الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

إنّ ذم المبتدع في هذه الآية المباركة ينطلق من كون عمله تدخّلاً في التشريع والتقنين الإلهي ، وانّه افتراء على الله سبحانه ، حيث حرّموا وحلّلوا من عند أنفسهم ومن دون إذنه سبحانه ونسبوا كلّ ذلك إليه تعالى.

كما ذمّ القرآن الكريم اليهود والنصارى لتلاعبهم وتصرفهم في كتبهم السماوية وتحريفهم لكلام الله وأحكامه سبحانه ثمّ نسبة ذلك التصرّف كلّه والتغيير إلى الله سبحانه ليصلوا من خلال هذا الطريق المنحرف والمنهج الملتوي إلى تحقيق أهدافهم ومآربهم المادية والدنيوية ، قال تعالى :

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ). (١)

البدعة في السنّة

لقد تصدّى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته بقوّة لأصحاب البدع والمتلاعبين بأحكام الله وقوانينه ، واعتبروا عمل المبتدعين تصرّفاً مذموماً في الدين والشريعة ، وأنّ عملهم هذا يُعدّ ضلالاً وغواية لهم وللآخرين ممّن يتبعهم في بدعتهم وتحريفهم. ويجدر بنا هنا أن نشير إلى الرواية التي نقلها علماء المسلمين عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي يكثر خطباء الجمعة افتتاح الخطبة بها ، وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«أمّا بعد فإنّ أصدق الحديث كتاب الله ، وأفضل الهُدى هدى محمد ،

__________________

(١) البقرة : ٧٩.

١٢١

وشرّ الأُمور محدثاتها ، وكلّ بدعة ضلالة». (١)

نكتفي بهذه الرواية من بين الروايات الكثيرة التي وردت في هذا المجال ، والتي ذكرنا ثلاثين رواية منها في كتابنا «في ظلال التوحيد» فمن أراد المزيد من الاطّلاع فعليه بمراجعة المصدر المذكور. (٢)

وبالإضافة إلى موقف القرآن الكريم والسنّة المطهّرة الصارم من البدعة والمبتدعين ، نجد العقل أيضاً يذمّ ذلك الفعل الشنيع ويستقبحه ، لأنّه في الحقيقة يعدّه تعدّياً على حدود الله ، وتجاوزاً على حريمه سبحانه وتعالى من جهة أُخرى ، وافتراء وكذباً عليه سبحانه ، وكلّ ذلك من الأُمور الشنيعة والقبيحة التي يذم العقل صاحبها ، وينهى عن ارتكابها بنحو لا يحتاج إلى مزيد تفصيل وبحث ودراسة.

خلاصة البحث

قد خرجنا من البحوث السابقة بالنتيجة التالية :

١. انّ حقّ التقنين أمر منحصر بالله وحده ، وأيّ نوع تدخّل في هذا الحقّ وتجاوز على حدوده ، أمرٌ يستقبحه العقل ويذمّه الشرع وينهى عنه.

٢. انّ انحصار حقّ التقنين بالله تعالى ينطلق من كون المقنّن لا بدّ أن يتوفّر على الخصائص والشروط التالية :

أ. المعرفة الكاملة بالإنسان وخصوصياته.

ب. عدم الانتفاع والاستفادة من القانون الذي يسنّه ويقرره.

__________________

(١) مسند أحمد : ٣ / ٣١٠ ؛ ومثله في سنن ابن ماجة : ١ / ١٧ ، الباب ٧ ، الحديث ٤٥.

(٢) انظر ص ٦٣ ـ ٦٩.

١٢٢

ج. عدم الخوف والخشية من أصحاب النفوذ والسطوة والتحرر من هيمنتهم.

ولا ريب أنّ هذه الخصوصيات لا يمكن توفّرها مجتمعة وبالنحو الأكمل إلّا في الله سبحانه لا يشاركه فيها سواه.

