الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

الشيخ جعفر السبحاني

الوهابية بين المباني الفكرية والنتائج العملية

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-202-1
الصفحات: ٥١٢

الفصل الخامس

مفهوم البدعة في الدين

١٠١
١٠٢

البدعة في الدين

للتوحيد الإبراهيمي ـ والذي يمثّل حجر الأساس لجميع الأديان السماوية ـ مراتب ودرجات تعرّض لها المتكلّمون الإسلاميّون بالبحث والدراسة بصورة شاملة ومفصّلة ، وسلّطوا الأضواء على جميع أبعادها وزواياها ، وألّفوا في هذا المجال الكثير من الرسائل والكتب.

ومن مراتب التوحيد تلك مرتبة «التوحيد في التشريع والتقنين» بمعنى الاعتقاد الراسخ أنّ «حق التقنين» منحصر بالله تعالى وحده ، ولا يحق لأحد غيره مهما كان شأنه أن يصدر قانوناً أو تشريعاً من عند نفسه ليعالج به قضية ، أو يرسم به خطاً معيّناً ، ويجبر الناس على السير على وفق ذلك القانون ويحدّ من حريّاتهم من خلال إلزامهم بذلك التشريع ، بل يجب على كلّ موحّد أن يلتزم نظرياً وعمليّاً بأنّ حقّ التقنين وإصدار التشريعات والتوجيهات ورسم الخطط وتحديد حرية الإنسان في هذا المجال ، كلّها من شئون الله وحده لا يشاركه فيها سواه. فهو صاحب الحقّ المطلق في التشريع ، والتصرّف في الأنفس والأموال ، وهو صاحب الأمر والنهي كما يصطلح عليه.

ويمكن إثبات هذه المرتبة من التوحيد من خلال سلوك منهجين ، هما :

١. المنهج العقلي.

١٠٣

٢. المنهج النقلي.

وها نحن نشرع في دراسة وتحليل المنهج الأوّل ثمّ نعرّج على الحديث عن المنهج الثاني منهما.

المنهج العقلي

إنّ قضية حصر التشريع والتقنين بالله وحده ليست وليدة ضيق الأُفق وقصر النظر والتعصّب الأعمى ، بل هي وليدة النظرة الموضوعية والرؤية الواقعية للأُمور ، ونحن إذا أردنا أن ندرس الأُمور بموضوعية وواقعية ، لا بدّ أن نسلّط الضوء على الخصائص والمواصفات التي ينبغي أن يتوفّر عليها المقنّن الموضوعي الذي تكون تشريعاته وأحكامه مطابقة للواقع وتمتلك خاصية المعالجة الموضوعية للأُمور.

ومن هذا المنطلق نقول : إنّه ينبغي للمقنّن أن يتوفّر على مجموعة من الشروط والمواصفات التي لا تتوفر إلّا بالله وحده وتنحصر به سبحانه ، وهي :

١. أن يكون المقنّن ذا معرفة تامّة وكاملة بالإنسان من جميع أبعاد شخصيته وما يحيط بها ويؤثر عليها من العوامل.

٢. أن لا ينتفع المقنّن بما يسنّه من القوانين والتشريعات.

٣. أن يكون المقنّن منزّهاً عن الميول الحزبية والتكتّلات الفئوية ، ومتحرّراً من ضغوط السلطات الحكومية وأصحاب النفوذ.

وممّا لا ريب فيه أنّ هذه الشروط الثلاثة لا يمكن توفّرها إلّا في خالق العالم وموجده لا غير ، وذلك لأنّ :

ألف : لا بدّ أن يكون المقنّن عالماً بالإنسان علماً تامّاً كي يتسنّى له من

١٠٤

خلال معرفة الإنسان والإحاطة بميوله وغرائزه وعواطفه أن يرسم له خطاً ، ويسنّ لها قانوناً ينسجم مع تلك الغرائز والميول ، ويمتلك القدرة على تهذيبها وتربيتها بنحو يسوقها نحو الهداية والكمال المنشود من وراء خلقها.

