الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

إنّ جملة (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) تبيّن السبب والعلّة في رفعة وعظمة تلك البيوت التي وصفت بقوله تعالى : (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ).

ثمّ تتعرض الآية الأُخرى للحديث عن صفات وسمات الرجال العابدين الذين يسكنونها ويعيشون فيها ، حيث قال تعالى :

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ). (١)

لقد تحدّثت الآيات المباركة عن تلك البيوت بلحن خاص يشعر بالتعظيم والتحسين ، وأشارت إلى سمات الرجال الإلهيين الذين يسكنونها بأنّ دأبهم التسبيح والتمجيد والتهليل والتكبير. ومن هنا لا بدّ من تسليط الأضواء على مسألتين أساسيتين ، هما :

١. ما المقصود من البيوت في الآية؟

٢. في تفسير قوله تعالى : (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ).

أمّا المسألة الأُولى : فقد اختلف المفسّرون في تفسير «البيوت» حيث اختار كلّ واحد منهم أحد المعاني التالية :

الف : المقصود بها المساجد الأربعة خاصّة.

ب : المقصود بها مطلق المساجد في العالم.

ج : المقصود بها بيوت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة.

د : المقصود بها المساجد وبيوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والذي يظهر انّ الاحتمال الثالث هو الاحتمال الصحيح من بين جميع

__________________

(١) النور : ٣٧.

٢٠١

الاحتمالات ، والشاهد على صحّته :

١. ورد في المجامع اللغوية أنّ «بيوت» جمع «بيت» بمعنى المنزل والمسكن.

قال ابن منظور : بيت الرجل ، وبيته قصره. (١)

وقال الراغب : أصل البيت مأوى الإنسان بالليل. (٢)

وعلى هذا يكون تفسير «البيوت» الوارد في الآية «بالمساجد» التي هي أماكن العبادة العامّة لا محل إقامة الرجل ليلاً ، غير صحيح. وعلى فرض صحّة هذا التفسير يكون المفهوم بعيداً جداً لا يمكن أن يسبق إلى الذهن بدون قرينة تدلّ على ذلك.

وبعبارة أوضح : انّ كلمة «بيت» مشتقة من «البيتوتة» بمعنى «الإقامة في المكان ليلاً».

قال في المنجد : بات وبيتوتة في المكان : أقام فيه الليل. (٣) وإذا ما أُطلق لفظ «البيت» على «مسكن الرجل ومنزله» فبسبب انّ الرجل يقضي ليله عادة في ذلك المكان حتى يصبح.

ومع الأخذ بعين الاعتبار المعنى اللغوي لهذا المصطلح ، فمن غير الصحيح تفسيره حينئذ بالمسجد أو المساجد من دون نصب قرينة تدلّ على ذلك.

٢. انّ من يمعن النظر في آيات الذكر الحكيم يجد انّها إذا أرادت التعبير عن دور العبادة العامة للمسلمين تأتي بمصطلح «مسجد» أو «المساجد» ، ومن

__________________

(١) لسان العرب : ٢ / ١٤ ، مادة «بيت».

(٢) مفردات الراغب : ٦٤ مادة «بيت».

(٣) المنجد في اللغة : مادة «بيت».

٢٠٢

هنا نجد أنّ هذه المصطلحات قد تكرّر ذكرها في القرآن الكريم ٢٨ مرة.

وأمّا إذا أرادت التعبير عن «المسكن» أو «المأوى» فتستعمل مصطلح «بيت» أو «البيوت».

ومن هنا نجد انّ هذه المصطلحات قد جاءت في الذكر الحكيم ٦٦ مرّة بهذا المعنى.

من هنا نصل إلى النتيجة التالية : وهي أنّ القرآن الكريم لم يستعمل مصطلح «البيت» ومصطلح «المسجد» بمعنى واحد ، وكلّ من يحاول أن يَعدّ المصطلحين مصطلحاً واحداً ، فقد جاء عن غير طريق ، وقال من دون دليل.