وأمّا القوّة التشريعية في النظام الإسلامي ، فمهمتها الحركة في فلك التشريع الإسلامي وإطار الأُصول الكلّية المسلّمة ، وسنّ القوانين والأحكام والتشريعات ، ورسم الخطط على أساسها ، ولا يحق لتلك القوّة بأيّ وجه الاستقلال في التقنين والتشريع.

٣. انّ أيّ تجاوز على حدود التقنين يُعدّ أمراً محرّماً وممنوعاً ، فعلى هذا الأساس تعتبر أيّ زيادة في أحكام الله وقوانينه أو الإنقاص منها أمراً محرّماً ، وتقع تحت عنوان البدعة المصطلحة التي نهى الشارع عنها.

٤. انّ عنوان البدعة المصطلحة انّما يصدق على الأُمور المستحدثة إذا توفّرت فيها الشروط الثلاثة التالية :

أ. التدخّل في الدين عقيدة وحكماً بزيادة أو نقيصة ونسبة ذلك إلى الدين.

ب. أن تكون هناك إشاعة ودعوة في أوساط المجتمع.

ج. أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدعم جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم.

٥. لقد ذمّ القرآن الكريم المبتدعين باعتبارهم مفترين على الله ورسوله ، واعتبر ما قاموا به من التدخّل في التقنين أمراً محرماً ، كما ذمّ أهل الكتاب لتصرّفهم وتلاعبهم في الكتب المقدّسة وتحريفهم لها.

١٢٣

وهكذا كان موقف السنّة الشريفة من البدعة والمبتدعين حيث وقفت موقفاً صارماً منها بدرجة اعتبرت الروايات الصادرة من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ذلك الفعل من أقبح الأفعال وحكمت عليه بالضلالة والانحراف الموجبين لإثارة الغضب الإلهي والدخول في الجحيم.

٦. انّ العقل هو الآخر ذمّ البدعة واعتبرها أمراً قبيحاً لا ينبغي ارتكابه ، وبذلك أيّد العقل حكم الشرع في هذه القضيّة المهمة.

* * *

بعد أن تعرّفنا على المعنى اللغوي والاصطلاحي للبدعة وموقف العقل والنقل منها ، لا بدّ من الانتقال إلى الحديث عن بعض الأُمور الفرعية التي لا يخلو البحث فيها هنا من الفائدة ، وهي :

تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة

من التقسيمات الرائجة لدى بعض الكتّاب تقسيم البدعة إلى جميلة وقبيحة ، أو حسنة وسيئة.

وفي الحقيقة تعود جذور هذا التقسيم تاريخياً إلى قول الخليفة عمر بن الخطاب ، وبالتحديد إلى السنة الرابعة عشرة للهجرة عند ما جمع الخليفة الناس للصلاة بإمامة أُبي بن كعب في شهر رمضان في صلاة النافلة. ووصف الجماعة المذكورة بقوله : «نعم البدعة هذه».

فقد روى البخاري ذلك في صحيحه وقال : قال عبد الرحمن بن عبد القارئ : خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرّقون ... فقال عمر : إنّي أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان

١٢٤

أمثل ، ثمّ عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يصلّون بصلاة قارئهم. فقال عمر : «نعم البدعة هذه». (١)

ونحن هنا لسنا بصدد البحث عن جواز إقامة الصلاة المستحبة جماعة أو عدم جوازه ، بل نحن في الحقيقة في مقام البحث في التقسيم المذكور الذي كان مصدره كلام الخليفة الثاني.

لقد ذكرنا سابقاً أنّ البدعة التي تحدّث عنها الكتاب والسنّة هي التدخّل في أمر الدين بالزيادة أو النقيصة ، والتصرّف في التشريع الإسلامي من دون أن تكون لهذا التصرّف والتدخّل جذور في التشريع الإسلامي تدعمه لا على نحو العموم ولا على نحو الخصوص ، ومن هنا لا تكون البدعة إلّا أمراً قبيحاً محرّماً ، ولا يصحّ تقسيمها إلى حسنة وقبيحة بأيّ وجه من الوجوه.

