الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكر لنا التاريخ نماذج من تلك الزيارات والتي قام بها الصحابة وغيرهم ، نذكر القليل منها :

١. بلال مؤذّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشدّ الرحال للزيارة

روى ابن عساكر باسناده عن أبي الدرداء ، قال : لمّا فرغ عمر بن الخطاب من فتح بيت المقدس فصار إلى الجابيّة ، سأله بلال أن يقرّه بالشام ففعل ذلك ـ إلى أن قال ـ : ثمّ إنّ بلالاً رأى في منامه رسول الله وهو يقول : «ما هذه الجفوة يا بلال ، أمّا آن لك أن تزورني يا بلال» ، فانتبه حزيناً خائفاً ، فركب راحلته ، وقصد المدينة ، فأتى قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين () فجعل يُضمّهما ويقبّلهما ، فقالا له : «نشتهي أذانك الذي كنت تؤذّن به لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد» ، ففعل ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه ، فلمّا أن قال : اللهُ أكبر ، اللهُ أكبر ارتجّت المدينة ، فلمّا أن قال : رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهنّ ، وقالوا : بُعِثَ رسول الله. فما رُئي يوم أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله من ذلك اليوم. (١)

٢. عمر بن عبد العزيز يبعث البريد للسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

استفاض الخبر أنّ عمر بن عبد العزيز كان يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ليقرئ النبي السلام ثمّ يرجع وقال ابن الجوزي : وكان عمر بن

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٢٦٥ ؛ تهذيب الكمال : ٤ / ٢٨٩.

١٨١

عبد العزيز يبرد البريد من الشام يقول : سلّم لي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

٣. عمر بن الخطاب يطلب من كعب السفر للزيارة

روى الواقدي في «فتوح الشام» : انّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس ، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة ، وتزور قبر النبي وتتمتّع بزيارته؟ فقال لعمر : يا أمير المؤمنين أنا أفعل ذلك. ولمّا قدم عمر المدينة ، أوّل ما بدأ بالمسجد وسلّم على رسول الله. (٢)

وفي الحقيقة نحن لسنا بحاجة إلى ذكر هذه النماذج الجزئية بعد أن أطبق المسلمون على طول القرون الأربعة عشر الماضية على جواز السفر ، وأثبتوا صحّة ذلك ، وقاموا بذلك بصورة عملية حيث كانت ولا تزال تسير الوفود والقوافل الكبيرة منطلقة من أقصى المناطق ومن كلّ فج عميق باتجاه المدينة المنوّرة للتشرّف بزيارة النبي الأكرم والانتهال من نمير فيضه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتجديد العهد معه.

وهذا هو الإمام السبكي يذكر سيرة المسلمين في أيام الحجّ ، ويقول : إنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجّ يتوجّهون إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحجّ ، هكذا شاهدنا وشاهده مَن قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، وذلك أمر لا يرتاب فيه ، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه ، وإن لم يكن في طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة ، وينفقون فيه الأموال ،

__________________

(١) مثير الغرم الساكن إلى أشرف الأماكن : ٢ / ٢٩٧.

(٢) فتوح الشام : ١ / ٢٤٤.

١٨٢

ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة ، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مرّ السّنين وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ، يستحيل أن يكون خطأ ، وكلّهم يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزوجل ، ومن تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخّر بعجز أو تعويق المقادير ، مع تأسّفه وودّه لو تيسّر له. ومن ادّعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ.

