الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

١. يدرك الإنسان انّ له وجوداً ثابتاً في خضم التحوّلات والتغيّرات يطلق عليه مصطلح ال ـ «أنا».

٢. انّ العنصر المادي للإنسان عرضة للتحوّلات والتقلّبات عبر السنين والأيام ، وانّ جميع خلاياه في تحوّل وتبدّل دائمين بنحو يستبدل الإنسان جميع خلاياه كلّ ثمان سنين ، كما أثبتت ذلك النظريات العلمية.

النتيجة : انّ «الأنا» لا تمثّل القسم المادي من وجود الإنسان أبداً ، وانّما تحمل هوية غير مادية ووجوداً مستقلاً ، وذلك لأنّه إذا كانت حقيقة الإنسان كامنة في عنصري المادة والطاقة ، فلا يمكن حينئذ أن تكون للإنسان شخصية ثابتة وحقيقة باقية ، وذلك لأنّ عنصري المادة والطاقة في تحوّل وتغيّر دائمين ، فلا يحق لأيّ محكمة في العالم أن تقاضي إنساناً في سن الأربعين على جرم قد اقترفه وهو في سن العشرين ، لأنّ الشخصية التي اقترفت الجريمة وارتكبت الجرم قد اندثرت وانتهت بالكامل ، وهو الآن يعيش بشخصية أُخرى ، هي شخصية الإنسان في سن الأربعين. والحال انّ الجميع يدركون بالوجدان انّ هناك شيئاً ثابتاً هو الذي توجّه إليه نسبة الجريمة واقتراف المخالفة ، سواءً كان في العشرين من العمر ، أو الأربعين أو المائة ، وهذا الشيء هو الذي يمثّل الحقيقة الثابتة والأمر الواقعي للإنسان والذي يعبّر عنه بالروح.

٣. علم الإنسان بنفسه مع غفلته عن بدنه

أقام الفيلسوف الإسلامي الكبير ابن سينا برهاناً على هذه القضية نأتي به مع التصرّف في العبارة بنحو ينسجم مع أُسلوب هذا الكتاب ، والبرهان يقوم على الفكرة التالية : لنفرض إنساناً ما يعيش في حديقة غنّاء وفضاء طلق لا يشعر فيه

٢٤١

بحر أو برد ، ولا يوجد طائر أو حيوان أو ما شابه ذلك يعكّر عليه هدوءه ، فلا طائر يصدح ، ولا غراب ينعب ، ولا حيوان يصيح ، ولا حفيف شجر ولا تساقط ورق ، ولا ... ، فلا يلامس أعضاءه شيء أبداً.

فإنّ الإنسان في الحالة المذكورة يغفل عن كلّ أعضائه الظاهرة والباطنة ، وكونه جسماً ذا أبعاد ، وحواسّه وقواه ، والأشياء الخارجة عنه جميعاً ، كلّ ذلك يغفل عنه ، ولكنّه لا يغفل عن شيء واحد رغم ذلك كلّه ، وهذا الشيء هو ثبوت ذاته ، فإذاً أوّل الإدراكات على الإطلاق وأوضحها هو إدراك الإنسان نفسه ، وظاهر انّ مثل هذا الإدراك لا يمكن أن يكتسب بحد أو رسم (أي من خلال التعريف) ، أو يثبت بحجة أو برهان. (١)

والحقيقة انّ هذا البرهان لا يحتاج في تقريره إلى كلّ هذه المقدّمات الواسعة ، بل يمكن إثباته بصورة مختصرة ، فأنت ترى الإنسان قد يغرق أحياناً في التفكير والتأمّل بنحو يغفل عن كلّ شيء إلى درجة قد لا يلتفت ولا ينتبه إلى حوادث مهمة جداً تقع إلى جانبه ، ولكنّه مع كلّ ذلك لا يغفل عن شيء واحد ، وهو شخصيته العلمية وتفكيره وانّه إنسان مفكّر وهذه المسألة تحكي أنّ حقيقة الإنسان وواقعه شيء وراء البدن والأعضاء المادية ، التي طالما يغفل عنها ولا يلتفت إليها.

٤. الروح من وجهة الدراسات والبحوث العلمية الحديثة

إلى هنا تعرّفنا على وجود حقيقة تكمن وراء البدن يطلق عليها مفهوم «الروح».

__________________

(١) الإشارات والتنبيهات : ٢ / ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، بتصرّف في العبارة ؛ وانظر الشفاء قسم الطبيعيات : ٢٨٢.

