الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

وأمّا التكليف الذي يقع على عاتق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيتمثّل بالاستغفار للزائر إذا جاء إلى حضرته وطلب ذلك منه.

ثمّ إنّ الملاحظ من مجموع الآداب والسنن الخاصة بالزيارة انّها تعتبر التوسّل بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالتوسّل به في حال حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وانّه لا فرق أبداً بين الحالتين في اعتماد هذه الوسيلة للتقرّب إلى الله وطلب المغفرة منه.

ابن تيميّة وأتباعه

ذهب ابن تيمية وأتباعه إلى التفريق بين طلب الدعاء في حال الحياة فقالوا بجواز ذلك وبين طلبه بعد وفاته فقالوا بحرمته ، قال الآلوسي في تفسير قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) : وتحقيق الكلام في المقام أنّ الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شكّ في جوازه إن كان المطلوب منه حيّاً ، وأمّا إذا كان المطلوب منه ميّتاً أو غائباً فلا يستريب عالم أنّه غير جائز وانّه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف. (١)

وفي مقام الرد على هذا الكلام لا بدّ من تحديد منزلة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى الله سبحانه ، تلك المنزلة التي دعت إلى أن يحضر المذنبون لديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار عنده وطلب الاستغفار منه ، فهل هذه المنزلة وذلك المقام نابعان من الوضع الجسماني والعنصر المادي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث بمجرد انتهاء هذا العنصر بسبب الموت تنتهي جميع لوازمه وتوابعه ، أو أنّ تلك المنزلة والمقام يرتبطان بالعنصر الروحي والنفس الزكية والطهر المعنوي له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

__________________

(١) روح المعاني : ٦ / ١٢٥ والآية ٣٥ من سورة المائدة.

٣٠١

لا ريب أنّ الفرض الأوّل مخالف لحكم العقل والشرع معاً ، لأنّنا قد أثبتنا في موضوع الحياة البرزخية انّ واقع الإنسان وسموه وتكامله يكمن في روحه لا في بدنه ، وأثبتنا أيضاً انّ للروح حياة أُخرى مستمرة وخالدة وانّ الموت لا يُمثل نهاية الحياة وانعدامها ، بل هو في الحقيقة يمثّل بداية حياة جديدة أُخرى ، وعلى هذا الأساس تكون جذور منزلة الرسول الأكرم ومقامه ممتدة في عظمة روحه وكرامتها المعنوية ، وانّ هذه المنزلة وتلك العظمة والكرامة باقية بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هذه الدنيا.

كما أثبتنا أيضاً في البحوث السابقة انّ العلاقة والصلة بين الحياتين المادية والبرزخية قائمة ولم تنقطع ، وأثبتنا بالأدلّة القطعية انّ الأموات يسمعون كلامنا كما كانوا في الحياة الدنيا.

من هذا المنطلق يكون تخصيص مفاد الآية (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ...) بالحياة الدنيوية فقط ، تخصيص لا أساس له من الصحّة ولا يقوم على قواعد علمية ولا يدعمه الدليل.

وبعبارة أُخرى : نسأل المنكرين للتوسّل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله ، لما ذا لا تجوّزون ذلك؟

هل لأنّ جميع فضائله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترتبط بالعنصر المادي من حياته والتي تفنى بعروض الموت عليه ومع فناء ذلك العنصر تفنى جميع تلك الكرامات والفضائل؟!

أم لأنّ الموت في الحقيقة يمثّل نهاية حياة البشر عامة والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة بحيث لا توجد حياة أُخرى أبداً ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس بحي يرزق عند ربّه سبحانه؟!

وهل ـ على فرض الإذعان بوجود حياة أُخرى ـ انّ العلاقة بينه وبيننا

٣٠٢

انقطعت بالكامل ، ولا توجد الآن أية صلة تربط بيننا؟

ولا شكّ أنّه لا يمكن قبول الفروض الثلاثة ، وحينئذ لا بدّ من الإذعان ببقاء التوسّل بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحياتين (الدنيوية والبرزخية) على حدّ سواء.

