الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

أيّة رابطة أو علاقة. قال تعالى معبراً عن تلك الحقيقة : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ). (١)

الاتحاد في السنّة النبوية

لقد سلكت السنّة النبوية نفس المنهج القرآني في الحث على الاتّحاد والتآخي ولمّ الشمل ووحدة الصف ، وأثنت على التماسك ورص الصفوف ، وقد سعى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ترسيخ هذا المفهوم في وسط المجتمع الإسلامي من الناحية النظرية ، كما سعى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى إنزاله إلى حيز التنفيذ بصورة عملية ، ومن هنا كانت الخطوة الأُولى التي خطاها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما وطأت قدماه الشريفتان أرض المدينة واستقر به الأمر فيها أن آخى بين قبيلتي الأوس والخزرج.

وقد انطلق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ). (٢) ، ليصلح ويؤاخي بين هاتين القبيلتين اللّتين طالما خاضتا حروباً طاحنة بينهما ، من هنا حاول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي على الآثار السلبية والضغائن والأحقاد التي خلفتها تلك الحروب بين القبيلتين ، فعقد بينهما عقد الأُخوة الإسلامية ، وأبدل الضغينة والكره والبغضاء بالود والمحبة والألفة بين الجانبين.

ولقد كان لهذه الحركة وقع الصاعقة على رءوس يهود المدينة الذين غاظهم هذا الموقف الحكيم من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسعوا جادّين لضرب تلك الوحدة والألفة بين المسلمين ، وكان على رأس اليهود شخصية شديدة العناد لهذا المشروع يدعى (شاس) ، إذ سعى جادّاً لإحباط مشروع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) الأنعام : ١٥٩.

(٢) الحجرات : ١٠.

٢١

بكلّ الطرق والوسائل. ولقد نقل لنا التاريخ بعض تلك المحاولات والتي منها :

قال ابن إسحاق : ومرّ شاس بن قيس ـ وكان شديد الضغن على المسلمين ، وشديد الحسد لهم ـ على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، فغاظه ما رأى من إلفتهم وجماعتهم ، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار ؛ فأمر فتى شاباً من يهود فقال له : «اعمد إليهم ثمّ اذكر يوم بعاث وما كان قبله» وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج ؛ ففعل الشاب اليهودي فتكلّم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين فتقاولا ، ثمّ قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددناها الآن جذعة ، فغضب الفريقان وقالوا : السلاح السلاح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فخرج إليهم في من معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال :

«يا معشر المسلمين! الله ، الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف به بين قلوبكم». فعرف القوم انّها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضاً. (١)

وهناك نموذج آخر ذكره لنا التاريخ في هذا الخصوص وقع في السنة السادسة من الهجرة في غزوة بني المصطلق :

__________________

(١) سيرة ابن هشام : ٢ / ٢٥٠.

٢٢

قال ابن إسحاق : خرج رسول الله إلى بني المصطلق حتى لقيهم على ماء لهم يقال له المريسيع ، فهزم الله بني المصطلق ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك الماء ، وردت واردة الناس ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا ؛ فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فغضب عبد الله بن أبي سلول وعنده رهط من قومه. (١)

وكادت أن تقع فتنة لو لا أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصدّى لمعالجة الموقف بحنكته المعروفة حيث أمر بالرحيل ، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس. (٢)

وبهذا استطاع الرسول أن يخمد نار الفتنة التي كادت أن تقع ، وللرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلام في هذا المجال حيث قال : «دعوها فإنّها نتنة».

ولأمير المؤمنين عليه‌السلام كلام عميق وجذّاب في هذا المجال قال فيه :

«والزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد الله مع الجماعة ، وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذ من الغنم للذئب».

ولم يكتف أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا المقدار من الكلام ، بل خطا إلى الامام خطوة أوسع فقال :

«ألا مَنْ دعا إلى هذا الشِّعار فاقتلوه ، ولو كان تحت عمامتي هذه». (٣)

__________________

(١ و ٢) نفس المصدر : ٣ / ٣٠٣ ، غزوة بني المصطلق.

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١٢٧.

٢٣

الوحدة الإسلامية في إيران

ومن حسن الحظ أنّ الشعب الإيراني المسلم يعيش ولقرون متمادية ـ وببركة الاقتداء بالقرآن الكريم وسيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرين ـ أفضل حالات الانسجام والاتّحاد والتآخي في الله ، ولقد استطاع هذا الشعب تحت ظل الوحدة والانسجام التغلّب على الكثير من المشاكل والمعوقات والصعاب التي اعترضت طريقه في مسيرة الحياة.

