تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

إبراهيم عليه‌السلام خليل الرّحمن ، لم ينزل من السماء كتابا ولا أرسل رسولا ولا أوحى إلى بشر من بعده إلا وهو من سلالته ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [العنكبوت : ٢٧] حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل عيسى ابن مريم الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلامه عليهما ، ولهذا قال تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) وهم الحواريون (رَأْفَةً) أي رقة وهي الخشية (وَرَحْمَةً) بالخلق. وقوله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) أي ابتدعها أمة النصارى (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) أي ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.

وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) فيه قولان [أحدهما] أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قاله سعيد بن جبير وقتادة. [والآخر] ـ ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقوله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي فما قاموا بما التزموه حق القيام ، وهذا ذم لهم من وجهين [أحدهما] ـ في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله و [الثاني] ـ في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عزوجل.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي حدثنا السندي بن عبدويه ، حدثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرّحمن بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه عن جده ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ابن مسعود» قلت : لبيك يا رسول الله. قال : «هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال ، فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط ، فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ).

وقد رواه ابن جرير (١) بلفظ آخر من طريق أخرى فقال : حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا داود بن المحبر ، حدثنا الصعق بن حزن ، حدثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اختلف من كان قبلنا على ثلاث وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم» وذكر نحو ما تقدم وفيه (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) هم الذين آمنوا بي وصدقوني (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين كذبوني

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٩١.

٦١

وخالفوني» ولا يقدح في هذه المتابعة لحال داود بن المحبر فإنه أحد الوضاعين للحديث ، لكن قد أسنده أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن الصعق بن حزن به مثل ذلك ، فقوي الحديث من هذا الوجه.

وقال ابن جرير (١) وأبو عبد الرّحمن النسائي واللفظ له : أخبرنا الحسين بن حريث ، حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان بن سعيد عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان ملوك بعد عيسى عليه‌السلام بدلت التوراة والإنجيل فكان منهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ، فقيل لملوكهم ما نجد شيئا أشد من شتم يشتموناه هؤلاء إنهم يقرءون (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) [المائدة : ٤٤] هذه الآيات مع ما يعيبوننا به من أعمالنا في قراءتهم فادعهم فليقرءوا كما نقرأ وليؤمنوا كما آمنا ، فدعاهم فجمعهم وعرض عليهم القتل أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا منها ، فقالوا : ما تريدون إلى ذلك دعونا ، فقالت طائفة منهم : ابنوا لنا أسطوانة (٢) ثم ارفعونا إليها ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا فلا نرد عليكم ، وقالت طائفة : دعونا نسيح في الأرض ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش ، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا ، وقالت طائفة : ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا نرد عليكم ولا نمر بكم ، وليس أحد من القبائل إلا له حميم فيهم ، ففعلوا ذلك ، فأنزل الله تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها).

والآخرون قالوا : نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان ونتخذ دورا كما اتخذ فلان ، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم ، فلما بعث الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق منهم إلا القليل انحط منهم رجل من صومعته ، وجاء سائح من سياحته ، وصاحب الدير من ديره فآمنوا به وصدقوه فقال الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أجرين بإيمانهم بعيسى ابن مريم وتصديقهم بالتوراة والإنجيل ، وبإيمانهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقهم قال (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) القرآن واتباعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) الذين يتشبهون بكم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) هذا السياق فيه غرابة ، وسيأتي تفسير هاتين الآيتين على غير هذا ، والله أعلم.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن عيسى ، حدثنا عبد الله بن وهب ، حدثني سعيد بن عبد الرّحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير ، وهو يصلي صلاة خفيفة كأنها

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٩٠.

(٢) أسطوانة : أي منارة مرتفعة.