نعم ، قد يقال : انّ القرآن الكريم أطلق لفظ البيت على الكعبة المشرّفة حيث قال تعالى :

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ...). (١)

والجواب : انّ هذه التسمية لم تنطلق من كون الكعبة المشرفة بيتاً لعبادة الموحّدين ، وذلك لأنّنا نعلم أنّ الكعبة هي «قبلة» الموحّدين لا بيت عبادتهم ، ومن هنا تكون هذه الإضافة والنسبة من باب التعظيم والتقديس لهذه البقعة من الأرض ، وكأنّها بيت لله حقيقة ، وبيت الله تعالى يستحقّ التعظيم والتقديس.

٣. انّه يوجد بين «البيت» و «المسجد» فرق وتفاوت جوهري ، وذلك لأنّ البيت يطلق على البناء المكوّن من الجدران الأربعة والمسقّفة ، والحال أنّه يكفي في إطلاق المسجد على المكان الذي يحاط بجدران أربعة فقط ولا يشترط فيه وجود

__________________

(١) المائدة : ٩٧.

٢٠٣

السقف.

ويشهد على حاجة البيت إلى السقف قوله تعالى :

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ). (١)

ومن الواضح أنّ الآية تشير إلى أنّ مفهوم البيت يتقوّم ـ خلافاً للمسجد ـ بوجود السقف ، وأنّه من الممكن أن يميّز الله الكافرين من المؤمنين بأن يمكّن الله الكافرين من الأُمور المادية بنحو يجعل لبيوتهم سقفاً من فضة ، ولكنّه سبحانه لم يفعل ذلك لمصالح اقتضت ذلك.

٤. روى الحافظ السيوطي قال : أخرج ابن مردويه ، عن أنس بن مالك وبريدة : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ هذه الآية : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقام إليه رجل ، قال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال : «بيوت الأنبياء» ، فقام إليه أبو بكر ، وقال : يا رسول الله ، وهذا البيت منها؟ ـ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم ومن أفاضلها». (٢)

وقد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام : أنّ المقصود بيوت الأنبياء ، وبيوت علي عليهم‌السلام. (٣)

فهذه القرائن لو أمعن المفسّر المفسّر فيها لأذعن بأنّ المراد من مصطلح «البيوت» الوارد في سورة النور هو بيوت الأنبياء ، وبيت النبي الأكرم ، وبيت علي عليهم‌السلام ، وبيوت الأولياء والصالحين التي امتازت بفضيلة ومنزلة خاصّة بسبب

__________________

(١) الزخرف : ٣٣.

(٢) الدر المنثور : ٦ / ٢٠٣.

(٣) البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٣٧.

٢٠٤

ظاهرة التحميد والتسبيح والتهليل التي يقوم بها أصحابها الذين وصفتهم الآية بقولها : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الأمر الذي أدّى إلى أن يأذن سبحانه وتعالى برفعتها وتشريفها ، فقال : (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ).

وهناك شاهد واضح يشهد على أنّ المراد من البيوت في الآية المباركة بيوت العترة الطاهرة عليهم‌السلام ، وهذا الشاهد يتمثّل في الآيتين المباركتين التاليتين :

الف : قال تعالى مخاطباً آل إبراهيم عليه‌السلام :

(رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ). (١)

ب : قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). (٢)

ولكن قد يقال : إنّ ذيل الآية الذي جاء فيه قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد ، لأنّ مسلمي صدر الإسلام كانوا جميعاً يؤدّون صلواتهم في المسجد ، ومن الطبيعي أنّ إقامة الصلاة ملازمة للتسبيح والتهليل والتكبير.

ويرد على هذا الرأي : انّه تصوّر خاطئ ، وذلك لأنّ الصلاة التي كانت تقام في المسجد هي الصلوات الواجبة ، وأمّا الصلاة المستحبة فقد كانت تؤدّى في البيوت ، حيث وردت الروايات الكثيرة التي تحثّ المسلمين على تقسيم صلاتهم إلى طائفتين : طائفة تُصلّى في المسجد وهي الصلاة الواجبة ، وأُخرى تصلّى في البيوت ، وهي الصلاة النافلة (المستحبة). ثمّ إنّ المستشكل غفل عن نكتة

__________________

(١) هود : ٧٣.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

٢٠٥

أساسية ومهمة وهي أنّ بيوت الأنبياء والأئمّة والصالحين لا تقلّ عن المساجد في التسبيح والتهليل ، فإنّهم عليهم‌السلام فيها بين قائم وراكع وساجد ، وذاكر وقارئ للقرآن آناء الليل وأطراف النّهار.