نعم البدعة بالمعنى اللغوي تنقسم إلى قسمين ، فكلّ شيء مستحدث أو ظاهرة مستجدة يعتمدها الناس في حياتهم اليومية من العادات والتقاليد والرسوم ، إذا قاموا به من دون إسناده إلى الدين ولم يكن ذلك الشيء محرّماً بالذات شرعاً ، كان بدعة حسنة ، أي كونه أمراً جديداً مفيداً للمجتمع ، كما إذا احتفل الشعب بذكرى استقلاله في كلّ عام ، أو اجتمع للبراءة من أعدائه.

وأمّا ما كان محرّماً في ذاته فهو محرّم ومنهي عنه ولكن ليس من باب البدعة ، لأنّ الحرمة ناشئة من سبب آخر وهو وجود المفسدة في نفس ذلك الفعل ، مثل دخول النساء متبرّجات في مجالس الرجال.

إذاً البدعة المصطلحة ليس لها إلّا قسم واحد وهو كونها أمراً قبيحاً

__________________

(١) فتح الباري : ٤ / ٢٠٣ ؛ عمدة القاري : ٦ / ١٢٥ ، وانظر الصحيح : ٣ / ٥٨ ، كتاب الصوم ، باب فضل قيام رمضان.

١٢٥

ومذموماً ، ولا يصحّ وصفها بحال من الأحوال بالحسنة ، وأمّا البدعة لغة فيمكن أن تقسّم إلى التقسيمين المذكورين.

وفي الحقيقة انّ هذا التقسيم للبدعة إلى حسنة وسيئة في حقيقته خلط للبدعة في المصطلح الشرعي بالبدعة اللغوية.

عوامل التحريف في الدين

بالرغم من أنّ حقيقة الدين وجوهره تكمن في «التسليم والخضوع أمام الله سبحانه» وأنّ قسماً كبيراً من العقائد والأحكام الإسلامية تنبع من هذا الأصل الكلّي ، من هنا يطرح السؤال التالي :

كيف يتسنّى للإنسان المسلم القيام بعملية التحريف؟ وما هي العوامل التي تحثّه على القيام بذلك العمل؟ وما هي الغاية التي يتوخّاها من وراء ذلك؟

نشير هنا إلى بعض تلك العوامل والأهداف والتي تندرج جميعها تحت مظلّة «الاجتهاد في مقابل النص» :

١. التقدّس والتحجّر

هناك بعض الناس ممّن يضفي على تصرّفاته الشخصية وتلاعبه في الأُمور الدينية وتدخله في التشريع نوعاً من القداسة ، وقد حدّثنا التاريخ عن الكثير من هذه النماذج ، نشير إلى نموذج واحد منها ، وهو :

من المسلّم به أنّ الصوم محرّم على المسافر ، ومن هنا حينما خرج الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح مكة المكرمة في شهر رمضان ، فعند ما وصل إلى نقطة

١٢٦

يجب عليه الإفطار فيها دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدح من الماء ليفطر به وينهي صومه وأفطر معه جمع كبير من المسلمين ، ولكن ـ وللأسف الشديد ـ وقف أمام هذا الحكم الإلهي مجموعة من المتحجّرين والمتقدّسين حيث استمروا على صيامهم تحت ذريعة أنّ التوجّه إلى الجهاد وهم صيام أفضل من غيره وأكثر ثواباً!! ولكن حينما وصل خبرهم إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفهم بالعصاة والمذنبين.

