الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

الفصل الثاني عشر

طلب الشفاعة من المأذونين بالشفاعة

٣٦١
٣٦٢

طلب الشفاعة من المأذونين بالشفاعة

إنّ طلب الشفاعة من المأذونين بها من الأُمور الرائجة في أوساط المسلمين منذ عصر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإلى اليوم ، ولم يخالف في ذلك من علماء الإسلام إلّا اثنان ، هما :

١. ابن تيمية في أوائل القرن الثامن.

٢. محمد بن عبد الوهاب في النصف الثاني من القرن الثاني عشر.

فقد ذهب الرجلان إلى منع طلب الشفاعة من الشفعاء الحقيقيين في كتاب الهدية السنيّة ص ٤٢ حيث جاء فيه : ونثبت الشفاعة لنبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة ولسائر الأنبياء والملائكة والأولياء والأطفال حسبما ورد ، ونسألها من المالك لها والآذن فيها بأن نقول : اللهمّ شفّع نبيّنا محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فينا يوم القيامة ، أو اللهمّ شفّع فينا عبادك الصالحين أو ملائكتك ، أو نحو ذلك ممّا يطلب من الله لا منهم ، فلا يقال : يا رسول الله ، أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها .... (١)

وقبل أن نتعرّض لبيان ومناقشة أدلّة المانعين لطلب الشفاعة من الصالحين ، نشرع في بيان الأدلّة المجوّزة لذلك والواردة في الكتاب والسنّة :

__________________

(١) كشف الارتياب : ١٩٣ ؛ وانظر كشف الشبهات : ١٦.

٣٦٣

١. طلب الشفاعة يعني طلب الدعاء

إنّ طلب الشفاعة من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن الشفعاء الصادقين لا يعدو عن طلب الدعاء منهم لا غير ، ولا ريب أنّ دعاءهم مستجاب قطعاً بسبب قربهم المعنوي ومنزلتهم السامية ومقامهم الرفيع عند الله سبحانه ، وإذا كان دعاؤهم مستجاباً قطعاً ، فحينئذ ينعم المذنب بالمغفرة والرحمة الإلهية تحت ظل ذلك الدعاء المبارك ، ومن المعلوم أنّه لا إشكال ولا ضير في طلب الدعاء من الأخ المؤمن فضلاً عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا ما قلنا : «يا وجيهاً عند الله اشفع لنا عند الله» يعني : ادع لنا عند الله ليغفر لنا ذنوبنا ويعفو عنها.

أضف إلى ذلك أنّه قد ورد كثيراً في الكتب الحديثية استعمال لفظ «الشفاعة» بمعنى الدعاء ، حتّى أنّ الإمام البخاري في صحيحه قد استعمل لفظ «الشفاعة» بمعنى الدعاء في بابين من أبواب كتابه الصحيح ، وهما :

أ. «إذا استشفعوا إلى الإمام ليستسقي لهم لم يردّهم». (١)

ب. «إذا استشفع المشركون بالمسلمين عند القحط». (٢)

والشاهد على أنّ الشفاعة بمعنى الدعاء ، ما رواه ابن عباس عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلّا شفّعهم الله فيه». (٣)

من الواضح أنّ شفاعة هؤلاء الأربعين للميت ليس إلّا لأنّهم حال أداء

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) صحيح البخاري : ٢ / ١٩.

(٣) صحيح مسلم : ٣ / ٥٤.

٣٦٤

صلاة الميت عليه قد رفعوا أكفّهم بالدّعاء لله سبحانه طالبين منه العفو والرحمة والمغفرة له وقائلين : «اللهمّ اغفر له».

وعلى هذا الأساس إذا كانت ماهية الشفاعة وحقيقتها هو الدعاء ، فلما ذا يا ترى يكون طلب الدعاء أمراً محرماً؟!

٢. حديث أنس وطلب الشفاعة

روى الترمذي عن أنس بن مالك قال :

«سألت النبي أن يشفع لي يوم القيامة ، فقال : «أنا فاعل» ، قلت : فأين أطلبك؟ ، فقال : «على الصراط». (١)

والحديث صريح بأنّ أنس بن مالك قد طلب اعتماداً على الفطرة السليمة من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشفع له يوم القيامة ، وفي الوقت نفسه نجد الرسول الأكرم يعده بتلبية طلبه ويعين له موعداً ، ولم يخطر ببال أنس أبداً أنّ طلب الشفاعة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نوع شرك لا بدّ من الاجتناب عنه.

