الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ ، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الجميع المستحسنة. (١)

٣. وممّن بسط الكلام في زيارة قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام الغزّالي (المتوفّى ٥٠٥ ه‍ ـ) في كتاب الحجّ من كتاب «إحياء العلوم» حيث قال :

الجملة العاشرة : في زيارة المدينة وآدابها.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من وجد سعة ولم يُفد إليَّ فقد جفاني».

إلى أن قال : فمن قصد زيارة المدينة فليصلّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طريقه كثيراً ، فإذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجارها قال : اللهمّ هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار ، وأماناً من العذاب وسوء الحساب. ثمّ ذكر آداب الزيارة وصيغتها ، كما ذكر زيارة الشيخين وزيارة البقيع بمن فيها ، كزيارة قبر عثمان وقبر الحسن بن علي.

ثمّ قال : ويصلّي في مسجد فاطمة رضي‌الله‌عنه، ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله ، وقبر صفيّة عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذلك كلّه بالبقيع ، ويستحبّ له أن يأتي مسجد قباء في كلّ سبت ويصلّي فيه ، لما روي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من خرج من بيته حتّى يأتي مسجد قباء ويصلّي فيه كان له عدل عمرة». (٢)

٤. وقال القاضي عياض المالكي (المتوفّى ٥٤٤ ه‍ ـ) : وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّة مجمع عليها وفضيلة مرغّب فيها ، ثمّ ذكر عدّة من أحاديث الباب فقال : قال

__________________

(١) الأحكام السلطانية : ١٠٩.

(٢) إحياء علوم الدين : ١ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

١٦١

إسحاق بن إبراهيم الفقيه : وممّا لم يزل من شأن من حج المزور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتبرّك برؤية روضته ومنبره وقبره وملامس يديه ومواطن قدميه والعمود الذي استند إليه ، ومنزل جبرئيل بالوحي فيه عليه. (١)

٥. قال الإمام القدوة ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (المتوفّى ٧٣٨ ه‍ ـ) بعد أن ذكر لزوم وكيفية زيارة الأنبياء والرسل (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) والتوسّل بهم إلى الله تعالى وطلب الحوائج منهم قال : وأمّا في زيارة سيّد الأوّلين والآخرين صلوات الله عليه وسلامه فكلّ ليزيد عليه أضعافه ، أعني : في الانكسار والذّل والمسكنة ؛ لأنّه الشافع المشفّع الذي لا تردّ شفاعته ، ولا يخيب من قصده ، ولا من نزل بساحته ، ولا من استعان أو استغاث به ، إذ إنّه عليه الصلاة والسلام قطب دائرة الكمال وعروس المملكة ـ إلى أن قال ـ : فمن توسّل به أو استغاث به أو طلب حوائجه منه فلا يردّ ولا يخيب ، لما شهدت به المعالية والآثار ، ويحتاج إلى الأدب الكلّي ، إلى زيارته عليه الصلاة والسلام.

إلى أن قال : وقد قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنّ الزائر يشعر بنفسه بأنّه واقف بين يديه عليه الصلاة والسلام كما هو في حياته. (٢)

٦. قال ابن حجر الهيتمي المكي الشافعي (المتوفّى ٩٧٣ ه‍ ـ) بعد ما استدلّ على مشروعية زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدّة أدلّة منها الإجماع.

فإن قلت : كيف تحكي الإجماع على مشروعية الزيارة والسفر إليها وطلبها وابن تيميّة من متأخّري الحنابلة منكر لمشروعية ذلك كلّه كما رآه السبكي في

__________________

(١) الشفاء : ٢ / ١٩٤ ـ ١٩٧.

(٢) المدخل : ١ / ٢٥٧.