والجدير بالذكر أنّ الشيخ خليل بن أحمد السهارنپوري قد جمع فتاوى ٧٥ عالماً من علماء أهل السنّة ، في جواز التوسّل بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ترجمها عبد الرحمن السربازي تحت عنوان «عقيدة أهل السنّة والجماعة في ردّ الوهابية» ونشرت الرسالة عام ١٣٧٠ ه‍ ـ ش. وممّا جاء فيها : عقيدتنا ـ كما هي عقيدة مشايخنا ـ انّ زيارة قبر سيد المرسلين من أكبر الطرق للتقرب إلى الله سبحانه ، وانّها تنطوي على ثواب جم ، وهي من أفضل الوسائل لنيل الدرجات السامية والمقامات الرفيعة ، وانّه يجوز التوسّل بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأولياء والصالحين والشهداء والصديقين في حال حياتهم ومماتهم على السواء. (١)

شبهات وردود

إلى هنا اتّضح وبصورة جلية جواز التوسّل بدعاء الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله ، ولكن توجد في المقام مجموعة من الشبهات التي ينبغي طرحها والرد عليها لتتضح جميع أبعاد المسألة ، ومن تلك الشبهات :

الشبهة الأُولى : طلب الدعاء من الميت يُعدّ شركاً بالله

يعتقد البعض أنّ طلب الدعاء من الإنسان الحي القادر على القيام بالدعاء أمرٌ جائز ، ولكن طلب الدعاء من الميت شرك ينبغي التحرز منه

__________________

(١) «عقائد أهل سنت وجماعت در وهابيت وبدعت» : ٨٦.

٣٠٣

والاجتناب عنه.

وحينئذ لا بدّ من بحث القضية لمعرفة هل انّ هذا التصوّر صحيح أم لا؟

جواب الشبهة

إنّ الشبهة المذكورة قائمة على اعتبار انّ طلب الدعاء من الميت يُعدّ نوعاً من العبادة له ، وحينئذ يكون من قبيل الشرك في العبادة.

ولا ريب أنّ هذا التوهّم باطل ، وذلك :

أوّلاً : إذا كان طلب الدعاء من الميت عبادة له فلا ريب يكون طلب الدعاء من الحي عبادة أيضاً ، وذلك لأنّ ماهية العمل واحدة في الحالتين ، لأنّها في الحقيقة «طلب من الغير مقترن بالخضوع» فعلى المستشكل إمّا أن يقبل بأنّ الحالتين من الشرك المحرّم ، أو ينفي الشرك عن الحالتين على السواء ، وأمّا التفريق بينهما بأن يقبل إحداهما وينفي الأُخرى فهو تفريق لا أساس له من الصحّة ولا يقوم على الدليل والبرهان.

ثانياً : انّنا قد فسّرنا العبادة في الفصل الرابع من هذا الكتاب بصورة منطقية ، وقلنا هناك إنّه ليس كلّ خضوع أو دعاء أو نداء أو طلب هو عبادة ، بل العبادة هو الخضوع المقترن باعتقاد خاص.

وبعبارة أُخرى : الخضوع أمام من يعتقد كونه ـ والعياذ بالله ـ ربّاً ، أو الاعتقاد بأنّه مخلوق ولكن فوّض إليه فعل الربّ كما يعتقد ذلك الوثنيون وعبدة الأصنام.

وأمّا الخضوع المجرّد عن هذه المعتقدات الباطلة والواهية فليس بشرك.

وبعبارة أوضح : انّ الدعاء المقترن باعتقاد كون الطرف المدعو إنساناً ذا

٣٠٤

شأن ومقام ومنزلة لدى الله سبحانه ، ومن هنا ينطلق الداعي ليتوسّل به ويطلب منه الدعاء له عند ربّه كما كان يفعل المسلمون في حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته ، فلا يُعدّ ذلك العمل مخالفاً للتوحيد والوحدانية أبداً.