كذلك لا بدّ أن يكون المقنّن ذا معرفة كاملة وعلم تام بالمجتمع بجميع أبعاده وخصوصياته وزواياه ، حتى يتمكّن من معرفة مهام ووظائف الأفراد في المجتمع من جهة ويعرف حقوقهم التي ينبغي للمجتمع توفيرها من جهة أُخرى ، كذلك يعرف أُسلوب حركة الأفراد في المجتمع والعوامل المؤثرة على حركتهم ، وردود الفعل التي يبدونها اتّجاه تلك العوامل والضغوط.

ولا ريب أنّ هذه الخصوصية ـ المعرفة الكاملة بالمجتمع ـ هي الأُخرى من خصائصه سبحانه ولا يشاركه فيها أحد من خلقه مهما كان ، ولقد أشارت آيات الذكر الحكيم إلى هذه المسألة ، حيث قال سبحانه :

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). (١)

ثمّ إنّ الله الذي خلق ذرّات الإنسان وخلاياه التي لا تحصى وخلق أعضاءه ومكوّناته المختلفة ، هو وحده العارف بمتطلّباته وحاجاته المعلنة والخفية ، وما ينفعه وما يضرّه ، ومصالحه ومفاسده ، على أكمل وجه وأتمّ صورة ، لا يدانيه في هذه المعرفة أحد أبداً ، وهو وحده العالم بطريقة وأُسلوب حركة المجتمع ، ومنهج التعايش الذي ينبغي أن يعتمدونه ، وردود الفعل التي يبدونها تجاه القوانين والتشريعات ، وتحديد المهام والوظائف التي تكون عاملاً في انسجام المجتمع وسوقه إلى الاستقرار والرقي والكمال ، ووضع الإنسان في

__________________

(١) الملك : ١٤.

١٠٥

الموضع الذي يليق به ويستحقه.

ب : انّ الواقعية ورعاية مصالح الإنسان ومنافعه تقتضي أن يكون المقنّن بعيداً عن كلّ أنواع الهوى ، ومنزّهاً عن حب الذات ، والسعي لجلب المنفعة الشخصية أو الفئوية في سنّه للقوانين والتشريعات ، وذلك لأنّ الغرائز والميول الضاغطة على الإنسان كالأنانية والنفعية تُعدّ حجاباً غليظاً ومانعاً قوياً بين المقنّن وبين الرؤية الواقعية للأُمور ، وانّ المقنّن مهما سعى أن يكون إنساناً موضوعياً منزّهاً عن تلك الميول ومتحرّراً منها ، إلّا أنّها تفعل فعلها في اللاشعور ومن دون إرادته واختياره ، وتؤثّر أثرها في التلاعب بالقانون والميل به عن جادة الواقعية والموضوعية.

ج : انّ الميول الحزبية والتوجّهات الفئوية والخوف من أصحاب النفوذ والقدرة في المجتمع تُعدّ هي الأُخرى من العوامل التي تجنح بالمقنّن إلى الميل عن جادة الحق والموضوعية ، وتحرفه عن أُصول وأُسس التقنين المتزنة والمحايدة ، وتبعده عن النظرة الشمولية واعتماد منهج العدل والإنصاف ، ولذلك تجد المقنّن والمشرع وتحت ضغط عامل الخوف والخشية من أصحاب النفوذ والسطوة في المجتمع يسنّ القوانين بطريقة تؤمّن مصالح ومنافع تلك الثلّة حتّى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامّة وسحق الطبقات الأُخرى.

ثمّ إنّ عامل الخشية والخوف من مراكز القدرة وأصحاب السطوة ـ أفراداً كانوا أو جماعات ـ يبقى كالسيف المرهف المسلّط على رقبة المقنّن يسوقه إلى الجهة التي يريدها صاحب السيف وذو السلطة والنفوذ بنحو تجعل المقنن يعيش بين خيارين : إمّا الخضوع إلى السلطة وتلبية رغباتها وسن القانون وفقاً لميولها وإرادتها والانجراف مع تيارها ؛ وأمّا تحمّل أشدّ الضغوط والمصاعب

١٠٦

كالسجن والإبعاد ، أو على أقل تقدير المحاربة بلقمة العيش.

من هنا ندرك أهمية هذا الشرط وقيمته في التشريع ، وكيف يكون استقلال المقنّن وتحرّره عاملاً فاعلاً في الرؤية الموضوعية ، وممّا لا شكّ فيه أنّ التحرر الكامل والنفوذ المطلق والغنى التام هو من خصائصه سبحانه وحده لا شريك له ، ولهذا فهو الجدير بمقام التشريع وسن القانون ولا يستحق هذا المنصب غيره مهما كان.

