تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم أبدا محالك

قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حلقة الباب ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال ، وذكر مقاتل بن سلمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة لعل بعض الجيش ينال منها شيئا بغير حق فينتقم الله منهم ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله ، وكان اسمه محمودا ، وعبأ جيشه فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ، ثم أخذ بإذنه وقال : ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل إذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه فنزعوه بها ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك.

وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس ولا يصيب منهم أحدا إلا هلك. وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق ، هذا ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة ، وجعل نفيل يقول : [رجز]

أين المفرّ والإله الطالب

والأشرم المغلوب ليس الغالب (١)

قال ابن إسحاق وقال نفيل في ذلك أيضا : [الوافر]

ألا حيّيت عنا يا ردينا

نعمناكم مع الإصباح عينا

ودينة لو رأيت ولا تريه

لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتني وحمدت أمري

ولم تأس على ما فات بينا

حمدت الله إذ أبصرت طيرا

وخفت حجارة تلقى علينا

فكل القوم تسأل عن نفيل

كأن علي للحبشان دينا

وذكر الواقدي بإسناده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب فيها ، فإذا وجهوه إلى الحرم ربض وصاح ، وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ليقهر الفيل على دخول الحرم ، وطال الفصل في ذلك ، هذا

__________________

ـ (غدا)

(١) الرجز لنفيل بن حبيب الحميري في الدرر ٦ / ١٤٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٠٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٢٣ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٦٩٨ ، وسيرة ابن هشام ١ / ٥٣ ، وبلا نسبة في الجنى الداني ص ٤٩٨ ، ومغني اللبيب ص ٢٩٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٣٨.

٤٦١

وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة فيهم المطعم بن عدي وعمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم ومسعود بن عمرو الثقفي على حراء ينظرون ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل وهو العجب العجاب ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم طيرا أبابيل أي قطعا قطعا صفرا دون الحمام وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاثة أحجار وجاءت فحلقت عليهم وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا.

وقال محمد بن كعب جاءوا بفيلين فأما محمود فربض وأما الآخر فشجع فحصب.

وقال وهب بن منبه : كان معهم فيلة فأما محمود وهو فيل الملك فربض ليقتدي به بقية الفيلة ، وكان فيها فيل تشجع فحصب فهربت بقية الفيلة. وقال عطاء بن يسار وغيره. ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة بل منهم من هلك سريعا ومنهم من جعل يتساقط عضوا عضوا وهم هاربون ، وكان أبرهة ممن تساقط عضوا عضوا حتى مات ببلاد خثعم وقال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون.

وذكر مقاتل بن سليمان أن قريشا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم وما كان معهم ، وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة. قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رؤي به مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام ، وهكذا روي عن عكرمة من طريق جيد.

قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله ما رد عنهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ... (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش : ١ ـ ٤] أي لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه.

قال ابن هشام (١) : الأبابيل الجماعات ولم تتكلم العرب بواحدة. قال : وأما السجيل فأخبرني يونس النحوي وأبو عبيدة أنه عند العرب الشديد الصلب. قال : وذكر بعض المفسرين أنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنما هو سنج وجل يعني بالسنج الحجر والجل الطين. يقول الحجارة من هذين الجنسين الحجر والطين. قال : والعصف ورق الزرع الذي لم يقضب واحدته عصفة ، انتهى ما ذكره.

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٥٥.

٤٦٢

وقد قال حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله وأبو سلمة بن عبد الرّحمن (طَيْراً أَبابِيلَ) قال الفرق ، وقال ابن عباس والضحاك : أبابيل يتبع بعضها بعضا. وقال الحسن البصري وقتادة : الأبابيل الكثيرة. وقال مجاهد : أبابيل شتى متتابعة مجتمعة وقال ابن زيد الأبابيل المختلفة تأتي من هاهنا ومن هاهنا أتتهم من كل مكان ، وقال الكسائي : سمعت بعض النحويين يقول : واحد الأبابيل إبيل.

وقال ابن جرير (١) : حدثني عبد الأعلى ، حدثني داود عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه قال في قوله تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) هي الأقاطيع كالإبل المؤبلة ، وحدثنا أبو كريب : حدثنا وكيع عن ابن عون عن ابن سيرين عن ابن عباس (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) قال : لهم خراطيم كخراطيم الطير وأكف كأكف الكلب. وحدثنا يعقوب بن إبراهيم : حدثنا هشيم ، أخبرنا حصين عن عكرمة في قوله تعالى : (طَيْراً أَبابِيلَ). قال : كانت طيرا خضرا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع وحدثنا ابن بشار : حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير (طَيْراً أَبابِيلَ) قال : هي طيور سود بحرية في مناقيرها وأظافرها الحجارة (٢) ، وهذه أسانيد صحيحة.

وقال سعيد بن جبير : كانت طيرا خضرا لها مناقير صفر تختلف عليهم ، وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مغرب (٣). ورواه عنهم ابن أبي حاتم : وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي شيبة ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي سفيان عن عبيد بن عمير قال : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيرا أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار مجزعة حجرين في رجليه وحجرا في منقاره ، قال : فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما يقع حجر على رأس رجل إلا خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده إلا خرج من الجانب الآخر ، وبعث الله ريحا شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعا ، وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس : حجارة من سجيل ، قال طين في حجارة سنك وكل وقد قدمنا بيان ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) قال سعيد بن جبير : يعني التبن الذي تسميه العامة هبور ، وفي رواية عن سعيد : ورق الحنطة ، وعنه أيضا : العصف التبن والمأكول القصيل يجز للدواب ، وكذلك قال الحسن البصري ، وعن ابن عباس : العصف القشرة التي على الحبة

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٩٢ ، وفيه : حدثني ابن المثنى ، قال : ثني عبد الأعلى.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٢ / ٦٩٣.