ولكي نرفع الشك والوهم عن أذهان البعض حول الرأي الذي ذكرناه ، نذكر نماذج من الروايات التي وردت في هذا المجال.

فقد عقد مسلم في صحيحه باباً لاستحباب إقامة النافلة في البيت ، روى فيه الأحاديث التالية :

أ. عن ابن عمر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ب : عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صلّوا في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ج : عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته ، فإنّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً».

د : عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميت».

ه ـ : وعن زيد بن ثابت في حديث : «فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإنّ خير صلاة المرء في بيته ، إلّا الصلاة المكتوبة». (١)

و : روى أحمد أنّ عبد الله بن سعد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : أيّما أفضل : الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد؟ فقال : «فقد ترى ما أقرب بيتي من

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، باب استحباب صلاة النافلة في البيت.

٢٠٦

المسجد ، ولئن أُصلّي في بيتي أحبّ إليّ من أن أُصلّي في المسجد إلّا أن تكون صلاة مكتوبة». (١)

فهذه القرائن المؤكّدة ترفع الستار عن وجه المعنى ؛ فإنّ المراد من الآية هو بيوت الأنبياء وبيوت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيت علي عليه‌السلام وما ضاهاها ، فهذه البيوت لها شأنها الخاص ؛ لأنّها تخصُّ رجالاً يُسبّحونه ليلاً ونهاراً ، غُدُوّاً وآصالاً ، يَعيش فيها رجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وقلوبهم مليئة بالخوف من يوم تتقلّب فيه القلوب والأبصار.

ما هو المراد من الرفع الوارد في الآية؟

قد تعرفنا على المقصود من مفهوم «البيوت» المذكور في الآية الشريفة ، وحان الوقت لتسليط الضوء على المفهوم الثاني الوارد فيها أيضاً ، لنرى ما هو المراد منه؟

لقد ذكر المفسّرون للرفع المعنيين التاليين :

الأوّل : انّ المراد من «الرفع» هو «البناء» بشهادة قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها* رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها). (٢)

الثاني : المراد هو تعظيمها والرفع من قدرها.

قال الزمخشري : ترفعها : إمّا بناؤها ، لقوله تعالى : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) ، و (إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (٣) ، أمر الله أن تبنى ؛ وإمّا

__________________

(١) مسند أحمد : ٤ / ٣٤٢.

(٢) النازعات : ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) البقرة : ١٢٧.

٢٠٧

تعظيمها ، والرفع من قدرها. (١)

ولقد اختار الكثير من المفسّرين المعنى الثاني للرفع. (٢)

ومن الواضح : انّ المراد من رفع البيوت ليس إنشاءها ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الآية المباركة تتحدّث عن بيوت مبنيّة ومعدّة مسبقاً ، بل المراد هو الرفع المعنوي ، والحفاظ على مكانة ومنزلة تلك البيوت وقداستها ، وصيانتها من الاندثار ، وذلك إكراماً منه سبحانه لأصحابها الذين أضفوا عليها تلك القداسة ومنحوها تلك المنزلة الرفيعة ، من خلال تهجّدهم آناء الليل وأطراف النهار ، وتلاوتهم لكتاب الله سبحانه وتعالى ، وتسبيحهم وتحميدهم وتهليلهم.

والكلّ منّا يعلم أنّ الرسول الأكرم قد دفن في نفس تلك البقعة التي طالما ناجى فيها ربّه وتهجّد فيها وقام راكعاً وساجداً يخشى الله واليوم الآخر ، ومن هذا المنطلق الذي جاءت به الآية الكريمة ، تكون تلك الدار ذات قداسة ومنزلة خاصّتين يفرضان على المسلم احترامها والمحافظة على رفعتها وقداستها وتعظيمها والرفع من قدرها ، بالإضافة إلى صيانتها عمّا يشينها من الدمار والتخريب والإهمال و ....

بل انّ قسماً من بيوت المدينة المنوّرة كانت مراقد وقبوراً لكبار الصحابة والشخصيات الإسلامية ، وعلى رأس هؤلاء يمكن الإشارة إلى الصدّيقة الطاهرة سلام الله عليها فإنّها ـ وحسب رواية الكليني (٣) ـ قد دفنت في دارها التي ما زالت قائمة حتى الآن.