ولكن ـ وللأسف الشديد ـ تنطلق من هنا وهناك بعض الأصوات الشاذة والنكرة التي تغنّي خارج السرب ، والعناصر الساذجة والتي ترتبط بجهات أجنبية مدعومة من قِبل خصوم الإسلام ، تحاول ومن خلال إثارة بعض المسائل العقائدية بصورة ساذجة وسطحية وملتوية جداً ، بذر الفتنة وزرع الفرقة ، سعياً منهم لضرب هذه الوحدة الراسخة والتي تضرب جذورها في أعماق التاريخ.

ومن هنا وانطلاقاً من المهمة الملقاة على عاتق العلماء والمفكّرين في مواجهة تلك الحركات المشبوهة والأفكار الهدّامة ، وبيان سذاجة ووهن الأفكار التي يطرحونها على الساحة ، قمنا ولله الحمد ببيان وتوضيح أهمّ المسائل ـ التي يمكن أن ينطلق منها الخصم والتي تتمثل بمسألة «التوحيد والشرك» و «البدعة» ـ بصورة منطقية ، معتمدين فيها القرآن الكريم والسنّة النبوية القطعية وحكم العقل الصريح ، لتكون إن شاء الله مناراً يهتدي به الجيل والنشأ الحاضر المتعطش لنمير الفكر الإسلامي ومفاهيمه الراقية ، الجيل الذي يسعى بكلّ إمكاناته وقواه لدرك الحقيقة والتمييز بين الحقّ والباطل ، وتمييز الحكمة عن السفسطة ، لينقذ نفسه من السقوط في شباك وأحابيل المنحرفين وحيلهم.

٢٤

الفصل الثاني

ابن تيمية ، حياته ، عصره ، أفكاره

٢٥
٢٦

مكانة التوحيد في الفكر الإسلامي

يمثّل التوحيد الأصل الأساسي الذي قامت عليه أُسس جميع الديانات السماوية ، وهو الأصل الأوّل الذي أمر الله سبحانه أنبياءه ورسله بتبليغه والدعوة إليه ونشره بين الشعوب والأُمم المختلفة ، وبالخصوص نبي الله إبراهيم الخليل عليه‌السلام (الذي تنسب إليه الديانات التوحيدية الثلاثة الكبرى : اليهودية ، المسيحية ، والإسلام). من هنا كان لهذا الأصل فاعليته وأهميته القصوى في الدين والمفاهيم الإلهية ، الأمر الذي دعا الأنبياء وأتباعهم إلى التأكيد عليه وعدم التهاون فيه ولو تهاوناً يسيراً ، فلا يمكن بحال من الأحوال لأيّ إنسان أن يدخل في حيطة الدين الإلهي الحقّ ، ويُعدّ من زمرة المسلمين ، إلّا إذا اعتقد أوّلاً وبالدرجة الأُولى بأصل التوحيد والوحدانية. ومن هنا كان شعار المسلمين الذي رفعوه هو كلمة التوحيد : «لا إله إلّا الله» ، ومن الواضح أنّ هذا الشعار يحمل النفي والإثبات في آن واحد ، نفي جميع الآلهة المصطنعة وإثبات ألوهية الله الفرد الصمد ، الجدير بالعبودية والخضوع له.

ومن حسن الحظ أنّ المسلمين ـ وبالرغم من وجود بعض المسائل الخلافية ـ متّفقون على أصل التوحيد ولم يشذ فيه أحد منهم ، وهناك سنن وعقائد كانت شائعة بين المسلمين ولم يشم منها المسلمون أيّة رائحة شرك أو بدعة في الدين ،

٢٧

مثل «طلب الشفاعة من أولياء الله تعالى والصالحين من عباده» و «تكريم مراقد وقبور الأولياء والاهتمام بها» ولا يرى المسلمون في ذلك تضادّاً مع أصل التوحيد وتجاوزاً على حدوده ، وكان بعض الحاج من المسلمين يأخذ التراب من قبر سيد الشهداء حمزة (رض) (شهيد معركة أُحد) ليعمل منه مسبحة ، بل نرى أنّ الخاقاني الشرواني من شخصيات القرن السادس الهجري نظم قصيدة يطلب فيها ممّن يزور المدائن ـ قبر الصحابي الجليل سلمان المحمّدي (رض) ـ أن يعمل له مسبحة من تراب قبره الشريف ، ولقد كانت هذه القصيدة تقرأ على مرأى ومسمع من كبار المسلمين ، فلم تثر حفيظتهم ولم يروا فيها ما يضاد عقائدهم ، بل على العكس من ذلك كان كبار المجتمع المكي يكتبون قصائده بماء الذهب ، وكان الخليفة يدعوه إلى مجلسه ويستقبله بحفاوة وإكرام وتبجيل و .... (١)