الشبهة الثانية : لا جدوى في طلب الدعاء من الميت

قد يقال : إنّ طلب الدعاء من الميت العاجز عن استجابة دعاء الإنسان أمرٌ لا يجدي نفعاً ولا طائل فيه ، وحينئذ يكون طلب الدعاء منه أمراً عبثياً وحالة لغوية لا فائدة فيها.

جواب الشبهة

إنّ هذه الشبهة تنطلق من الرؤية المادية للأُمور والتي ترى أنّ الموت يمثل نهاية الحياة وليس وراء هذه الحياة الدنيا شيء ، ومن هنا فإنّ الأموات ـ وفقاً لهذه النظرية ـ يعدمون ويفنون بالكامل ، ولا معنى حينئذ للطلب من المعدوم أو مخاطبته لأنّها أُمور لغوية وعبثية لا طائل فيها.

ويتّضح جواب هذه الشبهة من الأُصول المسلّمة التي تعرضنا لبيانها في البحوث السابقة وأثبتنا فيها انّ الموت لا يمثل نهاية الحياة ، بل هو في الواقع مرحلة انتقال من حياة إلى حياة أُخرى ، وانّ الذي يتعرض للفناء هو العنصر المادي من الإنسان ، وأمّا العنصر الروحي فيبقى خالداً يحيا حياة أُخرى يطلق عليها اسم الحياة البرزخية ، فإذا كان موجوداً وحيّاً فحينئذ تصح مخاطبته وطلب الدعاء منه ، وانّه قادر بإذن الله تعالى أن يلبّي طلبنا ويستجيب دعاءنا.

٣٠٥

الشبهة الثالثة : وجود الحائل والمانع بين الأموات والأحياء

إنّ أصحاب هذه الشبهة يسلمون أنّ الموت لا يمثل نهاية الحياة وفناء الإنسان بالكامل ، بل هناك عنصر مهم من الإنسان وهو الروح ينطلق إلى عالم آخر ليعيش فيه ، ولكنّهم يرون في نفس الوقت انّ هناك حائلاً ومانعاً بين الأموات والأحياء أطلق عليه القرآن الكريم عنوان «البرزخ» حيث قال تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١) وعلى هذا الأساس لا يتسنّى للموتى أن يسمعوا دعاء الأحياء ، وإذا لم يسمعوه فما الفائدة من مخاطبة موجود لا يسمع الكلام؟!

جواب الشبهة

صحيح انّ البرزخ لغة معناه الحائل والمانع ، ولكن المقصود من المانع والحائل هنا ، هو المانع والحائل من العودة إلى الحياة الدنيا ، لا بمعنى الحائل والمانع من الارتباط والاتصال بهم ، وانّ الإمعان في الآية المباركة يوضح لنا وبجلاء المعنى المقصود من البرزخ حيث يقول تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها). (٢)

ومن الواضح أنّ الآية تشير إلى حقيقة جلية ، وهي انّ المذنبين والمجرمين حينما يأتي أحدهم الموت ويواجه المصير المحتوم الذي طالما

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٠.

(٢) المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٠٦

حاول التمرّد عليه والفرار منه ، حينئذ يعود إلى نفسه ويدرك الحقيقة ويعرف قيمة العمل الصالح في الدنيا ، فيطلب من الله تعالى أن يسمح له بالعودة وأن يرجعه إلى الحياة الدنيا ليتدارك ما فات (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (١) ، وعندئذ جاء الرد الإلهي بقوله : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ). (٢)

إذاً المراد من الحائل والمانع هنا هو الحائل والمانع عن العودة والرجوع إلى الحياة الدنيا ، ولا علاقة للآية ، بالمنع عن الارتباط ونفي الصلة بين الأحياء والأموات أبداً ، وبالنتيجة تكون هذه الشبهة واهية كسابقاتها ولا تبتني على أساس محكم ودليل قوي.