١٦٢

خطّه؟

قلت : من هو ابن تيمية؟! حتى ينظر إليه ، أو يعوّل في شيء من مورد الدين عليه؟!! وهل هو إلّا كما قال جماعة من الأئمّة ـ الذين تعقبوا كلماته الفاسدة وحججه الكاسدة حتى أظهروا عوار سقطاته ، وقبائح أوهامه ، وغلطاته كالعزّ بن جماعة ـ : عبدٌ أضلّه الله تعالى وأغواه ، وألبسه رداء الخزي وأرداه ، وبوّأه من قوّة الافتراء والكذب ما أعقبه الهوان. وأوجب له الحرمان ، ولقد تصدّى شيخ الإسلام التقي السبكي قدس‌سره المجتمع على اجتهاده وصلاحه وإمامته للردّ عليه في تصنيف مستقل أفاد فيه وأجاد ، وأصاب وأوضح بباهر حججه طريق الصواب. (١)

٧. قال محمد بن عبد الوهاب : تسنّ زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّه لا يشدّ الرحال إلّا لزيارة المسجد والصلاة فيه. (٢)

٨. قال الشيخ عبد الرحمن الجزيري في كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة» الذي جمع فيه فتاوى أئمّة المذاهب الأربعة وفقهائهم : زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل المندوبات ، وقد ورد فيها أحاديث ، ثمّ ذكر أحاديث ستة ، وجملة من أدب الزائر وزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (٣)

ولم نجد من الفقهاء المعاصرين من أهل السنّة من تصدّى للرد على دعوى الجزيري وإبطالها بالرغم من أهمية هذه الدعوى وحسّاسيتها ، ممّا يعرب عن مقبوليتها عند الجميع ، وإلّا لتصدّوا للرد عليه وإبطال ما نسبه إلى أئمّتهم.

٩. ومن الذين التحقوا بركب القائلين الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

__________________

(١) الجوهر المنظم في زيارة القبر المكرم : ٢٢.

(٢) الهدية السنية : الرسالة الثانية.

(٣) الفقه على المذاهب الأربعة : ١ / ٥٩٠.

١٦٣

عند إجابته عن الأسئلة حول زيارة المسجد النبوي : الزيارة للمسجد النبوي سنّة وليست واجبة ـ إلى أن قال : ـ وإذا زار المسجد النبوي شرع له أن يصلّي في الروضة ركعتين ، ثمّ يسلّم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما شرع له زيارة البقيع والشهداء ، بالسلام على المدفونين هناك من الصحابة وغيرهم. (١)

نكتفي بهذا المقدار من كلمات العلماء في هذا المجال ، ومن أراد المزيد من التفصيل ، فعليه بمراجعة الرسالة التي أفردناها في هذا البحث. (٢)

__________________

(١) جريدة الجزيرة : العدد ٦٨٢٦ ، ٢٤ / ذي القعدة ـ ١٤١١ ه‍ ـ.

(٢) انظر «الزيارة في الكتاب والسنّة» : ٢٢ ـ ٤٢.

١٦٤

٤

زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الكتاب والسنّة :

ألف : زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القرآن الكريم

أمر القرآن الكريم المسلمين بالحضور عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستغفروا الله ويطلبوا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم ، لأنّ دعاءه مستجاب فيهم ، فقال تعالى :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً). (١)

وفي آية أُخرى نجد القرآن الكريم يذمّ المنافقين ، لأنّهم طُلب منهم أن يحضروا عند الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليستغفر لهم لكنّهم تمرّدوا على هذا الطلب واستكبروا ولم يعيروا له أيّة أهمية. قال تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ). (٢)

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) المنافقون : ٥.

١٦٥

وقد بسط المحقّق تقي الدين السبكي ـ أحد كبار محقّقي أهل السنّة ـ الكلام في هذه الآية وذهب إلى أنّ حكمها يشمل المسلمين في الوقت الحاضر أيضاً ، ولا تختص الآية بعصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، إذ بإمكان المسلمين أن يأتوا إليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطلبوا منه أن يستغفر الله لهم. ومن كلامه في هذا المجال قوله : «دلّت الآية على الحثّ على المجيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار عنده واستغفاره لهم ، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة ، فهي رتبة له ولا تنقطع بموته تعظيماً له». (١)

قد يقال : صحيح انّ الآية المذكورة والآيات الأُخرى نازلة في حقّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبيان عظمته ومنزلته السامية ، ولكن من الناحية الواقعية والعملية أنّ الإتيان إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار عنده وطلب الاستغفار منه ممكن في حال حياته ، وأمّا بعد رحيله إلى الرفيق الأعلى أصبح هذا الأمر من الأُمور المتعذّرة التي لا يمكن القيام بها حتّى إذا أراد الإنسان ذلك.