٦٢

صلاة المسافر أو قريبا منها ، فلما سلم قال : يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته؟ قال : إنها المكتوبة وإنها صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أخطأت إلا شيئا سهوت عنه ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» ثم غدوا من الغد فقالوا : نركب فننظر ونعتبر ، قال : نعم فركبوا جميعا فإذا هم بديار قفر قد باد أهلها وانقرضوا وفنوا خاوية على عروشها ، فقالوا : أتعرف هذه الديار؟ قال : ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل الديار أهلكهم البغي والحسد ، إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه ، والعين تزني والكف تزني والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعمر ، حدثنا عبد الله أخبرنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس ، عن أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لكل نبي رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله عزوجل» ورواه الحافظ أبو يعلى عن عبد الله بن محمد ابن أسماء عن عبد الله بن المبارك به ولفظه «لكل أمة رهبانية ورهبانية هذه الأمة الجهاد في سبيل الله».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسين ـ هو ابن محمد ـ حدثنا ابن عياش يعني إسماعيل عن الحجاج بن مروان الكلاعي وعقيل بن مدرك السلمي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاءه فقال : أوصني ، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبلك أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض. تفرد به أحمد ، والله أعلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

قد تقدم في رواية النسائي عن ابن عباس أنه حمل هذه الآية على مؤمني أهل الكتاب وأنهم يؤتون أجرهم مرتين كما في الآية التي في القصص وكما في حديث الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ، ورجل أدب أمته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» (٣) أخرجاه في الصحيحين

__________________

(١) المسند ٣ / ٢٦٦.

(٢) المسند ٣ / ٨٢.

(٣) أخرجه البخاري في العلم باب ٣١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤١.

٦٣

ووافق ابن عباس على هذا التفسير الضحاك وعتبة بن أبي حكيم وغيرهما وهو اختيار ابن جرير وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) أي ضعفين (مِنْ رَحْمَتِهِ) وزادهم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يعني هدى يتبصر به من العمى والجهالة ويغفر لكم ، ففضلهم بالنور والمغفرة رواه ابن جرير (١) عنه.

وهذه الآية كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال : ٢٩] وقال سعيد بن عبد العزيز : سأل عمر بن الخطاب حبرا من أحبار اليهود كم أفضل ما ضعّفت لكم حسنة؟ قال كفل ثلاثمائة وخمسين حسنة ، قال فحمد الله عمر على أنه أعطانا كفلين ، ثم ذكر سعيد قول الله عزوجل : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) قال سعيد : والكفلان في الجمعة مثل ذلك ، رواه ابن جرير (٢). ومما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد (٣) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود ، ثم قال من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارى ، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم ، فغضبت النصارى واليهود وقالوا نحن أكثر عملا وأقل عطاء قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء».

قال أحمد (٤) وحدثناه مؤمل عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر نحو حديث نافع عنه انفرد بإخراجه البخاري (٥) فرواه عن سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب عن نافع به ، وعن قتيبة عن الليث عن نافع بمثله ، وقال البخاري (٦) : حدثني محمد بن العلاء حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل ، فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا ، فأبوا وتركوا واستأجر آخرين بعدهم فقال أكملوا بقية

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٩٦.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٦٩٤.

(٣) المسند ٢ / ٦.

(٤) المسند ٢ / ١١١.

(٥) كتاب الإجارة باب ٨.

(٦) كتاب الإجارة باب ١٠.

٦٤

يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه. فقال أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا. فاستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا له بقية يومهم حتى غابت الشمس ، فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور» انفرد به البخاري ولهذا قال تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء ما منع الله (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

قال ابن جرير (١) (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي ليعلم وقد ذكر عن ابن مسعود أنه قرأها لكي يعلم وكذا حطّان بن عبد الله وسعيد بن جبير. قال ابن جرير : لأن العرب تجعل لا صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح فالسابق كقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف : ١٢] (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩] بالله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [الأنبياء : ٩٥].

آخر تفسير سورة الحديد ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٩٧.