وهكذا استمر الأمر في أوساط المسلمين إلى أوائل القرن الثامن الهجري ، حيث ظهر المدعو أحمد ابن تيمية ، الذي حاول التشكيك في بعض عقائد وسنن المسلمين وحاول أن يشير بأصابع الريب والشك إلى تلك العقائد معترضاً عليها باعتبارها مخالفة لأصل التوحيد وأنّها على الضد معه ، واعتبر أنّ الاعتقاد بها والعمل وفقاً لها ، يُعدّ نوعاً من الشرك وابتعاداً عن جادة التوحيد ، ومن النماذج التي اعتبرها ابن تيمية من مصاديق الشرك والابتعاد عن خط التوحيد مفهوم طلب الشفاعة من الأولياء ، حيث ذهب إلى أنّ أصل الشفاعة في الآخرة حق لا مرية فيه ، ولكن طلب الشفاعة من الأولياء في هذا العالم يُعدّ شركاً!

ومن هنا سنحاول ـ إن شاء الله تعالى ـ في البحوث القادمة أن نسلّط الأضواء على ادّعاءاته وأفكاره ، معتمدين في منهجنا هذا القرآن الكريم والسنّة

__________________

(١) انظر ديوان الخاقاني : ٣٢٣ ، المقدّمة بقلم محمد العباسي.

٢٨

النبوية القطعية ، لنبين نقاط القوة والضعف في أفكار الرجل بعيداً عن التعصّب له أو عليه. ولكن هذا لا يمنعنا من أن نبدي أسفنا الشديد على أنّ الرجل طرح أفكاره وعقائده ـ والتي كانت عاملاً مهماً في بذر التفرقة بين المسلمين ـ وأثارها في وقت وظرف حسّاس جداً كان يعيشه المسلمون في تلك الحقبة ، حيث كانوا يعانون أزمة شديدة وظروفاً عصيبة من تاريخهم ، نعم لقد أُثيرت عقائده في الوقت الذي كانت البلاد الإسلامية تعيش بين كمّاشتين : الصليبية من جهة ، والمغول من الجهة الأُخرى. وفي هذا الوقت الذي كانت فيه الأُمّة بأشدّ الحاجة ـ أكثر من أيّ زمان آخر ـ إلى الوحدة ورصّ الصفوف والتلاحم ورأب الصدع لمواجهة تلك الأخطار الجسام والمحن الصعبة ، نجد الرجل يثير عقائده ويعلن عن آرائه ومعتقداته.

ومن هنا يكون تحليل ودراسة شخصية ابن تيمية والظروف العصيبة التي كانت تعيشها الأُمّة الإسلامية في ذلك العصر بمثابة دروس وعبر أساسية في التاريخ الإسلامي ينبغي أن تسلط عليها الأضواء وتدرس دراسة متأنّية ودقيقة.

عصر النهضة الإسلامية

تُعدّ بداية القرن الرابع إلى أواسط القرن الخامس الهجري من التاريخ الإسلامي من أفضل العصور وأبرزها ، فقد وصل المجتمع الإسلامي في هذه البرهة الزمنية إلى ذروة الرقي والتطوّر والازدهار الحضاري في مجالات الحياة المختلفة ، كالعلم والأدب والسياسة و ... ، وكلّ ذلك حصل ببركة رجال أفذاذ وشخصيات عظيمة استطاعت أن تقفز بالعالم الإسلامي قفزة نوعية من أمثال :

٢٩

الفيلسوف الكبير ابن سينا ، وأبي ريحان البيروني ، والفردوسي ، والصاحب بن عباد ، والخواجة نظام الملك الطوسي ؛ حيث استطاع هؤلاء الفطاحل من العلماء والأُدباء والسياسيين أن يعرضوا صورة ناصعة للفكر والثقافة والحضارة الإسلامية الأمر الذي حدا بالمستشرقين أن يطلقوا ـ وبحق ـ على هذه الفترة من تاريخ العالم الإسلامي اسم عصر النهضة الإسلامية.

ولكن ـ ولشديد الأسف ـ ابتليت الأُمّة الإسلامية بعد هذا العصر الذهبي بمرض التفرقة ، ودبّ في جسدها مرض الاختلافات والتناحر والتشرذم وتعدّد الأهواء والميول السياسية والفكرية ، ممّا كان له الأثر الفاعل في تفريغ الأُمّة من الرجال العظام والشخصيات الكبيرة الأمر الذي أدّى بدوره إلى أُفول شمس القوّة الإسلامية وضعف شوكتها ، وطمع الأعداء بها.