ومن حسن الحظ أنّ بعض المحقّقين والمفكّرين الغربيين تنبّهوا إلى هذا الشرط ومدى أهميّته في موضوعية القانون وواقعيته من أمثال المفكّر جان جاك روسو حيث يقول في كتابه «العقد الاجتماعي» : «لاكتشاف أفضل القوانين المفيدة للشعوب لا بدّ من وجود عقل يرى جميع الشهوات البشرية ولكن لا يجد في ذاته ميلاً نحوها. عقل لا يرتبط بالطبيعة ولا يخضع لضغوطها ، ولكنّه يعرفها تمام المعرفة ، عقل لا ترتبط سعادته بنا ولكنّه مستعد لئن يعيننا في سعادتنا». (١)

إلى هنا اتّضح لنا حكم العقل في حصر حق التقنين والتشريع في الله وحده لا يشاركه في هذا الحقّ غيره مهما كان ، وقد حان الوقت لدراسة المسألة من الزاوية الأُخرى لنرى ما هي الرؤية القرآنية في هذه القضية الحسّاسة والمهمة؟

القرآن وحصر التشريع بالله سبحانه

لقد أقرّ القرآن الكريم حكم العقل بحصر حق التشريع بالله تعالى حيث

__________________

(١) العقد الاجتماعي : ٨١.

١٠٧

اعتبرت آيات الذكر الحكيم انّ حقّ التقنين خاصاً بالله وحده ، ولا يحق لأحد مهما كان أن يتجاوز على هذا الحق أو يخترق حدود هذا المقام كائناً من كان ، ومن الملاحظ انّ الآيات التي وردت في هذا المجال كثيرة ، نكتفي هنا بذكر نموذجين منها ـ فقط ـ روماً للاختصار :

١. قال تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ). (١)

فإنّ جملة : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) تحكي وبوضوح تام انّ كافّة أنواع الحكم والقوانين والدساتير من شئونه ومختصاته وحده سبحانه وتعالى ، وبما أنّ شأن الحكم والتقنين مختص به أردفت الآية الجملة المذكورة بالأمر بعبادته وحده والخضوع له لا لغيره (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

٢. وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ). (٢)

إنّ الآية المباركة تشير وبوضوح تام إلى أنّ أهل الكتاب قد تجاوزوا الخط المرسوم لهم ، واقتحموا دائرة الحقّ الإلهي في الانفراد في التشريع والتقنين ، فمنحوا أحبارهم ورهبانهم هذا الحق ، وانّهم بدلاً من الرجوع إلى الكتاب السماوي وأخذ الأحكام منه رجعوا في ذلك إلى أحبارهم ورهبانهم ، ومن الواضح أنّ الرهبان والأحبار قد يحلّلون ـ ولأسباب ما ـ ما حرّم الله ويحرّمون ما أحلّ الله.

من هنا اعتبر القرآن الكريم أهل الكتاب غير موحّدين في التشريع

__________________

(١) يوسف : ٤٠.

(٢) التوبة : ٣١.

١٠٨

ومنحرفين عن خط التوحيد.

روى الثعلبي باسناده عن عدي بن حاتم ـ وقد كان نصرانياً ـ قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : يا عدي «اطرح هذا الربق من عنقك» قال : فطرحته ، ثمّ انتهيت إليه وهو يقرأ هذه الآية : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً). حتى فرغ منها. فقلت : إنّا لسنا نعبدهم. فقال : «أليس يحرّمون ما أحلّه الله فتحرمونه ، ويحلّون ما حرم الله فتستحلونه؟» قال : قلت : بلى. قال : «فتلك عبادة». (١)

يتّضح ممّا سبق أنّ مركز التشريع وسنّ القوانين وتنظيمها من مختصّاته سبحانه وحده لا يشاركه فيها سواه. وأمّا عمل الأنبياء والأئمّة ووظيفتهم فيمكن في بيان تلك التشريعات والقوانين الإلهية ، وانّهم عليهم‌السلام لا يتصرّفون في القانون أبداً. (٢)

سؤال وإجابة

إذا كان حقّ التشريع من شئونه سبحانه وأنّ زمام أمر القانون بيده تعالى ، فما هي يا ترى وظيفة ومهام المجلس التشريعي في الجمهورية الإسلامية

__________________

(١) نور الثقلين : ٢ / ٢٠٩ ؛ بحار الأنوار : ٩ / ٩٨. وقد روى العلّامة البحراني في تفسيره «البرهان» أحاديث جمّة بهذا المضمون فراجع ج ٢ ، ص ١٢٠.

