الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

المفلقين في القرنين الثالث والرابع (المتوفّى ٣٩١ ه‍ ـ) أنشأ قصيدته الفائيّة في مدح الإمام أمير المؤمنين ، وأنشدها في الحضرة العلوية عند ما زارها يقول في مستهلّها :

يا صاحب القبّة البيضاء على النجف

من زار قبرك واستشفى لديك شُفي

زوروا أبا الحسن الهادي لعلّكم

تحظون بالأجر والإقبال والزُّلفِ (١)

والقصيدة تعرب عن وجود البناء والقبّة البيضاء على القبر ، والتفاف الزائرين حوله في عصره ، ومع ذلك يدّعي بعض الوهّابيين ، أنّ البناء على القبور لم يكن في خير القرون وأنّه من البدع المستحدثة.

والعجيب هنا ، هو أنّ من النظريات المطروحة في «علم أُصول الفقه» انّ اتّفاق الأُمّة وفي أيّ قرن كان على حكم من الأحكام ، علامة على صحّة ذلك الحكم واعتباره الشرعي ، وقد أطلقوا على هذا الاتفاق مصطلح «الإجماع» ولكن مع هذا كلّه نجد أنّ هناك حركة نشأت في أوساط الأُمّة الإسلامية لا تُعير أيّ أهمية لإجماع الأُمّة الإسلامية ، لا في قرن واحد فحسب ، بل على طول قرون متمادية من تاريخ الإسلام.

والأعجب من ذلك انّ أصحاب هذه الحركة لم يقدّموا دليلاً قوياً وبرهاناً محكماً على رفضهم لهذا الإجماع وخروجهم عن الخط العام لكافّة المسلمين!!

__________________

(١) اقرأ ترجمته في يتيمة الدهر : ٣ / ٣٥ ، معجم الأُدباء : ٤ / ٦ ، المنتظم : ٧ / ٢١٦ ؛ تاريخ بغداد : ٨ / ١٤ ؛ وفيات الأعيان : ١ / ١٦٨ ؛ الكامل لابن الأثير : ٩ / ٦٣ إلى غير ذلك من مصادر الترجمة.

٢٢١

٤

البناء على القبور ومنطق المخالفين

لقد استعرضنا الأدلّة المحكمة من الكتاب والسنّة والسيرة العملية للمسلمين والتي تؤكد جميعها شرعية البناء على القبور وصيانتها من الاندثار ، والاهتمام بها بشتّى الوسائل ، وقد حان الوقت لعطف عنان القلم للحديث عن أدلّة المخالفين لهذا العمل.

إنّ من أهمّ الأدلّة التي تمسّك بها المخالفون للبناء ـ الوهابيون ـ هو رواية أبي الهياج الأسدي ، ومن هنا اقتضت الضرورة أن نسلّط الضوء على هذه الرواية بالبحث والتحقيق سنداً ودلالة ، لنرى مدى مقاومتها أمام النقد العلمي والبحث الموضوعي.

رواية أبي الهياج الأسدي

لقد تمسّك بها المخالفون للبناء على القبور ، واعتبروا ذلك عملاً محرّماً منافياً للتوحيد ، وقاموا على أثر ذلك بالاعتداء على مقبرة البقيع بهدم قبور أئمّة الهدى في شوال عام ١٣٤٤ ه‍ ـ ، وبعد ما نفذوا ما أمرهم به مشايخهم ، نشروا بياناً في جريدة

٢٢٢

«أُمّ القرى» ، وفتوى بوجوب هدم القبور مستدلّين بالرواية المذكورة.

وها نحن نذكر الرواية أوّلاً ثمّ نتعرض لدراستها سنداً ودلالة إن شاء الله تعالى.

نصّ الحديث

روى مسلم في صحيحه قال : حدّثنا يحيى بن يحيى وأبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن الحرب ، قال يحيى : أخبرنا وقال الآخران : حدّثنا وكيع عن سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي وائل ، عن أبي الهياج الأسدي قال : قال لي عليّ بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته ، ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته. (١)

زعم المستدل أنّ معناه : ولا قبراً عالياً إلّا سوّيته بالأرض.