٢٤٢

وما ذكرناه إلى هنا مجموعة من البراهين العقلية والتجريبية ، عامّة الفهم والتي يدرك الجميع من خلالها حقيقة تجرّد الروح ، وها نحن نعطف عنان القلم إكمالاً للبحث وإتماماً للفائدة للحديث عن النهضة العلمية المعاصرة والتي سلّطت الأضواء على جميع أبعاد الإنسان تحت عنوان «معرفة الإنسان» ، ليتّضح لنا موقف العلوم التجريبية والفلسفية في هذه القضية ثمّ نعرّج على الموقف القرآني وحكمه فيها.

تشكّلت في عام ١٨٨٢ م جمعية تحت عنوان «جمعية البحوث الروحية» برئاسة المفكّر الإنجليزي الأُستاذ «جوميك» أُستاذ جامعة «كامبريج».

وقد ضمّت الجمعية كلاً من العالم «أُوليوردلوچ» والمعروف ب ـ «دارون العلوم الطبيعية» (١) ، والكيمياوي الإنجليزي المعروف «وليام كروكس» وكلاً من الأُستاذين : «فردريك ميرس» ، و «هورسن» الأساتذة في جامعة «هاروارد» الإمريكية ، و «هيزلوپ» الأُستاذ في جامعة «كلومبيا» ، وغير هؤلاء من العلماء والباحثين الكبار ، أمثال : «عارمي» و «باربت» و «بورمو» و «شارل پيشيه» الأُستاذ في كلية الطب ، والرياضي المعروف والفلكي الفرنسي المعروف «كاميل فلاماريون» و ....

وقد عمل هذا الفريق العلمي الكبير وعلى مدى ٤٥ عاماً بجهود حثيثة ، فكانت ثمرة ذلك العمل إصدار موسوعة كبيرة تتألف من خمسين كتاباً ، سلّطوا فيها الأضواء على جميع الموضوعات التي تتعلّق بالروح والنفس ، ولقد كان لهذا العمل دوره البارز في حلّ الكثير من الإشكالات والتساؤلات المطروحة في هذا

__________________

(١) في مقابل العالم الطبيعي المشهور «دارون».

٢٤٣

المجال.

وفي الحقيقة انّ الله سبحانه وتعالى فتح على الإنسان في هذا العصر نافذة من العلم ، ثبت من خلالها انّ للإنسان روحاً تستطيع الحياة بصورة مستقلة عن البدن ، وهي قادرة على القيام ببعض الأعمال بدون أن تستعين بالبدن المادي. (١)

ثمّ إنّ علم تحضير الأرواح (spritisme) والذي أُقيمت أُسسه في القرن الماضي هو الآخر أزاح الستار عن العالم الآخر وبنحو وفّر للإنسان إمكانية الاتّصال والارتباط بذلك العالم (عالم الروح).

ثمّ إنّ العلوم والحقائق التي اكتشفها العلماء وشاهدوها من خلال جلسات إحضار الأرواح ، يمكنها هي الأُخرى أن توصلنا إلى النتيجة التالية ، وهي : انّ الإنسان يمتلك ـ بالإضافة إلى البدن المادي ـ روحاً مستقلة لم يتطرّق إليها الفناء بموت الجسد وانعدامه ، وانّ العلاقة بين الأموات والأحياء هي خير دليل على استقلال الروح وبقائها ، وقدرتها على القيام بالكثير من الأعمال الصعبة بإذنه تعالى. (٢)

ولا زالت هذه الحركة قائمة في البلاد الغربيّة ، ويمكنها أن تكون عاملاً مهماً في حصول الاطمئنان لدى بعض الناس المعجبين بالنتاجات والنظريات التي هي وليدة البيئة الغربية ، أو الناس الذين لا يذعنون للأُمور بسرعة.

بعد هذه الجولة السريعة في البراهين الفلسفية والأدلّة العقلية والإشارة إلى

__________________

(١) لمزيد الاطّلاع انظر : دائرة معارف القرن العشرين لفريد وجدي ، مادتي : «روح» و «وحي».

(٢) انظر «عالم ما بعد الموت» تأليف لئون دني ص ٧٨ ـ ٨٢. ثمّ إنّنا إنّما ذكرنا ذلك باعتباره مؤيّداً لأصل الموضوع ، ولسنا بصدد تصديق كلّ المدعيات التي صدرت من هؤلاء العلماء وحكمهم في مسألة تحضير الأرواح والارتباط بها.