(٢) إذا ثبت انّ حقّ التشريع وزمامه بيد الله سبحانه وحده دون سواه ، فكيف يفسّر ما ورد في الكافي : ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠ من الأحاديث التي تثبت أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد شرّع بعض الأحكام ، والجواب : انّ هذه الروايات لها تفسير خاص لا يتنافى مع القول بالتوحيد في التشريع وقد أجبنا عن الشبهة بصورة مفصّلة في موسوعتنا «مفاهيم القرآن» فمن أراد الاطّلاع فعليه بمراجعة : الجزء الأوّل ص ٥٥٣ ـ ٥٥٤ ، الطبعة الثانية ، ١٤٠٤ ه‍ ـ ، ط. إيران.

١٠٩

والمسمّى «بمجلس الشورى» ، فهل يعتبر وجود هذا المجلس تجاوزاً على الحق الإلهي واعتداء على حدود مقامه سبحانه في التشريع؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في مسألتين :

الأُولى منهما هي : أنّه ممّا لا ريب فيه أنّ كلّ دولة تسعى إلى الرقي والرفاه وتنظيم أُمورها وتسيير الحياة فيها على أكمل وجه ، لا بدّ لها من وضع مؤسسة تتكفّل بهذه المهمة ، وتقوم برسم الخطط ووضع البرامج التي تسهّل عملية حركة الشعب وتنظيم مسيرته. فإذاً وجود مجلس أو مؤسسة تقوم بهذه المهمة أمر ضروري وحيوي لا يمكن الاستغناء عنه وتجاوزه. وهذا من الأُمور الضرورية التي لا تحتاج إلى مزيد بحث ودراسة.

المسألة الثانية : بعد أن عرفنا أهمية المجلس التشريعي أو مجلس الشورى في إدارة البلاد وتنظيم حركتها لا بدّ من التركيز على هذه المسألة ، وهي بيان الدائرة التي يتحرك فيها هؤلاء النواب وأعضاء المجلس المذكور ، فهل هم يسيرون في دائرة مستقلة عن دائرة القوانين الإلهية وفي خط مواز للتشريع الإلهي؟ أم أنّهم يتحركون في دائرة وإطار التشريعات الإلهية والقوانين السماوية ، ويدورون في فلكها ، ويعتمدون على الأُصول الكلّية والعامّة للإسلام؟

الحقيقة انّ مجلس الشورى الإسلامي يتحرك في إطار القوانين العامّة للإسلام ، وليس مهمته إلّا رسم الخطط والبرامج في هذا الإطار واعتماداً على هذه القوانين الكلية والأُصول المسلّمة ، وليس له حق التشريع المقابل ، ومن هنا نجد الدستور في الجمهورية الإسلامية وضع مؤسسة أُخرى للتأكد من صيانة القوانين التي يسنّها المجلس عن الانحراف عن الخط العام للتشريع

١١٠

الإسلامي ، وقد أُطلق على هذه المؤسسة اسم «مجلس صيانة الدستور».

ومن هنا يتّضح أنّ تشكيل مجلس الشورى لا يمثل أبداً جهة مقابلة ومضادة للحق الإلهي في التشريع ، بل هو في الواقع يدور في فلكها ويتحرك في إطارها وضمن أُصولها المسلّمة.

التصرّف في التشريع الإلهي أو «البدعة في الدين»

كما أنّ حقّ التقنين والتشريع ـ وكما أثبتنا ـ منحصر بالله تعالى وحده ولا يحق لأحد مهما كان أن يتجاوز على هذا الحقّ ويعطي لنفسه أو لغيره حقّ التشريع وسن القوانين ، كذلك لا يحق لأحد مهما كان التصرّف والتلاعب في الأحكام والقوانين والتشريعات الإلهية الصادرة منه تعالى ، سواء كان هذا التصرّف يتمثّل في الزيادة والإضافة ، أو في الحذف والنقصان ، فالكلّ «بدعة» لا يحق لأحد القيام بها. وانّ المبتدع خارج عن إطار التوحيد في التشريع.

