الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

جواب الشبهة

إنّ هذه الشبهة يثيرها من لا علم له بألف باء القرآن الكريم ، فقد أثبتنا في بحوثنا السابقة أنّه من الممكن جداً نسبة الفعل إلى الله تعالى وإلى العبد في آن واحد ، وذكرنا لذلك نماذج متعددة من القرآن الكريم من قبيل : قبض الأرواح ، كتابة الأعمال ، وغير ذلك.

وذكرنا هناك أنّه لا منافاة بين النسبتين ، لأنّ نسبة الفعل لله على نحو الاستقلال ، ونسبته إلى العبد على نحو التبعية.

فإنّه تعالى يقوم بالفعل من دون حاجة إلى الاستعانة بغيره مهما كان ذلك الغير ، والحال انّ غيره إنّما يقومون بالعمل في ظل قدرته وعونه سبحانه ، ومن هنا يكون فعل العبد في الحقيقة هو فعل الله.

وعلى هذا الأساس لا مانع من حصر الاستعانة به سبحانه ، لأنّه هو الغني والمطلق ، وفي نفس الوقت نستعين بغيره بشرط أن لا تكون تلك الاستعانة في عرض الاستعانة به سبحانه ، لأنّ غيره لا يملك حولاً ولا قوّة ليكون في عرض الله سبحانه ، بل الحقيقة أنّ تلك الاستعانة تقع في طول الاستعانة به سبحانه وهي في المآل ترجع إليه عزوجل. وعلى أساس هذه الضابطة نجد القرآن الكريم الذي يحصر الاستعانة به تعالى في قوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) هو نفسه يأمر بالاستعانة بغيره ويرشد إلى بعض الأُمور التي يمكن للإنسان الاستعانة بها ، كقوله تعالى :

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ). (١)

__________________

(١) البقرة : ٤٥.

٣٤١

وفي قصة ذي القرنين وبناء السد في وجه هجوم يأجوج ومأجوج يقول سبحانه :

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ). (١)

فلا ريب أنّ عالم الخلق عامّة والحياة الإنسانية خاصة قائمة على أساس الاستعانة بالأشياء الأُخرى ، وليس ذلك مخالفة لأصل التوحيد في الاستعانة ، وذلك لأنّ الاستعانة بغيره سبحانه تقع في شعاع وفي ظل الاستعانة بحوله وقوته التي وضعها تحت اختيار البشر.

والعجيب أنّ بعض المخالفين قد فرّق بين الأحياء والأموات ، فأباح الاستعانة بالأحياء واعتبرها أمراً جائزاً ، وأمّا الاستعانة بالأموات فذهب إلى أنّها أمر محرّم ، بل اعتبرها شركاً يجب الابتعاد عنه!!!

ويرد على ذلك أنّ العمل إذا كان شركاً في حقيقته وواقعه ، فلا أثر حينئذ للحياة وعدمها فيه أبداً ، ومن هنا لا بدّ من القول : إنّ الاستعانة بغيره سبحانه جائزة بشرط الاعتقاد بكون المعين إنّما يتحرك ويفعل في إطار قدرته وتمكينه سبحانه وتعالى له ، فلا تكون الاستعانة حينئذ شركاً ، سواء كان الطرف المعين حيّاً أو ميّتاً.

وفي الختام نشير إلى ثلاثة أُمور ، هي :

١. تواتر روايات التوسّل

إنّ روايات التوسّل والتي وردت في المصادر السنية متواترة أو قريبة من التواتر ، ومن هنا لا يمكن الخدشة في هذه الروايات عن طريق تضعيف

__________________

(١) الكهف : ٩٥.

٣٤٢

أسانيدها ، وذلك لأنّها تعرب بمجموعها عن كون التوسّل بالأرواح المقدّسة كان أمراً رائجاً بين المسلمين ، وإذا كان سند بعض تلك الروايات ـ التي أعرضنا عن ذكرها روماً للاختصار ـ ضعيفاً فلا يضرّ بالمدعى ـ جواز التوسّل ـ أبداً ، لأنّ المنهج في الأخبار المتواترة هكذا.