الحروب الصليبية

لقد كان الغرب الصليبي ـ الذي ما زال يتجرّع مرارة الهزيمة أمام الجيش الإسلامي في الأندلس وانتشار الإسلام في القارة الأُوروبية ـ يرصد الوضع في العالم الإسلامي ويراقب الأُمور عن كثب ، ويتحيّن الفرصة المناسبة للانتقام من الإسلام والمسلمين ، ولمّا أحسّوا بضعف المسلمين وتشتّت كلمتهم في أواخر القرن الخامس الهجري أصدر البابا في روما الأوامر بالهجوم على قبلة المسلمين الأُولى فلسطين فلبّى هذا النداء مئات الآلاف من المسيحيّين الأُوروبيين ـ بصدور ملؤها البغض والكراهة والأحقاد الدفينة للتوحيد والموحّدين ـ فارتكبوا أبشع الجرائم وانتهكوا الحرمات ، وحوّلوا القدس إلى حمام دماء وساحة تناثرت فيها الأشلاء ، وكانت هذه هي البداية للحروب الصليبية التي استمرت ما يقرب من ٢٠٠ عام

٣٠

(٤٨٩ ـ ٦٩٠ ه‍ ـ. ق الموافق لعام ١٠٩٥ ـ ١٢٩١ م) والتي راح ضحيتها الملايين من القتلى والجرحى والمشرّدين والمعذّبين.

زحف التتار

والذي يؤسف له أنّ الأُمّة الإسلامية لم تلملم شملها بعد ولم تضمّد جراحها التي تلقتها من الغرب الصليبي ، حتى ابتليت بعدو مارد وإعصار كاسح أصابها هذه المرّة من قبل الشرق ، والذي تمثّل بجيوش المغول الزاحفة بقيادة جنكيزخان ، التي عاثت في أرض المسلمين فساداً ، وأهلكت الحرث والنسل ، وبعد خمسين عاماً من بداية الهجوم المغولي على الأراضي الإسلامية تمكّن حفيد جنكيزخان ، «هولاكو» من دخول بغداد وتدميرها وإنهاء عصر الخلافة العباسية وطي صفحتها من الوجود ، وذلك في عام (٦٥٦ ه‍ ـ). (١)

ولم يقف الزحف المغولي عند بغداد وحدودها بل استمر الزحف باتجاه الشام حيث صنعوا بحلب والموصل مثل ما صنعوا ببغداد ، وذلك في الفترة ما بين عام ٦٥٧ إلى ٦٦٠ ه‍ ـ ، في الوقت الذي كانت فيه كلّ من مصر والشام تواجه الغزو الصليبي بعنف وضراوة حتّى أنّ بعض طلائع الجيوش الصليبية قد اقتربت في بعض الفترات من مدينة القاهرة ، ولو لا وفاة الخان المغولي الكبير «منگو قاآن» الأخ الأكبر لهولاكو ، ممّا اضطر هولاكو لمغادرة الشام والعودة إلى إيران ، وانهزام قائده كيتوبوقا ـ الذي أوكل إليه هولاكو مهمة فتح مصر ـ أمام المسلمين في معركة عين جالوت (في فلسطين) ، لما علم ما ذا سيكون مصير القاهرة إلّا الله سبحانه.

__________________

(١) راجع الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري : ١٢ / ٣٥٨ ـ ٣٦١.

٣١

ولقد كان لهجوم المغول على الأراضي الإسلامية في أوائل القرن السابع الهجري ، أثره الإيجابي على الغرب الصليبي ، فتلقّوا ذلك الحدث بارتياح تام ، واعتبروها فرصتهم الذهبية للقضاء على الإسلام وإنهاء وجوده بالكامل ، ومن هنا استثمروا هذه الفرصة الذهبية وبدءوا تحركهم للقضاء على الحضارة الإسلامية في الأندلس ، وقد استمرت هذه الحروب ما بين (٦٠٩ ـ ٨٨٩ ه‍ ـ) ، والجدير بالذكر أنّه وطوال تلك الفترة كانت الوفود الصليبية تقوم بحركة مكوكية في البلاط المغولي ، وكان همّهم الأساسي ودورهم الرئيسي منصباً على التنسيق مع المغول لوضع العالم الإسلامي بين كمّاشتين والقضاء عليه من الجانبين. ولقد كان تواجد أُسرة ماركوپولو في البلاط المغولي لهذا الغرض.