وبسبب المفاسد والمخاطر التي تكمن في التصرّف في القوانين والتشريعات الإلهية والتي عبّر عنها «بالبدعة» اعتبرت «البدعة» من الذنوب الكبيرة والموبقات التي تهوي بصاحبها إلى الدرك الأسفل من النار.

ومن هنا اقتضت الأُمور أن نعرّف البدعة تعريفاً دقيقاً ، ونحدّها «نعرفها» حدّاً منطقياً وعلمياً ، ونسلّط الضوء على جميع أبعادها وزواياها لتتّضح لنا حقيقة الأمر وينجلي لنا الواقع ، وذلك لأنّه يترتّب على تعريف البدعة وتحديدها بصورة دقيقة الكثير من الثمار العملية ، ويمكن من خلالها أيضاً الإجابة عن الكثير من الإشكالات والتساؤلات والشبهات التي تثار في هذا المجال.

١١١

تعريف البدعة

في مقام تعريف البدعة لا بدّ من التحرك في محورين : التعريف اللغوي والاصطلاحي للبدعة.

البدعة لغة

تعرّض اللغويون لتعريف البدعة في مصنّفاتهم التي دوّنوها لبيان معاني المصطلحات اللغوية.

فقال الخليل : البدع إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة. (١)

وقال ابن فارس : البدع له أصلان : ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال ، والآخر الانقطاع والكلال. (٢)

وقال الراغب : الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء. (٣)

هذه هي بعض أقوال العلماء في هذا المجال.

وممّا لا شكّ فيه أنّ روحية التجديد والحداثة حاكمة على الإنسان ، فهو يطمح إلى الجديد وترنو عينه إلى الحديث فلذلك تراه يملّ الحياة الرتيبة الثابتة ويسعى إلى التجديد والتغيير ، ومن هنا نجد المهندسين والمصمّمين للأزياء والأشكال في حركة دءوبة وسباق جاد ، بحيث تجد أنّهم في كلّ يوم يأتون بنمط

__________________

(١) كتاب العين : ٧٢.

(٢) مقاييس اللغة : ١ / ٢٠٩ ، مادة «بدع».

(٣) مفردات الراغب : ٣٨ ـ ٣٩.

١١٢

جديد يختلف عمّا سبقه على جميع الأصعدة. وقد يطلق على عملهم هذا لغة «البدعة» أو «البديع» ، ومن هنا أُطلق مصطلح «البديع» على الله سبحانه نفسه ، حيث قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، (١) لأنّه سبحانه قد ابتدع خلق السماوات والأرض والإنسان من دون مثال سابق.

والجدير بالذكر أنّ البدعة بهذا المعنى ليست هي محط بحثنا هنا ، وبعبارة أُخرى : ليست هي موضوع التحريم والنهي الذي ورد في النصوص. وذلك لأنّ الدين لا يضاد الحداثة ، ولا يخالف التجديد ، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي ، فالمجتمع البشري الآن يعيش حالة من التنوّع والتجديد في جميع نواحي حياته من المسكن والملبس والمركب والمشرب ووسائل التعليم وأساليبها و ... بنحو يختلف اختلافاً جوهرياً عمّا كان عليه الإنسان في الماضي ، وهذه الأُمور وإن كان التعريف اللغوي للبدعة يشملها بحيث يصحّ إطلاق لفظ البدعة لغة عليها ، ولكن ذلك ليس من مصاديق البدعة في الاصطلاح والتي تعدّ من الذنوب الكبيرة.

ولقد حدّثنا المؤرّخون : انّ أوّل بدعة حدثت بعد رحيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المسلمين أنّهم عمدوا إلى نخل الدقيق وفصل السبوس «قشور الحب» عنه ، ولا ريب أنّ هذه الظاهرة الفتية تُعدّ بدعة مستحدثة في الحياة ليس لها سابقة ، ولكن ذلك لا يعني أنّها من مصاديق البدعة التي قال بحرمتها فقهاء المسلمين. ومن هنا اقتضى الأمر البحث في بيان البدعة التي هي موضوع الحكم الشرعي ، أي البدعة التي حرّمها الشارع ونهى عنها.