والجواب : انّ الإشكال غير وارد وانّ الحقّ مع العلّامة السبكي ، وذلك لأنّ الدليل على شمولية الآية لحياته ومماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا ينحصر في هذه الآية فقط ، بل هناك أدلّة كثيرة تدلّ على أنّ حياته ومماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على السواء ، ومن هذه الأدلّة :

الأوّل : انّ القرآن الكريم يصرّح بأنّ الموت ليس نهاية الحياة وانعدام الإنسان ، بل هو في الواقع نافذة تطل على حياة أُخرى أوسع وأشمل وأفضل من هذه الحياة الدنيا ، وانّ الإنسان في ذلك العالم حيّ يسمع ويرى ، وخاصة الشهداء الذين ما تسقط منهم قطرة من دمائهم حتّى تتلقّاهم الملائكة بالبشرى والنعيم الدائم واللّذات الروحية التي لا يحصيها إلّا واهبها ، وقد ورد في هذا المجال

__________________

(١) شفاء السقام : ٨١.

١٦٦

العديد من آيات الذكر الحكيم. (١) وهذا ما نبحثه تحت عنوان «الحياة البرزخية» إن شاء الله تعالى.

الثاني : انّ الأحاديث الشريفة تصرّح بأنّ الملائكة تبلّغ خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سلام من يسلّم عليه ، فقد جاء في الصحاح : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه‌السلام». (٢)

وفي رواية أُخرى : «صلّوا عليّ فإنّ صلاتكم تبلغني حيثما كنت». (٣)

الثالث : لقد أطبق المسلمون ـ وعلى مرّ العصور ـ على السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاتهم بقولهم : «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته» وليس هذا السلام في واقعه أمراً تشريفياً اعتبارياً ، بل هو حقيقة واقعية من الحيّ إلى الحيّ الذي يسمع ويجيب.

إنّ هذه الأدلّة التي ذكرناها تحكي بما لا ريب فيه أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حي يرزق ، ويعيش الآن حياة برزخية ، ولم تنقطع صلته بهذا العالم ، وهو على ارتباط به يسمع كلامنا ويلبّي طلبتنا مع توفّر بعض الشروط الخاصة.

من هنا يمكن القول : إنّ الآيتين المذكورتين تدلّان على مفهوم أوسع ، ومعنى أشمل ، حيث تطلب تلك الآيات من المؤمنين فعلاً الحضور عند رسول الله ، وتأمرهم بالاستغفار في حرمه الشريف ، وأن يطلبوا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر الله لهم. ولذلك ورد في زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والتي يقرأها الجميع في حرمه الطاهر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الالتفات إلى هذه الآية المباركة ، حيث نجد الزائرين يتوجّهون إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويطلبون

__________________

(١) انظر آل عمران : ١٦٩ ، البقرة : ١٥٤ ، يس : ٢٦ ـ ٢٧ ، وغير ذلك.

(٢) سنن أبي داود : ١ / ٤٧٠ ـ ٤٧١ ، كتاب الحجّ ، باب زيارة القبور.

(٣) التاج الجامع للأُصول في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ٢ / ١٨٩.

١٦٧

منه الاستغفار لهم ونزول الرحمة عليهم ، والتجاوز عمّا صدر عنهم.

وفي الواقع ليست الزيارة إلّا الحضور عند المزور ، وإهداء التحيّة والسلام إليه ، وطلب الدعاء منه لا أكثر.

من هنا يمكن أن يستدلّ بالآيتين الشريفتين على استحباب زيارة مرقد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والشاهد على ذلك ما رواه المحدّثون من أنّه وبعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء أعرابي من خارج المدينة ، وبعد أن قرأ الآية المباركة (١) ، خاطب رسول الله بقوله : «وقد جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي». (٢)

ولقد أشار السبكي في كلامه السابق إلى نكتة مهمة ، وهي : انّ دعوة المسلمين وحثّهم على الحضور عند رسول الله وطلب الاستغفار منه ، يُعدّ تعظيماً وتكريماً وتبجيلاً له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا ريب أنّ هذا التكريم والتعظيم والتبجيل من قبل المسلمين لا يختص بحياة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدنيوية فقط ، بل أنّ ذلك يجري مطلقاً في حياته وبعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن هذا المنطلق نجد المفسّرين يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأنّ احترام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يختص بزمن حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، بل لا بدّ أن يحفظ ذلك حتى بعد وفاته ورحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بل نجد انّ الآية التي تنهى المسلمين عن رفع أصواتهم فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقية على حيويتها واستمراريتها وقوّتها ، حيث يقول سبحانه :

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٦١ ؛ الدرر السنيّة : ٢١.