(٣) العنقاء المغرب : طائر من طيور الأساطير ، مجهول الشكل ، لم يره أحد والعرب تكنى به عن الداهية ، والمغرب : المبعد في البلاد.

٤٦٣

كالغلاف على الحنطة.

وقال ابن زيد : العصف ورق الزرع وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته فصار درينا والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمرهم وردّهم بكيدهم وغيظهم ، لم ينالوا خيرا ، وأهلك عامتهم ولم يرجع منهم مخبر إلا وهو جريح كما جرى لملكهم أبرهة فإنه انصدع صدره عن قلبه حين وصل إلى بلده صنعاء ، وأخبرهم بما جرى لهم ثم مات فملك بعده ابنه يكسوم ثم من بعده أخوه مسروق بن أبرهة ، ثم خرج سيف بن ذي يزن الحميري إلى كسرى فاستعانه على الحبشة فأنفذ معه من جيوشه فقاتلوا معه فرد لله إليهم ملكهم ، وما كان في آبائهم من الملك وجاءته وفود العرب للتهنئة ، وقد قال محمد بن إسحاق : حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرّحمن بن أسعد بن زرارة عن عائشة قالت : لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان ورواه الواقدي عن عائشة مثله ، ورواه أيضا عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : كانا مقعدين يستطعمان الناس عند إساف ونائلة حيث يذبح المشركون ذبائحهم.

(قلت) : كان اسم قائد الفيل أنيسا. وقد ذكر الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن عثمان بن المغيرة قصة أصحاب الفيل ، ولم يذكر أن أبرهة قدم من اليمن وإنما بعث على الجيش رجلا يقال له شمر بن مقصود ، وكان الجيش عشرين ألفا ، وذكر أن الطير طرقتهم ليلا فأصبحوا صرعى ، وهذا السياق غريب جدا وإن كان أبو نعيم قد قواه ورجحه على غيره ، والصحيح أن أبرهة الأشرم الحبشي قدم مكة كما دل على ذلك السياقات والأشعار ، وهكذا روي عن ابن لهيعة عن الأسود عن عروة أن أبرهة بعث الأسود بن مقصود على كتيبة معهم الفيل ، ولم يذكر قدوم أبرهة نفسه ، والصحيح قدومه ولعل ابن مقصود كان على مقدمة الجيش والله أعلم. ثم ذكر ابن إسحاق (١) شيئا من أشعار العرب فيما كان من قصة أصحاب الفيل فمن ذلك شعر عبد الله بن الزبعرى : [الطويل]

تنكلوا عن بطن مكة إنها

كانت قديما لا يرام حريمها

لم تخلق الشعرى ليالي حرمت

إذ لا عزيز من الأنام يرومها

سائل أمير الجيش عنها ما رأى

فلسوف ينبي الجاهلين عليمها

ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم

بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

كانت بها عاد وجرهم قبلهم

والله من فوق العباد يقيمها

وقال أبو قيس بن الأسلت الأنصاري المري : [المتقارب]

ومن صنعه يوم فيل الحبوش

إذ كل ما بعثوه رزم (٢)

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٥٨.

(٢) الأبيات في ديوان أمية بن أبي الصلت ص ٥٧ ، والبيت الأخير بلا نسبة في لسان العرب (ثأج) ، وتاج ـ

٤٦٤

محاجنهم تحت أقرابه

وقد شرموا أنفه فانخرم

وقد جعلوا سوطه مغولا

إذا يمموه قفاه كلم

فولى وأدبر أدراجه

وقد باء بالظلم من كان ثم

فأرسل من فوقهم حاصبا

يلفهم مثل لف القزم

يحض على الصبر أحبارهم

وقد ثأجوا كثؤاج الغنم

وقال أبو الصلت بن ربيعة الثقفي ، ويروى لأمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة : [الخفيف]

إن آيات ربنا باقيات

ما يماري فيهن إلا الكفور (١)

خلق الليل والنهار فكل

مستبين حسابه مقدور

ثم يجلو النهار رب رحيم

بمهاة شعاعها منشور

حبس الفيل بالمغمّس حتى

صار يحبو كأنه معقور

لازما حلقه الجران كما قطر

من ظهر كبكب محذور

حوله من ملوك كندة أبطال

ملاويث في الحروب صقور

خلفوه ثم ابذعروا جميعا

كلهم عظم ساقه مكسور

كل دين يوم القيامة عند

الله إلا دين الحنيفة بور

وقد قدمنا في تفسير سورة الفتح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش بركت ناقته فزجروها فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء أي حرنت ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل ـ ثم قال ـ والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها» ثم زجرها فقامت (٢). والحديث من أفراد البخاري وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم فتح مكة : «إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ألا فليبلغ الشاهد الغائب» (٣).

آخر تفسير سورة الفيل ، ولله الحمد والمنة.