__________________

(١) البقرة : ١١٧.

١١٣

البدعة في اصطلاح المتكلّمين والفقهاء

لا ريب أنّ البدعة من المحرمات الشرعية والتي أكّد الشارع على النهي عنها واجتنابها ، واعتبرها من الذنوب الكبيرة التي تورد صاحبها النار ، وتلقيه في المهالك ، سواء كانت هذه البدعة بإضافة أشياء جديدة وتشريع قوانين مستحدثة ، أو كانت تتمثّل في حذف ونقصان بعض التشريعات.

ومن هنا أولى المتكلّمون والفقهاء هذه المسألة أهمية وعناية خاصة ، وأشبعوها بحثاً وتحقيقاً ، الأمر الذي يكشف عن أهمّيتها وخطرها في مجال الفكر الإسلامي.

وقد عرّف المحقّقون البدعة بتعاريف مختلفة ، منها :

الف : عرّفها الشريف المرتضى بقوله : الزيادة في الدين ، أو النقصان منه ، مع إسناد إلى الدين. (١)

ب : وعرّفها ابن حجر العسقلاني بقوله : المراد بالبدعة ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ، وما كان له أصل يدلّ عليه الشرع فليس ببدعة. (٢)

ج : وعرّفها ابن حجر الهيتمي بقوله : ما أُحدث وليس له أصل في الشرع ، ويسمّى في عرف الشرع بدعة. (٣)

ونكتفي بذكر هذه التعريفات الثلاثة ونغض النظر عن التعاريف الأُخرى والتي لا تختلف عن هذه التعريفات اختلافاً جوهرياً.

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى : ٣ / ٨٣.

(٢) فتح الباري : ٥ / ١٥٦ و ١٧ / ٩.

(٣) التبيين بشرح الأربعين : ٢٢١.

١١٤

وإذا أمعنّا النظر في التعاريف المذكورة للبدعة ، نجد أنّها تعتبر مقوّمات البدعة المحرمة والتي تميّزها عن «السنّة» ثلاثة أُمور أساسية ، هي :

الأوّل : التدخل والتصرّف في الدين عقيدة أو حكماً بزيادة أو نقيصة.

الثاني : أن لا تكون لها جذور في الشرع تدعم جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم.

الثالث : أن تكون هناك إشاعة بين الناس.

وبعد أن عرفنا الأُسس والمقوّمات الأساسية للبدعة ـ بصورة إجمالية ـ نشرع في دراسة تلك المقوّمات بصورة مستقلة وعلى نحو التفصيل.

١. التدخّل والتصرّف في الدين عقيدة أو حكماً

لا ريب أنّ التدخّل في الدين بالزيادة أو النقيصة ، أو بعبارة أُخرى : استهداف روح الدين وأحكامه وعقائده وإيجاد حالة من التحوّل والتغيّر فيه ونسبة ذلك إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يُعدّ من أنواع التصرّف في الدين المنهي عنه تحت عنوان «البدعة» ، وأمّا التجديد والحداثة التي لا يستهدف صاحبها روح الدين وأحكامه وعقائده ولم يتصرّف فيها ولم ينسب ذلك إلى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما يوجد حالة من التحوّل والتطوير في برامج الإجابة وطريقة الطرح ومنهجيّة العرض فقط ، فإنّ كلّ ذلك لا يُعدّ من البدعة المصطلحة التي وقعت موضوعاً للنهي والحرمة ، وإن كان يصدق عليه معنى البدعة لغة.

نعم قد يكون التصرّف هذا في حدّ ذاته غير جائز لسبب ما ، ولكنّه على كلّ حال ليس من مصاديق البدعة المصطلحة.

يتّضح من البيان السابق انّ قسماً من أعمالنا وتصرفاتنا ـ الأعمّ من الجائزة

١١٥

والمحرمة ـ لا يمكن أن تدخل تحت مظلة البدعة وإطارها ، من قبيل لعبة كرة القدم والسلّة والطائرة وأمثال ذلك ، فإنّ كلّ هذه الأُمور المستحدثة بالرغم من انتشارها في المجتمع وشيوعها في الأوساط لا يصدق عليها مصطلح البدعة أبداً.