أقول : الاستدلال بالحديث فرع صحّة سنده ، وتماميّة دلالته ، ولكنّه موهون من كلا الجانبين.

سند الرواية وأقوال العلماء فيه

أمّا السند ، فيكفي أنّ علماء الرجال تحدّثوا في رجال الحديث ونقلوا تصريح الأئمّة بضعفهم ، وهم عبارة عن :

١. وكيع.

٢. سفيان الثوري.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٣ / ٦١ ، كتاب الجنائز ؛ سنن الترمذي : ٢ / ٢٥٦ ، باب ما جاء في تسوية القبور ؛ سنن النسائي : ٤ / ٨٨ ، باب تسوية القبر.

٢٢٣

٣. حبيب بن أبي ثابت.

٤. أبو وائل الأسدي.

وإليك أقوال العلماء في حقّهم :

١. وكيع

هو وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي الكوفي ، روى عن عدّة ، منهم : سفيان الثوري ، وروى عنه جماعة منهم : يحيى بن يحيى ، وهو كما ورد في حقّه المدح ، ورد في حقّه الجرح كثيراً ، وهذا ابن حجر يعرّفه في «تهذيب التهذيب» ، بالنحو التالي :

عن الإمام ابن حنبل : كان وكيع أحفظ من عبد الرحمن بن مهدي كثيراً.

وقال في موضع آخر : ابن مهدي أكثر تصحيفاً من وكيع ، ووكيع أكثر خطأً منه.

وقال عليّ بن المديني : كان وكيع يلحن ، ولو حدّث بألفاظه لكان عَجَباً.

وقال محمد بن نصر المروزي : كان يُحدّث بآخره من حفظه ، فيغيّر ألفاظ الحديث كأنّه يحدّث بالمعنى ، ولم يكن من أهل اللسان. (١)

وقال الذهبي في «ميزان الاعتدال» بعد ما مدحه : قال ابن المديني ، كان وكيع يلحن ، ولو حدّث بألفاظه كان عجباً. (٢)

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ١١ / ١٢٣.

(٢) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣٣٦.

٢٢٤

٢. سفيان الثوري

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي ، فقد مدحوه ، ولكن الذهبي يقول : إنّه كان يدلِّس عن الضعفاء ، ولكن كان له نقد وذوق ، ولا عبرة بقول من قال يدلِّس ويكتب عن الكذّابين. (١)

وقال ابن حجر : قال ابن المبارك : حدّث سفيان بحديث فجئته وهو يدلِّس ، فلمّا رآني استحيا وقال : نرويه عليك؟ (٢)

وقال في ترجمة يحيى بن سعيد بن فروخ : قال أبو بكر وسمعت يحيى يقول : جهد الثوري أن يدلِّس عليَّ رجلاً ضعيفاً فما أمكنه. (٣)

والتدليس هو أن يروي عن رجل لم يلقه وبينهما واسطة فلا يذكر الواسطة.

وقال أيضاً في ترجمة سفيان : قال ابن المديني ، عن يحيى بن سعيد : لم يلق سفيان أبا بكر بن حفص ولا حيان بن إياس ، ولم يسمع من سعيد بن أبي البردة ، وقال البغوي : لم يسمع من يزيد الرقاشي ، وقال أحمد : لم يسمع من سلمة بن كهيل حديث المسائية (٤) يضع ماله حيث يشاء ، ولم يسمع من خالد بن سلمة بتاتاً ولا من ابن عون إلّا حديثاً واحداً. (٥)

وهذا تصريح من ابن حجر بكون الرجل مدلّساً ، ربّما يروي عن أُناس يوهم أنّه لقيهم ولم يلقهم ولم يسمع منهم.

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ١٦٩ برقم ٣٣٢٢.

(٢) تهذيب التهذيب : ٤ / ١٥ في ترجمة سفيان.