٦٥

تفسير سورة المجادلة

وهي مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(١)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقوله ، فأنزل الله عزوجل (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) (٢) إلى آخر الآية ، وهكذا رواه البخاري في كتاب التوحيد تعليقا فقال ، وقال الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة فذكره وأخرجه النسائي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير من غير وجه عن الأعمش به. وفي رواية لابن أبي حاتم عن الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة عن عائشة أنها قالت : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي تقول يا رسول الله أكل مالي وأفنى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، قالت فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

قالت : وزوجها أوس بن الصامت ، وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة هو أوس بن الصامت : وكان أوس امرءا به لمم ، فكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته ، وإذا ذهب لم يقل شيئا فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستفتيه في ذلك وتشتكي إلى الله ، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) الآية. وهكذا روى هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا كان به لمم فذكر مثله.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة ، حدثنا جرير يعني ابن حازم قال : سمعت أبا يزيد يحدث قال : لقيت امرأة عمر يقال لها : خولة بنت ثعلبة ، وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز ، قال ويحك وتدري من هذه؟ قال : لا. قال هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع

__________________

(١) المسند ٦ / ٤٦.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٩ ، والنسائي في الطلاق باب ٣٣ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٣.

٦٦

سموات ، هذه خولة بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضى حاجتها إلا أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حتى تقضى حاجتها. هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب وقد روي من غير هذا الوجه. وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى ، حدثنا زكريا عن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها خولة بنت الصامت وأمها معاذة التي أنزل الله فيها (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٣٣] صوابه خولة امرأة أوس بن الصامت.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سعد بن إبراهيم ويعقوب قالا : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني معمر بن عبد الله بن حنظلة عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، عن خويلة بنت ثعلبة قالت : فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة ، قالت : كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه ، قالت : فدخل علي يوما فراجعته بشيء ، فغضب فقال : أنت عليّ كظهر أمي. قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قالت : قلت كلا ، والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إلي ، وقد قلت ما قلت ، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه ، قالت : فواثبني ، فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني ، قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابا ، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه ، قالت : فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه».

قالت : فو الله ما برحت حتى نزل في القرآن ، فتغشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي : «يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا ـ ثم قرأ علي (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) قالت : فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مريه فليعتق رقبة» قالت : فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق ، قال «فليصم شهرين متتابعين» قالت : فقلت والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام قال «فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر» قالت : فقلت والله يا رسول الله

__________________

(١) المسند ٦ / ٤١٠ ، ٤١١.

٦٧

ما ذاك عنده ، قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فإنا سنعينه بعرق (١) من تمر» قالت : فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بعرق آخر قال «قد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرا» قالت : ففعلت.

ورواه أبو داود (٢) في كتاب الطلاق من سننه من طريقين عن محمد بن إسحاق بن يسار به ، وعنده خولة بنت ثعلبة ويقال فيها خولة بنت مالك بن ثعلبة ، وقد تصغر فيقال خويلة ، ولا منافاة بين هذه الأقوال فالأمر فيها قريب والله أعلم. هذا هو الصحيح في سبب نزول صدر هذه السورة ، فأما حديث سلمة بن صخر فليس فيه أنه كانت سبب النزول ولكن أمر بما أنزل الله في هذه السورة ، من العتق أو الصيام أو الإطعام ، كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر الأنصاري قال : كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري ، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر أن أنزع ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها ، فلما أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت : انطلقوا معي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره بأمري ، فقالوا : لا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا ، أو يقول فينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مقالة يبقى علينا عارها ، ولكن اذهب أنت ، فاصنع ما بدا لك.

قال : فخرجت حتى أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته خبري فقال لي «أنت بذاك» فقلت : أنا بذاك فقال «أنت بذاك» فقلت أنا بذاك قال «أنت بذاك» قلت نعم ، ها أنا ذا فأمض في حكم الله عزوجل فإني صابر له قال «أعتق رقبة» قال : فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت : لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها ، قال «فصم شهرين متتابعين» قلت : يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام قال «فتصدق» فقلت : والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشي ما لنا عشاء ، قال «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك» قال : فرجعت إلى قومي فقلت : وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ، ووجدت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم السعة والبركة قد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إليّ فدفعوها إليّ (٤) ، وهكذا رواه أبو داود وابن ماجة واختصره الترمذي وحسنه ، وظاهر السياق أن هذه القصة كانت بعد قصة أوس بن الصامت وزوجته خويلة بنت ثعلبة ، كما دل عليه سياق تلك وهذه بعد التأمل.