٣. سواد بن قارب وطلب الشفاعة

أنشد الصحابي سواد بن قارب قصيدة بحق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب في بعض أبياتها من الرسول الأكرم أن يشفع له ، وممّا جاء فيها :

وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة

بمغن فتيلاً عن سواد بن قارب (٢)

__________________

(١) سنن الترمذي : ٤ / ٦٢١ برقم ٢٤٣٣.

(٢) الإصابة : ٢ / ٩٥ ـ ٩٦ ، رقم الترجمة ٣٥٨٣.

٣٦٥

٤. علي بن أبي طالب عليه‌السلام وطلب الشفاعة من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لمّا فرغ أمير المؤمنين عليه‌السلام من غسل وتكفين الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كشف عن وجهه ثمّ خاطبه قائلاً : «بأبي أنت وأُمّي طبت حيّاً وطبت ميّتاً ، واذكرنا عند ربّك». (١)

فإنّ العرب تستعمل جملة «اذكرني عند ربّك» في طلب الشفاعة ، وقد ورد ذلك في قصة النبي يوسف عليه‌السلام حيث طلب عليه‌السلام من صاحبه في السجن ـ ساقي الملك ـ قائلاً : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). (٢)

وفي الختام نشير إلى مسألة مهمة وهي أنّ جميع الآيات والروايات الكثيرة التي وردت في مجال التوسّل بالأنبياء والصالحين هي في حقيقتها طلب للشفاعة منهم ، فلا حاجة إلى ذكرها مرّة أُخرى هنا.

أدلّة المانعين لطلب الشفاعة

تمسّك المانعون لطلب الشفاعة بسلسلة من الأدلّة زاعمين أنّها تدلّ على حرمة طلب الشفاعة من الشفيع مباشرة ، وها نحن نستعرض تلك الأدلّة مع مناقشاتها ، وهي :

١. طلب الشفاعة شرك

إنّ المانعين لطلب الشفاعة من الشفعاء يقولون : يجب أن نقول : «اللهم

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٠.

(٢) يوسف : ٤٢.

٣٦٦

اجعلنا ممّن تناله شفاعة محمد» ولا يجوز أبداً أن نقول : «يا محمد اشفع لنا عند الله».

ثمّ يقولون : صحيح انّ الله تعالى قد منح محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقام الشفاعة ،

ولكنّنا منعنا من طلبها منه مباشرة ، وأمرنا بأن نطلبها من الله تعالى بأن يشفّع نبيّه فينا.

جواب الشبهة

إنّ الذكر الحكيم يشهد بأنّ هناك طائفة من المؤمنين الموحّدين من الذين ساروا خطوات واسعة على الطريق القويم والعبودية وشهدوا بالحق ، يمتلكون مقام الشفاعة يوم القيامة ويشفعون للمذنبين بإذنه سبحانه وتعالى ، ومن تلك الآيات قوله تعالى :

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). (١)

ومن الواضح انّ أداة الاستثناء «إلّا» الواردة في الآية تشهد بأنّ الشهداء بالحقّ يمتلكون الشفاعة.

علماً أنّ المراد من مالكية الشفاعة هنا هو المالكية المأذون بها من قبله سبحانه وتعالى ، وحينئذ يطرح السؤال التالي : إذا كان الله سبحانه وتعالى قد منح بعض عباده الصالحين هذا المقام ـ مقام الشفاعة ـ فما المانع في أن يطلب المذنبون من هؤلاء الشفاعة بصورة مباشرة؟

وبالطبع أنّ طلب الشفاعة لا يلازم قبول الدعاء واستجابته ، بل أقصى ما في الأمر أنّ المأذون بالشفاعة يشفع تحت شروط خاصة ، وممّا يثير الانتباه دعوى

__________________

(١) الزخرف : ٨٦.

٣٦٧

مؤسس الوهابيّة حيث قال : ونثبت الشفاعة لنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة ولسائر الأنبياء و ... ونسألها من المالك لها والآذن فيها ... فلا يقال : يا رسول الله ، أو يا ولي الله أسألك الشفاعة أو غيرها ، لأنّنا نهينا عن ذلك. (١)

ويرد على كلامه هذا :

أوّلاً : في أيّة آية ورد النهي الذي يدّعيه صاحب المقالة المذكورة؟ هذا من جهة ، ومن جهة أُخرى إذا كان مراده أنّنا نهينا عن طلبها منهم لأنّها شرك في العبادة ، فيردّه أنّنا أثبتنا في البحوث الماضية ـ في تعريف الشرك في العبادة ـ أنّ هذا الطلب من الشفيع لا ينبع من الاعتقاد بأنّ الشفيع ربٌّ ، أو فوّض إليه فعل الرب ، بل ينبع من الاعتقاد بكونه عبداً من عباد الله قد منّ الله تعالى عليه بهذا المقام ، ومنحه تلك المنزلة ، فأيّ شرك في هذا؟!