روى الكليني عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة ، فلمّا انتهى إلى كُراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر ، فشرب وأفطر ، ثمّ أفطر الناس معه ، وتمّ أُناس على صومهم ، فسمّاهم رسول الله العصاة ، وإنّما يؤخذ بآخر أمر رسول الله». (١)

٢. اتّباع الهوى

من الواضح أنّ لكلّ موضوع حكماً واحداً في الشريعة وقانوناً فارداً لا غير ، فلا يمكن أن يكون للموضوع الواحد أكثر من حكم واحد في آن واحد وبلحاظ واحد. ولهذا نجد أنّ القسم الأعظم من الاختلافات التي وقعت بين المسلمين في الأحكام والمفاهيم نابعة من اتّباع الهوى والرغبات والميول الشخصية ، وإذا أحسنّا الظن نقول : إنّها ناتجة من الاختلاف في الذوق والسليقة الشخصية ، ولقد أشار أمير المؤمنين في إحدى خطبه إلى هذا الأمر بقوله عليه‌السلام :

__________________

(١) الكافي : ٤ / ١٢٧ ، باب كراهية الصوم في السفر ، ح ٥ ؛ صحيح مسلم : ٧ / ٢٣٢.

١٢٧

«أيّها الناس إنّما بدءُ وقوع الفتن أهواءٌ تتّبع ، وأحكام تبتدع يخالف فيها كتاب الله». (١)

ولقد حدثنا التاريخ الإسلامي بشواهد كثيرة من هذه البدع التي أُحدثت في الإسلام ، نكتفي بذكر نموذجين منها فقط ، هما :

١. من المعلوم أنّ أحد أقسام الحج هو حجّ التمتّع ، وهو وظيفة المسلم الذي يبعد موطنه عن مكة المكرمة ٤٨ ميلاً شرعيّاً أو أكثر ، وانّ وظيفة من يحجّ حجّ التمتّع أن يحل من إحرامه بعد أداء مناسك العمرة ، فتحل له محرّمات الحجّ جميعاً إلّا الصيد ، ثمّ يحرم مجدداً في اليوم التاسع من ذي الحجة بنية حجّ التمتع ويأتي بأعمال الحجّ المفروضة عليه.

وقد نقل لنا المؤرّخون المسلمون أنّ هذا الحكم الإلهي لم يرق لواحد من الصحابة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ لم تطق نفسه أن يرى الحاج متنعماً باللذائذ الجنسية المحلّلة بين إحرامي المتعة وإحرام الحجّ ، وانّه كيف يحرم إلى الحج ورأسه يقطر من غسل الجنابة؟! ولذلك نجد الرجل حينما استلم دفة الأُمور وتصدّى للخلافة نهى المسلمين عن ذلك وحرّم عليهم متعة الحجّ. (٢)

قال القوشجي في أواخر مبحث الإمامة من شرح كتاب التجريد في علم الكلام : إنّ عمر قال وهو على المنبر : أيّها الناس! ثلاث كنّ على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أنهى عنهن وأُحرمهنّ وأُعاقب عليهنّ : متعة النساء ، ومتعة الحجّ ، وحيّ على خير العمل.

ومن الواضح أنّ هذا الموقف من الخليفة وهذا الأمر الصادر منه مخالفة

__________________

(١) الكافي : ١ / ٥٤ ، الحديث ١ ، باب البدع.

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ١٥٦ ، رقم الحديث ١٧٨٩.

١٢٨

صريحة لأمر الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يُعدّ بدعة في الدين ، لأنّه لا مبرر له ولا سند له إلّا الميول والرغبات النفسية والأهواء الشخصية.

ومن حسن الحظ أنّ هذا النهي لم يترك أثره في أوساط المسلمين إلّا فترة قصيرة ، حيث نجد الآن أنّ قاطبة المسلمين من أهل السنّة يحجّون حجّ التمتع كإخوانهم الشيعة.