ومن نازع في ذلك وقال : فإنّهم يقصدون من سفرهم زيارة المسجد ، لا زيارة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم ينصف وكابر في أمر بديهي. فإنّ الناس من حين يعرجون إلى طريق المدينة ، لا يخطر ببالهم غير الزيارة من القربات إلّا قليلاً منهم ، وغرضهم الأعظم هو الزيارة ، ولو لم يكن ربّما لم يسافروا ، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسر إتيانه ، وليس الصلاة فيه بأقل ثواباً من الصلاة في مسجد النبي. (١)

أدلّة القائلين بحرمة شدّ الرحال

كان هذا هو الموقف من الزيارة وشدّ الرحال إليها إلى نهاية القرن السابع حيث كان العلماء مطبقون على إباحة النفر وشدّ الرحال إلى الزيارة ، وإن لم يكن ذلك أمراً مستحباً فهو على أقل تقدير أمر مباح ولا يمكن تطرّق الحرمة إليه ، ولكن في أوائل القرن الثامن تمسّك ابن تيمية بحديث مروي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتمده دليلاً على الحرمة ، مخالفاً بذلك إجماع علماء المسلمين.

__________________

(١) شفاء السقام : ١٠٠ ـ ١٠١.

١٨٣

إنّ الرواية التي تمسّك بها ابن تيميّة نقلت بثلاث صور ، والمناسب لما يرومه ابن تيمية في التحريم الصورتان التاليتان :

١. «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد الحرام ، ومسجد الأقصى». (١)

٢. «إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيليا». (٢)

ولقد تمسّك ابن تيمية بهذا الحديث مدّعياً أنّه يجوز السفر إلى هذه المساجد الثلاثة فقط لأداء المراسم العبادية ، وأمّا زيارة قبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فغير داخلة تحت هذه الموارد الثلاثة.

وهذا الاستدلال من الوهن بمكان ، بحيث إنّ أدنى تأمّل فيه يهدمه من الأساس ، ومن هنا سنحاول تحليل الحديث ودراسته لبيان مدى وهن هذا الاستدلال وضعفه فنقول :

إنّ تحليل الحديث يتوقف على تعيين المستثنى منه ، وهو لا يخلو من إحدى صورتين :

١. لا تشدّ الرحال إلى مسجد من المساجد إلّا إلى ثلاثة مساجد ....

٢. لا تُشدّ الرحال إلى مكان من الأمكنة إلّا إلى ثلاثة مساجد ....

فلو كان المراد الصورة الأُولى كما هو الظاهر ، كان معنى الحديث النهي عن

__________________

(١ و ٢) صحيح مسلم : ٤ / ١٢٦ ، باب لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد ، من كتاب الحجّ ، والصورة الثالثة للحديث : «تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد» صحيح مسلم : ٤ / ١٢٦. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الصيغة الثالثة لا تدعم ما يرومه ابن تيمية ، وذلك لأنّ إثبات جواز السفر إلى هذه المساجد الثلاثة ، لا يلازم تحريم السفر إلى غيرها.

١٨٤

شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة ، ولا يعني عدم جواز شدّ الرحال إلى أيّ مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً ، فالحديث يكون غير متعرض لشدّ الرحال لزيارة الأنبياء والأئمّة الطاهرين والصالحين ، لأنّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد ، وأمّا غير ذلك فليس داخلاً فيه ، فالاستدلال به على تحريم شدّ الرحال إلى غير المساجد باطل.

وأمّا الصورة الثانية : فلا يمكن الأخذ بها ، إذ يلزم منها كون جميع السفرات محرّمة ، سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.

ثمّ إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً ، وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا ، وذلك لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف من حيث الفضيلة ، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة ، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

وفي هذا الصدد يقول الغزالي : القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد ... ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم‌السلام ، وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء. وكلّ من يُتبرك بمشاهدته في حياته يُتبرك بزيارته بعد وفاته ، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض ، ولا يمنع من هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى» لأنّ ذلك في المساجد ؛ فإنّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد ، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل ، وإن كان

١٨٥

يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله. (١)

يقول الدكتور عبد الملك السعدي : إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى ، لأجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى ، أو زيادة ثواب ؛ لأنّها في الثواب سواء بخلاف الثلاثة ، لأنّ العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف ، وفي مسجد النبوي بألف ، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة ، فزيادة الثواب تُحبِّب السفر إليها ، وهي غير موجودة في بقية المساجد. (٢)

والدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً ، ما رواه أصحاب الصحاح والسنن : «كان رسول الله يأتي مسجد قبا راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين». (٣)

ولعلّ استمرار النبيّ على هذا العمل كان مقترناً بمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قبا والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقل ثواباً من الصلاة في مسجده.