(٣) تهذيب التهذيب : ١١ / ٢١٨.

(٤) العبد المعتق.

(٥) تهذيب التهذيب : ٤ / ١١٥.

٢٢٥

٣. حبيب بن أبي ثابت

هو حبيب بن أبي ثابت قيس بن دينار ، وثّقه بعض ، ولكن قال ابن حبّان في الثّقات : كان مدلّساً ، وقال العقيلي : غمزه ابن عون ، وقال القطّان : له غير حديث عن عطاء ، لا يُتابع عليه وليست محفوظة.

وقال ابن خزيمة في صحيحه : كان مُدلّساً. (١)

وقال ابن حجر أيضاً في موضع آخر : كان كثير الإرسال والتدليس ، مات سنة ١١٩ ه‍ ـ.

ونقل عن كتاب الموضوعات لابن الجوزي من نسخة بخطّ المنذري أنّه نقل فيه حديثاً عن أُبيّ بن كعب في قول جبرئيل : لو جلست معك مثلما جلس نوح في قومه ما بلغت فضائل عمر ، وقال : لم يُعِلْه ابن الجوزي إلّا بعبد الله بن عمّار الأسلمي شيخ حبيب بن ثابت. (٢)

٤. أبو وائل الأسدي

هو شقيق بن سلمة الكوفي ، كان منحرفاً عن علي بن أبي طالب ، قال ابن حجر : قيل لأبي وائل : أيّهما أحبُّ إليك عليّ أو عثمان؟ قال : كان عليّ أحبّ إليّ ثمّ صار عثمان؟ (٣)

ويكفي في قدحه أنّه كان من ولاة عبيد الله بن زياد ، قال ابن أبي الحديد :

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٢ / ١٧٩.

(٢) تهذيب التهذيب : ١ / ١٤٨.

(٣) تهذيب التهذيب : ٤ / ٣٦٢.

٢٢٦

قال أبو وائل : استعملني ابن زياد على بيت المال بالكوفة.

هذا كلّه حول سند الرواية وهؤلاء رواتها ، ولو ورد فيهم مدح فقد ورد فيهم الذم ، وعند التعارض يقدم الجارح على المادح ، فيسقط الحديث عن الاستدلال.

ويكفي أيضاً في ضعف الحديث أنّه ليس لراويه ـ أعني : أبا الهياج ـ في الصحاح حديث غير هذا ، فكيف يستدلّ بحديث يشتمل على المدلّسين والمضعّفين؟ وكيف يُعدَل بهذا الحديث عن السيرة المستمرة بين المسلمين؟!

والآن إليك بيان عدم دلالة الحديث على الموضوع بتاتاً :

ضعف دلالة الحديث

إنّ توضيح ضعف دلالة الحديث يتوقّف على بيان معنى اللفظين الواردين فيه :

١. قبراً مشرفاً.

٢. إلّا سوّيته.

أمّا الأوّل : فقال صاحب القاموس : والشرف ـ محركة ـ العلو ، ومن البعير سنامه ، وعلى ذلك يحتمل المراد منه مطلق العلوّ ، أو العلوّ الخاص كسنام البعير الذي يعبّر عنه بالمسنَّم ، ولا يتعيّن أحد المعنيين إلّا بالقرينة.

أمّا الثاني : فهو تارة يُستخدم في بيان مساواة شيء بشيء في الطول أو العرض ، فيقال : هذا القماش يساوى بهذا الآخر في الطول.

وأُخرى في التسوية ، أي كون الشيء مسطحاً لا انحناء ولا تعرّج فيه.

والفرق بين المعنيين واضح ؛ فإنّ التسوية في الأوّل وصف للشيء بمقايسته

٢٢٧

مع شيء آخر ، وفي الثاني وصف لنفس الشيء ولا علاقة له بشيء آخر.