٢٤٤

النتاجات والتحقيقات العلمية المعاصرة ، نعطف عنان القلم إلى القرآن الكريم لنعرف موقفه من هذه القضية الحسّاسة.

القرآن وحقيقة الشخصية الإنسانية

إذا استعرضنا آيات الذكر الحكيم نقف على أنّها تدلّ على أنّ حقيقة الإنسان وشخصيته غير جسمه المادي ، وهذه الآيات قد توزّعت على عناوين مختلفة ، كلّها تشير إلى هذه الحقيقة ، ومن هذه العناوين التي يمكن اقتناصها من آيات الذكر الحكيم :

القرآن وتجرّد الروح

لقد أشار الكثير من آيات الذكر الحكيم إلى تجرّد الروح عن المادة وآثارها ، وهذا شاهد واضح وجليّ على أنّ حقيقة الإنسان لا تنحصر في هذا البدن المادي ، بل انّ البدن في حقيقته ليس إلّا آلة ووسيلة تستخدمها الروح لتنفيذ أغراضها ، وانّ واقع الإنسان وحقيقته يتمثّل في روحه ونفسه ، وقد وردت في هذا المجال الكثير من الآيات الكريمة نشير إلى بعضها :

١. توفّي الأنفس حين موتها

لقد أكّد القرآن الكريم بما لا ريب فيه أنّ الله تعالى يتوفّى الأنفس حين موتها ، وكذلك حين منامها ، فيمسك سبحانه النفس التي قضى عليها الموت ويعيد الأُخرى إلى بدنها إلى أجل آخر ، قال تعالى :

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها

٢٤٥

فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). (١)

إنّ لفظة «يتوفّى» والتي تعني الأخذ بصورة كاملة ، وكذلك مصطلحي «الإمساك» و «الإرسال» تدلّ جميعها على أنّ هناك جوهراً ووجوداً غير البدن المادي في الكيان الإنساني يتعلّق به «التوفّي» و «الإمساك» و «الإرسال» ، وليس المراد من التوفّي في الآية إلّا أخذ الأنفس وقبضها ، ومعنى ذلك أنّه سبحانه يقبض الأنفس إليه ، وقت موتها وفي منامها ، بيد أنّ من قضى عليه بالموت يمسك روحه إلى يوم القيامة ولا يسمح لها بالعودة إلى الحياة الدنيا ، ومن لم يقض عليه به يرسل روحه إلى الدنيا إلى أجل مسمّى.

ومن البديهي انّ شخصية الإنسان لو كانت تتمثّل في جسمه وبدنه المادي ، لما كان استعمال هذه المصطلحات والمفاهيم ـ من قبيل : «التوفّي» ، «الإمساك» ، «الإرسال» ـ استعمالاً صحيحاً ، لأنّ هذه المصطلحات إنّما تصدق في مجال الحديث عن الروح لا البدن ، وفي هذا دلالة واضحة على وجود الروح واستقلاليتها ، لأنّه من المستحيل إمساك المعدوم أو غير الموجود. وبما أنّه سبحانه عبّر بالإمساك ، وعرفنا أنّ هذا الإمساك لم يتعلّق بالبدن فلا بدّ من الإذعان أنّه يتعلّق بالروح ، وهذا خير دليل على وجودها وتجرّدها.

٢. حقيقة الإنسان وواقعه عند الله سبحانه

لقد تعرّض القرآن الكريم لبيان الإشكال الذي أثاره المشركون حول معاد الإنسان ، فقال سبحانه حاكياً شبهتهم : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ

__________________

(١) الزمر : ٤٢.

٢٤٦

جَدِيدٍ). (١)

وفي الحقيقة انّ أساس إشكالهم مبني على الفكرة التالية : انّهم اعتقدوا انّ الموت يمثل بطلان الشخصية الإنسانية وانعدامها ، لأنّهم تصوّروا أنّ حقيقة الإنسان قائمة ببدنه ، وبما أنّ هذا البدن المادي سوف يتفسّخ وينحل إلى جزئيات وذرّات تتبعثر في الأرض (ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) وتختلط بالتراب ، فمن المستحيل إعادة تلك الذرّات المتناثرة هنا وهناك مرّة أُخرى لتعود إلى ما كانت عليه قبل الموت إنساناً كاملاً سويّاً!!