زيارة المساجد السبعة

تتوزّع في المدينة المنورة مجموعة من المساجد يطلق عليها «المساجد السبعة» وإذا أضفنا إليها كلاً من «مسجد ردّ الشمس» و «مسجد بلال» و «مسجد الإجابة» يزداد العدد إلى أكثر من ذلك ، وهذه المساجد يقصدها الحاج لزيارتها والصلاة فيها وخاصة «مسجد الإمام علي عليه‌السلام» ، وحينئذ يطرح السؤال

__________________

(١) إحياء علوم الدين ٢ / ٢٤٧ ، كتاب آداب السفر.

(٢) البدعة : ٦٠.

(٣) صحيح مسلم : ٤ / ١٢٧ ؛ صحيح البخاري : ٢ / ٧٦ ؛ سنن النسائي : ٢ / ١٣٧ ، المطبوع مع شرح السيوطي.

١٨٦

التالي نفسه وهو : إذا كان ثواب الصلاة في هذه المساجد لا يزيد على الصلاة في المساجد الأُخرى المتوزعة في البلاد الإسلامية ، فلما ذا يقصد الحاج تلك المساجد للزيارة والصلاة فيها؟!

ثمّ إنّه إذا لم يكن قد ورد أمر من الشارع المقدّس بالتوجّه إلى تلك المساجد والصلاة فيها ألا يُعدّ ذلك «بدعة» يجب الاجتناب عنها؟

والجواب : في الحقيقة أنّ الهدف من السفر إلى هذه المساجد لا ينطلق من كون الشارع المقدّس قد أمر بالتوجّه إليها ، أو أنّ الصلاة فيها أكثر ثواباً من غيرها ، بل الهدف منه أحد أمرين ، هما :

١. إحياء ذكرى مسلمي صدر الإسلام الذين شيّدوا هذه المساجد في أحلك الظروف وأقساها ، وأسّسوها في الوقت الذي كانت معركة الأحزاب «الخندق» قائمة بين المسلمين والأحزاب ، بل أنّ بعض هذه المساجد بُني في مواقع النزال بين المسلمين وبين مشركي مكة من جهة وبينهم وبين اليهود من جهة أُخرى ، وفي تلك الظروف الحالكة التي تمكّن فيها المسلمون من قتل بطل جيش الأحزاب وقائدهم المشهور «عمرو بن عبد ود» على يد علي بن أبي طالب عليه‌السلام الأمر الذي سجّل منعطفاً تاريخياً مهماً في القضاء على حكومة الشرك والطغيان واجتثاث جذور شجرة الشرك والوثنية.

ولا ريب أنّ الحضور في هذه المساجد يُعيد إلى الأذهان تلك المواقف البطولية المشرّفة والباسلة التي سطّرها رجال الإسلام وعلى رأسهم سيّد الوصيين عليه‌السلام ، كما يعتبر ذلك تجديداً للعهد مع أُولئك الرجال العظام ومع مبادئهم السامية التي دافعوا عنها بكلّ قوّة وبذلوا من أجلها الغالي والنفيس.

٢. يمكن أن تكون الزيارة بقصد التبرّك بتلك البقاع المقدّسة التي أُريقت

١٨٧

عليها دماء رجال التوحيد وشهدائه. كما أنّ هذه البقاع قد شهدت أجمل صور البطولة والفداء والثبات على المبادئ الصور التي رسمتها ريشة شهداء الحق وأبطال التوحيد ، بالإضافة إلى ذلك أنّ هذه المساجد المقدّسة كانت مأوى النفوس الزكية والأرواح الطاهرة للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّد الوصيين والصحابة الميامين.

إنّ هذين الأمرين هما اللّذان يجذبان الحاج إلى تلك المساجد المقدّسة للزيارة والصلاة فيها ، وهكذا الأمر يجري في زيارة أرض «خيبر» و «فدك» وغيرها من المناطق المشرّفة.