ثانياً : أنّ المقالة المذكورة تنطوي على تناقض واضح ، فكيف يا ترى يمكن للإنسان أن يتصوّر أنّ الله سبحانه وتعالى منح طائفة من عباده هذه المنزلة والمقام لكي يتسنّى للآخرين الاستفادة منها وفي نفس الوقت ينهى عن طلبها منهم وسؤالهم إيّاها؟!

٢. طلب المشركين الشفاعة من الأصنام

الدليل الثاني الذي تمسّك به القائلون بتحريم طلب الشفاعة من الشفعاء هو :

إنّ القرآن الكريم اعتبر علّة شرك الوثنيّين في عصر الرسالة تكمن في طلبهم الشفاعة من أصنامهم وأوثانهم ، فقال تعالى :

__________________

(١) كشف الشبهات : ١٦.

٣٦٨

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ). (١)

وعلى هذا الأساس يكون طلب الشفاعة من الأنبياء أو الأولياء شركاً شبيه طلب الشفاعة من الأصنام.

ويرد على (٢) ذلك :

أوّلاً : أنّ هناك فرقاً جوهرياً بين طلب الشفاعة من الأصنام وطلبها من الأولياء الصالحين ، لأنّ طلب المشركين الشفاعة من أصنامهم ينبع من الاعتقاد بأنّ أصنامهم آلهة أو فوّض إليها فعل الإله ، والحال أنّ الموحّدين ينطلقون في طلبهم هذا من الاعتقاد بأنّ الشفعاء عباد لله أخلصوا له العبودية ، فتفضّل عليهم سبحانه ووهبهم هذه المنزلة والمقام ، فكيف يا ترى جاز اعتبار الطلبين يعودان إلى حقيقة مشتركة وجوهر واحد؟!

وثانياً : أنّ المشركين عبدوا الأصنام أوّلاً ثمّ طلبوا منها الشفاعة ثانياً ، وهذا ما تحكي عنه الآية المذكورة حيث قال تعالى أوّلاً : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ثمّ أردف ذلك بقوله : (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا) ، والحال أنّ الموحّدين لا يعبدون إلّا الله تعالى وحده لا شريك له ، نعم بعد الخضوع له سبحانه والإيمان به ، يطلبون الشفاعة من أوليائه الصالحين ، انطلاقاً من إذنه سبحانه وتعالى في هذا الفعل.

اتّضح من هذا البيان أنّ عطف عمل المؤمنين على المشركين واعتبارهما أمراً واحداً ، عطف لا أساس له من الصحّة ، ولا يقوم على أيّ مستند علمي أو دليل برهاني.

__________________

(١) يوسف : ١٨.

(٢) انظر كشف الشبهات : ١٤.

٣٦٩

٣. طلب الشفاعة من الميّت لغو

هذا الدليل هو آخر ما تمسّك به المانعون لطلب الشفاعة من الأولياء والصالحين.

ويرد عليه : انّنا أثبتنا في بحث الحياة البرزخية أنّ الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون ، فإذا كان الشهداء أحياءً عند ربّهم فنبيّ الشهداء من باب أولى يكون حيّاً عند ربّه ، وحينئذ لا يكون طلب الشفاعة منه لغواً ، لأنّه حي يرزق يسمع كلامنا ويرى مقامنا بإذنه سبحانه.

وعلى فرض التسليم بأنّ الأنبياء والصالحين والشهداء موتى لا يسمعون كلامنا ولا يرون مقامنا ، فحينئذ أقصى ما يستلزمه طلب الشفاعة منهم أن يُعد أمراً لغواً ، لا أنّه أمرٌ محرم كما يدّعيه أصحاب الفكر الوهابي ، والشاهد على ذلك أنّ الغريق يتمسّك بكلّ قشة للنجاة والخلاص ، ومن الواضح أنّ عمله هذا لغو لا طائل وراءه ، ومع ذلك كلّه لا تجد متعلّماً ـ فضلاً عن العالم ـ يصف الغريق بالشرك أو بارتكاب الحرام.

