الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

«التوحيد في الخالقية» حيث تصوّروا خطأ انّ المراد منه «انّه لا يوجد مؤثر وفاعل لا بالأصل ولا بالتبع إلّا الله سبحانه» وانّ العلل الطبيعية والأسباب المادية لا تأثير لها أبداً ، وهذا هو الرأي الذي تذهب إليه الأشاعرة.

أو الخطأ ناشئ من سبب آخر حيث تصوّر البعض خطأ انّ العلل المادية والأسباب الطبيعية مستقلة في فعلها وفي تأثيرها ، وهذا ما ذهبت إليه النظرية المادية.

ولا ريب أنّ كلا الاتجاهين باطل وكلا التصوّرين من قبيل الإفراط والتفريط ، وذلك لأنّ الاتجاه الثاني حصر العالم في إطار الرؤية المادية الضيقة ، وبطلان هذا الاتجاه بدرجة من الوضوح بحيث لا يحتاج معها إلى ردّ. فلا نطيل الكلام مع أصحاب هذه النظرية ، لأنّ بحثنا في حقيقة الأمر منصب على الكلام مع الإلهيّين الذين ينكرون الاتّجاه المادي ويقطعون ببطلانه.

ومن هنا نركز البحث على بطلان الاتّجاه الأوّل الذي أنكر تأثير العلل والأسباب الطبيعية ، فبالإضافة إلى مخالفته للوجدان الذي يلمس بما لا شكّ فيه تأثير تلك العلل والأسباب.

نقول : كيف يمكن إنكار تأثير العلل والأسباب الطبيعية في معلولالتها ونحن نجده سبحانه يصرّح في تأثير الماء في إخراج الثمر مثل قوله تعالى :

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ). (١)

من هذا المنطلق نذعن بأنّ المشيئة الإلهية اقتضت بأنّه ينبغي على الإنسان

__________________

(١) البقرة : ٢٢.

٢٨١

ـ في نفس الوقت الذي يذعن فيه بأنّ الفاعل الحقيقي والمستقل هو الله سبحانه وتعالى ـ أن يتوسّل بالأسباب والعلل الطبيعية لتحصيل مآربه ونيل مراده ، وهذا الأصل يجري حتى في الأُمور المعنوية كذلك ، فالفيض الإلهي والهداية الربانية لا تفاض على الإنسان في الأعمّ الأغلب بصورة مباشرة بل تفاض عليه من خلال الوسائط والأسباب الأُخرى كالفطرة ، والعقل ، والأنبياء والرسل والعلماء و ... ففي الوقت الذي نرى فيه القرآن الكريم ـ وفي موارد متعدّدة ـ يعد الهداية من فعله سبحانه وتعالى حيث يقول : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) نراه مع ذلك في آية أُخرى يعتبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الهادين إلى الصراط المستقيم ، قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ). (٢)

ولا منافاة بين الآيتين أبداً ، فنسبة الهداية إليه سبحانه ، لأنّه هو الأصل والمصدر المستقل الذي تصدر منه تلك الهداية بالاستقلال ومن دون الاتّكاء على شيء آخر ، وكذلك تنسب الهداية إلى النبي باعتباره الواسطة والوسيلة لهذا الفيض الإلهي.

ثمّ إنّ الموقف الذي يتّخذه البعض من ذوي الرؤية القاصرة تجاه المسلمين الذين يعتمدون الأسباب والسبل التي أباحها سبحانه وأجاز التوسّل بها للوصول إلى نيل مرضاته والفوز بنعيم الدنيا والآخرة ، معتبرين انّ ذلك التوسّل واعتماد الأسباب أمراً منافياً لمفهوم التوكّل أو الرازقية!! لا ريب أنّه موقف نابع من الجهل بالمفاهيم الإسلامية والمعارف القرآنية الدقيقة وقصر باعهم في حقل التفسير وبيان المعارف التي جاء بها الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) فاطر : ٨.

(٢) الشورى : ٥٢.

٢٨٢

فإنّ طرق باب الأسباب والسعي والمثابرة على تحصيلها لا يُنافي التوحيد والتوكل عليه سبحانه طرفة عين أبداً ، لأنّ الموحّد حينما يطرق باب الأسباب الطبيعية أو غيرها إنّما يطرقها وهو يعلم علم اليقين انّها أسباب وعلل تبعية ، كلّ ما يصدر منها إنّما هو تجليات ومظهر للإرادة الفاعلة المطلقة المتمثّلة به سبحانه.