وأمّا ما يتعلّق بالصلاة فيها فلا ريب أنّه يُعدّ امتثالاً لأمر عام صادر من الشارع المقدّس باستحباب الصلاة ركعتين عند دخول أيّ مسجد ، ويطلق على هاتين الركعتين عنوان «تحيّة المسجد» ، ومن الواضح أنّ هذه المساجد غير مستثناة من هذا الاستحباب العام. من هنا نعلم أنّ الحاج لا ينطلق من زيارته لتلك المساجد من الاعتقاد بوجود أمر خاص باستحباب الصلاة فيها بالخصوص ، بل إنّما ينطلق إليها بسبب أحد العاملين السابقين ، وأمّا الصلاة فإنّه يأتي بها امتثالاً للاستحباب العام الوارد في مطلق المساجد ، فلا يُعدّ ذلك العمل بدعة أبداً.

١٨٨

الفصل الثامن

صيانة الآثار الإسلامية وقبور الصالحين

١٨٩
١٩٠

الأُمم الحيّة المهتمة بتاريخها تسعى وبكلّ جهد إلى صيانة آثارها التاريخية ـ التي لها ـ صلة بماضيها ـ من عوادي الدهر وتقلّبات الزمن ، ليكون ذلك آية لأصالتها وعراقتها في العلوم والفنون ، ودليلاً على جذورها التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ البشري.

وقد دعت تلك الغاية السامية الأُمم والشعوب إلى تأسيس دوائر ومؤسّسات خاصة تتكفّل بحفظ التراث والآثار ، يعمل فيها كبار المتخصّصين والمهرة في هذا الفن ، فلا يفرّطون في أيّ أثر مهما كان حجمه ، سواء كان ورقة مخطوطة ، أو إناءً مزخرفاً ، أو أثراً منقوشاً على الحجر ، أو منارة ، أو بناية ، أو حصناً ، أو قبراً لأحد شخصياتهم وأبطالهم الذين لعبوا دوراً في بناء هذا التراث وإدارة الأُمّة ، إلى حد ينفقون في سبيل ذلك أموالاً طائلة وجهوداً حثيثة ، أضف إلى ذلك أنّهم ينظرون إلى رجالهم وشخصياتهم وأسلافهم بأنّها تمثّل «التاريخ المجسّم» للأُمّة ، وأنّهم بمنزلة «الهوية الشعبية» لتلك الأُمّة ، لأنّ الأُمّة التي تنفصل عن جذورها التاريخية ورجالها العظام كالطفل الذي يفقد أبويه فلا يدري إلى أيّ أصل يعود.

ولا ريب أنّ الحضارة الإسلامية حضارة واسعة لها جذورها التاريخية الضاربة في أعماق التاريخ ، ولقد كانت هذه الحضارة ـ في فترات تاريخية ـ صاحبة الكلمة الأُولى بين شعوب العالم حيث استطاع المسلمون ـ اقتداءً بالتعاليم والقيم

١٩١

الإسلامية الراقية ـ أن يشيّدوا أُسس حضارة عملاقة لا مثيل لها بلغت أوجها في القرنين الرابع والخامس الهجريّين ، وامتدت ذراعها شرق الأرض وغربها. والشاهد الحي على تلك الحضارة العملاقة «تاج محل» في الهند ، والعمارات العملاقة في «إسبانيا» وقد استطاعت هذه المدنية أن تهيمن ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ على الكثير من البقاع والشعوب في العالم.

يعتقد المحقّقون الغربيون أنّ الحضارة والمدنية الإسلامية قد نفذت إلى أُوروبا عن طريق الأندلس والحروب الصليبية ، وكان لهذا النفوذ أثره الفاعل في النهضة الأُوروبية والتطوّر الغربي.

ثمّ إنّ الحضارة الإسلامية بدأت مع بعثة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بل مع ولادته الشريفة باعتبار ما ـ واستمرت هذه الحضارة والمدنية على يد أتباعه والسائرين على نهجه المبارك الذين بذلوا جهوداً جبارة في هذا المجال على طول القرون الماضية.