١٦٨

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ). (١)

لذلك نجد المسلمين ملتزمين بهذا الأمر الإلهي ، فلا يرفعون صوتهم حينما يتشرّفون بالدخول إلى حضرته المباركة. والملاحظ أنّ هذه الآية المباركة كتبت ـ وبحق ـ فوق ضريحه المبارك أمام أعين الزائرين جميعاً ، وهذا العمل له دلالته الواضحة بأنّ هذه الآية باقية على حيويتها وفاعليتها ولم يؤثر على إطلاقها رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّه حيّ يرزق ، ولا بدّ أن يحترم حيّاً أو ميتاً.

ب : زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنّة المطهّرة

لقد تعرّفنا على حكم القرآن الكريم في مسألة زيارة قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحان الوقت لعطف عنان القلم على السنّة المطهّرة لنرى حكمها في هذه المسألة أيضاً.

لقد تضافرت الروايات الشريفة على استحباب زيارة قبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي رواها أئمّة المذاهب الأربعة وأصحاب السنن والمسانيد في كتبهم. وقد شمّر عدد من علماء المسلمين عن ساعد الجد للبحث في تلك الروايات وتصحيح أسانيدها وإثبات طرقها حينما ظهرت بدعة التشكيك في زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن هؤلاء الأعلام :

١. تقي الدين السبكي (المتوفّى ٧٥٦ ه‍ ـ) في كتابه «شفاء السقام» فقد أورد خمس عشرة رواية مع ذكر أسانيدها ، وقد صحّح كثيراً من أسانيدها. (٢)

__________________

(١) الحجرات : ٢.

(٢) شفاء السقام : ٥ ـ ٣٩.

١٦٩

٢. وقد قام بنفس المهمّة الحافظ نور الدين علي بن أحمد السمهودي (المتوفّى ٩١١ ه‍ ـ) في كتابه «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى» حيث أحصى سبعة عشر حديثاً من غير ما ورد في ذلك المجال ، ولم يشتمل على لفظ «الزيارة». (١)

ثمّ إنّه قام بنفس ما قام به الإمام السبكي من تصحيح للاسناد ، وذكر لمصادر الروايات على وجه بديع.

٣. كذلك قام الكاتب الإسلامي الشيخ محمد الفقي ـ من علماء الأزهر الشريف ـ بجمع ما ورد من الأحاديث في خصوص زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأورد اثنين وعشرين حديثاً من دون تحقيق للاسناد. (٢)

٤. كما بذل العلّامة الأميني جهوداً مشكورة في هذا المجال في متابعة المصادر الحديثية وغيرها وتتبّع الروايات في مظانّها في كتب الحديث والتفسير والتاريخ ، وربّما نقل الأحاديث ، كالحديث الأوّل عن واحد وأربعين مصدراً. (٣)

ونكتفي هنا بنقل بعض الأحاديث التي أوردها (قدس‌سره) ، لأنّ استقصاء جميع تلك الروايات لا ينسجم مع حجم هذا الكتاب ، ومن أراد التفصيل عليه بمراجعة المصدر المذكور.

الحديث الأوّل

روى الدارقطني في سننه بسنده إلى ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي». (٤)

__________________

(١) وفاء الوفا : ٤ / ١٣٣٦ ـ ١٣٤٨.

(٢) التوسل والزيارة في الشريعة الإسلامية : ٤٨ ـ ٥٠.

(٣) الغدير : ٥ / ٩٣ ـ ٩٦.

(٤) سنن الدارقطني : ٢ / ٢٧٨ ، باب المواقيت ، الحديث ١٩٤.

١٧٠

الحديث الثاني

روى الطبراني في «المعجم الكبير» والغزالي في «إحياء العلوم» عن عبد الله ابن عمر مرفوعاً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا تحمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة». (١)

الحديث الثالث : أخرج الدارقطني عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي ، فكأنّما زارني في حياتي». (٢)

الحديث الرابع : وأخرج الدارقطني أيضاً عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي». (٣)

نكتفي بهذا القبس من الروايات والأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونعطف عنان القلم لنقل بعض الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة في هذا المجال.

زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لسان العترة الطاهرة عليهم‌السلام

تضافر الحديث عن العترة الطاهرة حول زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نقتبس منه ما يلي :

__________________

(١) إحياء العلوم : ١ / ٣٠٦. وفيه : «لا يهمّه إلّا زيارتي».

(٢) سنن الدارقطني : ٢ / ٢٧٨ ، باب المواقيت ، الحديث ١٩٢. ورواه البيهقي في السنن : ٥ / ٢٤٦ ؛ والسبكي في شفاء السقام : ٢١ ؛ والسمهودي في وفاء الوفا : ٤ / ١٣٤٠ ؛ كما أخرجه العلّامة الأميني عن ٢٥ مصدراً ، في الغدير : ٥ / ٩٨.

(٣) سنن الدارقطني : ٢ / ٢٨٧ ، الحديث ١٩٣ ؛ شفاء السقام : ٢٣ ؛ وفاء الوفا : ٤ / ١٣٤٤ ؛ الغدير : ٥ / ١٠١ ، أخرجه الأميني عن ١٣ مصدراً.

١٧١

١. روى الحميري (المتوفّى ٢٩٩ ه‍ ـ) ... عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني حيّاً وميّتاً ، كنت له شفيعاً يوم القيامة». (١)

٢. روى الصدوق (٣٠٦ ـ ٣٨١ ه‍ ـ) بسنده عن الإمام علي عليه‌السلام قال : «أتمّوا برسول الله حجّكم إذا خرجتم إلى بيت الله ؛ فإنّ تركه جفاء ، وبذلك أُمرتم ، وأتمّوا بالقبور التي ألزمكم الله زيارتها وحقّها». (٢)

٣. وروى الصدوق أيضاً عن إبراهيم بن أبي حجر الأسلمي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتى مكة حاجّاً ولم يزرني إلى المدينة ، جفوته يوم القيامة ؛ ومن جاءني زائراً ، وجبت له شفاعتي ، ومن وجبت له شفاعتي وجبت له الجنّة». (٣)

٤. روى ابن قولويه بسنده عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتاني زائراً كنت شفيعه يوم القيامة». (٤)

ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجد اتّفاق الفريقين على استحباب زيارة قبر النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يجد انّ الاتّفاق بلغ حدّاً انّها اتحدت في بعض الأحيان مضموناً ولفظاً ، منها :

ألف : من حجّ البيت ولم يزر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد جفاه.

ب : من زار قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبت له شفاعته.

نكتفي بذكر هذه الروايات الثمانية : أربعة منها من طرق العامّة ، والأربعة

__________________

(١) قرب الاسناد : ٣١ ؛ البحار : ٩٧ / ١٣٩.

(٢) الخصال : ٢ / ٤٠٦ ؛ البحار : ٩٧ / ١٣٩.

(٣) علل الشرائع : ٤٦٠ ؛ البحار : ٩٧ / ١٤٠.

(٤) كامل الزيارات : ١٢ ؛ البحار : ٩٧ / ١٤٢.

١٧٢

الثانية عن طريق العترة الطاهرة ، ومن رام التفصيل فعليه بمراجعة المصادر التي جمعت تلك الروايات الكثيرة.

مناظرة الإمام مالك مع المنصور الدوانيقي

نقل القاضي عياض المناظرة التي جرت بين أبي جعفر المنصور الدوانيقي والإمام مالك فقال : حدّثنا ابن حميد ، قال : ناظر أبو جعفر ـ يعني المنصور ـ مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال :

(لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ). (١)

ومدح قوماً فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى). (٢)

وذم قوماً فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ). (٣)

ثمّ أضاف الإمام مالك :

وإنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً. فاستكان لها أبو جعفر ، وقال : يا أبا عبد الله استقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

__________________

(١) الحجرات : ٢.

(٢) الحجرات : ٣.

(٣) الحجرات : ٤.

١٧٣

فقال مالك : ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله ، قال الله تعالى :

(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) (١). (٢)

زيارة القبور وحفظ الأصالة والقيم

لقد ركّزنا في بحوثنا السابقة على اعتماد الروايات الواردة عن طريق أهل السنّة وأغمضنا النظر عن الروايات الواردة عن طريق أهل بيت العصمة والطهارة رغم كثرتها ، وذلك لأغراض منهجيّة وإلزاماً للخصم باعتماد مصادره وما يسلّم به ليكون في ذلك دحضاً لحجته ، وإبطالاً لمدّعاه.