وبالطبع لا فرق هنا بين الطلبات التي يبغيها المتوسل ، مادية كانت أم معنوية.

من هنا نجد القرآن الكريم يحثّ المؤمنين الموحّدين على طلب الوسيلة واعتماد طريق الأسباب والوسائط حيث يقول سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). (١)

وينبغي هنا أن نتعرف على المراد من «تحصيل الوسيلة» الوارد في الآية ، وما المقصود منه؟

لقد ذكر أصحاب المعاجم اللغوية ثلاثة استعمالات أو معان للوسيلة هما :

١. المقام والمنزلة :

قال في «مجمع البيان» : وقيل الوسيلة أفضل درجات الجنة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«سلوا الله لي الوسيلة فإنّها درجة في الجنة ...». (٢)

٢. الوسيلة : القربة ، ووسل فلان إلى الله وسيلة إذا عمل عملاً تقرّب به

__________________

(١) المائدة : ٣٥.

(٢) مجمع البيان : ٣ / ٢٩٣.

٢٨٣

إليه. (١)

٣. تحصيل أسباب التقرّب :

قال في «النهاية» : الوسيلة هي في الأصل ، ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به. (٢)

ومن المسلم به أنّ المعنى الأوّل ليس هو المراد ، لأنّه ـ وطبقاً للروايات ـ انّ مقام النبي الأكرم ومنزلته لدى الله سبحانه وتعالى لا يدانيه فيها أحد ولا يشاركه فيها غيره مهما كان.

فلا بدّ من تفسير الآية بأحد المعنيين الأخيرين ، والظاهر انّ المراد من الآية هو المعنى الثالث ، بشهادة انّه سبحانه بعد أن أمر بتحصيل الوسيلة أردفه بالأمر بالجهاد الذي هو أحد مصاديق وسائل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

ويظهر ذلك أيضاً من كلام سيّد الوصيين عليه‌السلام حيث فسّر الوسيلة بمعنى تحصيل أسباب التقرّب إليه سبحانه ، حيث قال عليه‌السلام : «إنّ أفضل ما توسّل به المتوسّلون إلى الله تعالى الإيمان به وبرسوله والجهاد في سبيله ... وإقام الصلاة فإنّها الملّة ، وإيتاء الزكاة». (٣)

ومن الواضح أنّه عليه‌السلام قد ذكر في خطبته مجموعة من الفرائض الشرعية التي هي وسيلة وسبب للتقرّب إلى الله سبحانه.

فالآية الكريمة ترشدنا ـ وبحكم العقل ـ وتبين لنا الطريق حيث تقول : إنّ على الإنسان إذا أراد تحصيل غاياته ومقاصده المعنوية كالتقرّب من الله سبحانه ،

__________________

(١) لسان العرب : ١١ / ٧٢٤ ، مادة «وسل».

(٢) النهاية : ٥ / ١٨٥ ، مادة «وسل».

(٣) نهج البلاغة : الخطبة ١١.

٢٨٤

أن يسلك طريق التوسّل المشروع لنيل ذلك ، فمن ابتغى رضا الله تبارك وتعالى عليه أن يتوسّل بالأعمال الصالحة التي يكتسب بها رضاه ، ومن طلب استجابة دعائه يتوسّل بشيء جُعل في الشريعة وسيلة لها ، ومن أراد زيارة بيت الله الحرام يتوسّل بما يوصله إليه ، وفي الحقيقة أنّ المسألة تشبه التوسّل بالأسباب والعلل لتحصيل المقاصد الدنيوية.

نعم هناك نكتة مهمة ينبغي الالتفات إليها وهي : انّ الوسيلة في الأُمور المعنوية ينبغي أن تحدّد من قبل الشارع نفسه ، لأنّ العقل البشري أقصر من أن يدرك أو يحدد وسائل التقرّب ونيل المغفرة التي يتوخّاها الإنسان.