٣٧٠

الفصل الثالث عشر

مقامات وقدرات الأولياء

٣٧١
٣٧٢

مقامات وقدرات الأولياء

لا شكّ أنّ الإنسان قد خلق وهو يحمل قدرات وإمكانات محدودة ، وقد استطاع من خلال هذه القدرة المحدودة التي وهبها الله تعالى له التصرّف في عالم الكون واستغلال الأسباب والعلل الطبيعية والاستعانة بها لتحقيق أغراضه ونيل مآربه وإدارة شئون حياته.

نعم إنّ هناك ثلّة من عباد الله المخلصين توفّروا على قدرات أوسع وإمكانيات أكثر بحيث استطاعوا من خلالها القيام بأعمال يعجز عنها أبناء النوع الإنساني. ولتحصيل هذا النوع من القدرات والإمكانات الواسعة والخارقة للعادة يوجد طريقان ، هما :

١. ممارسة الرياضات الصعبة

إنّ عدم الالتفات وعدم الاعتناء بالجسد عامل مهم في تنمية وإعداد القدرات الروحية الكامنة في الإنسان ، وكأنّه يوجد تضاد بين الاعتناء والاهتمام الكامل بين (قوى الجسم وقوى الروح) بمعنى كلّما زاد اهتمام الإنسان بتنمية الجسم وإعداده ، وغرق في بحر اللّذات الجسمية والشهوات المادية كلّما ابتعد عن العنصر المعنوي والروحي ، فلم يبق مجال لإعداد وإنماء وإكمال القوى الروحية

٣٧٣

والمعنوية ، وعلى العكس من ذلك كلّما قلّل الاهتمام بالعنصر المادي والتعلّقات الجسمانيّة واللذائذ والشهوات البدنية والتفت إلى العمق الروحي وغاص في المعاني الروحية والقيم المعنوية ، استطاع أن ينمي القوى والطاقات الباطنية الكامنة ويظهرها إلى العيان ، واستطاع أن يضفي على قدراته وإمكاناته قدرات وإمكانات أوسع وأشمل.

إنّ المرتاضين وتحت تأثير الرياضات الشديدة والأعمال الشاقة التي يقومون بها ـ والمحرمة شرعاً ـ استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من القيود والتعلّقات الجسمانية والمادية ، ولا ريب أنّ تلك الرياضات بدرجة من الشدّة والتعذيب للروح بحيث يستحيل على الإنسان العادي تحملها والقيام بها ، بل المرتاض نفسه يطوي طريق الرياضة بصورة تدريجية ويخطو خطوات متتالية إلى أن يصل في نهاية المطاف إلى النتيجة التي يسعى إليها.

ولا شكّ أنّ هذا المنهج ـ الذي يقوم على قطع العلاقات والميول والشهوات المادية والتسلّط على القوى الباطنيّة والاستعدادات الروحية من خلال هذا الطريق الوعر ـ يُعدّ أمراً مخالفاً للفطرة الإنسانية والقوانين الإسلامية المسلّمة ، لأنّه نوع اضرار وتعذيب للروح والبدن وفي الحقيقة هو «رهبانية مسيحية» نهى عنها الإسلام ووقف في وجهها.

٢. سلوك طريق العبودية

إنّ الطريق الصحيح والأُسلوب الأمثل لتكامل الروح ورقي النفس يكمن في الالتزام بالتعاليم والإرشادات الإسلامية وطي طريق العبودية المستقيم لله سبحانه ، والعمل وفقاً للأوامر والتشريعات الإلهية التي عيّنتها وحدّدتها السماء ،

٣٧٤

وذلك لأنّ العبادات والوظائف الظاهرية ليست هي المرادة والمقصودة بالذات للشارع المقدّس ، وإذا ما أمر بها الإسلام وطالب بالقيام بها وتنفيذها ، فإنّ غرضه هو تحقيق الفوائد والآثار التي تعود على الإنسان من خلالها ، والتقرّب من الله والزلفى لديه سبحانه التي تنتج من خلال القيام بامتثالها ، وكذلك التكامل الروحي الحاصل من ورائها ، فالإنسان المؤمن ومنذ الخطوات الأُولى التي يخطوها في طريق امتثال الأوامر والدساتير الإلهية يكون ـ وبصورة قهرية ـ قد وضع قدمه على طريق التكامل الروحي والاستعداد المعنوي وتنمية الفضائل والملكات الباطنية.