ونحن إذا راجعنا المصادر الحديثية الشيعية يتّضح لنا وبجلاء أنّ مسألة زيارة القبور عامّة وزيارة قبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسلّمات المذهب الشيعي ، بل قد صنّف بعض علماء الإمامية كتباً كثيرة تحت عنوان «المزار» ، ومن أبرز هذه المصنّفات كتاب «كامل الزيارات» للشيخ جعفر بن محمد بن قولويه (المتوفّى ٣٦٧ ه‍ ـ).

من هنا نؤكّد على نقطة مهمة وهي : انّ حفظ القيم والأصالة الإسلامية هي إحدى مهامّنا الأساسية ، ونقصد بذلك الأُمور التي تحكي عن الواقع الإسلامي وتؤمّن استمراريته على مرّ العصور.

فمن المعروف أنّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان السماوية ، وهو أكمل

__________________

(١) النساء : ٦٤.

(٢) الشفاء : ٢ / ٤١ ، الفصل التاسع.

١٧٤

دين وأفضل تشريع نزل إلى الأرض ، وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون هذه الشريعة هي الحلقة الأخيرة التي تتصل بقيام الساعة ونهاية العالم. وبما أنّ الفاصلة الزمنية بين نزول الرسالة المحمدية وقيام الساعة فاصلة طويلة ولا يعلم مداها إلّا الله سبحانه وتعالى ، وانّ الكثير من الأجيال التي سوف تأتي تقع بيننا وبين قيام الساعة ، الأمر الذي يفرض علينا أن ننقل تلك الأمانة إلى الأجيال القادمة بدقة ، وأن نحفظها من كلّ ما يشينها ، أو يؤثر عليها من عوامل التحريف والتلاعب.

ولا ريب انّ زيارة قبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام والصالحين من عباده يُعدّ نوعاً من أنواع الحفاظ على الأصالة والقيم. وفي تركها سوف تحرم الأُمّة وعلى مرور الأيّام من البركات والنعم الكثيرة الناتجة من ذلك العمل ، إلى درجة قد يصل الأمر أن تأتي بعض الأجيال تعتبر تلك الشخصيات العظيمة شخصيات وهمية لا أساس لوجودها أبداً.

والشاهد الحي على هذا الادّعاء هو أنّ المسلمين ـ وتبعاً للقرآن الكريم ـ يجدون أنّ شخصية السيد المسيح عليه‌السلام شخصية حقيقية ولها دورها الفاعل في حقبة من الزمن ، وأنّه كان يمثّل حلقة مهمّة من حلقات سلسلة الرسالات السماوية. ولكن ـ وللأسف ـ نجد الكثير من الشباب الغربي ينظر إلى هذه الشخصية بارتياب وشك ، ويعتبرها شخصية أُسطورية صنعتها يد الإنسان ، وممّا لا ريب فيه أنّ العامل الأساسي الذي أدّى إلى ظهور هذه الحالة المؤلمة في أوساط الشباب الغربي ، هو أنّ هذا الشباب قد جال ببصره وحرّك ذهنه وتحرّى آثار هذه الشخصية فلم يجد لها أثراً ملموساً : فلا أثر لكتابه السماوي الحقيقي الذي نزل عليه ، ولا أثر له أو لأُمّه أو لحوارييه من قبر أو مسجد أو ....

١٧٥

ومن هنا نقول : إنّ تعطيل الزيارة ، وعدم الاهتمام بالآثار المحسوسة ، وعدم الاهتمام بصيانتها في أوساط المجتمع الإسلامي ، سوف تؤدي بالشباب المسلم إلى نفس النتيجة التي وصل إليها الشباب الغربي. وهذا أمرٌ خطير جداً لا تحمد عقباه أبداً.

من هنا ينبغي على جميع المسلمين التصدّي إلى هذا الخطر ، والوقوف أمام هذا الانحراف من خلال المحافظة على جميع الآثار وصيانتها من عوادي الدهر وأيدي العابثين والمنحرفين ، والحفاظ على تلك المراقد الطاهرة والآثار الشريفة حيّة شامخة على مرّ العصور والأيام ، لتكون بمثابة الباب الذي تدخل من خلاله سحب الرحمة الإلهية والنافذة التي تعرج من خلالها الأرواح المؤمنة من أجل الالتقاء بالأرواح الطاهرة للرسول الأكرم والأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين ، وأرواح الصالحين من عباد الله المخلصين.