__________________

(١) العرق : زنبيل منسوج من الخوص.

(٢) كتاب الطلاق باب ١٧.

(٣) المسند ٤ / ٣٧.

(٤) أخرجه أبو داود في الطلاق باب ١٧ ، وابن ماجة في الطلاق باب ٢٥.

٦٨

قال خصيف عن مجاهد عن ابن عباس : أول من ظاهر من امرأته أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقا ، فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن أوسا ظاهر مني ، وإنا إن افترقنا هلكنا وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته ، وهي تشكو ذلك وتبكي ولم يكن جاء في ذلك شيء ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أتقدر على رقبة تعتقها» قال : لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها. قال : فجمع له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعتق عنه ثم راجع أهله ، رواه ابن جرير (١) ولهذا ذهب ابن عباس والأكثرون إلى ما قلناه والله أعلم. فقوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) أصل الظهار مشتق من الظهر ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا تظاهر أحد من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي ثم في الشرع كان الظهار في سائر الأعضاء قياسا على الظهر ، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقا فأرخص الله لهذه الأمة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم ، هكذا قال غير واحد من السلف.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن أبي حمزة عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية أنت علي كظهر أمي حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام أوس ، وكانت تحته ابنة عم له يقال لها خويلة بنت ثعلبة ، فظاهر منها فأسقط في يديه ، وقال ما أراك إلا قد حرمت علي وقالت له مثل ذلك ، قال : فانطلقي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجدت عنده ماشطة تمشط رأسه فقال : «يا خويلة» ما أمرنا في أمرك بشيء ، فأنزل الله على رسوله فقال : «يا خويلة أبشري» قالت : خيرا ـ فقرأ عليها (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) قالت : وأي رقبة لنا والله ما يجد رقبة غيري قال (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) قالت : والله لو لا أنه يشرب في اليوم ثلاث مرات لذهب بصره قال : (فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) قالت : من أين ما هي إلا أكلة إلي مثلها ، قال : فدعا بشطر وسق ثلاثين صاعا والوسق ستون صاعا فقال : ليطعم ستين مسكينا وليراجعك وهذا إسناد قوي وسياق غريب ، وقد روي عن أبي العالية نحو هذا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الرّحمن الهروي ، حدثنا علي بن العاصم عن داود بن أبي هند عن أبي العالية قال : كانت خولة بنت دليج تحت رجل من الأنصار ، وكان ضرير البصر فقيرا سيئ الخلق ، وكان طلاق أهل الجاهلية إذا أراد رجل أن يطلق امرأته قال :

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤.

٦٩

أنت علي كظهر أمي ، وكان لها منه عيل أو عيلان فنازعته يوما في شيء فقال : أنت علي كظهر أمي ، فاحتملت عليها ثيابها حتى دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في بيت عائشة ، وعائشة تغسل شق رأسه فقدمت عليه ومعها عيلها ، فقالت : يا رسول الله إن زوجي ضرير البصر فقير لا شيء له سيئ الخلق ، وإني نازعته في شيء ، فغضب فقال : أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق ، ولي منه عيل أو عيلان فقال : «ما أعلمك إلا قد حرمت عليه».

فقالت : أشكو إلى الله ما نزل بي أنا وصبيتي ، قالت : ودارت عائشة فغسلت شق رأسه الآخر ، فدارت معها فقالت : يا رسول الله زوجي ضرير البصر فقير سيئ الخلق وإن لي منه عيلا أو عيلان وإني نازعته في شيء فغضب وقال : أنت علي كظهر أمي ولم يرد به الطلاق ، قالت : فرفع إلي رأسه وقال : «ما أعلمك إلا قد حرمت عليه» فقالت : أشكو إلى الله ما نزل بي أنا وصبيتي قال : ورأت عائشة وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تغير ، فقالت لها : وراءك وراءك فتنحت ، فمكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غشيانه ذلك ما شاء الله ، فلما انقطع الوحي قال : يا عائشة أين المرأة فدعتها ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهبي فأتيني بزوجك» فانطلقت تسعى ، فجاءت به فإذا هو كما قالت ضرير البصر فقير سيئ الخلق.