كما أنّه لا يظن البعض أنّ هذه الآية المباركة هي كافية بوحدها لإثبات مشروعية التوسّل بالأنبياء والأولياء ، بل الآية تثبت أصلاً كلّياً يدعمه العقل السليم. وأمّا ما هي مصاديق تلك الوسائل والوسائط التي ينبغي اعتمادها للتقرب منه سبحانه ونيل رضاه والزلفى إليه وتأمين الحاجات المعنوية ، فالعقل قاصر عن تحديدها وبيانها ، ولا بدّ من الرجوع إلى الشارع نفسه ليعينه لنا ، كما شاهدنا ذلك في كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث أشار إلى مجموعة من مصاديق ووسائل التقرب التي منها : الإيمان بالله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجهاد في سبيل الله ، والصلاة ، والزكاة.

بعد أن عرفنا ذلك ، حان الوقت لتسليط الضوء على أقسام التوسّلات المشروعة التي ندب إليها الشارع المقدس ، وحثّ عليها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلفاؤه عليهم‌السلام ، ومن هذه الوسائل :

٢٨٥

١. التوسّل بأسمائه وصفاته سبحانه

من الوسائل التي حثّ الشارع المقدّس على اعتمادها والتوسّل بها : التوسّل بأسمائه وصفاته سبحانه وتعالى ، ولقد ركّزت الروايات الكثيرة على إبراز هذا النحو من الوسيلة وخاصّة الروايات والأدعية الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة ، نكتفي بذكر حديثين فقط :

١. اخرج الترمذي عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، أنّ رسول الله سمع رجلاً يقول : اللهمّ إنّي أسألك بأنّي أشهد أنّك أنت الله لا إله إلّا أنت ، الأحد ، الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب ، وإذا سُئل به أعطى». (١)

٢. روى الشيخ الطوسي في مصباحه عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ، دعاءً باسم دعاء السمات ورد في مستهلّه :

«اللهم إنّي أسألك باسمك العظيم الأعظم ، الأعزّ الأجلّ الأكرم ، الذي إذا دعيت به على مغالق أبواب السماء للفتح بالرحمة ، انفتحت ، وإذا دعيت به على مضايق أبواب الأرض للفرج ، انفرجت ، وإذا دعيت به على العسير لليسر تيسّرت ...». (٢)

ولا يفوتنا التذكير بدعاء الجوشن الكبير الذي يمثّل نموذجاً بارزاً لهذا النوع من التوسّل ، الذي يقرأه الجميع في ليالي القدر المباركة.

__________________

(١) سنن الترمذي : ٥ / ٥١٥ ، الحديث ٣٤٧٥ ، الباب ٦٥ من كتاب الدعوات.

(٢) مصباح المتهجد : ٣٧٤.

٢٨٦

إنّ ثناء الله وتقديسه ووصفه بما وصف به نفسه في كتابه وسنّة نبيّه ، يوجد أرضية صالحة لاستجابة الدعاء ويكشف عن استحقاق الداعي لرحمته وعفوه وكرمه.

ثمّ إنّ هذا القسم من التوسّل ممّا اتّفقت عليه الأُمّة سلفها وخلفها ولم يذكر فيه أيّ خلاف.

٢. التوسّل بالقرآن الكريم

من الوسائل التي حثّت الشريعة على اعتمادها كوسيلة للتقرّب منه سبحانه ونيل مرضاته ومغفرته : التوسّل بتلاوة القرآن وقراءته ، وفي الحقيقة أنّ هذا النوع من التوسّل يمثّل في واقعه التوسّل بفعل الله سبحانه وتعالى ، فالتوسّل بالقرآن والسؤال به ، توسّل بفعله سبحانه ورحمته التي وسعت كلّ شيء ، لأنّ القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله على قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومع ذلك كلّه ينبغي على الإنسان المسلم التحقّق من وجود الدليل على جواز هذا النوع من التوسّل ، لأنّ كلّ ما يقوم به الإنسان المسلم ـ من التوسّلات ـ ينبغي أن لا تخدش أصل التوحيد ، وحرمة التشريع. ومن حسن الحظ أنّنا نجد الكثير من الروايات التي تؤكّد مشروعية هذه الوسيلة ، منها :

روى الإمام أحمد ، عن عمران بن الحصين أنّه مرّ على رجل يقصّ ، فقال عمران : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، سمعت رسول الله يقول : «اقرءوا القرآن واسألوا الله تبارك وتعالى من قبل أن يجيء قوم يسألون به الناس». (١)

والإمعان في الحديث يرشدنا إلى حقيقة ناصعة وهي جواز السؤال بكلّ

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٤٤٥. ورواه في كنز العمال عن الطبراني في الكبير ، والبيهقي في شعب الايمان لاحظ ج ١ ، ص ٦٠٨ برقم ٢٧٨٨.