٢. نقل مالك بن أنس إمام المذهب المالكي في «الموطأ» : أنّه بلغه أنّ المؤذّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح ، فوجده نائماً فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح. (١)

٣. التعصّب الممقوت

ومن العوامل التي تؤدّي إلى نشوء ظاهرة الابتداع في الدين هو عامل التقليد الأعمى للآباء والأجداد ، والتعصب الممقوت لسننهم وآدابهم التي كانوا عليها ، القبلية منها والقومية ، وما شاكل ذلك ، فإنّ هذا العنصر يُعدّ من أعظم السدود والموانع التي تقف في طريق المعرفة وتحول بين الإنسان وبين الوصول إلى الحقّ. وهذا المانع هو الذي حال بين الأُمم ـ عبر التاريخ ـ وبين دعوة الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، بالرغم من متانة البراهين وقوّة الأدلّة التي جاء بها هؤلاء الرسل عليهم‌السلام. وليس التاريخ الإسلامي مستثنى من هذه الظاهرة الخطيرة.

فقد حدّثنا التاريخ أنّه حينما جاء وفد من الطائف إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليعلنوا استعدادهم للتشرّف بالدين الإسلامي الحنيف والدخول تحت راية الإسلام

__________________

(١) موطأ مالك : ٧٨ ، رقم ٨.

١٢٩

الحقّة ، جعل الوفد المذكور إسلامهم مشروطاً بثلاثة شروط هي :

١. أن يحلّ لهم الربا.

٢. أن يحلّ لهم الزنا.

٣. أن يدع لهم اللّات يعبدونها ثلاث سنين.

يقول المؤرّخون : اقترح تميم بن جراشة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند ما جاء على رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه ـ أن يكتب لهم كتاباً ، بأن يفي لهم بأُمور ، يقول : قدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتاباً فيه شروطاً ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتبوا ما بدا لكم ثمّ آتوني به ، فسألناه في كتابه أن يحلّ لنا الربا والزنا ، فأبى علي رضي‌الله‌عنه أن يكتب لنا ، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص ، فقال له علي : «تدري ما تكتب؟» قال : اكتب ما قالوا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بأمره.

فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا انتهى إلى الربا قال : «ضع يدي عليها في الكتاب» فوضع يده ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) (١) ثمّ محاها ، وألقيت علينا السكينة فما راجعناه ، فلمّا بلغ الزنا وضع يده عليها وقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً) (٢) ثمّ محاها وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا. (٣)

ورواه ابن هشام بصورة أُخرى قال : وقد كان ممّا سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدع لهم الطاغية ، وهي اللات ، لا يهدمها ثلاث سنين. (٤)

__________________

(١) البقرة : ٢٧٨.

(٢) الإسراء : ٣٢.

(٣) أُسد الغابة : ١ / ٢١٦ ، مادة «تميم» و ٣ / ٤٠٦.

(٤) السيرة النبوية : ٢ / ٥٣٧ ـ ٥٤٣.

١٣٠

وهذه الواقعة تكشف شدّة التعصب المقيت الذي كان يهيمن على وفد الطائف ، الأمر الذي جعل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يندهش عند سماع هذه الشروط ويرفضها جملة وتفصيلاً.

ولو كان أهل الطائف قد أسلموا إسلاماً حقيقياً ، لكان ينبغي عليهم ألّا يتفوّهوا بهذه الشروط التافهة وأن يسلّموا لله ورسوله ويذعنوا إلى الحق ويرفضوا جميع أنواع الباطل ، لا السعي للحصول على اعتراف من الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأُمور ذميمة تنافي روح الإسلام وجوهره ومبادئه الحقّة ، وإذا أردنا أن نحلّل هذا الطلب من قبل وفد ثقيف وندرسه دراسة دقيقة ، لوجدنا وبوضوح تام أنّ عنصر العصبية الممقوت هو العامل الفاعل في الطلب المذكور وإن كانت هناك عوامل أُخرى غيره.