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أستعيذ بالله السميع العليم (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) ـ إلى قوله ـ (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتجد رقبة تعتقها من قبل أن تمسها» قال لا ، قال : «أفلا تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟» قال : والذي بعثك بالحق إني إذا لم آكل المرتين والثلاث يكاد يعشو بصري. قال : «أفتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟» قال : لا ، إلا أن تعينني. قال : فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أطعم ستين مسكينا» قال : وحول الله الطلاق فجعله ظهارا ، ورواه ابن جرير (١) عن ابن المثنى عن عبد الأعلى عن داود سمعت أبا العالية فذكر نحوه بأخصر من هذا السياق ، وقال سعيد بن جبير : كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية ، فوقت الله الإيلاء أربعة أشهر وجعل في الظهار الكفارة ، رواه ابن أبي حاتم بنحوه ، وقد استدل الإمام مالك على أن الكافر لا يدخل في هذه الآية بقوله (مِنْكُمْ) فالخطاب للمؤمنين ، وأجاب الجمهور بأن هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، واستدل الجمهور عليه بقوله : (مِنْ نِسائِهِمْ) على أن الأمة لإظهار منها ولا تدخل في هذا الخطاب.

وقوله تعالى : (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت علي كأمي أو مثل أمي أو كظهر أمي وما أشبه ذلك ، لا تصير أمه بذلك إنما أمه التي ولدته ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أي كلاما فاحشا باطلا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٣.

٧٠

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي عما كان منكم في حال الجاهلية ، وهكذا أيضا عما خرج من سبق اللسان ، ولم يقصد إليه المتكلم ، كما رواه أبو داود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقول لامرأته يا أختي ، فقال : «أختك هي؟» فهذا إنكار ، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده ولو قصده لحرمت عليه لأنه لا فرق على الصحيح بين الأم وبين غيرها من سائر المحارم من أخت وعمة وخالة وما أشبه ذلك.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره ، وهذا القول باطل وهو اختيار ابن حزم وقول داود وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن بكير بن الأشج والفراء وفرقة من أهل الكلام ، وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق ، وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة ، وقد حكي عن مالك أنه العزم على الجماع والإمساك ، وعنه أنه الجماع ، وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فمتى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريما لا يرفعه إلا الكفارة ، وإليه ذهب أصحابه والليث بن سعد وقال ابن لهيعة : حدثني عطاء عن سعيد بن جبير (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم.

وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأسا أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفر ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) والمس النكاح ، وكذا قال عطاء والزهري وقتادة ومقاتل بن حيان ، وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر.

وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال : يا رسول الله ، إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر. فقال : «ما حملك على ذلك يرحمك الله» قال :

رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال : «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزوجل» (١) ، وقال الترمذي : حسن غريب صحيح ، ورواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة مرسلا ، قال النسائي : وهو أولى بالصواب.

وقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فههنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي رحمه‌الله ما أطلق هاهنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب وهو عتق الرقبة ، واعتضد في ذلك بما رواه عن مالك بسنده

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الطلاق باب ١٧ ، والترمذي في الطلاق باب ١٩ ، وابن ماجة في الطلاق باب ٢٥ ، والنسائي في الطلاق باب ٣٣.

٧١

عن معاوية بن الحكم السلمي في قصة الجارية السوداء ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعتقها فإنها مؤمنة» (١) وقد رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا يوسف بن موسى ، حدثنا عبد الله بن نمير عن إسماعيل بن يسار عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس ، قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل فقال إني تظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم يقل الله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) قال : أعجبتني ، قال : «أمسك حتى تكفر» ثم قال البزار : لا يروى عن ابن عباس بأحسن من هذا ، وإسماعيل بن مسلم تكلم فيه وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم ، وفيه من الفقه أنه لم يأمره إلا بكفارة واحدة.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) أي تزجرون به (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي خبير بما يصلحكم عليم بأحوالكم ، وقوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) قد تقدمت الأحاديث الواردة بهذا على الترتيب كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي شرعنا هذا لهذا. وقوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي محارمه فلا تنتهكوها. وقوله تعالى : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي الذين لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة ، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء كلا ليس الأمر كما زعموا بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٧)

يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه (كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلا كافر فاجر مكابر (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله والانقياد له والخضوع لديه.