فلو استعمل في المعنى الأوّل لتعدّى إلى مفعولين : أحدهما بلا واسطة ، والآخر بمعونة حرف الجرّ قال تعالى حاكياً عن لسان المشركين وأنّهم يخاطبون آلهتهم بقولهم : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) ، أي نعدّ الآلهة (١) الكاذبة مساوية لربّ العالمين في العبادة أو في الاعتقاد بالتدبير.

وقال سبحانه حاكياً عن حال الكافرين يوم القيامة : (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً). (٢)

أي يودّون أن يكونوا تراباً أو ميتاً مدفوناً تحت الأرض ، ويكونون كذلك والأرض متساوية.

ترى أنّ تلك المادة تعدّت إلى مفعولين ، وأُدخل حرف الجر على المفعول الثاني. وأمّا إذا استعمل في المعنى الثاني أي فيما يكون وصفاً للشيء بلا علاقة له بشيء آخر فيكتفي بمفعول واحد ، قال سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٣) ، وقال سبحانه : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) ، وقال سبحانه : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٥) ، ففي جميع هذه الموارد يراد من التسوية كونها وصفاً للشيء بما هو هو ، وهو فيها كناية عن كمال الخلقة وأنّها بعيدة عن النقص والاعوجاج.

هذا هو مفهوم اللفظ لغة. وهلم معي ندرس الحديث ولنرى أنّه على أيّ

__________________

(١) الشعراء : ٩٨.

(٢) النساء : ٤٢.

(٣) الأعلى : ٢.

(٤) القيامة : ٤.

(٥) الحجر : ٢٩.

٢٢٨

من المعنيين ينطبق.

تلاحظ أنّه تعدّى إلى مفعول واحد ، ولم يقترن بالباء ، فهو آية أنّ المراد هو المعنى الثاني ، وهو تسطيح القبر في مقابل تسنيمه ، وبسطه في مقابل اعوجاجه لا مساواته مع الأرض ، وإلّا كان عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول : سوّيته بالأرض ولم يكتف بقوله سوّيته.

أضف إلى ذلك : أنّ ما ذكرناه هو الذي فهمه شرّاح الحديث ، وهو دليل على أنّ التسطيح سنّة والتسنيم بدعة ، وأمر عليّ عليه‌السلام أن تكافح هذه البدعة ويسطّح كلّ قبر مسنّم ، وإليك ذكر نصوصهم :

١. قال القرطبي في تفسير الحديث : قال علماؤنا : ظاهر حديث أبي الهياج منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون واطئة. (١)

أقول : إنّ دلالة الحديث على منع تسنيم القبور ظاهر ، وأمّا دلالتها على عدم ارتفاعها كما هو ظاهر قوله : «ومنع رفعها» فغير ظاهر ، بل مردود باتّفاق أئمّة الفقه على استحباب رفعها قدر شبر. (٢)

٢. قال ابن حجر العسقلاني في شرحه على البخاري ما هذا نصّه :

مُسنّماً ـ بضمّ الميم وتشديد النون المفتوحة ـ أي : مرتفعاً ، زاد أبو نعيم في مستخرجه : وقبر أبي بكر وعمر كذلك ، واستدلّ به على أنّ المستحب تسنيم القبور ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير من الشافعية.

وقال أكثر الشافعية ونصّ عليه الشافعي : التسطيح أفضل من التسنيم ؛

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٢ / ٣٨٠ تفسير سورة الكهف.

(٢) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٢.

٢٢٩

لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سطّح قبر إبراهيم ، وفعله حجّة لا فعل غيره ، وقول سفيان التمّار : رأى قبر النبي مسنّماً في زمان معاوية ، لا حجة فيه ، كما قال البيهقي ؛ لاحتمال أنّ قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبري صاحبيه لم تكن في الأزمنة الماضية مسنّمة ـ إلى أن قال : ـ ولا يخالف ذلك قول علي عليه‌السلام ، أمرني رسول الله أن لا أدع قبراً مشرفاً إلّا سوّيته ، لأنّه لم يرد تسويته بالأرض ، وإنّما أراد تسطيحه جمعاً بين الأخبار ، ونقله في المجموع عن الأصحاب. (١)