٢. الكتب المصنّفة حول التوسّل

لقد نالت مسألة التوسّل بالرسول الأكرم وأهل بيته والصالحين من عباد الله ، اهتماماً خاصاً من قبل كبار علماء المسلمين ، فقد تعرض لها الفقهاء والمحدّثون الذين يعتمد على أقوالهم وآرائهم قبل أن يثير ابن تيمية شبهته وبعدها ، ومن تلك المصنفات :

١. كتاب الوفا في فضائل المصطفى : لابن الجوزي (المتوفّى ٥٩٧ ه‍ ـ) ، وقد أفرد باباً حول التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وباباً حول الاستشفاء بقبره الشريف.

٢. مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام : تأليف محمد بن نعمان المالكي (المتوفّى سنة ٦٧٣ ه‍ ـ) وقد نقل السمهودي في كتاب «وفاء الوفا» ، باب التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذا الكتاب نقلاً كثيراً.

٣. البيان والاختصار : لابن داود المالكي الشاذلي ، وقد ذكر فيه توسل العلماء والصلحاء بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المحن والأزمات.

٤. شفاء السقام : لتقي الدين السبكي (المتوفّى عام ٧٥٦ ه‍ ـ) ، وقد تحدّث عن التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل تحليلي رائع من ص ١٢٠ ـ ١٣٣.

٥. وفاء الوفا لأخبار دار المصطفى : للسيد نور الدين السمهودي (المتوفّى

٣٤٣

سنة ٩١١ ه‍ ـ) وقد بحث عن التوسّل بحثاً واسعاً في الجزء الرابع من ص ٤١٣ ـ ٤١٩.

٦. المواهب اللدنية : لأبي العباس القسطلاني (المتوفّى سنة ٩٣٢ ه‍ ـ) وسيوافيك كلامه في التوسّل.

٧. شرح المواهب اللدنية : للزرقاني المالكي المصري (المتوفّى سنة ١١٢٢ ه‍ ـ) في الجزء الثامن ص ٣١٧.

٨. صلح الإخوان : للخالدي البغدادي (المتوفّى سنة ١٢٩٩ ه‍ ـ) وله أيضاً رسالة خاصة في الردّ على الآلوسي حول موضوع التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد طبعت الرسالة في سنة (١٣٠٦ ه‍ ـ).

٩. كنز المطالب : للعدوي الحمزاوي (المتوفّى سنة ١٣٠٣ ه‍ ـ).

١٠. فرقان القرآن : للعزامي الشافعي القضاعي ، وقد طبع هذا الكتاب مع كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في ١٤٠ صفحة.

أيّها القارئ الكريم : إنّ مطالعة هذه الكتب ـ وخاصة تلك التي تحدّثت بالتفصيل عن التوسّل ، ويأتي كتاب صلح الاخوان وفرقان القرآن في طليعتها ، تثبت جريان سيرة المسلمين ـ في كلّ عصر ومصر ـ على التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولنقتصر على هذا المقدار ففيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.

٣. الاختلاف بين أتباع ابن تيمية وبين الفرق الإسلامية الأُخرى

لقد حاول بعض الكتّاب المتأخّرين الإيحاء إلى القارئ الكريم بأنّ الاختلاف في مسألة التوسّل بالصالحين هي من المسائل الخلافية بين السنّة والشيعة ، قاصداً بذلك إيهام القارئ بأنّ علماء السنّة وجميع مذاهبهم مجمعين