الشبهة الرابعة : النبي لا يسمع خطابنا ودعاءنا

تنطلق هذه الشبهة من الفكرة التالية : انّ القرآن الكريم حينما ذم المشركين في عدم تأثرهم بكلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته وعدم انصياعهم للحق ، وصفهم بأنّهم كالموتى ، فقال تعالى مخاطباً النبي الأكرم : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (٣) ، وفي آية أُخرى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ). (٤)

وهذا تصريح واضح من القرآن الكريم بأنّ الأصل المسلّم في أنّ الموتى لا يسمعون الخطاب ، ولذلك شبه القرآن الكريم المشركين بهم ، ومن المعلوم أنّ الآيات مطلقة تشمل جميع الموتى بما فيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هنا يمكن

__________________

(١) ص : ٣.

(٢) المؤمنون : ١٠٠.

(٣) النمل : ٨٠.

(٤) فاطر : ٢٢.

٣٠٧

القول إنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله عن هذه الدنيا هو أيضاً لا يسمع الخطاب الموجّه إليه من الإنسان الحي ، وفقاً لإطلاق الآيات المذكورة.

فإذا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمع دعاءنا وخطابنا فما هي الفائدة والثمرة من خطابه وطلب الدعاء منه؟!

جواب الشبهة

لا شكّ أنّه يوجد في كلّ عملية تمثيل أو تشبيه «وجه شبه» يدور حوله التشبيه أو التمثيل المذكور ، فحينما نشبه : زيداً بالأسد ونقول : «زيد كالأسد» ، أو «زيد أسد» فإنّ وجه الشبه هنا هو «الشجاعة» الموجود في المشبه والمشبه به.

وحينئذ لا بدّ من التركيز على هذه النقطة لنرى ما هو وجه الشبه بين المشركين والأموات ، أو بين المشبه والمشبه به في الآية؟

من المستحيل القول بأنّ وجه الشبه بينهما هو نفي السماع بصورة مطلقة ، وذلك لأنّه على فرض صحّة ذلك في الميت وانّ الميت لا يسمع مطلقاً وانّه يفتقد للقوّة السامعة ، ولكن ذلك لا يصحّ في حقّ المشركين ، لأنّ المشركين يسمعون كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلام غيره ممّن يخاطبونهم ويتكلّمون معهم ، وهذا أمر ثابت بالوجدان.

إذاً لا بدّ من القول بأنّ وجه الشبه شيء آخر وهو : نفي السماع النافع والمفيد ، بمعنى أنّه كما أنّ خطاب الميت ودعوته للقيام بالعمل الصالح لا تجدي له نفعاً ، لأنّه قد انقضى زمان العمل ، كذلك دعوة المشركين إلى الإيمان والعمل الصالح دعوة لا فائدة فيها ولا طائل وراءها ، لأنّ المشرك يفتقد

٣٠٨

كلّ المقومات الروحية التي توفر له أرضية قبول الدعوة والإذعان لها ، وحينئذ لا فائدة من مخاطبته أبداً.

وتتّضح هذه الحقيقة من خلال الآيات والروايات الكثيرة التي وردت في إطار الحديث عن الحياة البرزخية للمؤمنين والمشركين.

وبعبارة مختصرة : انّ دعوة المشركين إلى العمل الصالح كدعوة الموتى ، لا يجني صاحبها أية ثمرة من خطابه لهم ، لأنّ الميت وإن كان يسمع الخطاب ولكنّه لا يستجيب للقيام بالعمل الصالح ، لأنّه قد انقضى زمن ذلك ، وأمّا المشرك فإنّه هو الآخر لا يقوم بالعمل الصالح لا لأنّه لا يسمع ، بل لأنّه لا تتوفر فيه الأرضية المناسبة للقيام بالعمل.

والجدير بالذكر أنّ ابن قيم الجوزية تلميذ ابن تيمية فسّر الآية في كتابه «الروح» بنفس ما فسّرناها به (١) ، ولا ريب أنّ تفسيره للآية بهذا النحو يعني عدوله عن نظرية أُستاذه ومخالفته له فيها.