ثم قال تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) وذلك يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) أي ضبطه الله وحفظه عليهم وهم قد نسوا ما كانوا عملوا (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٣٣ ، ومالك في العتق حديث ٨ ، ٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ٤٤٧.

٧٢

أي لا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى شيئا.

ثم قال تعالى مخبرا عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) أي من سر ثلاثة (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به مع علم الله به وسمعه لهم ، كما قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التوبة : ٧٨] وقال تعالى: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) [الزخرف : ٨٠] ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك ، ولكن سمعه أيضا مع علمه بهم محيط بهم وبصره نافذ فيهم فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ، ثم قال تعالى (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وقال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(١٠)

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) قال اليهود (١) ، وكذا قال مقاتل بن حيان وزاد : كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين اليهود موادعة ، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلسوا يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن ، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم ، فنهاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثني سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن ربيح بن عبد الرّحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه عن جده قال : كنا نتناوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيت عنده يطرقه من الليل أمر وتبدو له حاجة فلما كانت ذات ليلة كثر أهل النوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث ، فخرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما هذه النجوى؟ ألم تنهوا عن النجوى؟» قلنا : تبنا إلى الله يا رسول الله ، إنا كنا في ذكر المسيح فرقا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ١٤.

٧٣

منه. فقال : «ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟» قلنا : بلى يا رسول الله! قال : «الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» هذا إسناد غريب وفيه بعض الضعفاء.

وقوله تعالى : (وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي يتحدثون فيما بينهم (بِالْإِثْمِ) وهو ما يختص بهم (وَالْعُدْوانِ) وهو ما يتعلق بغيرهم ، ومنه معصية الرسول ومخالفته يصرون عليها ويتواصون بها وقوله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت : دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقالت عائشة : وعليكم السام قالت : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش» قلت : ألا تسمعهم يقولون السام عليك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أو ما سمعت أقول وعليكم» (١) فأنزل الله تعالى : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنة ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا» (٢).

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي ، فسلم عليهم فردوا عليه فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هل تدرون ما قال؟» قالوا سلم يا رسول الله قال «بل قال سام عليكم» أي تسامون دينكم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ردوه» فردوه عليه فقال نبي الله «أقلت سام عليكم؟» قال : نعم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك» أي عليك ما قلت ، وأصل حديث أنس مخرج في الصحيح وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة بنحوه.

وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي يفعلون هذا ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السّلام وإنما هو شتم في الباطن ، ومع هذا يقولون في أنفسهم لو كان هذا نبيا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبيا حقا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا فقال الله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة (يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر ، أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سام عليك ، ثم يقولون في أنفسهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ)؟ فنزلت هذه الآية (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٣٥ ، ومسلم في السّلام حديث ١٠ وأحمد في المسند ٦ / ٢٢٩.

(٢) أخرجه البخاري في الأدب باب ٣٨ ، ومسلم في السّلام حديث ١١ ، ١٣.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ١٥.

(٤) المسند ٢ / ١٧٠.

٧٤

وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) إسناد حسن ولم يخرجوه.

وقال العوفي عن ابن عباس (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) قال : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حيوه سام عليك ، قال الله تعالى : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ثم قال الله تعالى مؤدبا عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين (وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا بهز وعفان قالا : أخبرنا همام عن قتادة عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل فقال كيف سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» (٢) أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة.

ثم قال تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما النجوى وهي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءا (مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ليسوءهم وليس ذلك بضارهم شيئا إلا بإذن الله ومن أحسّ من ذلك شيئا فليستعذ بالله وليتوكل على الله فإنه لا يضره شيء بإذن الله.

وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن ، كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا وكيع وأبو معاوية قالا : حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه» (٤) اخرجاه من حديث الأعمش وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه» (٥)

__________________

(١) المسند ٢ / ٧٤ ، ١٠٥.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ١ ، ومسلم في التوبة حديث ١٠.

(٣) المسند ١ / ٤٣١ ، ٤٣٢.

(٤) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ٤٧ ، ومسلم في السّلام حديث ٣٧.

(٥) أخرجه مسلم في السّلام حديث ٣٨.

٧٥

انفرد بإخراجه مسلم عن أبي الربيع وأبي كامل ، كلاهما عن حماد بن زيد عن أيوب به.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(١١)

يقول تعالى مؤدبا عباده المؤمنين وآمرا لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) وقرئ «في المجلس» (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل كما جاء في الحديث الصحيح : «من بنى لله مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» (١) وفي الحديث الآخر : «ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» (٢) ولهذا أشباه كثيرة ، ولهذا قال تعالى : (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) قال قتادة: نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضنوه بمجالسهم عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض (٣).

وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوه إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يحملهم على القيام فلم يفسح لهم ، فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : «قم يا فلان وأنت يا فلان» فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه وعرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيهم فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فبلغنا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله رجلا فسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية يوم الجمعة. رواه ابن أبي حاتم.

وقد قال الإمام أحمد والشافعي حدثنا سفيان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا» (٤)

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٢٤ ، ٢٥.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٣٨.

(٣) انظر تفسير الطبري ١٢ / ١٨.

(٤) أخرجه البخاري في الجمعة باب ٢٠ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧ ، ٢٢ ، ١٠٢.

٧٦

وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع به. وقال الشافعي : أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال : قال سليمان بن موسى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا» على شرط السنن ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا فليح عن أيوب بن عبد الرّحمن بن أبي صعصعة عن يعقوب بن أبي يعقوب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن افسحوا يفسح الله لكم» ورواه أيضا عن سريج بن يونس ويونس بن محمد المؤدب عن فليح به ولفظه : «لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ولكن افسحوا يفسح الله لكم» تفرد به أحمد (٢).

وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجا بحديث «قوموا إلى سيدكم» (٣) ومنهم من منع من ذلك محتجا بحديث «من أحب أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار» (٤) ومنهم من فصل فقال يجوز عند القدوم من سفر وللحاكم في محل ولايته ، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ، فإنه لما استقدمه النبي حاكما في بني قريظة فرآه مقبلا قال للمسلمين «قوموا إلى سيدكم» وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك.

وفي الحديث المروي في السنن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره ، وبين يديه غالبا عثمان وعلي لأنهما كانا ممن يكتب الوحي ، وكان يأمرهما بذلك كما رواه مسلم من حديث الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر عن أبي مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ، ثم الذي يلونهم» (٥) وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر ، إما لتقصير أولئك في حق البدريين أو ليأخذ البدريون من العلم نصيبهم ، كما أخذ أولئك قبلهم أو

__________________

(١) المسند ٢ / ٥٢٣.

(٢) المسند ٢ / ٣٣٨ ، ٤٣٨.

(٣) أخرجه البخاري في العتق باب ١٧ ، والاستئذان باب ٢٦ ، وأبو داود في الأدب باب ١٤٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٢ ، ٧١ ، ٦ / ١٤٢.

(٤) أخرجه الترمذي في الأدب باب ١٣ ، ولفظه : «من سرّه أن يتمثل له الرجال قياما».

(٥) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١٢٢ ، ١٢٣ ، وأبو داود في الصلاة باب ٩٥ ، والترمذي في المواقيت باب ٥٤ ، والنسائي في الإمامة باب ٢٣ ، ٢٦ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٤٥ ، والدارمي في الصلاة باب ٥١ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٥٧.

٧٧

تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمارة بن عمير التيمي عن أبي معمر عن أبي مسعود قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول : «استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ، ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» قال أبو مسعود : فأنتم اليوم أشد اختلافا (٢) ، وكذا رواه مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طرق عن الأعمش به ، وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء منهم والعلماء فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.