٣٤٤

على رأي واحد مقابل الرأي الشيعي ، وهذا في الحقيقة إيحاء كاذب وإيهام تختفي وراءه أغراض وأهداف غير نزيهة ، لأنّ الحقيقة أنّ المسألة ليست من المسائل الخلافية بين الشيعة والسنّة مطلقاً ، بل المسألة في واقع الأمر هي من المسائل الخلافية بين أتباع ابن تيمية وتلميذ مدرسته محمد بن عبد الوهاب وبين المسلمين ـ شيعة وسنّة ـ ويكفي شاهداً على ما نقول المصنّفات التي ذكرناها آنفاً لكبار علماء أهل السنّة والتي ردّوا فيها على هذه المدرسة التي هي منشأ الشك والترديد في التوسّل ، ولو لا هذان الرجلان وأتباع مدرستهم لما وجدنا لهذا الاختلاف أثراً بين المدارس الإسلامية الأُخرى.

٣٤٥
٣٤٦

الفصل الحادي عشر

الشفاعة وتطهير المذنبين

٣٤٧
٣٤٨

الشفاعة وتطهير المذنبين

إنّ الشفاعة من الأُصول التي أكّدتها وصرّحت بها الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية ، وقد أطبقت جميع المذاهب والفرق الإسلامية على التسليم بها باعتبارها أصلاً من الأُصول الإسلامية المسلّمة والقطعية ، وإنّ حقيقة الشفاعة هي : انّ أولياء الله الصالحين لمنزلتهم وقربهم من الله تعالى يطلبون منه سبحانه وتعالى ـ وتحت شروط خاصة ـ التجاوز عن ذنوب المذنبين وتقصيرهم.

ولا ريب انّ أولياء الله لا يشفعون لمطلق المذنبين ، بل يشفعون لتلك الطائفة من المذنبين الذين حافظوا على الآصرة والعلاقة الإيمانية ، ولم يقطعوا علاقتهم الإيمانية والروحية بالله تعالى من جهة وبالشفعاء من جهة أُخرى.

وبعبارة أُخرى : انّهم من ناحية الكمال الروحي لم يصلوا إلى حدّ السقوط الكامل ، ولم يفقدوا طاقة الدفع والرفع الروحية ، كما لم يفقدوا إمكانية التحوّل والتبدّل من إنسان مرتكب لبعض الذنوب إلى إنسان طاهر وزكي.

ولقد ترسّخت عقيدة الشفاعة في أوساط المسلمين إلى حدّ يدركها الجاهل فضلاً عن العالم والمفكّر ، فلو سألت الجميع عنها لأجابوك بدون أيّ ترديد بأنّها من العقائد الإسلامية المسلّمة ، بل تجد وبصورة دائمة انّ الجميع يشيرون في أدعيتهم ومناجاتهم إلى الشفعاء الحقيقيين ، وعلى أقلّ تقدير تجد الجميع ينادون

٣٤٩

ربّهم في خصوص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ اجعله شافعاً ومشفّعاً» ، أو قولهم : «وابعثه اللهم المقام المحمود ...».

جريان الفيض الإلهي عن طريق الشفعاء

إنّ نظام الخلق قائم على أساس قانون العلّية والمعلولية ، وإنّ الحاجات والمتطلّبات المادية للإنسان إنّما تتوفر من خلال هذا الطريق حيث جعل الله سبحانه وتعالى في العلل والأسباب المادية القدرة على تلبية تلك المتطلّبات وسدّ تلك الحاجات ، هذا في الأُمور المادية ؛ وأمّا الفيض المعنوي فهو الآخر ليس بخارج عن هذا القانون الإلهي العام ، فالهداية والإرشاد ، والعفو والمغفرة من الفيوض الإلهية التي تخضع للقانون المذكور.

فعلى سبيل المثال : لقد تعلّقت الإرادة الإلهية بأن تكون إفاضة الهداية في العالم على الإنسان عن طريق الأنبياء ، لأنّ الأنبياء هم الذين تنحصر فيهم الجدارة واللياقة في تلقّي الخطاب المباشر من قبله سبحانه.