٢٨٧

شيء له عند الله منزلة وكرامة وما وجه السؤال بالقرآن إلّا لكونه عزيزاً عند الله ، مكرّماً لديه ، وهو كلامه وفعله ، ولذلك ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام : انّه يستحبّ في ليلة القدر أن يفتح الإنسان القرآن ويقول : «اللهمّ إنّي أسألك بكتابك المنزل وما فيه ، وفيه اسمك الأكبر ، وأسماؤك الحسنى ، وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار». (١)

٣. التوسّل بالأعمال الصالحة

لقد ذكرنا في صدر البحث انّ تحديد السبل والوسائط في تحقيق الأهداف المادية والأغراض الدنيوية هو من وظائف ومهام العقل ، فهو الذي يحدد ومن خلال التجربة ، الوسائل النافعة والحلول الناجعة التي تحقّق للإنسان ما يرومه ، كما يحدد الوقت المناسب والظرف المواتي لكلّ ذلك ، فلرفع العطش أو الجوع أو المرض ، أو تحصيل وسائل الرفاه وما شابه ذلك من الأُمور المادية يكون للعقل والفكر دوره البارز في تحديد ما ينفع وما يضرّ من الوسائل فيها ، وأمّا في مجال الأُمور والأهداف المعنوية فالعقل قاصر عن تحديد الوسائل التي يمكن اعتمادها لتحقيق تلك الأغراض ونيل الأهداف المرجوة بالنحو الأكمل ، فلا بدّ من طرق باب الغيب والاستعانة به ليحدده لنا وانّه من دون الاعتماد على عنصر الغيب وتحديده للوسائل التي ينبغي التوسّل بها ، لا يمكن وصف الأُمور بأنّها وسيلة للتقرب إلى الله تعالى ، بل يدخل ذلك في «البدعة» المحرمة. ومن هنا ينبغي على الإنسان المسلم أن يتوسّل لتحديد الوسائل المعنوية بالكتاب والسنّة المطهرة ليحددان له تلك الوسائل التي يجوز له اعتمادها.

__________________

(١) إقبال الأعمال : ٤١.

٢٨٨

وإذا نظرنا إلى هذه الوسيلة الثالثة «العمل الصالح» نقول : صحيح أنّه لا يوجد تصريح في آيات الذكر الحكيم باعتمادها ، إلّا أنّنا نجد في بعض الآيات تلميحاً إليه ، أضف إلى ذلك انّ السنّة النبوية صرّحت بذلك بصورة واضحة وجليّة.

ولا شكّ أنّ العمل الصالح أحسن شيء يتقرب به الإنسان إلى الله تعالى ، وأفضل وسيلة يتمسّك بها فتكون نتيجة التقرب هي نزول الرحمة الإلهية عليه وإجابة دعائه.

وها نحن نشير إلى بعض الآيات والروايات الواردة في هذا المجال ، والتي منها :

١. قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). (١)

ترى أنّ إبراهيم وولده عليهما‌السلام يقدمان إلى الله تبارك وتعالى وسيلة وهي بناء البيت ، فعند ذلك طلبا من الله سبحانه عدّة أُمور ، هي :

أ. طلب قبول العمل منهما : (تَقَبَّلْ مِنَّا).

ب. التوسّل إليه سبحانه أن يهبهما روح التسليم والخضوع له : (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ).

ج. طلبا منه سبحانه أن يعلمهما مناسك الحجّ : (وَأَرِنا مَناسِكَنا).

د. المنّ عليهما بالرحمة والتوبة (وَتُبْ عَلَيْنا).

__________________

(١) البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٨.

٢٨٩

٢. قوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ). (١)

ترى أنّه عطف طلب الغفران بالفاء على قوله : (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) ، وهذا يعرب عن وجود الصلة بين الإيمان وطلب المغفرة.