أضف إلى ذلك أنّ أُمّ هولاكو نفسه وزوجته كانتا من النساء المسيحيات ، وكان قائد جيشه في بلاد الشام كيتوبوقا هو الآخر نصرانياً أيضاً.

وهكذا استمر التحالف المغولي الغربي في عهد خلفاء هولاكو الايلخانيين حيث استطاع هولاكو أن يؤسّس دولة مغولية جديدة مستقلة هي الدولة الايلخانية ، والتي انفصلت تدريجياً عن الامبراطورية المغولية الكبرى.

نعم استمر التواجد والتأثير المسيحي في هذه الدولة حيث نجد أنّ «اباقا خان» ابن هولاكو والذي حكم ما بين (٦٦٣ ـ ٦٨٠ ه‍ ـ) قد اقترن بابنت امبراطور الروم الشرقية ، وتحالف مع السلاطين الفرنسيين والانجليز ضد المسلمين ، وقاد الجيوش نحو مصر والشام.

والأدهى من ذلك والأفضع موقف ابنه «ارغون» (حكم ما بين ٦٨٣ ـ ٦٩٠ ه‍ ـ) حيث وقع الرجل تحت تأثير وزيره اليهودي سعد الدولة الأبهري ، الذي راح يسوّل له غزو مكة المكرمة واحتلالها وتحويل الكعبة إلى معبد للأوثان ،

٣٢

والقضاء على رجال السياسة والدين من المسلمين ، فأخذ يُعد العدة ويهيئ الجيوش والعساكر لغزو الحجاز وتنفيذ الخطة المشئومة ، ولكن ومن حسن الحظ انّ الله سبحانه كان له بالمرصاد حيث انتهت هذه الغائلة بمرض ارغون ومقتل سعد الدولة.

حتى السلطان المغولي غازان بن ارغون (٦٩٤ ـ ٧٠٣ ه‍ ـ) والذي يُعد السلطان المغولي الأوّل الذي اعتنق الدين الإسلامي ، هو الآخر كان يفكر في بادئ الأمر بفتح دمشق والقاهرة وقد وقعت بالفعل في عصره بين عام ٦٩٩ إلى ٧٠٢ ه‍ ـ معارك بين جيوش المغول وسلاطين مصر وحظيت تلك الوقائع التي أحدثها غازان ، بمباركة وتشجيع ودعم الصليبيين. (١)

في تلك الظروف الحسّاسة والوضع القلق الذي يعيشه العالم الإسلامي ظهر ابن تيمية ناشراً أفكاره ومعتقداته ، والتي جوبهت بردة فعل شديدة من قبل علماء المسلمين الأعم من السنّة والشيعة ، فأحدثت تلك الأفكار شرخاً كبيراً في جسد الأُمة الذي كان بأشدّ الحاجة إلى الوحدة ولمّ الشمل ومواجهة الأخطار الجسام التي تحيط به.

ولقد كان العالم الإسلامي بحاجة ماسّة في تلك الفترة العصيبة إلى قائد محنّك ورائد كبير يستطيع بقاطعيته وشجاعته أن يجمع المسلمين على المشتركات بينهم ، والتي تتمثّل ب ـ «الإله الواحد والرسول الواحد والكتاب الواحد والقبلة الواحدة» ، ليخلق من العالم الإسلامي جبهة متماسكة ووجوداً متّحداً لمواجهة

__________________

(١) انظر للاطلاع على الجرائم المروعة والفضائع التي قام بها المغول وتحالفهم مع الصليبيين ضد المسلمين «تاريخ المغول» للمرحوم المحقق عباس اقبال الآشتياني الصفحات : ١٩١ ـ ١٩٧ و ٢٠٢ ـ ٢٠٤ و ٢٠٧ ـ ٢١٦ و ٢٣٧ ـ ٢٤٥ و ٢٦٦ وما بعدها.

٣٣

العدو المشترك المتمثّل يومها بالصليبيين واليهود والوثنيين. ولكن ـ ولشديد الأسف ـ ما قام به ابن تيمية كان على العكس من ذلك تماماً.

أحمد بن تيمية

ولد أحمد بن تيمية عام ٦٦١ ه‍ ـ بعد خمسة أعوام من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد ، في مدينة «حرّان» من بلاد الشام ، وواصل دراسته الأوّلية فيها حتّى بلغ السابعة عشر من عمره ، وفي تلك البرهة كان العالم الإسلامي عامة وبلاد الشام خاصة عرضة لغزو جيوش المغول. وقد أحدثت تلك الهجمات المغولية على أطراف الشام حالة من الرعب الشديد والهلع في قلوب الناس ، الأمر الذي حدا بوالده عبد الحليم أن يشد الرحال مع أفراد اسرته وأقاربه تاركاً حرّان ومتوجهاً إلى دمشق حيث ألقى رحله هناك.