هذه مجموعة من الشبهات التي قد أُثيرت أو تثار حول النقطة السادسة أي التوسل بدعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله.

٧. التوسّل بذات الأنبياء والصالحين

كان الكلام في التوسّل بدعاء الأنبياء والصالحين ، بمعنى أنّ الإنسان المحتاج يتوسّل إلى الله بدعائهم ويطلب منهم أن يدعوا له بقضاء حاجته وإنجاح طلبته ، وفي الحقيقة يجعل دعاءهم وسيلته للتقرّب إلى الله تعالى.

__________________

(١) انظر كتاب الروح : ٤٥ ـ ٤٦.

٣٠٩

وأمّا البحث في هذه النقطة فيقوم على أساس التوسّل بنفس ذوات الأنبياء والصالحين وجعلهم وسيلة لاستجابة الدعاء ، والاعتماد على ما لهم من المقام والمنزلة الرفيعة عند الله سبحانه.

وبعبارة أُخرى : انّ المتوسّل يجعل تلك الذوات الطاهرة والنفوس الزكية والشخصيات المثالية واسطة بينه وبين ربّه ويتقرّب إلى الله بحرمتهم ومقامهم المعنوي ، لأنّه يعلم أنّ لهم منزلة ومقاماً عند ربّهم ، ولهذا التوسّل صور ، منها :

اللهمّ إنّي أتوسّل إليك بخاصة أوليائك.

اللهمّ إنّي أتوسّل إليك بمقام ومنزلة أوليائك.

اللهمّ إنّي أتوسّل إليك بنبيّك الأكرم وأهل بيته الطاهرين.

ففي هذه التوسّلات يجعل المتوسّل الواسطة للتقرّب بينه وبين ربّه نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأولياء والصالحين ، وهذا النوع من التوسّل بالإضافة إلى رواجه وشيوعه في الأوساط العلمية ، توجد هناك رواية صحيحة تحت عنوان «حديث الضرير» رواها المخالفون وأذعنوا بصحّتها.

توسّل الضرير بنبي الرحمة

عن عثمان بن حنيف أنّه قال : إنّ رجلاً ضريراً أتى النبيّ فقال : ادع الله أن يعافيني فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن شئت دعوتُ وإن شئت صبرت وهو خير».

قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضّأ فيُحسن وضوءه ويصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي لتُقضى ، اللهم شفعه فيَّ».

٣١٠

قال ابن حنيف : فو الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضرّ. (١)

إنّ الاستدلال بالرواية مبني على صحّتها سنداً وتمامية دلالتها مضموناً.

أمّا الأوّل : فلم يناقش في صحّتها إلّا الجاهل بعلم الرجال ، حتّى أنّ ابن تيمية (٢) اعترف بصحّة الحديث حيث قال : قد روى الترمذي حديثاً صحيحاً عن النبي أنّه علّم رجلاً أن يدعو فيقول : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك.

وروى النسائي نحو هذا الدعاء.

وقال الترمذي : هذا حديث حق حسن صحيح ، وقال ابن ماجة : هذا حديث صحيح.

وقال الرفاعي : لا شكّ أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور. (٣)

وبعد ذلك فلم يبق لأحد التشكيك في صحّة سند الحديث إنّما الكلام في دلالته ، وإليك البيان :

إنّ الحديث يدلّ بوضوح على أنّ الأعمى توسّل بذات النبي بتعليم منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأعمى وإن طلب الدعاء من النبي الأكرم في بدء الأمر ، إلّا أنّ النبي علّمه دعاءً تضمّن التوسّل بذات النبي ، وهذا هو المهم في تبيين معنى الحديث.