٣. وقال النووي في شرح صحيح مسلم : إنّ السنّة أنّ القبر لا يرفع عن الأرض رفعاً كثيراً ، ولا يُسنَّم بل يرفع نحو شبر ، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه ؛ ونقل القاضي عياض عن أكثر العلماء أنّ الأفضل عندهم تسنيمها ، وهو مذهب مالك. (٢)

ويؤيّد ذلك أنّ صاحب الصحيح (مسلم) عنون الباب ب ـ «باب تسوية القبور» ثمّ روى بسنده إلى تمامه ، قال : كنّا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم ، فتوفّي صاحب لنا ، فأمر فضالة بن عبيدة بقبره فسوّي ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر بتسويتها ، ثمّ أورد بعده في نفس الباب حديث أبي الهياج المتقدّم. (٣)

وفي الختام نذكر أُموراً :

١. القول بوجوب مساواة القبر بالأرض مخالف لما اتفقت عليه كلمات فقهاء المذاهب الأربعة ، وكلّهم متّفقون على أنّه يندب ارتفاع التراب فوق الأرض بقدر شبر. (٤)

__________________

(١) إرشاد الساري : ٢ / ٤٦٨.

(٢ و ٣) صحيح مسلم بشرح النووي : ٧ / ٣٦.

(٤) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٤٢.

٢٣٠

ولو أخذنا بالتفسير الذي يرومه الوهابيّون من حديث أبي الهياج من مساواة القبر بالأرض يجب أن يكون القبر لاطئاً مساوياً معه.

٢. لو افترضنا صحّة حديث أبي الهياج سنداً ودلالة ، فغاية ما يدلّ عليه هو تخريب القبر ومساواته بالأرض ، ولا يدلّ على هدم البناء الواقع عليه ، فتخريب القباب المشيّدة التي هي مظاهر الودّ لأصحابها استناداً إلى هذا الحديث ، عجيب جدّاً.

٣. إنّ الصحابة دفنوا النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته من أوّل يوم ، وقد وصّى الخليفتان بأن يُدفنا تحت البناء جنب النبيّ الأكرم تبرّكاً بالقبر وصاحبه ، فلو كان البناء على القبور أمراً محرّماً ومن مظاهر الشرك ؛ فلما ذا وارت الصحابة جثمانه الطاهر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت البناء؟! ولما ذا أوصى الخليفتان بالدفن تحته؟!

ولمّا واجهت الوهابية عمل الصحابة في مواراة النبيّ قامت بالتفريق وقالت : إنّ الحرام هو البناء على القبر لا الدفن تحت البناء ، وقد دفنوا النبيّ تحت البناء ولم يبنوا على قبره شيئاً. (١)

ونترك هذا الجواب بلا تعليق ، إذ هو في غاية السقوط ، إذ أيّ فرق بين الأمرين؟! فإنّ البناء على القبر مَدْعاة للإقبال إليه والتضرع إليه ، ففيه فتح لباب الشرك ـ حسب قولهم ـ وتوسّل إليه بأقرب وسيلة .... (٢)

فإذا كان البناء على وجه الإطلاق ذريعة للشرك وتوجّهاً إلى المخلوق ، فلما ذا يُرخّص في بعض صوره ويُحرّم بعضها الآخر؟! وما هذا إلّا لأنّ الوهابية وإن كانوا ينسبون أنفسهم إلى السلفية ، إلّا أنّ السلفية بعيدون عنهم بُعد المشرقين.

__________________

(١) رياض الجنّة ، لعقيل بن الهادي.

(٢) محاسن التأويل : ٧ / ٣٠.