وأنت إذا سبرت الآيات الكريمة تقف على نظير ذلك ، لكنّها جميعاً من قبيل التلميح لا التصريح. غير أنّ السنّة النبوية الشريفة قد تكفّلت بالتصريح بأنّ العمل الصالح الذي يقوم به الإنسان هو أحد مصادر نزول الرحمة الإلهية ، فيه تنزل الرحمة ويستجاب الدعاء ، وبالنتيجة هو أحد أسباب ووسائط التوسّل إليه سبحانه.

فلقد روى الفريقان القصة التالية :

روى البخاري عن ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر. فآووا إلى غار فانطبق عليهم ، فقال بعضهم لبعض : إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلّا الصدق ، فليدع كلُّ رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه.

فقال واحد منهم : اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عملَ لي على فرق من أرُز ، فذهب وتركه ، وانّي عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته ، فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقراً ، وأنّه أتاني يطلب أجره ، فقلت : اعمد إلى تلك البقر فسقها ، فقال لي : إنّما لي عندك فرق من أرُز ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فإنّها من ذلك الفرَق ، فساقها ، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ،

__________________

(١) آل عمران : ١٦.

٢٩٠

ففرج عنّا ، فانساحت عنهم الصخرة.

فقال الآخر : اللهم إن كنت تعلم كان لي أبوان شيخان كبيران ، فكنت آتيهما كلّ ليلة بلبن غنم لي ، فأبطأت عليهما ليلة ، فجئت وقد رقدا ، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع ، فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي ، فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكنّا لشربتهما ، فلم أزل انتظر حتى طلع الفجر ، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا ، فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

فقال الآخر : اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عم من أحبّ الناس إليّ وإنّي راودتها عن نفسها فأبت إلّا أن آتيها بمائة دينار ، فطلبتها حتى قدرت ، فأتيتها بها ... إلى أن قال : فتركتها وتركت المائة دينار ، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ، ففرج الله عنهم ، فخرجوا». (١)

وقد روى المحدّث البرقي أحمد بن خالد (المتوفّى ٢٧٤ ه‍ ـ) القصة في محاسنه بالنحو التالي :

عن عبد الرحمن بن أبي نجران ، عن المفضل بن صالح ، عن جابر الجعفي ، يرفعه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خرج ثلاثة نفر يسيحون في الأرض فبينما هم يعبدون الله في كهف في قلّة جبل حتّى بدت صخرة من أعلى الجبل حتّى التقمت باب الكهف ، فقال بعضهم لبعض : عباد الله ، والله ما ينجيكم ممّا وقعتم إلّا أن تصدّقوا الله ، فهلمّوا ما عملتم لله خالصاً ، فإنّما اسلمتم بالذنوب.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٤ / ١٧٣ ، كتاب الأنبياء ، الباب ٥٣ ؛ ورواه أيضاً في ج ٣ / ٦٩ ، في كتاب البيوع الباب ٩٨.

٢٩١

فقال أحدهم : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي طلبت امرأة لحسنها وجمالها ، فأعطيت فيها مالاً ضخماً ، حتّى إذا قدرت عليها وجلست منها مجلس الرجل من المرأة وذكرت النار ، فقمت عنها فزعاً منك ، اللهم فارفع عنا هذه الصخرة ، فانصدعت حتى نظروا إلى الصدع. ثمّ ذكر البرقي باقي القصة باختلاف يسير. (١)

ومن الواضح من هذه الرواية التي رواها الفريقان باختلاف في اللفظ انّ الهدف والغاية من تحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما ذكر هو تعليم أُمّته حتّى يتّخذوا ذكر العمل الصالح وسيلة لاستجابة دعوتهم ولو كان ذلك من خصائص الأُمم الماضية لصرّح به.

٤. التوسّل بدعاء الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو سيد الخلق على الإطلاق ، وأنّه أشرف مخلوق وطأت قدماه هذا الكوكب ، وأنّ له منزلة مرموقة عند ربّه لا يدانيه فيها أحد ، ولقد بلغت عناية القرآن الكريم ببيان نواح من مناقبه وخصاله وسجاياه إلى حدّ لا ترى مثل ذلك إلّا في حقّ القليل من أنبيائه ، ولقد كانت تلك الآيات بحد من الكثرة بحيث لا يسع المقام لذكرها جميعاً هنا.