وعلى هذا الأساس لا مانع من القول : إنّ المغفرة والرحمة الإلهية في عالم الآخرة هي الأُخرى خاضعة لنفس القانون ، بمعنى إيصال الرحمة والعفو والمغفرة والتجاوز عن المذنبين ـ الذين يليق بهم أن يشملهم العفو والمغفرة الإلهية ـ عن طريق الأرواح الطاهرة ، والنفوس الزكية ، شبيه ما كان من أمر الهداية والإرشاد في الحياة الدنيا ، فكما كانت الهداية تفاض عن طريق الأنبياء فهنا تفاض الرحمة عن طريقهم أيضاً.

صحيح انّ هذا الفيض من الممكن أن يفاض على المذنبين ـ في الآخرة ـ بصورة مباشرة ومن دون وساطة ولكن شاءت الإرادة الإلهية الحكيمة وتعلّقت بأن

٣٥٠

يكون الفيض المعنوي في عالم الآخرة ، مثل عالم الدنيا يمر عبر قانون الأسباب والمسببات وعلى يد أفراد خاصّين ، لأنّ أولياء الله وعباده الصالحين والملائكة المقرّبين وحملة العرش ، كلّ هؤلاء قد بذلوا عمراً في طاعته سبحانه ، وخطوا خطوات واسعة في طريق العبودية والتذلّل والخشوع له سبحانه ، استحقّوا خلالها التكريم والاحترام ، ولا ريب أنّ إحدى مظاهر التكريم والاحترام لهم تتمثّل في قبول دعائهم ـ تحت شروط خاصة ـ في حقّ المذنبين والمقصرين من عباد الله.

ومن الواضح أنّ القول بالشفاعة لا يعني أنّ أولياء الله يشفعون من دون أيّ قيد أو شرط وبلا رعاية أيّة ضابطة أو قانون ، وكذلك لا يعني القول بالشفاعة أنّ الشفعاء يملكون مقام الشفاعة بالذات ، بل انّ زمام الأُمور يوم القيامة بيده سبحانه ، ووصف (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) من مختصّاته سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحد مهما كانت منزلته.

نعم ، انّ هذا المالك المطلق أذن لأوليائه من ذوي المنزلة والمقام والقرب منه بالقيام بذلك الفعل والتصرّف ، أعني : الشفاعة.

الشفاعة نوع من التطهير والتنقية

اعتبر القرآن الكريم انّ الموت ليس نهاية الحياة ، بل هو بمنزلة النافذة التي تطل بالإنسان على حياة أُخرى وعالم أوسع وأرحب هو عالم البرزخ ، والذي تختلف فيه الحياة عن الحياة الدنيا بصورة تامّة ، فهناك طائفة معذّبة ، وطائفة تعيش في النعيم والرفاه الإلهي.

وهناك طائفة من المذنبين ممّن حافظوا على العلاقة الإيمانية بالله سبحانه من جهة ، ولم يقطعوا تلك الرابطة وذلك الحبل ، وكذلك حافظوا على علاقتهم المعنوية مع الشفعاء والصالحين ، فإنّ هؤلاء يتعرّضون للعذاب في الحياة البرزخية

٣٥١

لينالوا إلى حدّ ما جزاء أعمالهم التي اقترفوها في الحياة الدنيا ، وهذا الجزاء والعذاب هو في الحقيقة نوع تصفية وتطهير لنفوسهم من بعض تبعات الذنوب ، ولكنّهم حينما يقفون على أعتاب المحشر ، يقفون وقد طهرت نفوسهم نسبيّاً من الذنوب بسبب ما تعرضوا له من العذاب في الحياة البرزخية ، ممّا يجعلهم جديرين بأن تشملهم المغفرة والرحمة الإلهية ، ومن هنا يأتي دور الشفعاء والشفاعة لتطهّرهم ممّا بقي من آثار تلك الذنوب ، وبذلك تكون حقيقة الشفاعة هي التطهير والتنقية الكاملة من تبعات وعوارض الذنوب وصقل الروح وتصفيتها من آثار الذنوب بصورة تامّة.