وبعبارة ثانية : أنّ الذي لا ينكر عند الإمعان في الحديث أمران :

الأوّل : أنّ الرجل طلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدعاء ولم يظهر منه توسّل بذات

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٢٢٩ ، كتاب الدعوات ، الباب ١١٩ ، برقم ٣٦٥٩ ؛ سنن ابن ماجة : ١ / ٤٤١ ، برقم ١٣٨٥ ؛ مسند أحمد : ٤ / ١٣٨ ، إلى غير ذلك من المصادر.

(٢) مجموعة الرسائل والمسائل : ١ / ١٣.

(٣) التوصّل إلى حقيقة التوسّل : ١٥٨.

٣١١

النبي.

الثاني : أنّ الدعاء الذي علّمه النبي ، تضمّن التوسّل بذات النبي بالصراحة التامّة ، فيكون ذلك دليلاً على جواز التوسّل بالذات.

وإليك الجمل والعبارات التي هي صريحة في المقصود :

١. اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك

إنّ كلمة «نبيّك» متعلّقة بفعلين ، هما : «أسألك» و «أتوجّه إليك» ، والمراد من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه القدسية وشخصيته الكريمة لا دعاؤه.

وتقدير كلمة «دعاء» قبل لفظ «بنبيك» حتّى يكون المراد هو «أسألك بدعاء نبيّك ، أو أتوجّه إليك بدعاء نبيّك» تحكّم وتقدير بلا دليل ، وتأويل بدون مبرّر ، ولو أنّ محدثاً ارتكب مثله في غير هذا الحديث لرموه بالجهمية والقدريّة.

٢. محمد نبي الرحمة

لكي يتّضح أنّ المقصود هو السؤال من الله بواسطة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشخصيته فقد جاءت بعد كلمة «نبيك» جملة «محمد نبي الرحمة» لكي يتّضح نوع التوسّل والمتوسّل به بأكثر ما يمكن.

٣. يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي

إنّ جملة «يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي» تدلّ على أنّ الرجل الضرير ـ حسب تعليم الرسول ـ اتّخذ النبي نفسه ، وسيلة في دعائه أي أنّه توسّل بذات النبي لا بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٣١٢

٤. وشفّعه في

إنّ قوله : «وشفّعه في» معناه يا رب اجعل النبي شفيعي ، وتقبّل شفاعته في حقّي ، وليس معناه تقبل دعاءه في حقّي ، فإنّه لم يرد في الحديث أنّ النبي دعا بنفسه حتّى يكون معنى هذه الجملة : استجب دعاءه في حقّي ، ولو كان هناك دعاء من النبي لذكره الراوي ؛ إذ ليس دعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأُمور غير المهمة حتّى يتسامح الراوي في حقّه. وحتّى لو فرضنا أنّ معناه «تقبّل دعاءه في حقّي» فلا يضر ذلك بالمقصود أيضاً ، إذ يكون على هذا الفرض هناك دعاءان : دعاء الرسول ولم يُنقل لفظه ، والدعاء الذي علّمه الرسول للضرير ، وقد جاء فيه التصريح بالتوسّل بذات النبي وشخصه وصفاته ، وليس لنا التصرّف في الدعاء الذي علّمه الرسول للضرير ، بحجّة أنّه كان هناك للرسول دعاء.

لقد أورد هذا الحديث النسائي والبيهقي والطبراني والترمذي والحاكم في مستدركه ، ولكن الترمذي والحاكم ذكرا جملة «اللهمّ شفّعه فيه» بدل «وشفّعه في».

التوسّل بذات النبي بعد رحيله

إنّ الصحابي الجليل عثمان بن حنيف فهم من الحديث السابق أنّ التوسّل بذات النبي وشخصه يعمّ حياته ومماته ، فلأجل ذلك عند ما رجع إليه بعض أصحاب الحاجة علّمه نفس الدعاء الذي علّمه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للضرير ، ولحسن الحظ كان ما توصّل إليه ناجحاً.