٢٣١
٢٣٢

الفصل التاسع

الحياة البرزخيّة

٢٣٣
٢٣٤

الحياة بعد الموت

لم تزل مسألة الحياة ونشأتها وما تؤول إليه بعد الموت من المسائل الحيّة على طول القرون ، بل من المسائل التي لازمت الإنسان منذ أن وطأت قدماه هذا الكوكب ، حيث تراه يسعى وبكلّ جهد للوقوف على معالم تلك النشأة وكيفية حدوثها والتعرّف على حقيقة الموت وفلسفته ، فهل الموت يمثل نهاية الحياة كسكون العاصفة الذي يعني انعدامها ، أو كالمصباح الذي يخمد ضوؤه. فلم يبق من نوره وضيائه شيء بل تعقبها الظلمة الدامسة؟! أو أنّ الموت في حقيقته يمثل النافذة التي يطل منها الإنسان على محيط واسع ، وفضاء رحب ، وعالم ملؤه النور؟

وبعبارة أُخرى : انّ الموت يمثّل القنطرة التي يعبرها الإنسان للعيش في حياة أُخرى.

من المسلّم به أنّ المسائل والقضايا الفلسفية يمكن تصنيفها إلى صنفين ، هما :

١. المسائل والقضايا التي تتوفّر على جنبة تخصّصية ، فلا يتمكّن من الخوض فيها إلّا طائفة من ذوي الاختصاص في المباحث العقلية العليا والذين يعبّر عنهم (بالفلاسفة).

٢. المسائل والقضايا العامّة والتي عجنت في فطرة الإنسان ، وهذه القضايا

٢٣٥

يتسنّى للجميع البحث فيها والخوض في غمارها والتفكير بها.

ومن الواضح انّ قضيّة الحياة بعد الموت من مسائل الصنف الثاني ، حالها حال مسألة المصير والقدر ، فإنّها بالرغم من كونها من المسائل الفلسفية التخصّصية ، إلّا أنّه مع ذلك نرى أنّ الجميع يلج باب التفكير فيها وإن كان تفكيرهم وتأمّلهم في هذه الأُمور لم يوصلهم إلى نتيجة ملموسة ونظرية واضحة المعالم ، وإنّما الذي يقوم بذلك الخاصة من المفكّرين من ذوي الاختصاص في البحوث العقلية والروحية ، فإنّ هؤلاء هم الذي يستطيعون وببركة فكرهم الثاقب إزاحة الغبار عن الواقع ، وكشف الحقيقة ، ومعرفة أبعادها.

ثمّ إنّ معرفة مصير الإنسان بعد الموت رهن البحث والتحقيق في ثلاثة أُصول أساسية تتعلّق بالإنسان ، هي :

١. ما هي حقيقة الإنسان وواقعه؟ فهل هو عبارة عن هيكل مادي يتكوّن من عروق وأعصاب وعظام وغيرها من الأعضاء والمكوّنات المادية ، أم أنّ هناك وراء هذا المظهر المادي جوهراً آخر هو الذي يشكّل حقيقة الإنسان ويشيّد واقعه ، وبه يكون الإنسان إنساناً؟

٢. ما هي حقيقة الموت؟ فهل الموت يعني انعدام الإنسان وفناءَه؟ أم انّ الموت في الحقيقة يمثّل نافذة تطل بالإنسان على عالم أرحب وفضاء أوسع؟

٣. ثمّ على فرض بقاء الإنسان بعد الموت ، يأتي البحث عن النقطة الثالثة وهي : هل توجد علاقة بين الحياتين (الدنيا والآخرة)؟ وما هي نوعية العلاقة بينهما ، وما هي الكيفية التي تستمر على أساسها تلك العلاقة؟

وها نحن نشرع في البحث عن الأُصول الثلاثة تباعاً إن شاء الله تعالى.