ولقد أجاب القرآن الكريم عن هذه الشبهة ببيان بطلان أساسها ، حيث بيّن سبحانه وتعالى للمشركين أنّ اعتقادهم بأنّ حقيقة الإنسان تنحصر في العنصر المادّي منه اعتقاد باطل ، وتفكير ساذج ، لأنّ الإنسان يتكوّن من عنصرين :

أحدهما : البدن المادي ، وهذا هو الذي يطرأ عليه الفناء والضلال والتبعثر في الأرض.

وهناك عنصر آخر في الإنسان لا يتطرّق إليه الفناء ولا الضلال في الأرض ، وهو الذي يمثّل حقيقة الإنسان وواقعيته ، وهذا الشيء الثابت يقبضه ملك الموت بصورة كاملة من دون أيّ نقص أو انعدام ، قال تعالى :

(قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ). (٢)

__________________

(١) السجدة : ١٠.

(٢) السجدة : ١١.

٢٤٧

فكما ثبت في الآية الأُولى أنّ «التوفّي» ليس بمعنى الإماتة ، بل بمعنى الأخذ والقبض والاستيفاء حيث قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) ، فهكذا الكلام في الآية الثانية حيث إنّها أشارت إلى أنّ الإنسان في واقعه يتكوّن من قسمين أساسيين ، هما :

الف : البدن والجسم الظاهري ، وهذا هو الذي يضل في التراب بعد الموت ، وهو الذي يتحوّل إلى ذرّات متناثرة هنا وهناك ، بل قد يتحوّل إلى مواد أُخرى أثر التفاعلات الكيمياوية وغيرها من العوامل.

ب : القسم الثاني والذي يمثّل حقيقة الإنسان وبه قوام شخصيته ، والذي عبّر عنه في الآية الكريمة بلفظ «كم» الوارد في قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) ، فهذا هو جوهر شخصية الإنسان وحقيقته ، وانّ الذي يتوفّاه ملك الموت ويأخذه وينتزعه من الجسد ، ليس إلّا الجانب الأصيل الذي به تناط شخصيته وتتقوّم به حقيقته ، وهو محفوظ عند الله تعالى.

وفي الحقيقة انّ الآية المباركة قد أشارت في مقام الجواب إلى برهان علمي وهو : انّ الذي يضل في التراب من الإنسان ـ بسبب الموت ـ هو القشر والبدن ، وأمّا حقيقته وهي الروح الإنسانية التي بها قوام شخصيته ، فلا يطالها الفناء ولا ينالها الاندثار.

وهذا البيان يثبت وبجلاء انّ للإنسان ـ وراء بدنه الذي يفنى ـ واقعاً لا تطرأ عليه آثار المادة من الانعدام والضلال في الأرض أبداً.

إلى هنا وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وهي : أنّ الرؤية القرآنية متطابقة مع الحقائق التي أثبتتها البراهين الفلسفية والأدلّة العقلية والعلوم المعاصرة ، والتي تتمثّل في أنّ حقيقة الإنسان وشخصيته تتقوّم في روحه ونفسه ، لا في بدنه المادي.

٢٤٨

الأصل الثاني

ما هي حقيقة الموت؟

قد تعرّفنا في الأصل الأوّل على أنّ واقع الإنسان يكمن في روحه ونفسه لا في بدنه المادّي ، وانّ هذه النفس لتجرّدها وصيانتها من الآثار والتفاعلات المادية من قبيل : (الانحلال ، الفناء ، الفساد ، والاندثار و ...) تكون في قبضته سبحانه خالدة إلى يوم القيامة.

من هذا المنطلق تتّضح حقيقة الموت بصورة واضحة ، وذلك لأنّه إذا كانت حقيقة الإنسان وواقعه تتمثّل في روحه ونفسه الخالدة ، فحينئذ يكون الموت عبارة عن فصل «الروح» عن «البدن» ونزعها عنه بسبب بعض العوامل والتغيّرات التي تطرأ على البدن ممّا تجعل استمرار عملية الارتباط بينهما غير ممكنة.

وبعبارة أُخرى : انّ الروح الإنسانية تصل إلى درجة من الكمال تنتفي معه الحاجة إلى البدن المادي ، وتصل النفس وتحت شروط معينة إلى درجة من الرقي بحيث تستطيع الانتقال إلى الحياة الأُخرى المناسبة لها من دون أن تستصحب معها لباسها المادّي.