الفرق بين الشفاعة والوساطة الدنيوية

يتصوّر البعض ـ وتحت تأثير الدعايات المغرضة وتبليغ الجاهلين ـ انّ الشفاعة تشبه الوساطة الدنيوية ، وبعبارة أُخرى : هي نوع وساطة حزبية ، وانّها تعدّ نوعاً من أنواع مخالفة القانون والالتفاف عليه ، ومن أجل قلع تلك الشبهة من الأذهان ينبغي التركيز على بيان الفوارق الأساسية بين الشفاعة وبين الوساطة الدنيوية.

فنقول : إنّ التفاوت بين الحالتين يكمن في ثلاث نقاط ، هي :

١. في الشفاعة الأُخروية يكون زمام الأُمور بيد الله سبحانه ، ولم تخرج الأُمور من يده ، بل هو الذي ينتخب الشفعاء ممّن توفرت فيهم اللياقة والكمال بحيث وصلوا إلى درجة من التقوى والمقام والمنزلة تجعلهم لائقين لهذا المنصب الإلهي ، فحينئذ يمنحهم الله سبحانه وتعالى ذلك ، ويجعل فيض رحمته وغفرانه يجري من خلال طريقهم ليفاض على بعض المذنبين والعاصين وتحت شروط خاصة ،

٣٥٢

والحال أنّ الوساطة والشفاعة في الحياة الدنيا تختلف مع ذلك اختلافاً أساسياً ، وذلك لأنّ المذنب والمجرم هو الذي يتصدى لاختيار وانتخاب الشفيع والواسطة ، ولو لم يتحرّك المجرم ويسعى لانتخاب الواسطة والشفيع لما خطر في بال الشفيع أن يتوسّط أو يشفع له عند خصومه ، فإذا ما دعا القرآن الكريم المذنبين في هذه الدنيا بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١) ، فلا ريب أنّ هذا الأمر والدستور الإلهي صدر منه سبحانه بصورة مباشرة ، ولو لا أن يأذن هو بذلك لما توجّه المسلمون نحو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه الاستغفار والتوبة ، وعلى فرض أنّهم ذهبوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبوا منه ذلك ، لا شكّ أنّه لا أثر لذلك الذهاب ولتلك الدعوة ما دام الله سبحانه وتعالى لم يأمر بها أو يأذن باستعمالها. وهكذا الكلام في الشفاعة في الدار الآخرة.

٢. في الشفاعة الصحيحة يكون الشفيع خاضعاً للأمر الإلهي وواقعاً تحت تأثير المقام الربوبي ، وأمّا في الشفاعة الباطلة يكون صاحب القدرة والمقام الحكومي مثلاً واقعاً تحت تأثير كلام وإرادة الشفيع ، كما أنّ الشفيع نفسه هو الآخر واقع تحت تأثير وإلحاح وإصرار المجرم ، ومن الواضح أنّ هذا فرق أساسي بين الشفاعتين لا يمكن التغافل عنه.

٣. في الشفاعة الدنيوية يحدث تمييز في القانون بحيث يستطيع الشفيع أن يتغلب على إرادة المقنّن أو المنفذ للقانون ، وبالنتيجة تنحصر سلطة المقنن وقدرته على الضعفاء والفقراء والعاجزين فقط ، ممّن لا حول لهم ولا قوّة ، والحال أنّ الأمر في الشفاعة الأُخروية يختلف عن ذلك اختلافاً جوهرياً فلا يوجد أحد

__________________

(١) النساء : ٦٤.

٣٥٣

مهما كان يستطيع أن يفرض إرادته على إرادة الله سبحانه ، أو يقف أمام القانون الإلهي ، بل انّ حقيقة الشفاعة في الآخرة تستمد وجودها من الرحمة الإلهية الواسعة والمغفرة اللامحدودة والعطف اللامتناهي لله سبحانه ليشمل بذلك كلّه الأفراد الذين استحقوا التطهير والتنزيه من توابع الذنب والرجس.