وحتى العام ٦٩٨ ه‍ ـ كان ابن تيمية شخصية مغمورة لم يسمع عنها شيء ما ، ولكن مع إطلالة القرن الثامن بدأ الرجل بنشر أفكاره الشاذّة وعرضها بين الناس وخاصة حينما طلب منه أهل «حماة» أن يفسر لهم قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) حيث زلّت به قدمه في تفسيره لهذه الآية ، فأجاب بما هو نص في التجسيم ، وأثبت أنّ لله مكاناً في السماء ، وأنّه متكئ على العرش. (٢)

إنّ أكثر المسلمين وخاصة الشيعة منهم ينزّهون الله سبحانه عن الجسم

__________________

(١) طه : ٥.

(٢) انظر الرسالة الحموية : ٤٢٩ ، ضمن مجموعة «الرسائل الكبرى». والغريب أنّ ابن تيمية قد استدلّ على مدّعاه ـ واعتبر ذلك ملاك الحقيقة ـ بالتصوّر الساذج والفهم الخاطئ لفرعون ، والذي كان يتصوّر إنّ إله موسى مستقر في السماء ، فاستدلّ ابن تيمية بقوله : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى). (غافر : ٣٦ ـ ٣٧).

٣٤

والجسمانية ، وإنّه تعالى لا يحيطه شيء من الزمان والمكان ، وإنّ قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) و (لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) يردعهم عن تشبيه الله سبحانه بصفات المخلوقين ، ولكن نرى أنّ ابن تيمية قد جاء في تفسيره للآية السابقة بما يخالف تلك الآيات ، ويستلزم تشبيهه سبحانه بمخلوقاته.

وقد كان لتفسيره المذكور للآية المباركة ردّة فعل شديدة وأحدث ضجّة كبيرة في أوساط المسلمين طلب على أثرها العلماء من القاضي جلال الدين الحنفي ، إحضاره ومحاكمته ، فوجّه إليه القاضي المذكور الدعوة لكنّه امتنع عن الحضور إلى قاعة المحكمة.

وهكذا استمر ابن تيمية في عرض أفكاره الشاذّة ، وعقائده المخالفة للمشهور في أوساط المسلمين محدثاً بذلك حالة من التشنّج والانفعال في الوسط الإسلامي ، حتى حكم عليه في عام ٧٠٥ ه‍ ـ وأُبعد إلى مصر ، ثمّ أُطلق سراحه عام ٧٠٧ ه‍ ـ ولم يرجع إلى الشام إلّا عام ٧١٢ ه‍ ـ حيث بدأ في نشر أفكاره ونظرياته مجدّداً ، حتّى حكم عليه مرّة أُخرى عام ٧٢١ ه‍ ـ بالسجن ، وبقي مسجوناً إلى أن توفّي مسجوناً عام ٧٢٨ ه‍ ـ. (١)

ولقد أصدر علماء الشام ومصر الكبار بياناً أوضحوا فيه الخلل في عقائد ابن تيمية وشطحاته الفكرية ، وبما أنّ المقام لا يسع لنقل ذلك البيان ، نكتفي بذكر خلاصة من بعض كلمات العلماء ليطّلع القارئ على الدور التخريبي الذي أحدثته أفكار الرجل في الوسط الإسلامي ، وكيف أنّها بذرت بذرة النفاق في أوساط المسلمين.

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في البداية والنهاية : ١٤ / ٤ ـ ٥٢.

٣٥

العلماء الذين تصدّوا له

ولكن قبل التعرّض لذكر أسماء العلماء الذين أصدروا البيان المذكور نحاول أن ننقل مقطعاً من شهادة شهد بها مؤرّخ محايد ، شاهدها بأُمّ عينه ونقلها ممّا شاهده ، يقول الرّحالة ابن بطوطة :

وكان بدمشق من كبار فقهاء الحنابلة تقي الدين ابن تيمية كبير الشام يتكلّم في الفنون إلّا أنّ في عقله شيئاً ، وكان أهل دمشق يعظّمونه أشدّ التعظيم ويعظهم على المنبر. وتكلّم مرّة بأمر أنكره الفقهاء ، ورفعوه إلى الملك الناصر ، فأمر بإشخاصه إلى القاهرة ... فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على المنبر الجامع ويذكّرهم ، فكان من جملة كلامه أن قال : «إنّ الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا» ، ونزل درجة من درج المنبر ، فعارضه فقيه مالكي يعرف بابن الزهراء ، وأنكر ما تكلّم به ، فقامت العامّة إلى هذا الفقيه وضربوه بالأيدي والنعال ضرباً كثيراً حتى سقطت عمامته. (١)