٢٤٩

ثمّ إنّ بقاء الروح بعد الموت من الحقائق الفلسفية والعلمية التي أثبتها كبار فلاسفة اليونان ، أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو ، وابن سينا وشيخ الإشراق وصدر المتألّهين من الفلاسفة الإسلاميين ، حيث أقاموا عليها البراهين الفلسفية الدقيقة والأدلّة العقلية المحكمة. وأخيراً وصلت القضية إلى مستوى الحقيقة العلمية بفضل سلسلة من التجارب والجهود العلمية التي قام بها العلماء الغربيون وعلى مدى أعوام طويلة من البحث والمتابعة.

نعم ، لقد أصابت العالم في القرن التاسع عشر حُمّى النظرية المادية التي أنكرت قضايا ما وراء الطبيعة من قبيل : الله ، الملائكة ، الروح المجرّدة ، وغيرها من العوالم الغيبية ، إلّا أنّه ومع إطلالة القرن العشرين وخاصة النصف الثاني منه عادت عجلة الحركة الفكرية إلى مجراها الطبيعي بصورة ما ، بسبب الجهود والمساعي المشكورة التي بذلها الإلهيّون حيث فتحوا أمام العالم نافذة تطل على عالم ما وراء الطبيعة ، أثبتوا من خلالها أصالة الروح وبقاءها بعد الموت ، وهذا ما تمّت الإشارة إليه حينما تعرضنا للبحث عن الأصل الأوّل.

وفي هذا الأصل نحاول السير مع آيات الذكر الحكيم ، لنتعرف على الرؤية القرآنية لمسألة الموت ، وكذلك نحاول اقتناص موقف السنّة النبوية الشريفة وسيرة أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً.

القرآن الكريم وبقاء الروح

بما أنّ مستندنا في هذا الأصل سيكون آيات الذكر الحكيم والروايات الصادرة عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، فلا بدّ من استقراء تلك الآيات والروايات ولو بصورة مختصرة ، لبيان موقفها من تجرّد الروح وبقائها بعد الموت.

٢٥٠

ومن حسن الحظ انّ هناك الكثير من آيات الذكر الحكيم التي دلّت وبصراحة على استمرار الحياة الإنسانية بعد الموت ، وبما أنّ تلك الآيات من الكثرة بحيث لا يتسنّى نقلها جميعاً مع ذكر التفاسير الواردة فيها ، ضمن هذا الكتاب ، من هنا نكتفي بذكر نماذج منها :

١. الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون

لقد ورد العديد من آيات الذكر الحكيم التي تؤكّد على أنّ شهداء طريق الحقّ أحياء عند ربّهم يرزقون ، نكتفي بذكر ثلاثة موارد منها :

الف : قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ). (١)

قد يتصوّر البعض أنّ الآية المباركة تشير إلى انّ المراد من حياة شهداء الفضيلة وطريق الحق ، هو حياتهم وخلودهم الاجتماعي ، باعتبار انّ هذه الطائفة المضحّية والتي قد أقدمت على بذل نفوسها في سبيل العقيدة والمبدأ ، خالدة وحاضرة دائماً في ضمير الأُمّة وفي فكرها ووعيها وفي قلوب المؤمنين ، وانّ تضحياتهم قد رسخت في ذهن الأُمّة بنحو لا يتسنّى لها محو تلك البطولات الرائعة والتضحيات العظيمة ، بل انّ الأُمّة قد خطّت مواقفهم بماء الذهب على صفحات تاريخها بحيث أصبحوا يمثّلون عنصراً مهماً ورافداً أساسياً من روافد تاريخها الذي تفتخر به.

ولكن التأمّل في نفس الآية المباركة يثبت ضعف هذه النظرية ووهن هذه

__________________

(١) البقرة : ١٥٤.

٢٥١

الفكرة ، وذلك لأنّ المتمعّن في الآية المباركة يجد في ذيلها الفقرة التالية : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) ، وهذا يعني أنّ الحياة التي تتحدّث عنها الآية المباركة للشهداء حياة لا يشعر بها الإنسان. ولا يمكن له الإحساس بها. والحال انّ المعنى الذي ذكره أصحاب تلك النظرية معلوم ، إن لم يكن للجميع ، فعلى أقل تقدير أنّه معلوم لطائفة كبيرة منهم ، حيث إنّ هناك الكثير ممّن يشعرون بهذا المعنى والمفهوم الاجتماعي للحياة ، وحينئذ لو كان هذا هو المقصود من الآية المباركة لكان قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) لغواً لا طائل فيه ، وبما أنّ كلامه سبحانه وتعالى منزّه عن اللغو والعبث ، فلا بدّ من الإذعان بأنّ الآية المباركة تتحدّث عن حياة أُخرى يعيشها الشهداء عند ربّهم سبحانه وتعالى تنسجم مع قوله سبحانه : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ).