__________________

ـ العروس (ثأج)

(١) الأبيات في ديوان أمية بن أبي الصلت ص ٣٨ ، والبيت الثالث في لسان العرب (مها) ، وتاج العروس (مها) ، وبلا نسبة في المخصص ٩ / ٢١ ، ورواية الديوان «ثم يجلو الظلام» بدل «ثم يجلو النهار».

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد باب ٥٩.

(٣) أخرجه البخاري في العلم باب ٣٩ ، ومسلم في الحج حديث ٤٤٧ ، ٤٤٨.

٤٦٥

تفسير سورة قريش

وهي مكية

[ذكر حديث غريب في فضلها] قال البيهقي في كتاب الخلافيات : حدثنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي بمرو ، حدثنا أحمد بن عبد الله المديني ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن ثابت بن شرحبيل ، حدثني عثمان بن عبد الله أبي عتيق عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة عن أبيه عن جدته أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضل الله قريشا بسبع خلال : إني منهم وإن النبوة فيهم والحجابة والسقاية فيهم ، وإن الله نصرهم على الفيل ، وإنهم عبدوا الله عزوجل عشر سنين لا يعبده غيرهم ، وإن الله أنزل فيهم سورة من القرآن ـ ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ(٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) (٤)

هذه السورة مفصولة عن التي قبلها في المصحف الإمام كتبوا بينهما سطر بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وإن كانت متعلقة بما قبلها كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، لأن المعنى عندهما حبسنا عن مكة الفيل وأهلكنا أهله (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) أي لائتلافهم واجتماعهم في بلدهم آمنين ، وقيل المراد بذلك ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك ، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم لعظمتهم عند الناس لكونهم سكان حرم الله ، فمن عرفهم احترمهم بل من صوفي إليهم وسار معهم أمن بهم ، وهذا حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتائهم وصيفهم ، وأما في حال إقامتهم في البلد فكما قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] ولهذا قال تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ) بدل من الأول ومفسر له ولهذا قال تعالى : (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ).

قال ابن جرير (١) : الصواب أن اللام لام التعجب كأنه يقول اعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك ، قال وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧٠١.

٤٦٦

ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فليوحدوه بالعبادة كما جعل لهم حرما آمنا وبيتا محرما كما قال تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [النمل : ٩١] وقوله تعالى : (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي هو رب البيت ، وهو الذي أطعمهم من جوع (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي تفضل عليهم بالأمن والرخص فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنما ولا ندا ولا وثنا ، ولهذا من استجاب لهذا الأمر جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه كما قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ) [النحل : ١١٢ ـ ١١٣].

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن عمرو العدني حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ويل لكم قريش لإيلاف قريش» ثم قال : حدثنا أبي حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني حدثنا عيسى يعني ابن يونس عن عبيد الله بن أبي زياد عن شهر بن حوشب عن أسامة بن زيد قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) ويحكم يا معشر قريش اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف» هكذا رأيته عن أسامة بن زيد وصوابه عن أسماء بنت يزيد بن السكن أم سلمة الأنصارية رضي الله عنها فلعله وقع غلط في النسخة أو في أصل الرواية والله أعلم.

آخر تفسير سورة لإيلاف قريش ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الماعون

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ)(٧)

يقول تعالى : أرأيت يا محمد الذي يكذب بالدين وهو المعاد والجزاء والثواب (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي هو الذي يقهر اليتيم ويظلمه حقه ولا يطعمه ولا يحسن إليه (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) كما قال تعالى : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) [الفجر : ١٧ ـ ١٨] يعني الفقير الذي لا شيء له يقوم بأوده وكفايته ، ثم قال

٤٦٧

تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال ابن عباس وغيره : يعني المنافقين الذين يصلون في العلانية ولا يصلون في السر ولهذا قال : (لِلْمُصَلِّينَ) الذين هم من أهل الصلاة وقد التزموا بها ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية كما قاله ابن عباس ، وإما عن فعلها في الوقت المقدر لها شرعا فيخرجها عن وقتها بالكلية ، كما قاله مسروق وأبو الضحى.

وقال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ولم يقل في صلاتهم ساهون ، وإما عن وقتها الأول فيؤخرونها إلى آخره دائما أو غالبا ، وإما عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به ، وإما عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل ذلك كله ولكن من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية ، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها وكمل له النفاق العملي.

كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» (١) فهذا آخر صلاة العصر التي هي الوسطى كما ثبت به النص إلى آخر وقتها ، وهو وقت الكراهة ، ثم قام إليها فنقرها نقر الغراب لم يطمئن ولا خشع فيها أيضا ، ولهذا قال لا يذكر الله فيها إلا قليلا ، ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس لا ابتغاء وجه الله ، فهو كما إذا لم يصل بالكلية. قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ١٤٢] وقال تعالى هاهنا : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ).

وقال الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الله بن عبدويه البغدادي ، حدثني أبي ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن يونس عن الحسن عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في جهنم لواديا تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة أعد ذلك للمرائين من أمة محمد لحامل كتاب الله وللمصدق في غير ذات الله وللحاج إلى بيت الله وللخارج في سبيل الله».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة قال كنا جلوسا عند أبي عبيدة ، فذكروا الرياء فقال رجل يكنى بأبي يزيد : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من سمّع الناس بعمله سمع الله به سامع خلقه وحقره وصغره» ورواه أيضا عن غندر ويحيى القطان عن شعبة عن عمرو بن مرة عن رجل عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ١٩٥ ، وأبو داود في الصلاة باب ٥ ، والترمذي في المواقيت باب ٦ ، والنسائي في المواقيت باب ٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٤٩.