لا شكّ أنّ ابن تيمية لم يكن بالشر المطلق ، بل كانت للرجل نقاط قوّة كما كانت له نقاط ضعف وخلل في التفكير ، إلّا أنّ أتباعه ومريديه ركّزوا على نقاط القوّة في شخصيته ، وأغمضوا عيونهم عن نقاط الضعف والخلل في شخصيته ، ولكنّ الباحثين عن الحقيقة الذين يحدوهم طلب الحقّ نظروا إلى الرجل من الزاويتين ، وأخذوا في نقد أفكاره ونظرياته بنفس علمي بعيداً عن التعصّب والميول الشخصية ، ومن العلماء الذين تعرّضوا لدراسة أفكار الرجل ونقدها العلماء التالية أسماؤهم أدناه ، والذين يُعدّ كلّ واحد منهم من أساطين العلم

__________________

(١) رحلة ابن بطوطة : ١١٢ ـ ١١٣.

٣٦

ورموزه في الشام ومصر ، فاعتبروا آراءه مخالفة ومغايرة لتعاليم الأنبياء والأولياء :

١. الشيخ صفي الدين الهندي الأُرموي (٦٤٤ ـ ٧١٥ ه‍ ـ).

٢. الشيخ شهاب الدين ابن جهبل الكلابي الحلبي (المتوفّى ٧٣٣ ه‍ ـ).

٣. قاضي القضاة كمال الدين الزملكاني (٦٦٧ ـ ٧٣٣ ه‍ ـ).

٤. شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي (المتوفّى ٧٤٨ ه‍ ـ)

٥. صدر الدين المرحّل (المتوفّى ٧٥٠ ه‍ ـ).

٦. علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفّى ٧٥٦ ه‍ ـ).

٧. محمد بن شاكر الكتبي (المتوفّى ٧٦٤ ه‍ ـ).

٨. أبو محمد عبد الله بن أسعد اليافعي (٦٩٨ ـ ٧٦٨ ه‍ ـ).

٩. أبو بكر الحصني الدمشقي (المتوفّى ٨٢٩ ه‍ ـ).

١٠. شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفّى ٨٥٢ ه‍ ـ).

١١. جمال الدين يوسف بن تغري الأتابكي (٨١٢ ـ ٨٧٤ ه‍ ـ).

١٢. شهاب الدين ابن حجر الهيثمي (المتوفّى ٩٧٣ ه‍ ـ).

١٣. الملا علي القاري الحنفي (المتوفّى ١٠١٦ ه‍ ـ).

١٤. أبو الأيس أحمد بن محمد المكناسي المعروف بأبي القاضي (٩٦٠ ـ ١٠٢٥ ه‍ ـ).

١٥. يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني (١٢٦٥ ـ ١٣٥٠ ه‍ ـ).

١٦. الشيخ محمد الكوثري المصري (المتوفّى ١٣٧١ ه‍ ـ).

١٧. الشيخ سلامة القضاعي العزامي (المتوفّى ١٣٧٩ ه‍ ـ).

٣٧

١٨. الشيخ محمد أبو زهرة (١٣١٦ ـ ١٣٩٦ ه‍ ـ). (١)

وقد ألّف بعض العلماء كتباً خاصة بنقد أفكاره والرد عليها كتقي الدين السُّبكي الذي ألّف في الردّ على ابن تيمية كتابين : الأوّل منهما تحت عنوان «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ، والآخر : «الدّرة المضية في الرد على ابن تيمية».

ولأجل أن يقف القارئ على آراء معاصريه وغيرهم من مفكّري وعلماء أهل السنّة وتقييمهم للرجل وللأفكار التي جاء بها. نقتطف بعضاً من تلك الكلمات :

كلام الحافظ شمس الدين الذهبي (المتوفّى ٧٤٩ ه‍ ـ)

يُعدّ الحافظ الذهبي من كبار علماء أهل السنّة في الحديث والدراية ، وكان تربطه بابن تيمية رابطة مذهبية ، حيث ينتمي الرجلان إلى المذهب الحنبلي ، وقد كتب الذهبي رسالة مطوّلة إلى ابن تيمية ينصحه فيها ويبيّن له نقاط الخلل في منهجه الفكري والعلمي ، وممّا جاء في الرسالة :

ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك؟! إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذمّ العلماء وتتبع عورات الناس؟! مع علمك لنهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ تعرّض الذهبي لتقييم أتباع ابن تيمية ومريديه فقال : فهل معظم

__________________

(١) راجع للاطّلاع على آراء هؤلاء الأعلام موسوعة بحوث في الملل والنحل لآية الله جعفر السبحاني : ٤ / ٣٧ ـ ٥٠.