وسيأتي إن شاء الله الحديث عن ذلك بصورة مفصّلة في بحث «صيانة الآثار الإسلامية».

١٧٦

الفصل السابع

شدّ الرحال إلى زيارة

مرقد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٧٧
١٧٨

لقد أثبتنا في البحث السابق أنّ زيارة قبور المسلمين مطلقاً وزيارة القبر الطاهر للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المستحبّات المؤكّدة في الشريعة الإسلامية ، حيث روى المحدّثون ـ الشيعة والسنّة ـ روايات كثيرة في استحباب زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نقلنا قسماً منها في الفصل السابق. ثمّ إنّ علماء الإسلام قد تسالموا على استحباب زيارة مرقد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يشك في ذلك أحدٌ أبداً ، بل حتى محمد بن عبد الوهاب ـ الذي يمثّل محور إثارة الشبهات في العقائد الإسلامية ـ نجده هو الآخر لم يختر الصمت في هذه القضية الحسّاسة ، بل صرّح باستحباب زيارة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (١)

ومع الالتفات إلى هذا الاستحباب يمكن تقسيم المسلمين بالنسبة إلى هذه الهبة الإلهية إلى طائفتين ، هما :

١. سكان المدينة المنوّرة

من الواضح أنّ سكّان المدينة المنوّرة ينهلون من هذا النبع الإلهي ، ويغرفون من هذا البحر الزاخر ، ويتزوّدون بأنواع النعم والآثار المعنوية والفيض الإلهي النازل على تلك الروضة المطهّرة لقبره الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون بذل عناء أو جهد ، ويؤدّون هذا العمل المستحب من دون مشقّة أو تعب وعناء.

__________________

(١) انظر كلمته التي نقلناها في ص ١٦٤.

١٧٩

٢. سكّان سائر البلاد الإسلامية

أمّا سكّان البلاد والمدن الإسلامية الأُخرى فعليهم إذا أرادوا التوجّه إلى قبلة نفوسهم وحبيب قلوبهم ومهوى أفئدتهم ، والسلام عليه ، أن يقطعوا الفيافي ، ويعانوا المتاعب ، ويتحمّلوا وعثاء السفر ، ومصاعب الطريق خاصة في العصور القديمة التي كانت فيها وسائط النقل بدائية أو معدومة أساساً.

ومن هنا يطرح التساؤل التالي نفسه : ما هو حكم هذا السفر وشدّ الرحال من وجهة النظر الشرعية؟

والجواب : إذا كانت زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً مطلوباً وعملاً مستحبّاً كما دلّت عليه الروايات المتضافرة والسيرة القطعية ، يكون شدّ الرحال الذي هو بمنزلة المقدّمة أمراً مستحبّاً ، بناءً على الملازمة بين استحباب الشيء واستحباب مقدّمته (١) كما عليه أكثر الأُصوليين.

نعم ، ذهب بعض الأُصوليين إلى عدم الملازمة ، ولكنّهم متّفقون على لزوم كون المقدّمة مباحة لا محرّمة ، لاستلزامه التناقض في التشريع ، حيث لا يعقل البعث إلى أمر ، مع المنع عمّا يوصل المكلّف إليه ، وعلى كلّ تقدير لا يصحّ تحريم السفر مع افتراض كون الزيارة أمراً راجحاً ، وفعلاً مستحباً ، فلا محيص من القول باستحبابه ، أو إباحته ، ولا تجتمع حرمة المقدّمة مع استحباب ذيها.

ولقد حدّثنا التاريخ الإسلامي أنّ سيرة المسلمين كانت قائمة ـ بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من عصر الصحابة إلى يومنا هذا على شدّ الرحال ، والتوجّه إلى زيارة

__________________

(١) ذهب بعض المحقّقين إلى أنّ مقدّمة الأمر المستحب مستحبة أيضاً ، وقد استدلّوا على ذلك بالآية ١٠٠ من سورة النساء ، والآيات ١٢٠ ـ ١٢١ من سورة التوبة.

١٨٠