(٢) المسند ٢ / ١٦٢ ، ١٩٥ ، ٢١٢ ، ٢٢٣ ، ٢٢٤.

٤٦٨

فذكره ، ومما يتعلق بقوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أن من عمل عملا لله فأطلع عليه الناس فأعجبه ذلك أن هذا لا يعد رياء ، والدليل على ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا مخلد بن يزيد ، حدثنا سعيد بن بشير ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنت أصلي فدخل علي رجل فأعجبني ذلك ، فذكرته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «كتب لك أجران : أجر السر وأجر العلانية».

قال أبو علي هارون بن معروف بلغني أن ابن المبارك قال نعم الحديث للمرائين ، وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، وسعيد بن بشير متوسط ، وروايته عن الأعمش عزيزة ، وقد رواه غيره عنه ، قال أبو يعلى أيضا : حدثنا محمد بن المثنى بن موسى ، حدثنا أبو داود ، حدثنا أبو سنان عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رجل : يا رسول الله الرجل يعمل العمل يسره ، فإذا اطلع عليه أعجبه قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «له أجران أجر السر وأجر العلانية» (١). وقد رواه الترمذي عن محمد بن المثنى وابن ماجة عن بندار كلاهما عن أبي داود الطيالسي عن أبي سنان الشيباني ، واسمه ضرار ابن مرة ، ثم قال الترمذي غريب وقد رواه الأعمش وغيره عن حبيب عن أبي صالح مرسلا.

وقد قال أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثني أبو كريب ، حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان النحوي عن جابر الجعفي ، حدثني رجل عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : «الله أكبر هذا خير لكم من أن لو أعطي كل رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلّى لم يرج خير صلاته وإن تركها لم يخف ربه» فيه جابر الجعفي وهو ضعيف وشيخه مبهم لم يسم ، والله أعلم.

وقال ابن جرير (٣) أيضا : حدثني زكريا بن أبان المصري ، حدثنا عمرو بن طارق ، حدثنا عكرمة بن إبراهيم حدثني عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد عن سعد بن أبي وقاص قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قال : «هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها» قلت : وتأخير الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية ويحتمل صلاتها بعد وقتها شرعا أو تأخيرها عن أول الوقت ، وكذا رواه الحافظ أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن عكرمة بن إبراهيم به ، ثم رواه عن أبي الربيع عن جابر عن عاصم عن مصعب عن أبيه موقوفا : سهوا عنها حتى ضاع الوقت ، وهذا أصح إسنادا وقد ضعف البيهقي رفعه وصحح وقفه وكذلك الحاكم.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٤٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ٢٥.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٧٠٨.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٧٠٨.

٤٦٩

وقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي لا أحسنوا عبادة ربهم ولا أحسنوا إلى خلقه حتى ولا بإعارة ما ينتفع به ، ويستعان به مع بقاء عينه ورجوعه إليهم ، فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى ، وقد قال ابن أبي نجيح عن مجاهد قال علي : الماعون الزكاة ، وكذا رواه السدي عن أبي صالح عن علي ، وكذا روي من غير وجه عن ابن عمر ، وبه يقول محمد بن الحنيفة وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وعطاء وعطية العوفي ، والزهري والحسن وقتادة والضحاك وابن زيد ، وقال الحسن البصري : إن صلّى راءى وإن فاتته لم يأس عليها ويمنع زكاة ماله وفي لفظ صدقة ماله.

وقال زيد بن أسلم : هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلوها ، وضمنت الزكاة فمنعوها. وقال الأعمش وشعبة عن الحكم عن يحيى بن الجزار أن أبا العبيدين سأل عبد الله بن مسعود عن الماعون فقال : هو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر. وقال المسعودي عن سلمة بن كهيل عن أبي العبيدين أنه سئل ابن مسعود عن الماعون فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك.

وقال ابن جرير (١) : حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن أبي العبيدين وسعد بن عياض عن عبد الله قال : كنا أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نتحدث أن الماعون الدلو والفأس والقدر لا يستغنى عنهن ، وحدثنا خلاد بن أسلم ، أخبرنا النضر بن شميل ، أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق قال : سمعت سعد بن عياض يحدث عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثله وقال الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن سويد عن عبد الله أنه سئل عن الماعون فقال : ما يتعاوره الناس بينهم الفأس والدلو وشبهه.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا عمرو بن علي الفلاس ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا أبو عوانة عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال : كنا مع نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونحن نقول منع الماعون منع الدلو وأشباه ذلك (٣).

وقد رواه أبو داود والنسائي عن قتيبة عن أبي عوانة بإسناده نحوه ولفظ النسائي عن عبد الله قال : كل معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عارية الدلو والقدر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله قال : الماعون العواري القدر والميزان والدلو. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) يعني متاع البيت ، وكذا قال مجاهد وإبراهيم النخعي وسعيد بن

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧١٠.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٧١٤.

(٣) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٣٢.

٤٧٠

جبير وأبو مالك وغير واحد إنها العارية للأمتعة.

وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : لم يجيء أهلها بعد : وقال العوفي عن ابن عباس (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : اختلف الناس في ذلك فمنهم من قال يمنعون الزكاة ، ومنهم من قال يمنعون الطاعة ، ومنهم من قال يمنعون العارية ، رواه ابن جرير ثم روي عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية عن ليث بن أبي سليم عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : الماعون منع الناس الفأس والقدر والدلو ، وقال عكرمة رأس الماعون زكاة المال وأدناه المنخل والدلو والإبرة ، رواه ابن أبي حاتم وهذا الذي قاله عكرمة حسن ، فإنه يشمل الأقوال كلها وترجع كلها إلى شيء واحد ، وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة ، ولهذا قال محمد بن كعب (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : المعروف. ولهذا جاء في الحديث «كل معروف صدقة».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب عن الزهري (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال بلسان قريش : المال وروي هاهنا حديثا غريبا عجيبا في إسناده ومتنه فقال : حدثنا أبي وأبو زرعة قالا ، حدثنا قيس بن حفص الدارمي ، حدثنا دلهم بن دهثم العجلي، حدثنا عائذ بن ربيعة النميري. حدثني قرة بن دعموص النميري أنهم وفدوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ما تعهد إلينا! قال : «لا تمنعوا الماعون» قالوا : يا رسول الله وما الماعون؟ قال : «في الحجر وفي الحديدة وفي الماء» قالوا : فأي الحديدة؟ قال : «قدروكم النحاس وحديد الفأس الذي تمتهنون به» قالوا : وما الحجر؟ قال : «قدروكم الحجارة» غريب جدا ورفعه منكر ، وفي إسناده من لا يعرف والله أعلم.

وقد ذكر ابن الأثير في الصحابة ترجمة علي النميري فقال : روى ابن قانع بسنده إلى عامر بن ربيعة بن قيس النميري عن علي بن فلان النميري ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «المسلم أخو المسلم إذا لقيه حيّاه بالسلام ويرد عليه ما هو خير منه لا يمنع الماعون» قلت : يا رسول الله ما الماعون؟ قال «الحجر والحديد وأشباه ذلك» والله أعلم.

آخر تفسير سورة الماعون ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الكوثر

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

٤٧١

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله إغفاءة ، فرفع رأسه متبسما إما قال لهم وإما قالوا له : لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه أنزلت علي آنفا سورة» فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) حتى ختمها فقال : «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال «هو نهر أعطانيه ربي عزوجل في الجنة عليه خير كثير ، ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم ، فأقول يا رب إنه من أمتي ، فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» هكذا رواه الإمام أحمد بهذا الإسناد الثلاثي ، وهذا السياق عن محمد بن فضيل عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك.

وقد ورد في صفة الحوض يوم القيامة أنه يشخب فيه ميزابان من السماء من نهر الكوثر وأن آنيته عدد نجوم السماء ، وقد روى هذا الحديث مسلم وأبو داود والنسائي من طريق علي بن مسهر ومحمد بن فضيل ، كلاهما عن المختار بن فلفل عن أنس ، ولفظ مسلم قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما ، قلنا : ما أضحك يا رسول الله. قال : «لقد أنزلت علي آنفا سورة» فقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ثم قال «أتدرون ما هو الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال : ـ فإنه نهر وعدنيه ربي عزوجل عليه خير كثير وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم في السماء ، فيختلج العبد منهم فأقول رب إنه من أمتي ، فيقول إنك لا تدري ما أحدث بعدك» (٢).

وقد استدل به كثير من القراء على أن هذه السورة مدنية وكثير من الفقهاء على أن البسملة من السورة ، وأنها منزلة معها.

فأما قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) فقد تقدم في هذا الحديث أنه نهر في الجنة ، وقد رواه الإمام أحمد (٣) من طريق أخرى عن أنس فقال : حدثنا عفان ، حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس أنه قرأ هذه الآية (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت الكوثر فإذا هو نهر يجري ولم يشق شقا وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ فضربت بيدي في تربته فإذا مسك أذفر وإذا حصباؤه اللؤلؤ».

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس قال : قال

__________________

(١) المسند ٣ / ١٠٢.

(٢) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٥٣ ، وأبو داود في السنة باب ٢٣ ، والنسائي في الافتتاح باب ٢١.

(٣) المسند ٢ / ٢٤٧.

(٤) المسند ٣ / ١٠٣.

٤٧٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر قلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاكه الله عزوجل» (١) ورواه البخاري في صحيحه ومسلم من حديث شيبان بن عبد الرّحمن عن قتادة عن أنس بن مالك قال : لما عرج بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السماء قال : «أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر» (٢) وهو لفظ البخاري رحمه‌الله.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا الربيع ، أخبرنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن أبي نمر ، قال : سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مضى به جبريل إلى السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر عليه قصر من اللؤلؤ وزبرجد ، فذهب يشم ترابه فإذا هو مسك قال: «يا جبريل ما هذا النهر؟ قال : هو الكوثر الذي خبأ لك ربك» وقد تقدم حديث الإسراء في سورة سبحان من طريق شريك عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو مخرج في الصحيحين. وقال سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بينما أنا أسير في الجنة إذ عرض لي نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف ، فقال الملك ـ الذي معه ـ أتدري ما هذا؟ هذا الكوثر الذي أعطاك الله ، وضرب بيده إلى أرضه فأخرج من طينه المسك» وكذا رواه سليمان بن طرخان ومعمر وهمام وغيرهم عن قتادة به.