إلى هنا تمّ الحديث عن العلل والعوامل المساعدة على نشوء ظاهرة الابتداع في المجتمع ، وهناك عناصر وأسباب أُخرى لم نذكرها روماً للاختصار.

تحصين الدين من الابتداع

من مهام الفقهاء والمتكلّمين الأساسية مهمة تحصين الدين من خطر الابتداع وحماية حدود الشريعة من التلاعب فيها والتجاوز على حريمها من خلال دسّ الأفكار المسمومة والتي تؤطّر بأُطر جميلة ، وتغلّف بغلاف برّاق. فعلى الفقهاء والمتكلّمين أن يكونوا حذرين ويقظين أمام هذه المحاولات الخادعة ، ويتابعوا كلّ ما يصدر أو ينشر من كتاب أو رسالة أو مقالة أو خطاب أو ما شاكل ذلك للتصدّي لها ، وبيان زيفها ومخالفتها لمفاهيم وقيم الدين الإسلامي الحنيف. ليصونوا بذلك المجتمع الإسلامي عن الانحراف والانزلاق

١٣١

في مهاوي المبتدعين.

ولا ريب أنّ مصونية المجتمع الإسلامي عن الانحراف والسقوط في شباك البدعة والمبتدعين مرهونة بأن يأخذ المسلم دينه من العين الصافية والنبع العذب الذي يتمثّل بالكتاب الكريم والعترة الطاهرة ، اللّذين أوصى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسّك بهما في حديث الثقلين ، فقد تواتر عن الفريقين أنّ الرسول الأكرم أرجع الأُمّة إلى هذين المصدرين ، وأمرها بالتمسّك بهما لصيانة نفسها عن الانحراف والضلال ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وأهل بيتي ؛ وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض». (١)

وفي رواية أُخرى : «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي». (٢)

وفي ثالثة : «إنّي تركت ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض. فانظروا كيف تخلّفوني فيهما». (٣)

والحديث الآخر الذي ورد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي يُعدّ هو الآخر صمام الأمان للأُمّة الإسلامية من الانحراف ، حيث بيّن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه الملاذ والمرجع الذي ينبغي على الأُمّة اعتماده والدخول تحت خيمته هو حديث السفينة حيث شبّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل بيته بسفينة نوح عليه‌السلام التي كانت العنصر الوحيد للهداية والسلامة في وقتها فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ١٤٨ ، وقد نقل الحديث بصورة متواترة.

(٢) كنز العمال : ١ / ٤٤ ، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر.

(٣) كنز العمال : ١ / ٤٤ ، أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم.

١٣٢

نوح من قومه ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق». (١)

فلو أنّ الأُمّة الإسلامية تمسّكت في فروعها وأُصولها بأذيال هذين المصدرين الأساسيّين : القرآن الكريم وأهل بيت الوحي والطهارة مجتمعين ، لاهتدت إلى الصراط المستقيم ، ولوصلت إلى أرقى درجات الكمال والهداية والرشاد ، ولصانت نفسها عن كلّ فكر غريب وبدعة في الدين.

إلى هنا اتّضح لنا معنى «البدعة» وحدودها وشروطها والفرق بينها وبين «السنّة» وسيكون هذا الأصل بمنزلة المفتاح الأساسي والرئيسي في حلّ الكثير من الإشكاليات التي تعترض طريقنا في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي ذر : ٣ / ١٥١.