إنّ الآثار والأبنية المتعلّقة بشخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الأوفياء ، هي جزء من التراث العام للحضارة الإسلامية الكبرى ، وليست هي ملكاً لشخص أو فئة بحيث يحق له التصرّف في هذا التراث كما يحلو له ، بل هي ملك العالم الإسلامي بأسره ـ بل هي ملك للإنسانية عامّة ـ فلا يحق لأيّ حكومة أن تتصرف في هذا التراث العظيم بمعزل عن باقي المسلمين فتقوم بهدم وإزالة هذه الآثار المهمة تحت ذريعة الحفاظ على التوحيد الخالص!!

ولقد نقل لنا التاريخ الإسلامي وقائع ومنعطفات حياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتابع ذلك بدقة وإمعان ، فولادته كانت في عام ٥٧٠ م ، وبعث وهو في سن الأربعين من عمره الشريف وبعد أن قضى ١٣ عاماً في مكة المكرمة في التبليغ

١٩٢

والدعوة ، شدّ الرحال مهاجراً إلى المدينة المنوّرة حيث قضى فيها عشر سنين من عمره المبارك جاهد خلالها المشركين وعبدة الأوثان ، وقدّم خلال هذه النهضة والحركة خيرة القرابين ، وسفكت في سبيل إعلاء كلمة التوحيد أزكى الدماء حتى تمكّن في النهاية أن ينشر راية الإسلام خفاقة على ربوع الجزيرة العربية ، وفي السنة الحادية عشرة التحق بالرفيق الأعلى ملبّياً نداء ربّه ، إلّا أنّ برحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تسقط راية الإسلام ، بل استمرت خفاقة وانتشرت الرسالة الإسلامية خارج الجزيرة العربية في شتّى بلاد العالم.

إنّ الآثار التي تتعلّق بحياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهاده هو وأهل بيته وأصحابه الميامين تمثّل اللبنة الأساسية للحضارة الإسلامية ، ولا بدّ أن ينظر إليها بأنّها رمز الأصالة الإسلامية ، التي ينبغي بذل الجهود في الحفاظ عليها وصيانتها من كلّ خطر يحيق بها.

قبور الصالحين رمز أصالة التاريخ الإسلامي

ينبغي التنبيه إلى نقطة جديرة بالاهتمام وهي : انّ كلّ واقعة أو أي حادثة من الحوادث تُعدّ في الأيام الأُولى لوقوعها من الحقائق القطعية لدى المعاصرين لها ، ولكنّها مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال تفقد تلك الواقعة قطعيتها ، بصورة تدريجيّة بنحو يلقي الشك والترديد ظلاله عليها إلى درجة قد تصل الحالة إلى أن تعتبر أُسطورة خيالية في نظر بعض الأجيال.

ولا شكّ انّ الحوادث والوقائع التاريخية غير مستثناة من هذه الحالة ، فبالرغم من قطعيتها ووضوحها في الأيام الأُولى ، ولكنّها قد تصل إذا أُهملت ولم تلق عناية خاصة إلى أن تصبح أُسطورة تاريخية في نظر الأجيال القادمة.

١٩٣

بل انّ تكرار هذا الخطر وتلك الفاجعة في الحضارة الإسلامية أخطر من غيرها ، وذلك باعتبار أنّ الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات ، وهي الرسالة الخالدة التي تسير مع الإنسان وترسم له طريقه إلى يوم القيامة ، ولا شكّ أنّ الأجيال القادمة انّما تتبع هذه الرسالة ، وتنهل من نميرها العذب إذا كانت تلك الأجيال على يقين من أحقية تلك الرسالة وعلى علم بواقعيتها وأصالتها ، وممّا لا ريب فيه أنّ أحد العوامل الفاعلة والمهمة في ثبوت «قطعية» الرسالة وأصالتها ، وتحكيم جذورها التاريخية ، تكمن في الحفاظ على الآثار المتعلّقة بتاريخ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهاده وقيادته وحركته في المجتمع.