٣٨

أتباعك إلّا قعيد مربوط خفيف العقل؟! أو عامّي كذّاب بليد الذهن؟! أو غريب واجم قوي المكر؟! أو ناشف صالح عديم الفهم؟! فإن لم تصدقني ففتّشهم وزنهم بالعدل.

ثمّ انتقل الذهبي لبيان أُسلوبه ومنهجه الأخلاقي فقال : إلى كم تصادق نفسك وتعادي الأخيار؟! إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار؟!

إلى كم تعظمها وتصغر العباد؟! إلى متى تخاللها وتمقت الزهّاد؟ إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح ـ والله ـ بها أحاديث الصحيحين؟! يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك!!

ثمّ قال : أمّا آن لك أن ترعوي؟! أما حان لك أن تتوب وتنيب؟! أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟! بلى ـ والله ـ ما أذكر إنّك تذكر الموت ، بل تزدري بمن يذكر الموت ، فما أظنّك تقبل قولي ولا تصغي إلى وعظي.

وبعد إيراد وعظه أشار الذهبي إلى نكتة مهمة ، حيث قال : فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد ، فكيف حالك عند أعدائك؟! وأعداؤك ـ والله ـ فيهم صلحاء وعقلاء وفضلاء ، كما أنّ أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة ، وبطلة وعود وبقر ، قد رضيت منك بأن تسبّني علانية ، وتنتفع بمقالتي سرّاً ، فرحم الله امرأً أهدى إليَّ عيوبي. (١)

هذه بعض كلمات الذهبي والتي لو تأمل فيها الإنسان لوقف على فداحة المنهج وخطر الفكر الذي كان يعتمده ابن تيمية ، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ الرسالة جاءت على لسان مشفق محب ودود لا تحمله ضد ابن تيمية ضغينة حقد أو حسد أو عداء مذهبي.

__________________

(١) راجع السيف الصقيل : ٢١٧ ؛ والغدير : ٨٧.

٣٩

الحافظ علي بن عبد الكافي السبكي (المتوفّى ٧٥٦ ه‍ ـ)

ترجمه ولده في طبقات الشافعية وهو أحد من ردّ على ابن تيمية وألّف كتاباً أسماه «شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه الصلاة والسلام» وربّما سمّي «شن الغارة على من أنكر السفر للزيارة» (١) ، وهو يعرّف والده ويقول : «إمام ناضح عن رسول الله بنضاله ، وجاهد بجداله ، حمي جناب النبوة الشريف ، بقيامه في نصره ، وتسديد سهامه للذب عنه من كنانة مصره ـ إلى أن قال : ـ قام حين خلط على ابن تيمية الأمر ، وسوّل له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر ، حين سدّ باب الوسيلة ، وأنكر شدّ الرحال لمجرد الزيارة ، وما برح يدلج ويسير حتى نصر صاحب ذلك الحمى الذي لا ينتهك ، وقد كادت تذود عنه قسراً صدور الركائب. وتجهر قهراً أعنّة القلوب بتلك الشبهة التي كادت شرارتها تعلق بحداد الأوهام ... كيف يزار المسجد ويخفى صاحبه أو يخفيه الإبهام؟! ولولاه عليه‌السلام لما عرف تفضيل ذلك المسجد ، ولولاه لما قدّس الوالي ولا أُسّس على التقوى مسجد في ذلك النادي ، شكر الله له ، قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع». (٢)

وقال أيضاً في خطبة كتابه «الدرة المضيئة في الرد على ابن تيمية» ما هذا لفظه : أمّا بعد فإنّه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أُصول العقائد ، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد ، بعد أن كان مستتراً بتبعية الكتاب ، والسنّة ، مظهراً أنّه داع إلى الحقّ ، هاد إلى الجنّة ، فخرج عن الابتداع ، وشذّ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع ، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدّسة ، وانّ الافتقار إلى الجزء ليس بمحال ، وقال بحلول الحوادث بذات الله

__________________

(١) طبقات الشافعية : ١٠ / ٣٠٨.

(٢) طبقات الشافعية : ١٠ / ١٤٩ ـ ١٥٠ ، وللكلام صلة.

٤٠