__________________

(١ و ٢) الكشاف : ٢ / ٣٩٠ بتصرف. وانظر : جامع الأحكام : ٢ / ٢٢٦ ؛ وروح البيان : ٦ / ١٥٨.

(٣) انظر الكافي : ١ / ٤٦١.

٢٠٨

وإذا خرجنا من المدينة إلى العراق واتّجهنا صوب سامراء نجد الإمامين العسكريين : الهادي والعسكري عليهما‌السلام هما أيضاً دفنا في نفس الدار التي كانا يعبدان الله فيها تالين لكتابه ، مبتهلين إليه سبحانه بالدعاء والتضرّع ، قائمين الليل وصائمين النهار ، من هنا تكتسب تلك الدار نفس المنزلة التي جاءت في الآية المباركة ، فلا يحق بحال من الأحوال ـ وتحت أيّ ذريعة كانت ـ التجاوز على تلك الدار المقدّسة وهدمها أو الاعتداء عليها بما يتنافى ومضمون الآية الشريفة.

وهكذا الأمر في محلّة بني هاشم في المدينة المنوّرة التي كانت تضم بيوت كلّ من الحسن والحسين عليهما‌السلام ومدرسة الإمام الصادق عليه‌السلام. ولقد وفّق الله كاتب هذه السطور للتشرّف بزيارة تلك البيوت الشريفة ، ولكن ولشديد الأسف ـ تحت ذريعة توسيع المسجد النبوي ـ تعرّضت تلك البيوت الطاهرة للهدم والاندثار والمحو من الخارطة ، في الوقت الذي كان بإمكان المسئولين هناك توسيع المسجد النبوي مع المحافظة على تلك الآثار المهمّة وصيانتها.

٢٠٩

٢

مودّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام

لا ريب أنّ مودّة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته الطاهرين عليهم‌السلام من الأُصول المؤكّدة في الشريعة الإسلامية ، وقد وردت في هذا المجال الكثير من الآيات والروايات التي أكّدت ذلك المفهوم ورسّخته في أوساط المسلمين. بل نجد القرآن الكريم يذهب إلى أبعد من ذلك بحيث يعتبر الإيمان المنجي في الآخرة والباعث على الفوز بالجنة والرضوان ، هو الإيمان المقرون بحب الله سبحانه وحب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وموالاتهما والجهاد في سبيله ، قال تعالى :

(قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ). (١)

فقد أشارت الآية المباركة إلى ثلاثة موضوعات أساسية تربط الإنسان بها

__________________

(١) التوبة : ٢٤.

٢١٠

رابطة خاصّة وتشدّه إليها آصرة قوية ، وهذه الأُمور الثلاثة عبارة عن :

أ. الأهل والأرحام.

ب. الأموال والعقارات.

ج. التجارة والمعاملات.

ثمّ تشير الآية إلى مفهوم أساسي ومعيار دقيق وهو : انّ المؤمن الحقيقي الذي عجن الإيمان بدمه ولحمه وجميع مشاعره هو الذي يقدّم مودة الله وحبه وحب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجهاد في سبيله على جميع تلك العلاقات والروابط مهما كانت شدّتها وقوّتها ، وحينئذ ترسم الآية للمؤمنين الطريق وتبيّن لهم الميزان الذي على أساسه تقاس درجة الإيمان والإخلاص لله سبحانه.

ثمّ إذا ألقينا بنظرنا على القرآن الكريم تصادفنا تلك الآية المباركة التي تعلمنا الطريقة التي نرد بها الجميل إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تحصر ذلك في وسيلة واحدة ، وهي موالاة آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبهم واحترامهم ، قال تعالى :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (١)

وقد أشار الرسول الأكرم إلى نفس المعنى ، وأكّد ذلك المفهوم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان وطعمه : أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ...». (٢)

ثمّ إنّ الروايات الحاثّة على محبّة أهل البيت عليهم‌السلام وموالاتهم كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها جميعاً ، ولذلك سنكتفي بذكر نموذجين من تلك الروايات

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) جامع الأُصول : ١ / ٣٧ ، الحديث ٢٢. وانظر الحديثين ٢٠ و ٢١.