٢٣٦

الأصل الأوّل

ما هي حقيقة الإنسان وواقعه؟

هذا هو الأصل الأوّل من الأُصول الثلاثة والتي ينبغي تسليط الضوء عليها لتنجلي الحقيقة وينكشف لنا الواقع فنقول : هل انّ حقيقة الإنسان تنحصر في وجوده المادي فقط؟ أو أنّ هذا الوجود المادي يمثّل في واقعه اللباس الذي يغطي حقيقة أُخرى هي التي تشكّل واقع الإنسان وجوهره؟

وبعبارة أُخرى : هل الإنسان وجود مادّي بحت ، وانّ الروح والنفس في الواقع هي انعكاس للتفاعلات المادية لا غير؟ أم أنّ للإنسان وراء الوجود المادي عالماً آخر وحقيقة وواقعية أُخرى ، ويكون البدن المادّي بمثابة الآلة لتلك الحقيقة؟

ذهب الماديّون ـ الذين يرون أنّ الوجود مساو للمادة والطاقة ، ولا شيء وراءه ـ إلى النظرية الأُولى وبهذا فسّروا الروح بأنّها نتاج خاص للتفاعلات المادية المتناسقة.

وبعبارة أُخرى : ذهبوا إلى أنّ الإنسان موجود آلي مركّب من عروق وعصب ولحم وعظم ، وما الشعور والإحساس والعواطف ـ كالحزن والفرح والسرور

٢٣٧

والانشراح والكآبة وغيرها من الحالات النفسية ـ إلّا نتيجة تفاعل هذه الأجزاء المادية بعضها مع البعض الآخر ، وليس وراء هذا التركيب المادي أيّ وجود آخر باسم الروح أو النفس. وقد مثّلوا ترشيح تلك الإحساسات والمشاعر والعواطف بترشّح المواد الكيمياوية من الكبد أو الغدة الصفراء أو ترشّح اللعاب من الغدد.

ومن هنا تكون الروح ـ وفقاً لهذه النظرية ـ أثراً كيمياوياً وانعكاساً للتفاعل المادي بين أعضاء البدن ، وليس للروح جوهر مستقل وحقيقة مستقلة.

أمّا النظرية الثانية ـ التي يتبنّاها الفلاسفة والمتكلّمون الإلهيّون ـ فقد ذهبت إلى أنّ الإنسان في الواقع يتكوّن من عنصرين أساسيّين : عنصر مادي ، وعنصر غير مادي ؛ وأنّ الذي يمثّل حقيقة الإنسان وواقعه هو البعد غير المادي فيه (أي روحه ونفسه) ، وأنّ الروح جوهر مستقل ووجود منفرد ، نعم تربطها بالبدن علاقة وآصرة خاصة ، وذلك باعتبار انّ البدن المادي يمثّل الأداة والآلة والجهاز الذي تستخدمه الروح للعمل والحركة في هذا العالم المادي. وهذا لا يعني أنّ حقيقة الإنسان مكوّنة من جسم وروح ، بل أنّ الواقع فوق ذلك ، فالإنسان هو الروح ، والجسم بمنزلة الكسوة واللباس فقط.

ونحن لسنا هنا بصدد استعراض أدلّة أصحاب النظرية المادية وتحليلها ونقدها ، لأنّ ذلك خارج عن الهدف المنشود وراء تدوين هذه الرسالة ، ولقد فصّلنا البحث في هذه المسألة وأشبعناها بحثاً وتحقيقاً ونقداً في كتابنا «أصالة الروح في القرآن الكريم».

نعم نحاول هنا الإشارة إلى بعض الأدلّة التي أقامها الإلهيّون لإثبات نظريتهم في إثبات وجود الروح ، وأنّها هي التي تمثّل الحقيقة الإنسانية ، علماً أنّهم قد سلّطوا الأضواء على جميع أبعاد القضية وأشبعوها بحثاً ، وأقاموا لإثبات

٢٣٨

مدّعاهم عشرة براهين عقلية. ولكنّنا سنكتفي هنا بذكر البعض من هذه الأدلّة التي تتّصف بالشمولية والوضوح والاشتمال على الخصوصية التجريبية.

١. الشخصية الإنسانية المعبّر عنها بال ـ «أنا»

كلّ إنسان على وجه المعمورة ينسب أفعاله وما يصدر منه من حركات وسكنات وانفعالات إلى موجود يُعبر عنه بال ـ «أنا» ، ويقول : «أنا فعلت» ، «أنا كتبت» ، «أنا رأيت» ، «أنا سافرت» وغير ذلك ، ولم يكتف الإنسان بذلك ، بل تراه ينسب أعضاء جسمه إلى ذلك الموجود الذي يقع وراء المادة فيقول : «رأسي» و «قلبي» و «يدي» و «فكري» وغير ذلك.