وأمّا الّذين يحرمون من الفوز بتلك الرحمة الإلهية ، فلا يعني ذلك الحرمان انّ هناك عملية تمييز في القانون وتفضيل لطائفة على طائفة من دون أيّة مبررات عقلائيّة ، بل انّ حرمانهم ذلك نابع من كونهم غير جديرين بأن تشملهم الرحمة والمغفرة الإلهية بسبب فداحة المعاصي وعظم الذنوب وقطعهم للعلاقة الإيمانية مع الله من جهة ومع الشفعاء من جهة أُخرى.

وبعبارة أُخرى : ليست الرحمة الإلهية محدودة كخزانة التاجر أو البنك بحيث تنفد ولا يبقى منها شيء ليعطى للآخرين رغم استحقاقهم لذلك ، بل رحمته واسعة وغير محدودة فلا تنفد خزائن رحمته ، ولكن المشكلة في أنّ المجرم نفسه لا يستحق أن تفاض عليه تلك الرحمة.

فإذا ما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، (١) فما ذلك إلّا لأنّ قلب المشرك كمثل الإناء المغلق بحيث لو ألقيته في سبعة أبحر لما نفذت فيه قطرة من الماء أبداً ، أو مثله كمثل الأرض المالحة التي لا ينبت فيها إثر هطول الأمطار ـ مهما كثرت ـ إلّا الأشواك والنباتات غير النافعة للإنسان والحيوان.

وإذا ما وجدنا القرآن الكريم يؤكد أنّ الشفاعة لا تكون إلّا من نصيب من ارتضى الله شفاعته كما في قوله تعالى :

__________________

(١) النساء : ٤٨ و ١١٦.

٣٥٤

(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى). (١)

فما ذلك إلّا لأنّه سبحانه وتعالى يعلم من هو اللائق والجدير بأن تشمله الرحمة الإلهية ويعمّه هذا الفيض المعنوي الإلهي ، ويعلم من هو غير الجدير بذلك.

ولا يختص الحرمان من تلك النعمة والفيض الإلهي بالمشركين فقط ، بل هناك طائفة من العاصين الذين تلطّخت أيديهم بالجريمة وأُوغلوا في المعاصي والذنوب والخطايا ، هؤلاء أيضاً لا يشملهم الفيض الإلهي والرحمة الإلهية الواسعة ولا يعمّهم لطفه سبحانه.

الشفاعة في القرآن الكريم

لقد وردت الشفاعة في القرآن الكريم في آيات كثيرة لا يمكن عرضها في هذا البحث المختصر ، ومن هنا نكتفي بذكر بعض الآيات التي صرّحت بها مع تقييدها بشرط محدد وهو إذنه سبحانه وتعالى ، وهذه الآيات تثبت أصلاً إسلامياً قطعيّاً ، وإن كانت لا تشير إلى أسماء الشفعاء ، واكتفت بالإشارة إلى بعض صفات وشروط الشافعين.

نشرع هنا بذكر خمس آيات يكفي الإمعان فيها لإثبات أمرين أساسيّين ، هما :

الف : انّ الشفاعة يوم القيامة من الأُصول القرآنية المسلّمة.

ب : انّ هناك طائفة لها حقّ الشفاعة تتّصف بصفات خاصة.

أمّا الآيات المباركة فهي :

__________________

(١) الأنبياء : ٢٨.

٣٥٥

١. (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ). (١)

والذي يظهر من الآية المباركة أنّه لا يحق لأحد أن يشفع من دون أن يأذن الله سبحانه له ، ولكنّها في نفس الوقت تلوح بأنّ في ذلك اليوم الموعود هناك شفعاء يشفعون بإذنه تعالى.

٢. قوله تعالى : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ). (٢)

٣. وقوله عزّ من قائل : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً). (٣)

أي أنّه لا يحقّ لأحد أن يشفع إلّا تلك الطائفة التي قد وعدها سبحانه وتعالى بأن يمنحها مقام الشفاعة وقد أخذت منه سبحانه عهداً بذلك.