ب : قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

ج : قوله تعالى (١) : (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). (٢)

ثمّ تردف الآية المباركة ذلك بقوله سبحانه : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ). (٣)

فهذه الباقة من آيات الذكر الحكيم تدلّ وبصراحة وقاطعية على الدرجة الرفيعة والمنزلة السامية التي ينالها شهداء الفضيلة ، ولم تكتفِ الآيات الكريمة بذلك ، بل أثبتت أنّ هؤلاء الشهداء لا انّهم أحياء عند ربّهم فحسب ، بل يتمتّعون

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١.

(٢) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١.

(٣) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧١.

٢٥٢

بالإضافة إلى ذلك بالآثار الجسمانية والمعنوية للحياة ، لأنّ الرزق والفرح والاستبشار من الآثار الجسمية والروحية للإنسان الحي.

٢. قصة مؤمن سورة «يس» وكلامه بعد قتله

اتّفق المفسّرون على أنّ النبي عيسى عليه‌السلام قد أرسل ثلاثة من الرسل إلى أنطاكية داعين أهلها إلى التوحيد وترك عبادة غير الله سبحانه ، فعارضهم أهل أنطاكية ولم ينصاعوا إلى الدعوة المباركة.

فبينما كان القوم والرسل يتحاجّون ، إذ جاء رجل من أقصى المدينة يسعى داعياً الناس إلى تصديق الرسل والإيمان بهم ، ومبيّناً لهم الأدلّة المنطقية والعقلية التي تحتم عليهم الإذعان للمرسلين والانصياع لدعوتهم ، وقد فصل القرآن الكريم تلك الأدلّة في سورة يس (١). وبعد أن بيّن الوجوه والأدلّة التي تحثّ على الإيمان وتلزم بالانقياد لرسالة التوحيد ، أعلن عن موقفه موجهاً كلامه إلى القوم أو إلى الرسل حيث قال : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢) ، وما أن انتهى من إعلان موقفه وبيان إيمانه بالرسالة حتى انثال عليه القوم بالضرب والرجم حتى أردوه قتيلاً مضرّجاً بدمائه ، ولكنّه سبحانه جزاه على موقفه هذا بدخول الجنة قال تعالى : (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ، فلمّا دخل الجنة ورأى النعيم الإلهي قال : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ). (٣)

ولا ريب أنّ المراد من الجنة هنا الجنة البرزخية لا الحياة الأُخروية ، بدليل

__________________

(١) يس : ٢٠ ـ ٢٩.

(٢) يس : ٢٥.

(٣) يس : ٢٦ ـ ٢٧.

٢٥٣

تمنّيه الوارد في الآية : (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) ، إذ من الواضح أنّ الحجب في الحياة الأُخروية مرفوعة وانّ قومه المشركين يعلمون ، بل يرون النعم الإلهية التي ينعم الله تعالى بها على المؤمنين ، وإنّما الحجب موجودة بينهم وبين الحياة البرزخية ، ومن هنا يكون تمنّيه أمراً معقولاً ومنطقياً ، بخلاف ما لو كان المراد من الحياة هي الحياة الأُخروية ، فلا معنى حينئذ لهذا التمنّي مع رفع الحجب والأستار وانكشاف الأُمور إلى درجة تصفه الآية المباركة بقوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). (١)

ثمّ إنّه سبحانه لم يمهل القاتلين طويلاً ولم يرسل جنداً من السماء لإهلاكهم ، بل أهلكهم سبحانه وأطفأ نور حياتهم بصيحة سماوية كانت فيها نهايتهم ، حيث قال سبحانه : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ* إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ). (٢)

وخلاصة الكلام : انّ الآيات السابقة تدلّ بوضوح على بقاء الروح وإدراكها وشعورها وتلقّيها الخطابات (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ، وتمنّيها أن يرى قومها ما أنعم الله عليها (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) ، وهلاك قومه بالصيحة بعد قتله مباشرة ، كلّ ذلك يراد به الحياة البرزخية والجنة البرزخية لا الأُخروية.

٣. عرض آل فرعون على النار

قال تعالى في وصف حال آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا

__________________

(١) ق : ٢٢.

(٢) يس : ٢٨ ـ ٢٩.