روى الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (المتوفّى ٣٦٠ ه‍ ـ) عن أبي أُمامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف ، أنّ

٣١٣

رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى ابن حنيف فشكا ذلك إليه ، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين ثمّ قل : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبي الرحمة ، يا محمد إنّي أتوجّه بك إلى ربي فتقضي لي حاجتي» فتذكر حاجتك ورح إليّ حتى أروح معك.

فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثمّ أتى باب عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه فجاء البوّاب حتّى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه فأجلسه معه على الطنفسة ، فقال : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، فقضاها له ثمّ قال له : ما ذكرتُ حاجتك حتّى كانت الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتّى كلمته في ، فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلّمته ، ولكنّي شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فتبصر؟ فقال : يا رسول الله ليس لي قائد وقد شقّ عليّ. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ائت الميضاة فتوضأ ثمّ صلّ ركعتين ، ثمّ ادع بهذه الدعوات ، قال ابن حنيف : فو الله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرّ قط. (١)

إنّ دلالة الحديث على جواز التوسّل بذوات الصالحين ، وأخصّ منهم الأنبياء أمر لا سترة فيه.

نعم أنّ بعض مَن لا يروقه هذا النوع من التوسّل كابن تيمية والسائرين

__________________

(١) المعجم الكبير : ٩ / ١٦ ـ ١٧ ، باب ما أُسند إلى عثمان بن حنيف ، برقم ٨٣١٠ ؛ والمعجم الصغير له أيضاً : ١ / ١٨٣ ـ ١٨٤.

٣١٤

على منهجه حينما يواجهون تلك الروايات الصحيحة والصريحة ، يحاولون الخدش في دلالتها ودلالة غيرها من الروايات الصريحة في التوسّل بذات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتماد تأويلات باردة ، حيث يذهبون إلى وجود التقدير في الحديث ، ويقولون : إنّ هناك كلمة مقدرة وهي [الدعاء] ، فيكون المقصود ـ حسب رأيهم ـ من جملة : «أتوجّه إليك بنبيّك» يعني «أتوجّه إليك بدعاء نبيّك».

ولا ريب أنّ هذه التأويلات نابعة من الأحكام المسبقة والاعتقادات الراسخة في أذهانهم ، لأنّ هذا التقدير لا ينسجم مع جميع الفقرات والجمل الواردة في الحديث.

ثمّ لو كان الضرير قد توسّل حقيقة بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما ذا يعلّمه الرسول الأكرم طريقة التوسّل بأن يقول : «محمد نبي الرحمة» ويعلّمه أيضاً بأن يقول : «يا محمد إنّي أتوجّه إليك»؟!

أضف إلى ذلك أنّ تقدير كلمة الدعاء يجعل الجملة ركيكة ، وغير متّزنة أبداً.

ثمّ إنّ الآلوسي البغدادي (المتوفّى ١٢٧٠ ه‍) والذي يُعدّ من أقطاب الوهابية والمروّجين والداعين للمذهب الوهابي هو الآخر قد أذعن أمام هذا الحديث ، وسلّم بالحق ، واعترف بأنّه لا مانع من التوسّل بمقام ومنزلة الأفراد الصالحين الأعم من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، بشرط إحراز كون الفرد المتوسّل به ذا مقام عند ربّه. (١)

__________________

(١) انظر روح المعاني : ٦ / ١٢٨.

٣١٥

[١٠.] التوسّل بالصالحين في الأدب العربي

قد أنشد الأُستاذ محمد الفقي قصيدته المعروفة بالفيوضات الربانيّة في الزيارة والتوسل بخير البرية سنة ١٣٧٨ ه‍ ـ / سنة ١٩٥٩ م ، نأتي بتمامها هنا ، وهي :