٢١١

التي تؤكّد على بيان المنهجية والطريقة التي يمكن من خلالها امتثال هذه الفريضة الإلهية المتمثّلة في مودة أهل البيت عليهم‌السلام.

إنّ الإنسان المسلم إذا أراد الوصول إلى تحقيق ذلك الأمر الإلهي وامتثال تلك الفريضة السماوية يوجد أمامه طريقان ينبغي عليه سلوكهما ، هما :

الطريق الأوّل : أن يسعى إلى أن يكون ذا شخصية متوازنة قولاً وعملاً ، بمعنى أنّه يعتمد في منهج حياته السير وفقاً لأوامر الله سبحانه ونواهيه التي جاء بها الرسول الأكرم. وأن يكون قوله مطابقاً لعمله ، بنحو لا يكون هناك انفصام في شخصيته وتناقض في سلوكه من خلال مخالفة فعله لقوله ، فإذا كان ينطلق في سلوكه من حبّ الله ورسوله ، فلا بدّ أن يجسّد جميع التعاليم والإرشادات التي جاء بها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حركته وبرنامج حياته ، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع ، إذ من المستحيل الجمع بين المودة والحب والمخالفة والعصيان ، ومن هنا قيل : «الحبّ الاتّباع» بمعنى أنّ الحب يلازم الانقياد والاتّباع للمحبوب.

ولقد استشهد الإمام الصادق عليه‌السلام ـ لتأكيد هذا المفهوم الإسلامي الدقيق والفصل بين الحبّ الواقعي والمودة الحقيقية ، وبين التظاهر بالحب والموالاة ـ بالأبيات التالية :

تعصي الإله وأنت تُظهر حُبّه؟!

هذا محال في الفعال بديعٌ!

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحبّ لمن أحب مطيع (١)

الطريق الثاني : إظهار الحب وإبراز المودة في المناسبات المختلفة ، وذلك من خلال :

ألف : الفرح لفرح المحبوب ، والحزن لحزنه.

__________________

(١) سفينة البحار : مادة «حبب».

٢١٢

ب : إقامة مجالس السرور والفرح ، كالاحتفال بمناسبة ولادة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو بعثته ، أو ....

ج : نشر أفكاره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعاليمه وخطبه وأحاديثه في أوساط الأُمّة.

د : صيانة آثاره ومعالمه وكلّ ما يمّت إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاندثار والإبادة.

ه ـ : الاهتمام بمشهده المقدّس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبناء على قبره الشريف بنحو يكون رمزاً ومعلماً إسلامياً بارزاً.

ولا ريب أنّ القيام بتلك الأفعال ونظائرها من الأُمور المشروعة والجائزة ، تجاه الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، يُعَدّ نوعاً من أنواع إظهار الولاء والحبّ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأهل بيته عليهم‌السلام.

وقد روى الترمذي في سننه الرواية التالية :

«انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ بيد الحسن والحسين ، وقال : من أحبّني وأحبّ هذين الغلامين وأباهما وأُمّهما كان معي في درجتي يوم القيامة». (١)

والكلّ يعلم أنّ السبط الأكبر للرسول الأكرم الحسن المجتبى عليه‌السلام قد دفن في المدينة المنوّرة في مقبرة «البقيع» ، وأمّا السبط الشهيد الحسين عليه‌السلام فقد دفن في كربلاء المقدّسة حيث موقع شهادته وأهل بيته وأصحابه الميامين الذين سقوا بدمائهم الزكية شجرة الإسلام النامية وحفظوها من الذبول والموت.

ومن الجلي لكلّ منصف ـ بعيداً عن التعصب والأحكام المسبقة ـ انّ بناء القباب على تلك القبور التي ضمّت جسدي ريحانتي الرسول الأكرم وأحبّ الخلق إليه بعد أُمّهما وأبيهما ، يُعدّ نوعاً من إظهار الولاء والحب وإبراز المودة

__________________

(١) جامع الأُصول : ٩ / ١٥٧ ، الحديث ٦٧٠٦.

٢١٣

للسبطين عليهما‌السلام ، وفي نفس الوقت امتثالاً لقوله تعالى :

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). (١)

وممّا لا ريب فيه أبداً انّ من يقوم بهذا العمل المبارك سيحظى بالثواب الذي وعد به جدهما الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «... كان معي في درجتي يوم القيامة».