ولا ريب أنّه ليس كلّ من سلك ذلك الطريق قد وصل إلى ذروة الكمال الروحي والمعنوي فيه ، بل الناس فيه مختلفون والمقامات متفاوتة ، وذلك لأنّ القضية ترتبط طردياً بدرجة الانقطاع والعبودية والإخلاص لله سبحانه وتعالى ومن المسلّم به أنّ الناس ليسوا على وتيرة واحدة في الإيمان والطاعة والإخلاص قطعاً.

ولقد وصف الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقامات والمنازل العالية لسالكي طريق الحقّ والعبودية ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضتُ عليه ، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يُبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينّه ، ولئن استعاذني لأعيذنّه». (١)

إنّ الإمعان في الحديث يكشف عن عمق العظمة والكمال المعنوي والروحي الذي يصل إليه الإنسان من خلال سلوك طريق العبودية لله سبحانه

__________________

(١) صحيح البخاري : ٨ / ١٣١ ، باب ما جاء في الزكاة ؛ ونقله في الكافي : ٢ / ٣٥٢ باختلاف يسير.

٣٧٥

وأداء الواجبات والقيام بالنوافل على أكمل وجه إلى الحدّ الذي يصبح فيه المؤمن ـ اعتماداً على قدرته تعالى ـ يسمع ما لم يسمعه الإنسان العادي ، ويرى من الأشباح والصور ما لا يراه الإنسان العادي أيضاً. وهكذا يتحقّق له كلّ ما يريده ويرومه.

وبلا أدنى ترديد يكون المراد من قوله : «كنت سمعه وبصره و ...» هو انّ الإنسان المؤمن وفي ظل القدرة الإلهية يتوفر على بصيرة أنفذ وقدرة أوسع.

ومن الواضح أيضاً من الحديث الشريف أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يرى في الإنسان قدرات عجيبة ومحيّرة يحصل عليها من خلال سلوك طريق العبودية والتعمّق في المعارف الإلهية الصحيحة والأساليب السليمة.

إذا عرفنا ذلك نشير إلى بعض الآثار العجيبة للعبودية لله سبحانه ، والسير في ذلك الطريق المستقيم.

١. الهيمنة والتسلّط على النفس

إنّ الأثر والثمرة الأُولى لسلوك طريق العبودية يتمثّل في سيطرة الإنسان وهيمنته على نفسه وميولها ورغباتها النفسية ، بحيث يصبح ذا ولاية عليها ، وبالنتيجة يكبح جماح «النفس الأمّارة» ، ويصل إلى درجة من الرقي المعنوي والكمال الروحي بنحو يكون زمام أُمور «نفسه الأمّارة» بيده ، وهذه المرحلة التي يصل إليها الإنسان يطلق عليها عنوان «الولاية على النفس».

ولقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى هذه المرحلة ، حيث قال سبحانه :

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ). (١)

__________________

(١) العنكبوت : ٤٥.

٣٧٦

يعني أنّ الصلاة تخلق في الإنسان حالة معنوية عظيمة ، حيث تُوجد فيه حالة المصونية عن الذنب وارتكاب الفحشاء والمنكر.

٢. الرؤية النافذة

من خصائص العبودية لله انّ الإنسان يحصل من خلالها على بصيرة نافذة ورؤية حادّة ، وصفاء خاص بحيث يستطيع أن يميّز بين الحق والباطل بسهولة ويسر ، ويحصل أيضاً على نوع من المصونية عن الوقوع في الضلال والانحراف.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً). (١)

والمراد من الفرقان هو تلك الرؤية النافذة التي تُمكّن الإنسان من التمييز بين الحق والباطل.

وفي آية أُخرى يقول سبحانه :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا). (٢)

وفي آية ثالثة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ). (٣)

فإنّ مفاد هذه الآية أنّ ثمرة التقوى والإيمان في هذا العالم هي البصيرة والوضوح ، وسوقه نحو الطهر والتزكية.

__________________

(١) الأنفال : ٢٩.

(٢) العنكبوت : ٦٩.

(٣) الحديد : ٢٨.