فصيانة هذه الآثار على وجه الإطلاق تضفي على الشريعة في نظر غير معتنقيها واقعية وحقيقة ، وتزيل عن وجهها أيّ ريب أو شك في صحّة البعثة والدعوة ، وجهاد الأُمّة ونضال المؤمنين.

ولقد بذل علماؤنا وسلفنا الصالح رحمهمُ الله جهوداً جبارة ومساعي مشكورة في مجال الحفاظ على ذلك التراث المهم ، وأوصلوا الأمانة سالمة إلى الأجيال اللاحقة ، وبذلك قدّموا خدمات عظيمة للأجيال من خلال ذلك العمل الرائع المتمثّل في صيانة الآثار وحفظها ، ممّا كان له أثره الفاعل في النظر إلى الدين الإسلامي نظرة واقعية ، وإلى الشخصيات الإسلامية نظرة قطعية لا ريب ولا تردّد فيها أبداً.

من هنا يستطيع المسلمون أن يتحدّثوا عن دينهم ويدعو الناس إليه بقوّة واطمئنان تامّين ، فهم يواجهون العالم مرفوعي الرأس ويقولون : أيّها الناس لقد بعث رجل في أرض الحجاز قبل ١٤٠٠ سنة لقيادة المجتمع البشري ، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمته التي استمرت ٢٣ عاماً موزّعة على مرحلتين : ١٣ عاماً منها في مكة ، وعشرة منها في المدينة ، وهذه آثار حياته محفوظة تماماً في مكة والمدينة ،

١٩٤

فهذه الدار التي ولد فيها ، وهذا مسجده ، وهذا البيت الذي دفن فيه ، وهذه بيوت زوجاته ، وهذا غار حراء الذي كان يتعبّد به والذي هبط الوحي عليه فيه وهو في سن الأربعين من عمره الشريف ، ومنه بدأت حركة الرسالة الإسلامية ، ف فآمنت به طائفة وكفرت أُخرى ، وقد واجه في طريق الدعوة أشدّ المصاعب في مكة ممّا اضطره للهجرة إلى المدينة ، وفي طريق هجرته لجأ إلى «غار ثور» في جنوب مكة ، وبعد أن أمن الطلب توجّه صوب المدينة مهاجراً ليستقبله الأوس والخزرج ، ويؤسّس هناك نواة الحكومة الإسلامية الجديدة.

وقد خاض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الفترة من حياته الشريفة معارك ضارية مع المشركين واليهود ، قدّم خلالها قافلة من الشهداء في بدر وأُحد وخيبر وحنين ، كما قام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإرسال المبلّغين إلى سائر أراضي الجزيرة العربية داعين الناس إلى التوحيد ونبذ الشرك والوثنية ، وبعد أن أتمّ رسالته وأدّى مهمته على أحسن وجه ، لبّى نداء ربّه في السنة الحادية عشرة من هجرته الشريفة ، وقد استلم الراية التي رفعها أهل بيته وأنصاره وأصحابه ، وساروا على النهج الذي سار عليه ونشروا مفاهيم القرآن وقيمه في أرجاء المعمورة.

والآن ، إذا قضينا على هذه الآثار ، فقد قضينا على معالم وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودلائل أصالته وحقيقته ، ومهّدنا السبيل لأعداء الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة لا يُعد إساءة إليهم عليهم‌السلام وهتكاً لحرمتهم فقط ، بل هو إعداء سافر على أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم. إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبدية وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة ، ولا بدّ للأجيال القادمة ـ على طول الزمن ـ أن

١٩٥

تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها. ولأجل تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ ـ دائماً ـ على آثار صاحب الرسالة المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكي نكون قد خطونا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة ، حتّى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما شكّكوا في وجود النبي عيسى عليه‌السلام.

