّك

إنّ الغرض من التبرّك يكمن في أمرين :

١. طلب الفيض المعنوي والنعم الإلهية التي قد ترد أحياناً من غير المجرى الطبيعي على الإنسان والتي أشرنا إلى نماذج منها في الصفحات السابقة.

٢. لا ريب أنّ مودة النبي الأكرم ومحبّة أهل بيته الطاهرين وأصحابه الميامين من الدساتير الإلهية التي نطق بها القرآن الكريم ونزلت بها الآيات الشريفة ، ولا ريب ـ أيضاً ـ أنّ هذه المودة وهذا الحب لا بدّ أن يتجلّى بمظاهر معيّنة ، ففي حياتهم عليهم‌السلام يتجلّى بما يقوم به التابعون المخلصون لهم ، وأمّا بعد مماتهم فيتجلّى بصور أُخرى متنوّعة ، أبرزها وأهمها إظهار الفرح والسرور في أيّام

٤٠٠