فلقد بلغت منزلته ومقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درجة عدّه فيها القرآن الكريم أحد الأمانين في الأرض من نزول العذاب ، فقال عزّ من قائل :

(وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ

__________________

(١) نور الثقلين : الجزء الثالث في تفسير قوله : (أَم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) (الكهف : ٩) ، نقلاً عن محاسن البرقي في تفسير الآية.

٢٩٢

يَسْتَغْفِرُونَ). (١)

كما بلغت كرامة الرسول ـ عند الله ـ إلى حدّ قرنت طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطاعة الله سبحانه حيث قال تعالى :

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً). (٢)

فهذه الآية وغيرها من الآيات تحكي جميعاً كرامته ومنزلته العالية لدى الله سبحانه المنزلة التي لا يدانيه فيها أحد على صفحة الوجود ولا نظير لها في عالم الخلق ، ومن له هذا المقام السامي لا يرد دعاؤه ، لذلك أمر المذنبون بالمجيء إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار لديه والطلب منه أن يستغفر الله لهم كما قال تعالى :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً). (٣)

ثمّ إنّ هناك آيات أُخرى تؤكّد أنّ التوسّل بدعاء الإنسان الأمثل كان رائجاً في الرسالات السابقة فنرى أنّ أبناء يعقوب بعد ما انكشف أمرهم وبان ظلمهم توسّلوا بدعاء أبيهم وقالوا له :

(يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). (٤)

__________________

(١) الأنفال : ٣٣.

(٢) الأحزاب : ٧١.

(٣) النساء : ٦٤.

(٤) يوسف : ٩٧ ـ ٩٨.

٢٩٣

ولا ريب ولا شكّ في جواز هذا النوع من التوسّل بحيث لم يناقش فيه أحد ولا يوجد فيه مخالف ، ولكن المهم معرفة السبب والاطلاع على العلة التي جعلت دعاء الأنبياء مستجاباً ، فما هي هذه العلّة والسبب؟

إنّ السبب الواقعي لاستجابة دعائهم عليهم‌السلام انّما يكمن في روحهم الطاهرة ونفوسهم الزكية ، وقربهم من الله سبحانه ، فهي التي تضفي على الدعاء أثراً وتجعله صاعداً ومدعماً لدعاء الغير ، وممّا لا ريب فيه أنّ الدعاء النابع من النفوس الزاكية والأرواح الطاهرة والقلوب التي ملؤها الحب لله والرحمة لعباد الله ، لا يوجد أمامه أي مانع من موانع قبوله ، فلذلك يقبل من دون ترديد.

نعم هناك بحث وكلام في اختصاص ذلك الأمر ـ قبول الدعاء والتوسّل ـ بحياة النبي الجسمانية ، أو يعمّ حياته البرزخية التي فيها يُرزق ويفرح ويستبشر ، فهناك من يخص الآية بحياته الجسمانية بحجة ورود ذلك فيها ، ولكن الأدلّة التي سقناها في بحث الزيارة تثبت عدم وجود الفرق بين الحياتين ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادر في الحياتين على طلب المغفرة من الله سبحانه لمن توسّل به وجعله واسطة بينه وبين ربّه ، وسيأتي المزيد من التفصيل في النقطة السادسة.

٥. التوسّل بدعاء الأخ المؤمن

من الأسباب التي جعلها الله تعالى وسيلة لاستجابة الدعاء هو التوسّل بدعاء الأخ المؤمن.

وقد دلّت الآيات على أنّ الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ، وأنّ المؤمنين اللاحقين يستغفرون للسابقين ، فقال تعالى :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ

٢٩٤

وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا). (١)

وقال تعالى :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ). (٢)

يظهر من الآيات المذكورة أنّ دعاء حملة العرش واللاحقين من المؤمنين سبب صالح لاستجابة الدعاء ، فينبغي على المسلم الواعي التمسّك بهذا الحبل وهذا السبب وطلب الدعاء منهم ، ليكون ذلك سبباً لفوزه برضى الله وغفرانه.