أضف إلى ذلك أنّ الآية تشير إلى مفهوم آخر ، وهو أنّ جميع الآلهة الباطلة لا تمتلك حق الشفاعة ، ولم يمنحها الله سبحانه وتعالى ذلك ، نعم هناك حالة استثناها القرآن الكريم وهو السيد المسيح عليه‌السلام فبالرغم من أنّه قد عُبد من قبل المسيحيّين ، إلّا أنّه تعالى قد منحه هذا المقام ، وما ذلك إلّا لأنّه عليه‌السلام كان على خط التوحيد والوحدانية والخضوع والعبودية لله تعالى.

٤. وقوله سبحانه : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً). (٤)

__________________

(١) البقرة : ٢٥٥.

(٢) يونس : ٣.

(٣) مريم : ٨٧. والمراد من (لا يملكون) هو الآلهة الباطلة التي وردت في الآية ٨١ من نفس السورة (واتخذوا من دون الله آلهة).

(٤) طه : ١٠٩.

٣٥٦

٥. قوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ). (١)

هذه مجموعة من الآيات التي تصرّح بوجود شفعاء يوم القيامة يشفعون بشروط خاصة وإن لم تصرّح بأسمائهم وسائر صفاتهم ، ولكن هناك طائفة أُخرى حدّدت أسماء بعض الشافعين ، منها :

١. شفاعة الملائكة

قال تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى). (٢)

فالآية تشير إلى أنّ الملائكة يشفعون شفاعة واقعية يوم القيامة تحت شروط خاصة.

٢. الشفاعة وصاحب المقام المحمود

لقد أكّد القرآن الكريم أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمتلك «المقام المحمود» ، ولقد فسّرت الروايات الإسلامية هذا المقام بمقام الشفاعة ، قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً). (٣)

قال الزمخشري : ومعنى المقام المحمود ، المقام الذي يحمده القائم فيه ، وكلّ من رآه وعرفه ، وهو مطلق في كلّ ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات ، وقيل المراد الشفاعة ، وهي نوع واحد ممّا يتناوله. (٤)

__________________

(١) سبأ : ٢٣.

(٢) النجم : ٢٦.

(٣) الإسراء : ٧٩.

(٤) الكشاف : ٢ / ٢٤٣.

٣٥٧

وأمّا الشيخ الطبرسي فقد قال : وقد أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشفاعة ، وهو المقام الذي يشفع فيه للناس ، وهو المقام الذي يعطى فيه لواء الحمد ، فيوضع في كفه ويجتمع تحته الأنبياء والملائكة ، فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل شافع وأوّل مشفّع. (١)

وقد تواترت الروايات الإسلامية في تفسير «المقام المحمود» بمقام الشفاعة ، فقد نقل السيوطي في «الدر المنثور» (٢) والبحراني في تفسير «البرهان» (٣) عشر روايات عن أئمّة الإسلام نعرض عن ذكرها روماً للاختصار.

٣. الرسول الأكرم وقوله تعالى : (وَلَسَوفَ يُعطيكَ ربّك فَتَرضى).

هناك آية أُخرى تحكي أنّ الله سبحانه وتعالى سوف يمنح نبيّه من النعم والعطاء حتّى يرضى حيث قال تعالى :

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى). (٤)

ومن أمعن النظر في الآيتين يجد إبهاماً في الآية الثانية من جهتين :

أوّلاً : إنّ الآية لم تبيّن زمان ومكان ذلك العطاء الإلهي ، فمن أين نعلم أنّ ظرف وزمان العطاء هو يوم القيامة؟

ثانياً : انّ الآية لم تبيّن نوع العطاء وماهيته ، فلعل المراد منه غير الشفاعة.

__________________

(١) مجمع البيان : ٣ / ٤٣٥.

(٢) تفسير الدر المنثور : ٤ / ١٩٧.

(٣) البرهان : ٤ / ٤٧٣.