وخذ على سبيل المثال أيضاً حالة الانفلات الجنسي ورفع الحواجز والموانع بين الرجال والنساء في المجتمع الغربي ، واعتبار ذلك من الأُمور الطبيعية التي يتلقّاها المجتمع الغربي بالقبول ، فإنّ هذه الحالة من الانفلات الأخلاقي والتهوّر الجنسي بما أنّها لم تنسب من قبل أصحابها إلى الله ورسوله ولم توسم بسمة الشرعية ، لا تُعدّ بدعة وإن كانت من وجهة نظر المشرّع الإسلامي تُعدّ من المحرّمات والذنوب الكبيرة.

الخلاصة : اتّضح لنا ـ من خلال ما سبق ـ أنّه قد أخذ في مصطلح البدعة قيد «التصرّف في الدين».

وعلى هذا الأساس نحكم على الأُمور المستحدثة بحكمين مختلفين تبعاً لتوفر الشرط وعدمه ، فإذا كانت الأُمور المستحدثة لا تستهدف الدين ولا تنسب نفسها إلى الشرع ودين الله ورسوله ، لا تدخل حينئذ في إطار البدعة المصطلحة ، سواء كانت تلك المستحدثات محللة كلعبة كرة القدم وغيرها ، أو كانت محرمة كالاختلاط ورفع الحواجز بين الجنسين.

وأمّا إذا توفر الشرط «التصرّف في الدين» فهي بدعة محرمة منهيٌّ عنها.

٢. عدم وجود الدليل الداعم للنظرية المطروحة من الكتاب والسنّة

الشرط الثاني لصدق عنوان البدعة المصطلحة هو أن تفتقد الظاهرة

١١٦

المستحدثة الدليل الداعم والمؤيّد لها من الكتاب والسنّة لا على نحو الخصوص ولا على نحو العموم ، ولذلك تعتبر ـ لهذا السبب ـ تصرّفاً في الدين وتجاوزاً على حدود الشريعة ، وأمّا إذا كانت الظاهرة المستحدثة تتوفر على السند الشرعي المؤيد لها فحينئذ لا يمكن اعتبارها تصرّفاً في الدين وبدعة في الإسلام ، بل تعتبر في حقيقة الأمر تجسيماً وتفعيلاً لأصل قد غفل عنه الآخرون في الوقت الذي التفت إليه صاحب النظرية المستحدثة.

وهذا الشرط المذكور أعلاه قد صرّح به في تعريف البدعة حيث قالوا : «البدعة ما أُحدث وليس له أصل في الشرع».

وعلى هذا الأساس يتّضح أنّ الكثير من الأُمور المستحدثة المعاصرة لا تُعدّ من مصاديق البدعة في الدين ، وإن نسبها إلى الدين ، وذلك لأنّ هذه الأنواع من الحداثة لها جذورها في الشريعة بنحو يمكن استنباط مشروعيتها من الكتاب والسنّة إمّا على نحو الخصوص ، أو نثبت مشروعيتها بصورة عامّة.

خذ على سبيل المثال الجيوش في البلاد الإسلامية عامّة وفي الجمهورية الإسلامية خاصة ، فإنّها مجهّزة بأحدث التجهيزات والمعدّات العسكرية الحديثة والمتطوّرة ، بنحو ترفع درجة القدرات القتالية للجندي المسلم إلى درجة عليا ، ومن الواضح أنّ هذه المعدّات وأُسلوب التدريب العسكري والنظام الذي يعتمد في الجيوش المذكورة ليست له سابقة مماثلة في الجيوش في صدر الإسلام وما تلاه من القرون الطويلة. ولكن ذلك التطوّر وهذا التحوّل يمكن أن نلمس له دليله الشرعي الداعم والمؤيّد له في كتاب الله المجيد حيث قال سبحانه :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ

١١٧

بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ). (١)

فقد ورد في الآية المباركة أمران ، أحدهما خاص والآخر عام.

١. أمّا الدستور والأمر العام فيتمثّل في قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

٢. وأمّا الدستور الخاص فيتمثّل في قوله تعالى : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ).