قال ابن جرير (٤) : حدثنا أحمد بن أبي سريج ، حدثنا أبو أيوب العباس ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثني محمد بن عبد الوهاب ابن أخي ابن شهاب عن أبيه عن أنس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكوثر فقال : «هو نهر أعطانيه الله تعالى في الجنة ترابه مسك أبيض من اللبن وأحلى من العسل ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر» وقال أبو بكر : يا رسول الله إنها لناعمة قال «آكلها أنعم منها».

وقال أحمد (٥) : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا الليث عن يزيد بن الهاد عن عبد الوهاب عن عبد الله بن مسلم بن شهاب عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ما الكوثر؟ قال : «هو نهر في الجنة أعطانيه ربي لهو أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر» قال عمر : يا رسول الله إنها لناعمة. قال : «آكلها أنعم منها يا عمر» رواه ابن جرير من حديث الزهري عن أخيه عبد الله عن أنس أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكوثر فذكر مثله سواء.

وقال البخاري : حدثنا خالد بن يزيد الكاهلي ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٠٨ ، باب ١ ، والرقاق باب ٥٣.

(٢) انظر التخريج السابق.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٧١٧.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٧٢٠.

(٥) المسند ٣ / ٢٢٠ ، ٢٢١.

٤٧٣

عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال : سألتها عن قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قالت: نهر أعطيه نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، شاطئاه عليه در مجوف ، آنيته كعدد النجوم (١) ، ثم قال البخاري : رواه زكريا وأبو الأحوص ومطرف عن أبي إسحاق ، ورواه أحمد والنسائي من طريق مطرف به.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عائشة قالت : الكوثر نهر في الجنة شاطئاه در مجوف ، وقال إسرائيل : هو نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء. وحدثنا ابن حميد : حدثنا يعقوب القمي عن حفص بن حميد عن شمر بن عطية عن شقيق أو مسروق قال : قلت لعائشة يا أم المؤمنين حدثيني عن الكوثر قالت : نهر في بطنان الجنة ، قلت وما بطنان الجنة؟ قالت : وسطها حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت وترابه المسك وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت ، وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن أبي جعفر الرازي عن ابن أبي نجيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : من أحب أن يسمع خرير الكوثر فليجعل إصبعيه في أذنيه ، هذا منقطع بين ابن أبي نجيح وعائشة وفي بعض الروايات عن رجل عنها ، ومعنى هذا أنه يسمع نظير ذلك لا أنه يسمعه نفسه والله أعلم قال السهيلي ورواه الدارقطني مرفوعا من طريق مالك بن مغول عن الشعبي عن مسروق عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم قال البخاري (٣) : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هشيم أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه ، قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة قال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه ، ورواه أيضا من حديث هشيم عن أبي بسر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الكوثر الخير الكثير ، وقال الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكوثر الخير الكثير.

وهذا التفسير يعم النهر وغيره لأن الكوثر من الكثرة وهو الخير الكثير ، ومن ذلك النهر كما قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن بن أبي الحسن البصري ، حتى قال مجاهد : هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وقال عكرمة : هو النبوة ، والقرآن وثواب الآخرة وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضا ، فقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عمر بن عبيد عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكوثر نهر في الجنة حافتاه ذهب وفضة يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج وأحلى من العسل ، وروى العوفي عن ابن عباس نحو ذلك.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٠٨ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٨١.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٧١٧.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٠٨ ، باب ١.

٤٧٤

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم أخبرنا عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر أنه قال : الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الدر والياقوت ، ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، وكذا رواه الترمذي عن ابن حميد عن جرير عن عطاء بن السائب به مثله موقوفا ، وقد روي مرفوعا فقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا علي بن حفص ، حدثنا ورقاء قال : وقال عطاء عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب والماء يجري على اللؤلؤ وماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل» (٣) وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير من طريق محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب به مرفوعا ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال ابن جرير (٤) : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا عطاء بن السائب قال : قال لي محارب بن دثار ما قال سعيد بن جبير في الكوثر؟ قلت : حدثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير ، فقال : صدق والله إنه للخير الكثير ، ولكن حدثنا ابن عمر قال : لما نزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت».

وقال ابن جرير (٥) : حدثني ابن البرقي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، أخبرني حرام بن عثمان عن عبد الرّحمن الأعرج عن أسامة بن زيد ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى حمزة بن عبد المطلب يوما فلم يجده ، سأل عنه امرأته وكانت من بني النجار فقالت : خرج يا نبي الله آنفا عامدا نحوك فأظنه أخطأك في بعض أزقة بني النجار ، أو لا تدخل يا رسول الله؟ فدخل فقدمت إليه حيسا فأكل منه ، فقالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنيئا لك ومريئا ، لقد جئت وأنا أريد أن آتيك فأهنيك وأمريك أخبرني أبو عمارة أنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر فقال : «أجل وعرضه ـ يعني أرضه ـ ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ».