لقد اهتمّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته وسلوكه ، حتّى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيته ، وكلّ ما يرتبط به كخاتمه ، وحذائه ، وسواكه ، وسيفه ، ودرعه ، ورمحه ، وجواده ، وإبله ، وغلامه ، حتّى الآبار التي شرب منها الماء ، والأراضي التي أوقفها لوجه الله سبحانه ، والطعام المفضّل لديه ، بل وكيفية مشيته وأكله وشربه ، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها ، وغير ذلك ، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا. (١)

الاتّعاظ بالتاريخ

إنّ الإنسان يسعى دائماً إلى النظر إلى الأُمور من نافذة الحسّ ، وذلك لأنّه يطمئن إلى العلوم الناتجة من الأُمور المحسوسة أكثر من غيرها ، وإنّ من أفضل التجارب والمختبرات التي يمكن الركون إليها في مجال القضايا التاريخية والاجتماعية هو الانطلاق من بوتقة التجارب التاريخية ، وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى في سورة يوسف حيث قال تعالى :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى

__________________

(١) حول هذا الموضوع راجع الطبقات الكبرى لابن سعد : ١ / ٣٦٠ ـ ٥٠٣.

١٩٦

وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). (١)

هذا ، وإذا استعرضنا تاريخ الشرائع السماوية نجد في تاريخ السيد المسيح عليه‌السلام خير شاهد على ما نذهب إليه ، فمن المسلّم به أنّ الإنسان المسلم ـ وتبعاً للقرآن الكريم والسنّة المطهّرة ـ يذعن بوجود السيد المسيح عليه‌السلام ، ويعتقد اعتقاداً راسخاً بأنّ هذه الشخصية تمثّل حلقة من سلسلة الرسالات والنبوّات الطويلة ، وأنّ للسيد المسيح وجوداً حقيقياً ودوراً فاعلاً في تاريخ البشرية عامّة وتاريخ الرسالات خاصة ، حيث جاء بتعاليم وإرشادات ودساتير سماوية من خلال كتابه «الإنجيل».

ولكن ـ وللأسف الشديد ـ نجد الشباب الغربيّين لعدم معرفتهم بالمعارف القرآنية الحقّة وعدم اعتقادهم بالدين الإسلامي الذي جاء به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يعتبر أفضل طريق وأصفى مرآة لإثبات حقيقة السيد المسيح عليه‌السلام ، نجدهم ينظرون اليوم إلى شخصية السيد المسيح عليه‌السلام نظرة ارتياب وشك وتردد ، وذلك لأنّ الشباب الغربي قد جال ببصره وتتبع التاريخ الأثري ، فلم يجد لهذه الشخصية العملاقة أثراً ملموساً لكي يركن إليه ، فلم يجد له قبراً (٢) ، أو لأُمّه مريم ، أو لأحد حواريّيه ، كما لم يجد له كتاباً متّفقاً عليه ، وإنّما نسبت إليه أناجيل كثيرة مضطربة مختلفة فيما بينها لا يمكن تمييز الحق من الباطل منها بسهولة.

وخلاصة الأمر : انّ الشاب الغربي لم يعثر على شيء ملموس يؤدّي به إلى

__________________

(١) يوسف : ١١١.

(٢) هذا الكلام يصدق وفقاً للتفكير المسيحي المنحرف الذي يذهب إلى أنّ المسيح عليه‌السلام صلب فعلاً. وأمّا حسب النظرية الإسلامية فلا يصح.

١٩٧

الاطمئنان بأصالة هذه الشخصية والركون إلى أنّها واقعة حقيقة لا يمكن التردّد فيها.

ومن هنا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ العبر والدروس من التاريخ المسيحي ، وأن نسعى بكلّ ما أُوتينا من قوّة وجهد في سبيل صيانة الآثار الإسلامية عامّة ، وآثار الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة مهما كانت صغيرة ، وذلك لأنّها تمثّل الشاهد الحي على أصالتنا وأحقيّة دعوتنا ، وأن نتجنّب تدميرها بمعول محاربة الشرك الذي اتّخذه البعض ـ وللأسف الشديد ـ ذريعة للقضاء على هذا التاريخ الأثري الملموس والمعلَم الإسلامي المهم ، كي لا يصيب أجيالنا القادمة ما أصاب الشباب الغربي من داء الترديد والشك في شخصية السيد المسيح عليه‌السلام.