وعلى هذا الأساس يكون تجهيز الجيش بأحدث الأسلحة المتطوّرة وتدريب الجندي على أحدث الفنون القتالية وتعليمه أنواع الأساليب الحربية ، داخلاً تحت إطار الأمر الأوّل «العام» المتمثّل في قوله تعالى : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، ومن هنا يمكن وبلا ريب الاستناد إلى هذه الآية لرفع القدرات القتالية للجيش الإسلامي ونسبتها إلى الله سبحانه والشرع الإسلامي ، إذ يمكن لنا أن نقول ـ وبحق ـ : إنّ الله أمرنا بإعداد القوة وتطوير الجيوش الإسلامية ، ولا يعتبر عملنا هذا بدعة في الدين وتجاوزاً على الحدود الإلهية. بالرغم من أنّه لم تتم الإشارة إلى ذكر المعدّات الحربية والوسائل القتالية بصورة خاصة. إذاً الآية أشارت إلى الأمر بصورة كلّيّة ، وتركت الأمر في تحديد الوسائل والطرق إلى الحكومة هي التي تتكفّل بوضع الخطط المناسبة وشراء المعدات الحديثة التي تحقّق المفهوم الكلّي والمعنى العام الذي صدر الأمر الإلهي به ، وهو إعداد القوّة والتهيّؤ لمواجهة العدو (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

__________________

(١) الأنفال : ٦٠.

١١٨

٣. الإشاعة بين الناس

الشرط الثالث لتحقّق مفهوم البدعة وصدقها هو أن تكون هناك إشاعة ، ونشر للأمر المستحدث بين الناس ، وهذا الشرط وإن لم يؤخذ في تعاريف «البدعة» إلّا أنّه كامن في حقيقتها. وهناك الكثير من القرائن التي تدلّ عليه ، فعلى سبيل المثال قد وردت روايات كثيرة توجب الرد على البدع والمبتدعين ومواجهتهم والتصدّي لهم.

ولا شكّ انّ هذا الأمر يكشف عن رواج وانتشار البدعة وشيوعها من قبل أصحابها ونشرها في أوساط المسلمين.

روى مسلم في صحيحه عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أُجور من تبعه لا ينقص ذلك من أُجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً». (١)

إنّ هذه الرواية وأمثالها تحكي عن أنّ الظاهرة المستحدثة والتصرف في الدين في الزيادة أو النقيصة إذا كان لوحده وفي بيته ومنزله ولم يطّلع عليه أحدٌ من الناس بأن يزيد في صلاته أو ينقص منها أو ... ، فإنّ ذلك كلّه لا يُعدّ «بدعة» وإن كان معصية وحراماً ، نعم البدعة تتوقّف على إشاعة الفكرة الخاطئة والنظرية المبتدعة بين الناس وفي المجتمع ودعوتهم إليه بعنوان أنّه من الشرع.

__________________

(١) صحيح مسلم : ٨ / ٦٢ ، كتاب العلم.

١١٩

ومع الالتفات إلى هذه الشروط الثلاثة للبدعة يتّضح لنا جانب مهم من جوانب «مفهوم البدعة».

تحريم البدعة في القرآن الكريم

كما ذكرنا انّ البدعة تعتبر تدخلاً في الشأن الربوبي وتجاوزاً على حدود الله في التقنين والتشريع ، وذلك لأنّ مهمة «التقنين» حق خاص به سبحانه ولا يتعدّى منه إلى غيره ، وانّ كلّ أنواع التدخّل في هذا الشأن يعتبر اعتداءً وانتهاكاً لحدوده سبحانه وتجاوزاً على حقّه تعالى. أضف إلى ذلك أنّ نسبة أيّ حكم أو تشريع أو قانون إلى الله تعالى من دون دليل وسند شرعي ، يعتبر «افتراءً» و «كذباً» على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبسبب وجود هاتين الخاصيّتين في البدعة نجد القرآن الكريم قد ذمّ البدعة والمبتدعين وردّ عليهم ، فعلى سبيل المثال نجده يردّ على المشركين في تقسيمهم النعم الإلهية إلى قسمين بعضها حلال وبعضها الآخر حرام ، ونسبوا ذلك إلى الله سبحانه بلا دليل فقال تعالى :

(آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ). (١)

وقال تعالى في آية أُخرى :

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ). (٢)

__________________

(١) يونس : ٥٩.

(٢) النحل : ١١٦.

١٢٠