حرام بن عثمان ضعيف ، ولكن هذا سياق حسن ، وقد صح أصل هذا بل قد تواتر من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث ، وكذلك أحاديث الحوض ، وهكذا روي عن أنس وأبي العالية ومجاهد وغير واحد من السلف أن الكوثر نهر في الجنة ، وقال عطاء : هو حوض في الجنة.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧١٧ ، ٧١٨.

(٢) المسند ٢ / ١٥٨.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٠٨ ، باب ٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٩.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٧٢٠.

(٥) تفسير الطبري ١٢ / ٧٢١.

٤٧٥

وقوله تعالى : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ومن ذلك النهر الذي تقدم صفته ، فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ونحرك فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام : ١٦٢ ـ ١٦٣] قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن : يعني بذلك نحر البدن ونحوها.

وكذا قال قتادة ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والربيع وعطاء الخراساني والحكم وإسماعيل بن أبي خالد وغير واحد من السلف ، وهذا بخلاف ما كان عليه المشركون من السجود لغير الله والذبح على غير اسمه كما قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] الآية ، وقيل : المراد بقوله (وَانْحَرْ) وضع اليد اليمنى على اليد اليسرى تحت النحر ، يروى هذا عن علي ولا يصح ، وعن الشعبي مثله وعن أبي جعفر الباقر (وَانْحَرْ) يعني رفع اليدين عند افتتاح الصلاة ، وقيل (وَانْحَرْ) أي واستقبل بنحرك القبلة ، ذكر هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير.

وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا منكرا جدا فقال : حدثنا وهب بن إبراهيم القاضي سنة خمس وخمسين ومائتين ، حدثنا إسرائيل بن حاتم المروزي ، حدثنا مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا جبريل ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟» فقال : ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة ارفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع ، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة.

وهكذا رواه الحاكم في المستدرك من حديث إسرائيل بن حاتم به ، وعن عطاء الخراساني : (وَانْحَرْ) أي ارفع صلبك بعد الركوع واعتدل وأبرز نحرك يعني به الاعتدال ، رواه ابن أبي حاتم وكل هذه الأقوال غريبة جدا ، والصحيح القول الأول أن المراد بالنحر ذبح المناسك ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول : «من صلّى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له» فقام أبو بردة بن نيار فقال : يا رسول الله إني نسكت شاتي قبل الصلاة ، وعرفت أن اليوم يوم يشتهى فيه اللحم. قال : «شاتك شاة لحم» قال : فإن عندي عناقا هي أحب إلي من شاتين أفتجزئ عني؟ قال : «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري في العيدين باب ٥ ، ٢٣ ، وأبو داود في الأضاحي باب ٥٠ ، والنسائي في العيدين باب ١٧.

٤٧٦

قال أبو جعفر بن جرير (١) : والصواب قول من قال إن معنى ذلك فاجعل صلاتك كلها لربك خالصا دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك اجعله له دون الأوثان شكرا له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له وخصك به ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقد سبقه إلى هذا المعنى محمد بن كعب القرظي وعطاء. وقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك يا محمد ومبغض ما جئت به من الهدى والحق والبرهان الساطع والنور المبين هو الأبتر الأقل الأذل المنقطع ذكره ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة : نزلت في العاص بن وائل ، وقال محمد بن إسحاق (٢) عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : دعوه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره فأنزل الله هذه السورة ، وقال شمر بن عطية : نزلت في عقبة بن أبي معيط.

وقال ابن عباس أيضا وعكرمة : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من كفار قريش ، وقال البزار : حدثنا زياد بن يحيى الحساني ، حدثنا ابن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة فقالت له قريش : أنت سيدهم ألا ترى إلى هذا الصبي المنبتر من قومه؟ يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية فقال : أنتم خير منه ، قال فنزلت (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وهكذا رواه البزار وهو إسناد صحيح ، وعن عطاء قال : نزلت في أبي لهب ، وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذهب أبو لهب إلى المشركين فقال بتر محمد الليلة فأنزل الله في ذلك (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ).

وعن ابن عباس : نزلت في أبي جهل ، وعنه : (إِنَّ شانِئَكَ) يعني عدوك ، وهذا يعم جميع من اتصف بذلك ممن ذكر وغيرهم ، وقال عكرمة : الأبتر الفرد ، وقال السدي : كانوا إذا مات ذكور الرجل قالوا بتر ، فلما مات أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا بتر محمد ، فأنزل الله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره ، فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره ، وحاشا وكلا بل قد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمرا على دوام الآباد ، إلى يوم المحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم التناد. آخر تفسير سورة الكوثر ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الكافرون

وهي مكية

ثبت في صحيح مسلم (٣) عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهذه السورة وب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧٢٣ ، ٧٢٤.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ١ / ٣٩٣.

(٣) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠.

٤٧٧

في ركعتي الطواف ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهما في ركعتي الفجر. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الركعتين ، قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعا وعشرين مرة أو بضع عشرة مرة ، (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ).