حسب القوافي وحسبي حين أهديها

إلى المسامع أنّ الحب يمليها

سجلتُ من عبرات العين أسطرها

وصغت من مهجتي الحرّى معانيها

فعبَّرت عن أحاسيسي مقاطعها

وترجمت عن صباباتي قوافيها

وما تحلت بأوزان وقافية

لكنّها حكم تسمو بتاليها

أضفت على الكون فيضاً من أشعتها

وقد تجلّى جلال المصطفى فيها

تألّقت بسجاياه فرائدها

وأشرقت بمعانيه حواشيها

وأسفرت عن دراريه مباسمها

فافْتَرَّ ثغرُ الأماني عن دراريها

٣١٦

حوت من الحب آيات مفصلة

توحي إلى النفس روحاً من تناجيها

سما بها القلب في أسمى منازله

وماست الروح في أبهى مجاليها

وفارت النفس بالأشواق هاتفة

يميتها الشوق أحياناً ويحييها

لا تعذلوها إذا لاقت منيتها

فالموت في الحب من أسمى أمانيها

(لا يعرف الشوق إلّا من يكابده

ولا الصبابة إلّا من يعانيها)

يا راكبي الريح بسم الله مسبَحُها

وراكبي الفلك بسم الله مجريها

دعاكم الله فاخترتم ضيافته

وطابت الدعوة العظمى وداعيها

وحسبكم أن (إبراهيم) وجهها

في سورة الحجّ للدنيا وأهليها

فاستقبلوا من رياض الخلد بهجتها

ومتَّعُوا النفس في أبهى مغانيها

٣١٧

لقد قصدتم رحاباً طاب موردها

وقد جنيتم ثماراً فاز جانيها

فنلتمو من رضاء الله منزلة

أنستكمُ الأهل والدنيا وما فيها

وما وصلتم إلى ساحات كعبتكم

إلّا ظفرتم بفضل الله حاميها

يا من نزلتم بهذا الحي حسبكمُ

أنّ السعادة حققتم دواعيها

قلوبكم في رياض الأنس رائعة

تفيض بالشكر تقديساً لباريها

وما نظرتم لها إلّا وأعينكم

من فرحة الشوق قد فاضت مآقيها

يا حسنها جنة طابت مواردها

فليس في الكون من روض يدانيها

تشرفت بنزول الوحي ساحتها

وأشرقت ببقاء المصطفى فيها

يا خاتم الرسل قد يممت روضتكم

في لحظة من حياة العمر نبغيها

٣١٨

فيها المصافاة إلّا أنّها مدد

وما المصافاة إلّا في تناجيها

إنّي لأطمع أن أحظى ببارقة

من النبوة تفنيني معانيها

يا مصدر الخير والخيرات تعرفكم

بمصدر الخير للدنيا وعافيها

لم يطمع الخلق إلّا في ضيافتكم

ويشتهي الناس إلّا فيض أيديها

وكيف لا يخطب الزوار ودكمُ

والود منكم حياة جلَّ معطيها

وما وقفت مع الحجاج منتظراً

ولا بسطت يدي إلّا لتعطيها

فأنت أدرى بحالي حين تنفحني

وأرحم الخلق بالدنيا ومن فيها

دعني أناجي ودع روحي مناجية

فإنّ روحي مناها في تناجيها

وهل تقوم بلا عطف ولا مدد

والعطف للروح مثل الأنس يحييها

٣١٩

يا سيد الخلق قد جئنا لنشهدكم

والنفس ترتع في مرعى ملاهيها

فلا تكلنا إليها إنّها رحلت

إلى الخطايا وما أخفت مساويها

والنفس أمارة بالسوء جامحة

وقد أطاعت بليل أمر غاويها

فلا تجانب إلّا من يُقوِّمها

ولا تجاوب إلّا من يجاريها

ولا تكرّم إلّا من يصانعها

ولا تصادق إلّا من يعاديها

لئن تركت لكم نفسي تطهرها

فقد وهبت لكم روحي ترقيها

فأنت للروح نور في غيابتها

وأنت للنفس حصن من عواديها

ونظرة منك للأيام تسعدها

ونفحة منك ترضيني وترضيها

حسبي رضاكم وحسبي أنّه أملي

من الحياة وحظي من أمانيها

٣٢٠