إنّ الشعوب الحيّة والأُمم المتطورة في العالم تسعى إلى الحفاظ على كلّ ما يمت إلى شخصياتهم الوطنية ورموزهم (العسكرية ، والسياسية ، وروّاد الإصلاح في الحقول الثقافية وغيرها) وتستفيد من كلّ السبل والوسائل كي تبقى تلك الشخصيات حيّة ماثلة للعيان أمام أنظار العالم.

ومن هنا تراهم يقومون بأداء أفضل مراسم التشييع والتوديع لتلك الشخصيات ، ويدعون إليها ساسة العالم والشخصيات الثقافية والعلمية وغيرها ، كما أنّهم يسعون وبجد لاختيار أفضل الأماكن لدفن تلك الشخصيات فيها ثمّ القيام بتشييد البناء عليها ووضع النصب التذكارية لها ، ليكون ذلك وسيلة لاستمرار تواجد تلك الشخصيات الوطنية وحضورها بين أوساط الأجيال القادمة.

ومن هنا ينبغي علينا نحن المسلمين ، الذين تضرب جذورنا في أعماق التاريخ الإسلامي أن نكون مثالاً للأُمّة الحيّة والشعوب المتطوّرة في الحفاظ على تراثنا واحترام شخصياتنا التاريخية على جميع المستويات ، وأن نسعى بكلّ الطرق والوسائل إلى الحفاظ عليها حيّة فاعلة في أوساطنا الحاضرة وأجيالنا القادمة من خلال بناء القباب الشاهقة والمنائر الرفيعة وسائر وسائل التكريم والإحياء.

__________________

(١) الشورى : ٢٢.

٢١٤

٣

مشاهد الأنبياء عليهم‌السلام وسيرة الموحّدين عبر القرون

لقد ازدهرت ظاهرة السياحة والسفر في أوساط الشعوب كافّة وخاصّة بالنسبة إلى الأماكن التي تضم قبور الأنبياء والصالحين من أبنائهم ، الأمر الذي يعكس الأهمية الخاصة التي يوليها أتباع الرسل والأنبياء لتلك الآثار والمراقد المشرّفة ، والاهتمام الجاد والسعي المتواصل لصيانتها وحفظها من عوامل التخريب والاندثار ، وذلك من خلال بناء القباب الشاهقة والأبنية المزيّنة بأنواع الزخارف والنقوش الجميلة.

ولا زالت تلك المشاهد عامرة وماثلة للعيان بعمارتها الجميلة وزخرفتها الزاهية أمام أعين الجميع في كلّ من : العراق ، وسورية ، والأردن ، وفلسطين المحتلة ، ومصر ، وإيران ، والتي ما زالت يقصدها الكثير من الزوّار والسوّاح من جميع أقطار المعمورة.

ولقد حدّثنا التاريخ أنّ الجيوش الإسلامية المحررة حينما فتحت بلاد الشام لم تتعرض إلى تلك القبور المشرّفة للأنبياء بأيّ سوء ، ولم ينقل لنا التاريخ أيّة محاولة إساءة أو اعتداء على تلك البقاع الشريفة ، بل لم يُبدِ المسلمون أيّة ردّة فعل سلبية

٢١٥

اتجاهها ، فأقرّوا خدمتها والمشرفين عليها على ما هم عليه ، وأوصوهم بالحفاظ عليها وصيانتها ، فلو كان البناء على قبور الأنبياء والأولياء حراماً ومنافياً للتوحيد وشركاً به سبحانه لسعى المسلمون الفاتحون ـ وبأمر من الخلفاء ـ لتخريبها وإزالتها من الوجود ولم يتركوا لها أثراً يذكر ، والحال أنّنا نجد المسلمين لم يتعرّضوا لها ولو بأدنى تعرّض أو تصرّف ، فأبقوها كما هي عليه من دون أيّ تغيير. ولقد بقيت تلك القباب الشاهقة والمنائر المزيّنة عامرة إلى هذه اللحظة حيث تحظى باهتمام خاص وعناية فائقة من الموحّدين في جميع أقطار العالم.

أضف إلى ذلك : أنّ المسلمين قد واروا الجسد الطاهر للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيته المسقف ولم يخطر ببال واحد من الصحابة الكرام أنّ البناء على القبر أمرٌ محرم ينبغي الاجتناب عنه والتصدّي له! بل نجد سيرتهم قائمة على الاعتناء بتلك الحجرة الشريفة بشتّى الأساليب والطرق.