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال : رمقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعا وعشرين مرة أو خمسا وعشرين مرة يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وقال أحمد (٣) : حدثنا أبو أحمد هو محمد بن عبد الله بن الزبيري ، حدثنا سفيان هو الثوري عن أبي إسحاق عن مجاهد عن ابن عمر قال : رمقت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شهرا ، وكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٤) ، وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي أحمد الزبيري ، وأخرجه النسائي من وجه آخر عن أبي إسحاق به ، وقال الترمذي: هذا حديث حسن ، وقد تقدم في الحديث أنها تعدل ربع القرآن وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق عن فروة بن نوفل هو ابن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «هل لك في ربيبة لنا تكفلها؟» قال : أراها زينب ، قال ثم جاء فسأله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها قال : «ما فعلت الجارية؟» قال : تركتها عند أمها. قال : «فمجيء ما جاء بك» قال : جئت لتعلمني شيئا أقوله عند منامي قال: «اقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ثم نم على خاتمتها فإنها براءة من الشرك» تفرد به أحمد.

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو القطراني حدثنا محمد بن الطفيل ، حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن جبلة بن حارثة ، وهو أخو زيد بن حارثة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك». وروى الطبراني من طريق شريك عن جابر عن معقل الزبيدي عن عبد الرّحمن بن زيد أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أخذ مضجعه قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى يختمها.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا حجاج ، حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل عن

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٤.

(٢) المسند ٢ / ٩٩.

(٣) المسند ٢ / ٩٤.

(٤) أخرجه الترمذي في المواقيت باب ١٨٩ ، ١٩١ ، والنسائي في الافتتاح باب ٦٨ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٢.

(٥) المسند ٥ / ٤٥٦.

(٦) المسند ٢ / ٢٩٨ ، ٤ / ٥٧ ، ٦ / ٦.

٤٧٨

الحارث بن جبلة قال : قلت يا رسول الله علمني شيئا أقوله عند منامي ، قال : «إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فإنها براءة من الشرك» والله أعلم.

وروى الطبراني من طريق شريك عن جابر عن معقل الزبيدي عن عبد البر أخضر أو أحمر أن رسول الله كان إذا أخذ مضجعه قرأ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) حتى يختمها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)

هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون ، وهي آمرة بالإخلاص فيه فقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) يشمل كل كافر على وجه الأرض ، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش ، وقيل إنهم من جهلهم دعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عبادة أوثانهم سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) يعني من الأصنام والأنداد (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) وهو الله وحده لا شريك له ، فما هاهنا بمعنى من ، ثم قال : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أعبد عبادتكم أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، ولهذا قال : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئا من تلقاء أنفسكم كما قال : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) [النجم : ٢٣].

فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه ، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده وعبادة يسلكها إليه ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه ، ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله أي لا معبود إلا الله ولا طريق إليه إلا ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله ، ولهذا قال لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) كما قال تعالى : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤٤] وقال : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [الشورى : ١٥].

وقال البخاري (١) يقال : (لَكُمْ دِينُكُمْ) الكفر (وَلِيَ دِينِ) الإسلام ولم يقل ديني لأن الآيات بالنون فحذف الياء كما قال : (فَهُوَ يَهْدِينِ) و (يَشْفِينِ) [الشعراء : ٨٠] وقال غيره : لا أعبد ما تعبدون الآن ولا أجيبكم فيما بقي من عمري ولا أنتم عابدون ما أعبد ، وهم الذين قال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) [المائدة : ٦٤] انتهى ما ذكره.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ١٠٩ ، في الترجمة.

٤٧٩

ونقل ابن جرير (١) عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) [الشرح : ٥ ـ ٦] وكقوله (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) [التكاثر : ٦ ـ ٧] وحكاه بعضهم كابن الجوزي وغيره عن ابن قتيبة ، فالله أعلم.

فهذه ثلاثة أقوال [أولها] ما ذكرناه أولا [والثاني] ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في الماضي (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل [الثالث] إن ذلك تأكيد محض [وثم قول رابع] نصره أبو العباس بن تيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) نفي الفعل لأنها جملة فعلية (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) نفي قبوله لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد ، فكأنه نفى الفعل وكونه قابلا لذلك ، ومعناه نفي الوقوع ونفي الإمكان الشرعي أيضا ، وهو قول حسن أيضا ، والله أعلم.

وقد استدل الإمام أبو عبد الله الشافعي وغيره بهذه الآية الكريمة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) على أن الكفر ملة واحدة ، تورثه اليهود من النصارى وبالعكس إذ كان بينهما نسب أو سبب يتوارث به لأن الأديان ما عدا الإسلام كلها كالشيء الواحد في البطلان. وذهب أحمد بن حنبل ومن وافقه إلى عدم توريث النصارى من اليهود ، وبالعكس لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يتوارث أهل ملتين شتى» (٢).

آخر تفسير سورة قل يا أيها الكافرون.

تفسير سورة النصر

وهي مدنية

قد تقدم أنها تعدل ربع القرآن ، وإذا زلزلت تعدل ربع القرآن. وقال النسائي : أخبرنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ، أخبرنا جعفر عن أبي العميس ح وأخبرنا محمد بن سليمان ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو العميس عن عبد المجيد بن سهيل عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : قال لي ابن عباس : يا ابن عتبة ، أتعلم آخر سورة من القرآن نزلت؟ قلت : نعم ، (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال صدقت (٣).

وروى الحافظان أبو بكر البزار والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة الربذي عن صدقة بن

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧٢٨.

(٢) أخرجه أبو داود في الفرائض باب ١٠ ، والترمذي في الفرائض باب ١٦ ، وابن ماجة في الفرائض باب ٦ ، والدارمي في الفرائض باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٩٥.

(٣) أخرجه مسلم في التفسير حديث ٢١.

٤٨٠