(٤) الضحى : ٥ ـ ٦.

٣٥٨

أمّا الإبهام الأوّل فيرتفع بمجرّد الرجوع إلى الآية السابقة حيث كانت بصدد الحديث عن الآخرة والثناء عليها وتفضيلها على الدنيا ، ثمّ بعد ذلك أعقبت الكلام بالحديث عن العطاء الإلهي ، فقالت : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) ، وهذا الاتصال بين الآيتين شاهد صدق على أنّ زمان ومكان العطاء في عالم آخر وهو عالم الحياة الأُخرى.

ثمّ إنّ المقام السامي للرسول الأكرم والذي وصفه سبحانه به حيث قال : (رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) يقتضي أن يكون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم العصيب والموقف المهول والمرعب في مقام التفكير في مصير أُمّته ، وانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيسر ويرتاح حينما يرى الكثير من أُمّته قد شملتهم الرحمة الإلهية والمغفرة الربانية ، ومن هذا المنطلق واعتماداً على هذا الأصل سوف يرتفع الإبهام الثاني أيضاً ، وانّ المقصود من العطاء الذي يرضيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الشفاعة في أُمّته.

أضف إلى ذلك أنّ الروايات الإسلامية هي الأُخرى قد فسّرت الآية المذكورة بمقام الشفاعة. (١)

الشفاعة في السنّة

إلى هنا تمّ الحديث عن الشفاعة في القرآن الكريم ، وأمّا الروايات فكثيرة جداً بحيث لا يمكن استيعابها في هذا الفصل ، ومن هنا نكتفي بذكر بعض النماذج من تلك الروايات :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أُعطيتُ خمساً : وأُعطيتُ الشفاعة ، فادّخرتُها لأُمّتي ،

__________________

(١) انظر تفسير مجمع البيان : ٥ / ٥٠٥ ؛ وتفسير البرهان ٤ / ٤٧٣ ؛ وتفسير الدر المنثور. وقد نقل المحدّثون عن ابن عباس قوله في تفسير الآية : رضاه ان تدخل أُمّته الجنة.

٣٥٩

فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً». (١)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : «أنا أوّل شافع وأوّل مشفّع». (٢)

وفي رواية أُخرى قال أبو ذر رضي‌الله‌عنه : صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة فقرأ بآية حتّى أصبح يركع بها ويسجد بها : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، فلمّا أصبح ، قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال : إنّي سألت ربّي عزوجل الشفاعة لأُمّتي فأعطانيها ، فهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله عزوجل شيئاً». (٣)

نكتفي بهذه الباقة العطرة من الروايات ، ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه بمراجعة موسوعتنا في التفسير الموضوعي «مفاهيم القرآن» (٤) حيث أوردنا هناك ما يقارب المائة من الروايات الواردة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته تتحدّث وبوضوح عن أصل الشفاعة ، وشروط الشفعاء ، وشروط المشفوع لهم ، ونتيجة الشفاعة.

فإذا كان أصل الشفاعة ـ كما أثبتنا ـ من الأُصول المسلّمة لدى الجميع حتى ابن عبد الوهاب (٥) وأُستاذه ابن تيمية (٦) ، من هنا نمسك عنان القلم عن الخوض الزائد في هذا البحث لنعطف عنانه إلى مسألة أُخرى ، وهي المسألة التي يحرّمها الوهابيون ألا وهي :

__________________

(١) مسند أحمد : ١ / ٣٠١ ؛ سنن النسائي : ١ / ١٧٢ ؛ سنن الدارمي : ١ / ٣٢٣ وغير ذلك.

(٢) سنن الترمذي : ٥ / ٢٤٨ ؛ سنن الدارمي : ١ / ٢٦.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ١٤٩.

(٤) مفاهيم القرآن : ٤ / ٣١٥ ـ ٣٣٧.

(٥) كشف الشبهات : ١٦.

(٦) مجموعة الرسائل الكبرى : ٤٠٣.

٣٦٠