وروى أبو داود من حديث معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشياطين ومن وصل صفا وصله الله ، ومن قطع صفا قطعه الله» (٣) ولهذا كان أبي بن كعب سيد القراء إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلا يكون من أفناء الناس ، ويدخل هو في الصف المتقدم ويحتج بهذا الحديث : «ليليني منكم أولو الأحلام والنهى».

وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه ، ولنقتصر على هذا المقدار من الأنموذج المتعلق بهذه الآية ، وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع. وفي الحديث الصحيح : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها ، وأما الآخر فجلس وراء الناس ، وأدبر الثالث ذاهبا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بخبر الثلاثة ، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه» (٤).

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عتاب بن زياد أخبرنا عبد الله ، أخبرنا أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما» (٦) ورواه أبو داود والترمذي من حديث أسامة بن زيد الليثي به وحسنه الترمذي وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى : (إِذا

__________________

(١) المسند ٤ / ١٢٢.

(٢) انظر الحاشية ما قبل الأخيرة.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٩٣.

(٤) أخرجه البخاري في العلم باب ٨ ، ومسلم في السّلام حديث ٢٦ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢١٩.

(٥) المسند ٢ / ٢١٣.

(٦) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٢١ ، والترمذي في الأدب باب ١١.

٧٨

قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) يعني في مجالس الحرب قالوا : ومعنى قوله : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي انهضوا للقتال. وقال قتادة (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا وقال مقاتل إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم كانوا إذا كانوا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بيته فأرادوا الانصراف ، أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده ، فربما يشق ذلك عليه ، عليه‌السلام وقد تكون له الحاجة فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا كقوله تعالى : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) [النور : ٢٨].

وقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي لا تعتقدوا أنه إذا أفسح أحد منكم لأخيه إذا أقبل أو إذا أمر بالخروج فخرج ، أن يكون ذلك نقصا في حقه بل هو رفعة ورتبة عند الله ، والله تعالى لا يضيع ذلك له ، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره ، ولهذا قال تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو كامل حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى قال : وما ابن أبزى فقال : رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض قاض ، فقال عمر رضي الله عنه : أما إن نبيكمصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما ويضع به آخرين» وهكذا رواه مسلم (٢) من غير وجه عن الزهري به ، وروي من غير وجه عن عمر بنحوه ، وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاة في شرح كتاب العلم من صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)(١٣)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي يسارّه فيما بينه وبينه ، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ، ولهذا قال

__________________

(١) المسند ١ / ٣٥.

(٢) كتاب المسافرين حديث ٢٦٩.

٧٩

تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثم قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أي إلا من عجز عن ذلك لفقره (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فما أمر بها إلا من قدر عليها. ثم قال تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) أي أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فنسخ وجوب ذلك عنهم ، وقد قيل إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : نهوا عن مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب قدم دينارا صدقة تصدق به ، ثم ناجى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله عن عشر خصال ثم أنزلت الرخصة ، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال علي رضي الله عنه : آية في كتاب اللهعزوجل لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، ثم تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) الآية.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن عثمان بن المغيرة عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى ، دينار؟» قال : لا يطيقون. قال «نصف دينار» قال : لا يطيقون. قال «ما ترى»؟ قال : شعيرة. فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنك لزهيد» قال : فنزلت (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) قال علي : فبي خفف الله عن هذه الأمة.

ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن يحيى بن آدم عن عبيد الله الأشجعي ، عن سفيان الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن سالم بن أبي الجعد عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) إلى آخرها قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما ترى ، دينار» قلت : لا يطيقونه(٢) وذكره بتمامه مثله ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من هذا الوجه ، ثم قال : ومعنى قوله شعيرة يعني وزن شعيرة من ذهب ، ورواه أبو يعلى عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن آدم به.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) ـ إلى ـ (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). كان المسلمون يقدمون بين يدي

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٢١.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٨ ، باب ٢.

٨٠