ثمّ إنّ كتب التاريخ والرحلات التي قام بها بعض علماء المسلمين والتي دوّنوا فيها مشاهداتهم ، نقلت لنا صورة بهيّة لمئات المراقد والأضرحة المجلّلة الموزعة في أرض الوحي وباقي البلاد الإسلامية ، نكتفي بذكر بعض تلك المشاهدات ، لأنّ ذكر الجميع يحتاج إلى تصنيف مفرد.

١. كلمة المسعودي في حقّ قبور أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام

هذا هو المسعودي الذي توفّي عام (٣٤٥ ه‍ ـ) ، وقد أدرك خير القرون كما يقولون ، وولد في أواخره ـ إذا كان خير القرون هو القرون الثلاثة الأُولى ـ يقول :

وعلى قبورهم في هذا الموضع من البقيع رخامة مكتوب عليها : بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله مبيد الأُمم ومحيي الرمم ، هذا قبر فاطمة بنت رسول

٢١٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيدة نساء العالمين وقبر الحسن بن علي بن أبي طالب ، وعلي بن الحسين بن أبي طالب ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد. (١)

وبالرغم من أنّ المسعودي كان من رجال القرون التي تعدّها السلفية المتعصبة من خير القرون ، وانّ الأعمال التي راجت بين المسلمين في تلك القرون تكتسب مشروعيتها من كونها وقعت في تلك البرهة التي وصفت بأنّها خير القرون ، مع ذلك كلّه ـ وللأسف الشديد ـ نجد أنّ تلك الرخامة التي تحدّث عنها المسعودي قد دفنت تحت أطنان التراب بسبب النهج الوهابي الخاطئ ، فلا تجد لها اليوم أثراً في أوساط المسلمين.

٢. الرحّالة ابن جبير والأبنية على المشاهد

هذا هو أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي الشاطبي ، أحد علماء الأندلس الأكابر في الفقه والحديث يحكي لنا في رحلته عن الأبنية الرفيعة والقباب العالية في المشاهد والمزارات المعروفة يومذاك للأنبياء والصالحين والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته وصحابته والتابعين لهم بإحسان.

فقد قام برحلات ثلاث ، أهمّها استغرقت أكثر من ثلاث سنوات ، حيث بدأها يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة ٥٧٨ ه‍ ـ ، وختمها في يوم الخميس الثاني والعشرين من شهر محرم سنة ٥٨١ ه‍ ـ ، وقد وصف في هذه الرحلة ما مرّ به من مدن وما شاهد من عجائب البلدان.

كما وعنى عناية خاصة بوصف النواحي الدينية والمساجد والمشاهد وقبور الأنبياء والأولياء وأهل البيت والصحابة والتابعين ، وصفاً دقيقاً ، يعرب عن أنّ

__________________

(١) مروج الذهب ومعادن الجوهر : ٢ / ٢٨٨.

٢١٧

هذه القباب والأبنية الرفيعة شُيّدت من قبل قرون تتصل إلى عصر الصحابة والتابعين.

ولم يكن يومذاك أيّ معترض على بنائها فوق قبور هؤلاء ، ولم يدر بخلد أحد أنّ هذه القباب والأبنية ستبعدنا عن التوحيد ، بل كانوا يتبرّكون بهذا العمل ويبدون ما في مشاعرهم من ودّ وحبّ لأصحابها.

وكان التبرّك والتقبيل سنّة رائجة بين المسلمين ، وهم لم يكونوا يقبّلون باباً ويتبرّكون بجدار ، بل يتبرّكون بمن حوتهم ، على حدّ قول مجنون بني عامر :

أمرُّ على الديار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

وفيما يلي نشير بشكل مقتضب إلى مجمل كلامه.

مشهد رأس الحسين بالقاهرة

يقول ابن جبير في ذكر مصر والقاهرة وبعض آثارها العجيبة : فأوّل ما نبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عزوجل ، فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي‌الله‌عنهما ، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض ، قد بُني عليه بنيان جميل يقصر الوصف عنه ، ولا يحيط الإدراك به ....