القرآن الكريم وحفظ الآثار

لقد أكّد القرآن الكريم انّ الأُمم السالفة كانت تحتفظ بآثار أنبيائها وتحافظ عليها وتصونها وتتبرّك بها ، وكانت تحملها معها في الحروب ، ليتسنّى لها من خلال التبرّك بها التغلّب والانتصار على عدوهم.

ومن النماذج التي ذكرها القرآن الكريم في هذا المجال صندوق بني إسرائيل الذي كانت فيه مواريث آل موسى وهارون ، قال تعالى :

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). (١)

__________________

(١) البقرة : ٢٤٨.

١٩٨

ولا ريب انّ هذا الصندوق عظيم البركة بشهادة أنّ الملائكة هي التي تحمله ، فلو كان حفظ الآثار وصيانتها بصورة عامّة وحفظ هذا الصندوق الأثري بصورة خاصة غير لائق وغير جدير بالاهتمام ، فلما ذا يتحدّث عنه القرآن الكريم بهذا اللحن من الخطاب الإيجابي الذي يظهر منه تأييد الفكرة واستحسانها؟! ولما ذا تتصدى الملائكة على عظمتها وقداستها لحمله؟! ولما ذا تكون عملية استرجاعه من أيدي العمالقة آية على حقّانية قائد الجيش في وقته؟!

نعم انّ الجهلة وذوي العقول الصبيانية هم الذي يعبثون بتراثهم ولا يعيرون له أهمية تذكر ، ولا يرون له ذلك الأثر الفاعل في حركتهم المستقبلية ، وأمّا الوارث العاقل واللبيب فإنّه يتعامل مع ذلك الموروث بطريقة أُخرى وبنحو يختلف اختلافاً جوهرياً عن الطريقة السالفة ، وذلك لأنّه يعي جيداً ما تنطوي عليه تلك الآثار من تراث معنوي واجتماعي ، وما يعكسه هذا التراث من أصالة وحقّانية وإثبات للهوية ، لذلك تجده يعض عليها بالنواجذ ، ويبذل في سبيل صيانتها الغالي والنفيس.

ومن حسن الحظ أنّ الأُمّة الإسلامية ومنذ الأيام الأُولى قد التفتت إلى أهمية هذا التراث الإسلامي المهم ، فحافظت عليه كما حدّثنا التاريخ الإسلامي بذلك ، حيث كانوا يحتفظون بكلّ ما يمت إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلة ، من : ثياب ، وسلاح ، ودار ، وكتاب ، وغير ذلك من الحاجات الشخصية التي كان يستعملها ، بل حتى «شعره» كانوا يحتفظون به في صندوق خاص.

إذا اتّضح ذلك نعطف عنان القلم لدراسة مجموعة من البحوث التي لها ارتباط وثيق بالموضوع ، وهي :

١٩٩

١

مكانة بيوت الأنبياء في القرآن الكريم

لقد أولى القرآن الكريم عناية خاصّة لبيوت الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ، وليس ذلك الاهتمام منطلقاً من العناية المادية بتلك البيوت ، وامتيازها من حيث طراز البناء وشكل الزخرفة ، أو نوعية المواد التي أُنشئت منها ، بل انّ هذا الاهتمام منطلق من كون تلك البيوت كانت تضم في جنباتها ويعيش فيها أُناس من الطراز الأوّل في المعرفة والرقي والتكامل الروحي والمعنوي ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يصف نور الله سبحانه وتعالى بقوله :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ ...). (١)

ثمّ بعد ذلك مباشرة يتعرض لبيان مركز وموقع هذا الكوكب الدرّي والمصباح المنير ، حيث يقول تعالى :

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ). (٢)

__________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) النور : ٣٦.

٢٠٠