١٣٣
١٣٤

الفصل السادس

زيارة قبور الصالحين

سجيّة إنسانية وسنّة رحمانية

١٣٥
١٣٦

حينما يطلّ الإنسان على وادي الصمت المتمثّل في أكبر مقبرة في العالم ، وهي مقبرة النجف الأشرف على مشرّفها آلاف التحية والسلام ، ويرى عن كثب ذلك الوادي المرعب ويشاهد فيه الملايين من البشر الصغير والكبير ، والشاب والكهل ، والمرأة والرجل ، والغني والفقير ، والضعيف والقوي ، والمعدم وأصحاب الجاه والسلطان و ... ، ويراهم كيف يغطّون في سبات عميق وصمت مخيف في تلك الديار الموحشة والأرض القفرة ، والقبور التي اندرس أكثرها فتحوّلت إلى بيوت للحشرات ومأوى للديدان ، ولا يقف الأمر عند مقبرة النجف الأشرف ، بل تجد الأمر يتكرر في كلّ مدينة أو قرية ، حينئذ تنتابه الدهشة والذهول ، ويذعن من حيث يشعر أو لا يشعر أنّ مصير الجميع إلى الفناء ، ويعترف بعجز الإنسان الذاتي أمام التصدي إلى هذا المصير المحتوم الذي يبيد الجميع ويفني الكلّ ويزيل الملك ويسلب السلطان والسطوة. حينئذ يأخذ الإنسان في التفكير بمصيره وبما يؤول إليه ، وانّه لا بدّ أن يَعدّ العُدّة لمستقبله ويفكر في عاقبة أمره أمام هذا المصير المجهول ، ويُعدّ الزاد لهذا السفر الطويل والبلاء العظيم ، ويفكر في إعمار آخرته أكثر ممّا يفكر في إعمار دنياه الفانية ، وحينها يعود إلى التفكير في ذاته وأصل وجوده والهدف من خلقة الكون والعالم ، وبالنتيجة يعود إلى رشده ويرعوي عن غيّه ويفكّر في الحياة الخالدة التي تنتظره.

انطلاقاً من هذا الدرس التربوي لزيارة القبور نجد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع

١٣٧

إصبعه على هذا الأمر الحسّاس ، وحثّ على زيارة القبور لما فيها من العبرة والاتّعاظ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«زوروا القبور فإنّها تُذكّركم الآخرة». (١)

وفي حديث آخر له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

«زوروا القبور فإنّ لكم فيها عبرة». (٢)

وقد صب الشاعر المرهف المعاصر المرحوم السيد صادق سرمد هذا المعنى في قصيدة عصماء باللغة الفارسية حينما زار مصر وشاهد آثار الفراعنة وقبورهم ، وكيف لعبت بها يد الدهر ، وكيف تحوّلت إلى عبرة وموعظة للآخرين. (٣)

وكان لأهل بيت العصمة والطهارة قصب السبق في الاستفادة من التذكير بالقبور وما يؤول إليه أصحابها في الوعظ والتربية حتّى مع أعتى الطواغيت وفي أشدّ اللحظات.

فقد روى المسعودي في «مروج الذهب» أنّ جماعة من حاشية المتوكّل سعوا بأبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام إلى المتوكل ... فأخذوه ـ أي الإمام ـ إلى المتوكل فمثل بين يديه ، والمتوكل على مائدة الخمر وفي يده كأس ... ، فناوله المتوكل الكأس الذي في يده ، فقال الإمام عليه‌السلام : «والله ما خامر لحمي ولا دمي ، فأعفني منه» ، فعفاه ، ثمّ قال له : أنشدني شعراً أستحسنه. فاعتذر الإمام عليه‌السلام وقال : «إنّي لقليل الرواية للشّعر». فألحّ عليه ولم يقبل عذراً ، فأنشده :

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٥٠٠ ، ح ١٥٦٩.

(٢) كنز العمّال : ١٥ / ٦٤٧ ، ح ٤٢٥٥٨.

(٣) ديوان سيد صادق سرمد : ٩٠ ، بالفارسية.

١٣٨

باتوا على قُلَلِ الأجبال تحرسهم

غلب الرجال فما أغنتهم القُلل

واستنزلوا بعد عزّ من معاقلهم

فأُودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخ من بعد ما قبروا

أين الأسرّة والتيجان والحُلَلُ

أين الوجوه التي كانت مُنعَّمة

من دونها تُضرب الأستار والكلل

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتل

أضحت منازلهم قفراً مُعَطّلة

وساكنوها إلى الأجداث قد رحلوا (١)

وهكذا تجد كيف يستفيد الإمام من الصورة المرعبة والموحشة للقبر في ردع الطاغية عن غيّه ، وهو في أشدّ حالات زهوه وبطره وتماديه.