بل يتجاوز إلى أكثر من ذلك فينسب نفس البدن بأكمله إلى ذلك الشيء غير المادي ، فيقول : «بدني».

ومن هنا يطرح السؤال التالي نفسه : ما هذا المضاف إليه في جميع هذه الانتسابات من انتساب الأفعال والأعضاء والبدن بأكمله؟

وللإجابة عن هذا التساؤل المطروح نقول : إنّ كلّ قضية تتركّب من موضوع ومحمول ، فبداهة العقل تحكم بأنّ لهذه المحمولات موضوعاً ، وإن لم يكن مرئياً ، إلّا أنّنا ندركه من خلال تلك المحمولات ، فالأفعال البشرية رغم صدورها من أعضاء مختلفة ، كالإبصار بالعين ، والرفع باليد ، والمشي بالرجل و ... ، إلّا أنّ الإنسان ينسبها جميعاً إلى مصدر واحد ، هو ال ـ «أنا» فيقول : «أنا شاهدت» و «أنا سمعت» و ....

من هنا ندرك انّ هذه المحمولات تتطلّب موضوعاً واحداً لنفسها ، حتّى لا تكون تلك القضايا مجرّد انتسابات بلا موضوع ، وعندئذ يكون هذا الموضوع

٢٣٩

الواحد هو الشخصية الواقعية للإنسان والتي يُعبر عنها «بروحه ونفسه».

٢. ثبات الشخصية الإنسانية في دوّامة التغيّرات المادية

الشاهد الثاني والدليل الآخر على وجود الروح واستقلاليتها عن النظام المادّي ، هو : انّ الإنسان يشعر ـ وفي خضمّ التغيّرات والتحوّلات المادية التي تطرأ على جسمه خلال مسيرته المادية ـ انّ هناك وجوداً باقياً لم يتغيّر ولم يتحوّل بالرغم من كلّ تلك التحوّلات التي طرأت على جسمه.

وبعبارة أُخرى : انّ الإنسان يمرّ في مسيرة حياته الطويلة بمراحل متعدّدة بدءاً بمرحلة الطفولة ، ثمّ الصبا ، والشباب ، والكهولة والشيخوخة ، ولكنّه مع ذلك كلّه يدرك أنّ هناك شيئاً ثابتاً وباقياً وراء ذلك كلّه لم يتغير بالرغم من جميع تلك التحوّلات ، فينسب إليه التحوّلات المذكورة والمراحل المتعدّدة فيقول : أنا حينما كنت طفلاً ، وأنا حينما كنت يافعاً ، وأنا حينما كنت شاباً ، وهكذا. فيدرك انّ هناك حقيقة ثابتة وباقية رغم التحوّلات والأطوار المتعدّدة التي مرّ بها الجسم.

فلو كانت حقيقة الإنسان تكمن في وجوده المادّي المتمثّل في الجسم ، فمن المستحيل حينئذ الوصول إلى إدراك حقيقة الإنسان في إطار تلك التحوّلات والتغيّرات ، وذلك لأنّ البدن عرضة للتحوّلات المتكرّرة والمتغيّرة ، فلا بدّ حينئذ من البحث عن حقيقة الإنسان وراء ذلك العنصر المادّي المتحوّل ، ولا شكّ انّ الإنسان يدرك بوجدانه انّ هناك شيئاً وراء المادّة لم يتغيّر ولم يتحوّل ، وقد انطلق معه في جميع تلك المراحل المتعدّدة ، وهذا الوجود هو الذي يشكّل حقيقته وتكمن فيه ذاته.

وإذا أردنا أن نصيغ ذلك الدليل بصياغة برهانية منطقية نقول :

٢٤٠