٢٥٤

وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ). (١)

ومن يمعن النظر في الآية المباركة يجدها تتألّف من شقين أو قسمين ، أو أنّها تشير إلى مرحلتين :

المرحلة الأُولى : عرض آل فرعون غدواً وعشياً على النار.

الثانية : قيام الساعة وإدخال آل فرعون أشدّ العذاب.

يتّضح وبجلاء من هذين المقطعين أو من خلال هذين المرحلتين انّ المرحلة الأُولى ناظرة إلى الحياة البرزخية التي يعيشها آل فرعون ، والتي يعرضون فيها على النار غدواً وعشياً ، وستستمر هذه المرحلة إلى قيام الساعة ، ولو لا قوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) ، لما اتّضح لنا هذا المعنى الذي ذكرناه من الآية المباركة.

٤. قصة أُمّة النبي نوح عليه‌السلام بعد غرقهم ودخولهم النار

قال تعالى مشيراً إلى عاقبة قوم نوح عليه‌السلام : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً). (٢)

ذهب البعض من المفسّرين إلى تفسير الجملة الثانية بنار الآخرة ، لأنّها وردت بصيغة الماضي فقال : (فَأُدْخِلُوا ناراً) بصيغة الماضي لكون تحقّقه قطعياً. (٣)

ولكن هذا التأويل ـ بالإضافة إلى عدم وجود شاهد يعضده ـ مخالف لظاهر الآية المباركة ، لأنّ ظاهرها أنّ دخولهم النار كان ملاصقاً لغرقهم ومتصلاً به من دون أن تتخلّل بين الأمرين (الإغراق والدخول) فاصلة زمنية طويلة ، وذلك

__________________

(١) غافر : ٤٦.

(٢) نوح : ٢٥.

(٣) مجمع البيان : ٥ / ٣٦٤.

٢٥٥

بدلالة حرف «الفاء» الوارد في الآية.

فلو كان المراد من الآية نفس ما ورد في التفسير المذكور ، لكان من اللازم أن يأتي بدل قوله : (فَأُدْخِلُوا) جملة (ثمّ ادخلوا) ، لأنّه بناءً على هذا الاحتمال ، لا بدّ من وجود الفاصلة الزمنية الطويلة بين الإغراق والدخول في النار ، والذي يناسبه عطف الجملة الثانية على الأُولى بحرف (ثمّ).

نكتفي هنا بهذا المقدار من آيات الذكر الحكيم الدالة على الحياة البرزخية ، ومن أراد المزيد من التفصيل فعليه مراجعة كتابنا «في ظلال التوحيد» ، وكتابنا الآخر «الحياة البرزخية».

السنّة الشريفة والحياة البرزخية

كان الكلام في بيان الرؤية القرآنية للحياة البرزخية ، وقد حان الوقت لعطف عنان القلم لبيان موقف الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الطاهرين من أهل بيته عليهم‌السلام في هذه المسألة.

لقد أولى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام هذه المسألة الحسّاسة أهمية خاصّة ، وسلّطوا الأضواء على جميع أبعادها من خلال أحاديثهم والروايات الكثيرة التي وردت عنهم عليهم‌السلام ، حتّى أنّ أصحاب الكتب الحديثية والعقائدية أفردوا أبواباً خاصةً ذكروا فيها تلك الأحاديث الشريفة ، ونحن نقتطف بعض النماذج من تلك الروايات :

١. روى مسلم عن عائشة أنّها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّما كان ليلتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول : «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون ، غداً مؤجّلون ، وانّا إن شاء الله بكم لاحقون ، اللهمّ اغفر لأهل

٢٥٦

بقيع الغرقد». (١)

فلو كان الأموات لا يسمعون كالجماد يكون السلام عليهم عندئذ عبثاً ، وأين منزلة نبي الحكمة من العبث؟!

٢. الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم عائشة كيفية السلام على الموتى.

قالت عائشة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ورحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين وانّا إن شاء الله بكم لاحقون». (٢)

__________________

(١) صحيح مسلم : ٧ / ٤١.

(٢) صحيح مسلم : ٣ / ٦٤ ، باب ما يقال عند دخول القبور من كتاب الجنائز ؛ سنن النسائي : ٤ / ٩١.

٢٥٧

الأصل الثالث

وجود الصلة بين الحياتين الدنيوية والبرزخية

إلى هنا تمّ البحث عن إثبات الأصلين السابقين :

١. انّ حقيقة الإنسان تكمن في روحه المجرّدة ونفسه الخالدة.