الوقوف على قبور الأحبّة

لا ريب أنّ الذين يفقدون عزيزاً من أعزّتهم تبقى آثاره ـ رغم فقده ـ تلاعب مخيلتهم وذكره في قلوبهم ، فلا ينسوه بحكم العلاقة العاطفية والآصرة الروحية التي تشدّهم إليه ، ولذلك تجدهم دائماً يذكرونه ويجدّدون ذكراه ، وبما أنّ الموت يفصل بينهم وبينه جسديّاً إلّا أنّهم يعوضون ذلك باللقاء الروحي والمعنوي ، سواء كان ذلك بصورة فردية أو جماعية فيجتمعون على قبره ويقيمون المراسم ويهدون لروحه ثواب الفاتحة ، وغيرها من الأعمال التي يهدون ثوابها إليه.

إذاً الحزن على فقد العزيز وإقامة مراسم العزاء أو التأبين لفقده أمرٌ رائج بين عامّة الناس ، وفي جميع إرجاء المعمورة ، ومن هنا يمكن القول إنّ القضية لها جذور في فطرة الإنسان ، وبمعنى آخر : انّ نفس القوّة التي تدفع الإنسان وتجذبه

__________________

(١) مروج الذهب : ٤ / ٩٣.

١٣٩

نحو الميل إلى الأهل والأحبة في حال حياتهم هي نفسها تدفعه وترغبه للحضور على قبورهم والالتقاء بهم لقاءً روحيّاً ومعنوياً ، وتتّضح تلك الظاهرة بصورة أجلى إذا انطلقنا من الرؤية الإسلامية التي تقطع بأنّ الروح لا تفنى بفناء الجسد ولا تنعدم بانعدامه ، من هنا يتّضح أمامنا أُفق جديد يحدونا إلى زيارة قبور الأحبّة وتلاوة القرآن الكريم وإهداء الثواب إلى أرواحهم.

لهذا ليس من اللائق نهي الناس وردعهم عن هذا الأمر الفطري وحثّهم على التمرّد عليه ، بل الجدير بنا حثّهم ودفعهم إلى السعي لإقامة هذه المراسم وإظهار الودّ والمحبّة لفقيدهم. نعم لا بدّ أن نكون حذرين أن لا ينجر الأمر إلى أن تختلط تلك الأعمال والمراسم بنوع من الأفعال غير المحمودة والقبيحة والمذمومة شرعاً.

زيارة قبور العلماء

كان الكلام في النقطة السابقة حول زيارة قبور الأحبّة الذين تربطهم بالإنسان آصرة الدم والقرابة ، وتشدّهم إليه عاطفة روحية خاصة ، فيتحرك من هذا المنطلق لزيارة قبورهم وقراءة القرآن وإهداء ثواب بعض الأعمال الصالحة إلى أرواحهم والسعي إلى عدم اندراس قبورهم ونسيان ذكرهم.

وهناك طائفة أُخرى من الناس تربطهم بالإنسان رابطة روحية ومعنوية لا تقلّ فاعلية عن الرابطة الأُسرية إن لم تزد عليها ، وهؤلاء هم العلماء والمفكّرون الذين أحرقوا كيانهم وأذابوا وجودهم لينيروا للإنسان ظلمات الطريق الحالكة ، فهم كالشمعة التي تذوب ليستنير طريق الآخرين ، نعم لقد ضحّى العلماء والمفكّرون بكلّ حياتهم ـ رغم العسر والحاجة وقلّة ذات اليد ـ ليتركوا للأجيال

١٤٠