٣٧٧

٣. الهيمنة على الأفكار المتشتّتة

من الأُمور التي يطمح إليها الإنسان المؤمن والآمال التي يرنو إليها هو الهيمنة على قواه العقلية وصبّها على مركز واحد حال العبادة ، وهذا المركز هو التوجّه المطلق إلى الله تعالى والابتعاد عمّا سواه ، ولا ريب أنّ هناك الكثير من الناس ممّن يفتقدون الحضور القلبي تجدهم يذهبون يميناً وشمالاً ، وتسرح أذهانهم وأفكارهم هنا وهناك حال الصلاة وحال القيام بالعبادات الأُخرى كالدعاء وتلاوة القرآن وغير ذلك. وما ذلك إلّا لأنّهم لم يهيمنوا على القوّة الخيالية ولم تكن لديهم الولاية عليها ، ومن هنا لا يستطيعون أن يأتوا بصلاة واحدة ذات أربع ركعات من دون أن تسرح مخيلتهم هنا وهناك ، ومن هنا تجدهم في حقيقة الأمر يقفون للعبادة مجرّد هياكل بدنية فقط فأمّا الروح فسارحة مع خيالها الخاص بها بعيداً عن أجواء العبادة.

٤. تحرير الروح عن البدن

إنّ العلاقة بين الروح والبدن في عالم الطبيعة علاقة وثيقة وأنّ أحدهما بحاجة ماسة إلى الآخر ، فالروح مهمتها تدبير البدن وحفظه من الفساد والخراب فالبدن محتاج إليها ، ولكن من جهة أُخرى نجد أنّ الروح هي الأُخرى بحاجة إلى البدن لتنفيذ ما ترومه الروح والقيام بالنشاطات التي تبتغيها من خلال الأعضاء والجوارح المادية ، فالروح تسمع من خلال الأُذن وتبصر من خلال العين وهكذا ....

ولكن قد تتحرر الروح من البدن بسبب التكامل والقدرات المعنوية التي تحصل عليها عن طريق العبادة والخضوع للحق تعالى ، الأمر الذي يصحّ أن يطلق

٣٧٨

عليه عنوان «خلع البدن».

وليس من السهل تصوّر هذا الأمر بالنسبة إلى الناس العاديين الذين ينظرون إلى الحياة من بعدها المادي فقط ، ولكنّه سهل جداً على المؤمنين الذين سلكوا طريق العبودية والعروج الروحي ، فإنّ بإمكانهم متى شاءوا خلع البدن المادي والتحرر منه فعلوا ذلك بقدرته وتمكينه تعالى.

ولقد شاهدنا في حياتنا نماذج من تلك الشخصيات التي تمتلك تلك الصفة الكمالية العالية.

٥. مشاهدة الأجسام اللطيفة

من الثمار التي يجنيها الإنسان المؤمن والناتجة من القرب الإلهي والسمو المعنوي هو التمكّن من مشاهدة الأجسام اللطيفة والشفّافة ، فلا ريب أنّه يوجد في عالم الطبيعة أجسام لطيفة لا يمكن أن تدرك بالعين الباصرة الظاهرية ، بل تحتاج إلى حاسة أُخرى لإدراكها ومشاهدتها ، فعلى سبيل المثال يؤكّد القرآن الكريم وجود الملائكة تطير في السماء بأجنحة خاصة ، كما ورد في قوله تعالى :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). (١)

فعلى هذا الأساس يكون الملائكة موجودات جسمانية ظاهراً وذات أجنحة ، والحال أنّنا لم نتمكن من مشاهدة تلك الأجسام اللطيفة ، ولكن إذا رجعنا إلى الرؤية القرآنية نجد أنّه يؤكّد أنّ العباد الطاهرين والذوات الزكية

__________________

(١) فاطر : ١.

٣٧٩

صاحبة القرب الإلهي والسمو المعنوي يشاهدون تلك الملائكة.

بل انّ عباد الله المخلصين يتحدّثون مع تلك الأجسام فضلاً عن مشاهدتها. ولقد أشار أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى هذا المعنى في الخطبة المعروفة بالقاصعة :

«ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة وأشُمُّ ريح النبوة.

ولقد سمعت رنَّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته. إنّك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ، إلّا أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك الوزير وإنّك لعلى خير». (١)

ولقد أشار القرآن الكريم ـ من بين نساء بني إسرائيل ـ إلى مريم عليها‌السلام بأنّها كانت قادرة على رؤية الملك والحديث معه قال تعالى :

(فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا* قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا* قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا). (٢)

٦. التصرّف في عالم الخلق

إنّ الإنسان المؤمن والمنقطع لله سبحانه بالطاعة والعبودية لا أنّه يهيمن على قواه الجسمانية فقط ، بل ـ وفي ظل القدرة الإلهية ـ يتمكّن من الهيمنة على

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٩٢ ، ط صبحي الصالح.

(٢) مريم : ١٧ ـ ١٩.

٣٨٠