ويكفي في الدلالة على استحباب طلب دعاء الأخ المؤمن ، ما رواه مسلم في صحيحه من أنّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع علو شأنه وعظم منزلته ورفيع مقامه يطلب من أُمّته أن تدعو له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«اسألوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلّت له الشفاعة». (٣)

فهذا الحديث يدلّ بظاهره على أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتوسّل إلى الله تعالى بدعاء أُمّته له ، أن يؤتيه الوسيلة والمقام المحمود في الجنة ، ويكون جزاؤه شفاعته في

__________________

(١) غافر : ٧.

(٢) الحشر : ١٠.

(٣) صحيح مسلم : ٢ / ٤ ، كتاب الصلاة ، الباب ٦ ؛ سنن الترمذي : ٥ / ٢٤٨ برقم ٣٦٩٤ ، كتاب المناقب ، الباب الأوّل.

٢٩٥

حقّهم. فإذا كان هذا حال النبي فنحن من باب أولى يحق لنا أن نتمسّك بهذه الوسيلة.

وبما أنّ هذا النوع من التوسّل من الأُمور المتّفق عليها بين المسلمين لذلك نمسك عنان القلم مكتفين بهذا المقدار من الكلام.

٦. التوسّل بدعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله

أثبتت البحوث السابقة أنّ سيرة المسلمين كانت قائمة على التوسّل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال حياته وانّه كانت أبواب الرحمة مفتحة أمام المذنبين والعاصين منهم انطلاقاً من قوله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً). (١)

فقد كانت السبيل أمامهم مشرعة للمجيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلب الاستغفار منه.

ولقد ذمّ القرآن الكريم المنافقين لعدم استفادتهم من بحر الرحمة الإلهية الزاخر ، وعدم استغلال وانتهاز تلك الفرصة الذهبية والولوج من نافذة الرحمة التي فتحها الله أمام المذنبين حيث قال تعالى في وصفهم :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ). (٢)

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : صحيح أنّ باب الرحمة والفيض الإلهي

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) المنافقون : ٥.

٢٩٦

كان مفتوحاً في حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولحوقه بالرفيق الأعلى هل بقي هذا الباب على ما هو عليه ، بحيث يحقّ للمسلمين التوسّل بدعائه والوقوف في حضرته وطلب الاستغفار منه (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) أم أنّ الباب أوصد برحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

والجواب : لا ريب أنّ سيرة المسلمين قاطبة من عصر الصحابة والتابعين وحتى عصرنا الحاضر قائمة على التوسّل بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رحيله ولحوقه بالرفيق الأعلى وما كانوا يرون فرقاً بين الحياتين ، فمن تصفح سيرة المسلمين ورجع إلى غضون الكتب وشاهد عملهم في المسجد النبوي قرب مزاره الشريف ، يلمس بسهولة استقرار سيرتهم على التوسّل بدعائه من غير فرق بين حياته الدنيوية وانتقاله إلى الرفيق الأعلى ، فبالإضافة إلى السيرة المذكورة نجد انّ نفس متن الزيارة التي نقلها الشيعة والسنّة على السواء تتضمن الطلب المذكور ، ولكي يطمئن القارئ الكريم نأتي ببعض الكلمات التي رواها كبار العلماء من أهل السنّة في هذا المجال وليتّضح أنّ منهج السلف في الزيارة هو نفس المنهج القائم الآن بين أوساط المسلمين ، ومن هذه الكلمات :

١. قال زكريا محيي الدين النووي (٦٣١ ـ ٦٧٦ ه‍ ـ) : ثمّ يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر ... ثمّ يسلّم ولا يرفع صوته ، بل يقصد فيقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا نبي الله ، السلام عليك يا خيرة خلق الله ... ثمّ يقول : جزاك الله يا رسول الله عنّا أفضل ما جزى نبيّاً ورسولاً عن أُمّته ، وصلّى عليك كلّما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل ، ... إلى أن يقول : اللهمّ آته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون.

٢٩٧

ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال : وكنت جالساً عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربّي ثمّ أنشأ يقول :

يا خير من دفنت في القاع أعظمه

فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم (١)

ولا يتصوّر أحد أنّ القول بصحّة طلب الدعاء من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يختص بالنووي وبعض أساتذته ، بل روى ذلك النحو من الزيارة محدّثون وفقهاء آخرون في كتبهم أيضاً.