٢. انّ الموت يمثّل عملية انتقال من مرحلة إلى أُخرى ، ومن حياة إلى حياة أُخرى ، ولا يعني بحال من الأحوال أنّه فناء وانعدام للإنسان بالكامل.

وها نحن ننتقل إلى دراسة الأصل الثالث ، الذي يحظى بأهمية كبيرة في مجال الدراسات العقيدية ، إذ قد يتصوّر البعض أنّ بين الحياتين توجد موانع وأستار وحجب ، تمنع من المشاهدة والسماع بين الدارين.

ومن الناحية المنهجية نحاول في هذا الأصل أن نصرف النظر عن تجارب الغربيين وآرائهم في هذا المجال ، ونكتفي بدراسة المسألة من الزاويتين القرآنية والحديثية فقط ، بالإضافة إلى بعض كلمات علماء المسلمين في هذا الصدد.

القرآن الكريم والصلة بين الحياتين

لقد سلّطت آيات الذكر الحكيم الضوء على هذه المسألة وأزاحت الستار

٢٥٨

عنها ، وأثبتت بما لا شكّ ولا ريب فيه وجود الصلة بين الحياتين ، وانّ الذين عبروا قنطرة الموت لا زالت صلة البعض منهم ـ على أقلّ تقدير ـ باقية مع الحياة الدنيا ، وها نحن نشير إلى بعض النماذج من تلك الآيات لتنجلي حقيقة الأمر وتتّضح الحقيقة لمن يرومها.

١. النبي صالح عليه‌السلام يكلّم قومه بعد هلاكهم

من الآيات التي تؤكّد وجود الصلة بين الحياتين مجموعة الآيات التي وردت في قصة النبي صالح عليه‌السلام حيث أكّد القرآن الكريم أنّه عليه‌السلام دعا قومه إلى عبادة الله وترك التعرّض لمعجزته «الناقة» بسوء ، ولكنّهم عقروها وعتوا عن أمر ربّهم ، وقد جاء بيان القصة في الآيات الثلاث التالية :

قوله تعالى : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

وقوله تعالى : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ).

وقوله تعالى : (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ). (١)

وإذا أمعنا النظر في الآيات الثلاث نجد :

إنّ الآية الأُولى أشارت إلى أنّ قوم صالح عليه‌السلام طلبوا العذاب الإلهي الذي وعدهم به النبي صالح عليه‌السلام.

وأمّا الآية الثانية فتؤكّد نزول ذلك العذاب عليهم (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ

__________________

(١) الأعراف : ٧٧ ـ ٧٩.

٢٥٩

جاثِمِينَ).

وأمّا الآية الثالثة فقد نقلت الحديث إلى كلام صالح عليه‌السلام مع قومه بعد نزول العذاب عليهم وهلاكهم ، وكيف أنّه عليه‌السلام أخذ يخاطبهم بقوله : (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).

والشاهد على أنّه عليه‌السلام تحدّث معهم بعد هلاكهم ونزول العذاب بهم ، هو :

١. نظم الآيات بالشكل الذي ذكرناه.

٢. حرف «الفاء» الوارد في قوله تعالى : (فَتَوَلَّى) المشعر بالترتيب بين الهلاك والخطاب ، بمعنى أنّ خطابه عليه‌السلام لهم جاء عقيب هلاكهم مباشرة.

٣. جملة (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) وهذا المقطع من الآية يفيد بأنّهم بلغت بهم العنجهية أن كانوا لا يحبون الناصحين حتى بعد هلاكهم!!!

وظاهر الآية أنّه عليه‌السلام كان يتحدث مع أرواح قومه بصورة جدّية ويخاطبهم بصورة مباشرة مبيّناً لهم عنادهم وعنجهيتهم حتى بعد موتهم بقوله : (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ).

وهنا قد يطرح السؤال التالي وهو : من المحتمل أن يكون خطاب صالح عليه‌السلام لقومه لا على نحو الجد ، بل من قبيل تغزّل العاشقين وخطابهم للدور وجدران المنازل التي يقطنها الحبيب.

وجواب ذلك : انّ حمل الآية المباركة على لسان الحال والقول بأنّها من قبيل غزل العاشقين وخطابهم للدور وجدران المنازل لهو من أبرز مصاديق التفسير بالرأي ، وانّه تفسير وحكم خاطئ لا يقوم على دليل.

ومن الواضح أنّ حقيقة التفسير بالرأي تنبع من اتّخاذ الموقف أوّلاً والاعتقاد

٢٦٠