إلى أن يقول : ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا إلى هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل ، شديد السواد والبصيص ، يصف الأشخاص كلّها ، كأنّه المرآة الهندية الحديثة الصقل.

وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وإحداقهم به ، وانكبابهم عليه ،

٢١٨

وتمسّحهم بالكسوة التي عليه ، وطوافهم حوله ، مزدحمين داعين باكين متوسّلين إلى الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدّسة ، ومتضرّعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ، ومرأى الحال أهول ، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. (١)

القباب الرفيعة لأهل البيت في مكة المكرمة

وعن مشاهد مكة المكرمة يقول ابن جبير : فمن مشاهدها التي عايناها قبّة الوحي ، وهي في دار خديجة أُمّ المؤمنين رضي‌الله‌عنها ، وبها كان ابتناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ، وقبة صغيرة أيضاً في الدار المذكورة ، فيها كان مولد فاطمة الزهراء رضي‌الله‌عنها ، وفيها أيضاً وَلَدَتْ سيدي شباب أهل الجنة ، الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما ، وهذه المواضع المقدّسة المذكورة مغلقة مصونة قد بنيت بناء يليق بمثلها.

ومن مشاهدها الكريمة أيضاً مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتربة الطاهرة التي هي أوّل تربة مسّت جسمه الطاهر بُني عليها مسجد لم يُر أحفل بناءً منه ، أكثره ذهب منزّل به ، والموضع المقدّس الذي سقط فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساعة الولادة السعيدة المباركة التي جعلها الله رحمة للأُمّة أجمعين محفوف بالفضة.

ثمّ يعد بعض المشاهد فيقول : دار الخيزران ، وهي الدار التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعبد الله فيها سراً مع الطائفة الكريمة المبادرة للإسلام من أصحابه رضي‌الله‌عنهم. (٢)

ولو أردنا استعراض كلّ ما ذكره ابن جبير في رحلته حول مقامات ومشاهد

__________________

(١) رحلة ابن جبير : ١٨ ـ ١٩.

(٢) رحلة ابن جبير : ٨١ ـ ٨٢.

٢١٩

العلماء والصالحين والشهداء في العراق والشام ، لطال بنا المقام ولذلك نكتفي بما نقلناه ، ومن أراد التفصيل فعليه بمراجعة المصدر. (١)

٣. كلام الحافظ محمد بن محمود بن النجار (٥٧٨ ـ ٦٤٣ ه‍) (٢)

وللرحالة المعروف ابن النجار كلام في هذا المجال منه ما يلي :

والقبران (أي قبر العباس بن عبد المطلب وقبر الحسن بن علي ومعه السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام) في قبّة كبيرة عالية قديمة البناء في أوّل البقيع ، وعليها بابان يفتح أحدهما للزيارة رضي‌الله‌عنهم. (٣)

هذه مجموعة من النماذج التي اخترناها من بعض كتب التاريخ والرحلات ، ومن يراجع كتب الرحلات يصل إلى نتيجة قطعية بأنّ البناء على قبور الأنبياء والأولياء والصالحين كانت سنّة رائجة في أوساط الموحّدين من أبناء الأُمّة الإسلامية.

٤. ابن الحجاج والقبة البيضاء على قبر الإمام علي عليه‌السلام

إنّ الحسين بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجاج البغدادي أحد الشعراء

__________________

(١) ما يتعلّق بالمشاهد في مصر انظر الصفحات : ١٩ ـ ٢٤ ، وفي مكّة المكرمة الصفحات : ٨٧ ، ١٤١ ، ١٤٢ ، وراجع ما يخص المدينة المنورة الصفحات : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، وأمّا الكوفة ففي الصفحات : ١٨٧ ـ ١٩٨ ، وأمّا مشاهد بغداد ففي ٢٠٢ ، وأمّا مشاهداته في الشام ففي الصفحات : ٢٤٦ ـ ٢٤٩ و ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، من كتابه «رحلة ابن جبير».

(٢) ولد الرحّالة المعروف ابن النجار في بغداد ، وبدأ رحلته التي استغرقت سبعة وعشرين عاماً من العراق مرّ خلالها بالشام ومصر والحجاز وبلاد فارس.

(٣) أخبار مدينة الرسول : ١٥٣.

٢٢٠