٢. نقل ابن قدامة الحنبلي (المتوفّى ٦٢٠ ه‍ ـ) في باب آداب زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد أن ذهب إلى استحباب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عن أبي هريرة أنّه قال : ويستحب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما روى الدارقطني باسناده عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي».

وفي رواية : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وعن أبي هريرة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من أحد سلّم عليّ عند قبري إلّا ردّ الله عليّ روحي حتى أردّ عليه‌السلام».

__________________

(١) كتاب المجموع (شرح المذهب للشيرازي) : ٨ / ٢٥٨ ، ط مكتبة الإرشاد.

٢٩٨

ثمّ نقل عن العتبي قصة الأعرابي المذكورة آنفاً. (١)

٣. نقل السمهودي عن كتاب «المستوعب» لمحمد بن عبد الله السامري الحنبلي زيارة الرسول الأكرم بالصورة التالية : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا نبي الله ... اللهمّ إنّك قلت في كتابك لنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ) وانّي قد أتيت نبيّك مستغفراً ، فأسألك أن توجب لي المغفرة كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهم إنّي أتوجّه إليك بنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٢)

٤. نقل الغزالي (المتوفّى ٥٠٥ ه‍ ـ) : في باب زيارة المدينة وآدابها ، الزيارة بصورة مفصّلة ، فبعد أن ذكر الآداب وطريقة الوقوف والخطاب ثمّ التوجه إلى الرسول الأكرم بالتحية والسلام ؛ قال : ثمّ يرجع ـ الزائر ـ فيقف عند رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بين القبر والاسطوانة اليوم ـ ويستقبل القبلة وليحمد الله عزوجل وليمجّده ، وليكثر من الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يقول : اللهمّ إنّك قد قلت وقولك الحقّ (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، اللهم إنّا قد سمعنا قولك وأطعنا أمرك وقصدنا نبيّك متشفعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا تائبين من زللنا ، معترفين بخطايانا وتقصيرنا ، فتب اللهم علينا ، وشفّع نبيّك هذا فينا ، وارفعنا بمنزلته عندك وحقّه عليك. (٣)

٥. ونقل الشيخ حسن بن عمار الشرنبلاني في كتاب «مراقي الفلاح» زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشكل التالي : «السلام عليك يا سيّدي يا رسول الله ، السلام

__________________

(١) المغني لابن قدامة : ٣ / ٥٨٨ ، مع الشرح الكبير.

(٢) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٧٦.

(٣) إحياء علوم الدين : ١ / ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٢٩٩

عليك يا نبي الله ... انّ الخطايا قد قصمت ظهورنا ، والأوزار قد أثقلت كواهلنا وأنت الشافع المشفّع ، الموعود بالشفاعة العظمى والمقام المحمود والوسيلة ، وقد قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا ، مستغفرين لذنوبنا ، فاشفع لنا إلى ربّك». (١)

هذه بعض النماذج أوردناها من كتب الإخوة أهل السنّة ، والمراجع للمصادر الشيعية يجد أنّ الآية التي ذكرها علماء أهل السنّة في الزيارة قد أوردها أيضاً علماء الشيعة ، منهم :

٦. السيد ابن طاوس (المتوفّى ٦٦٤ ه‍ ـ) حيث نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام كيفية الزيارة بالصورة التالية : «اللهمّ إنّك قلت لنبيّك محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) ، ولم أحضر زمان رسولك ، وقد زرته راغباً تائباً من سيّئ عملي ، ومستغفراً لك من ذنوبي ومقرّاً لك بها». (٢)

إنّ هذه النماذج التي نقلناها من آداب الزيارة تتّفق جميعها على الاستشهاد بالآية ، وإنّ على زائر المدينة على صاحبها آلاف التحية والسلام أن يتلو الآية المذكورة. وفي الحقيقة أنّ الإمعان في الآية يكشف عن أنّها تضع تكليفاً على كاهل المكلّف وآخر على كاهل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أمّا التكليف الذي يقع على كاهل المكلّف فهو أن يأتي إلى حضرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستغفر الله لديه ويطلب منه الاستغفار.

__________________

(١) الغدير : ٥ / ١٣٩ نقلاً عن مراقي الفلاح.

(٢) إقبال الأعمال : ٦٠٦.

٣٠٠