تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

تفسير سورة العلق

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فاجأه الوحي وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه فقال اقرأ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقلت ما أنا بقارئ ـ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فغطني مني الجهد ثم أرسلني فقال (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) ـ حتى بلغ ـ (ما لَمْ يَعْلَمْ) قال : فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : «زمّلوني زملوني» فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : «يا خديجة ما لي؟» وأخبرها الخبر وقال : «قد خشيت على نفسي».

فقالت له : كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكلّ وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة : ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيها جذعا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو مخرجي هم؟» فقال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي فترة حتى حزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا ، حزنا غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل فقال : يا محمد إنك رسول الله حقا ، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك فإذا أوفى بذروة الجبل تبدى له جبريل فقال له مثل

__________________

(١) المسند ٦ / ٢٣٢ ، ٢٣٣.

٤٢١

ذلك (١) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري.

وقد تكلمنا على هذا الحديث من جهة سنده ومتنه ومعانيه في أول شرحنا للبخاري مستقصى ، فمن أراده فهو هناك محرر ولله الحمد والمنة.

فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كرمه تعالى أن علم الإنسان ما لم يعلم ، فشرفه وكرمه بالعلم وهو القدر الذي امتاز به أبو البشرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ذهني ولفظي ورسمي والرسمي يستلزمهما من غير عكس ، فلهذا قال : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) وفي الأثر : «قيدوا العلم بالكتابة» (٢) ، وفيه أيضا : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم».

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى(١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ(١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (١٩)

يخبر تعالى عن الإنسان أنه ذو فرح وأشر وبطر وطغيان إذا رأى نفسه قد استغنى وكثر ماله ، ثم تهدده وتوعده ووعظه فقال : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي إلى الله المصير والمرجع وسيحاسبك على مالك من أين جمعته وفيم صرفته. قال ابن أبي حاتم : حدثنا زيد بن إسماعيل الصائغ ، حدثنا جعفر بن عون حدثنا أبو عميس عن عون قال : قال عبد الله : منهومان لا يشبعان صاحب العلم وصاحب الدنيا ولا يستويان ، فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرّحمن وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان قال ثم قرأ عبد الله (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) وقال للآخر (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وقد روي هذا مرفوعا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا» (٣).

ثم قال تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) نزلت في أبي جهل لعنه الله ، توعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصلاة عند البيت فوعظه تعالى بالتي هي أحسن أولا فقال : (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) أي فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى)

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ٣ ، وتفسير سورة ٩٦ ، باب ١ ، والتعبير باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٢.

(٢) أخرجه الدارمي في المقدمة باب ٤٣.

(٣) أخرجه الدارمي في المقدمة باب ٣٢.

٤٢٢

وأنت تزجره وتتوعده على صلاته ، ولهذا قال : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي أما علم هذا الناهي لهذا المهتدي أن الله يراه ويسمع كلامه. وسيجازيه على فعله أتم الجزاء. ثم قال تعالى متوعدا ومتهددا : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) أي لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي لنسمنها سوادا يوم القيامة ثم قال : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) يعني ناصية أبي جهل كاذبة في مقالها خاطئة في أفعالها (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي قومه وعشيرته أي ليدعهم يستنصر بهم (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب أحزبنا أو حزبه؟.

قال البخاري : حدثنا يحيى حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لئن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لئن فعل لأخذته الملائكة» ثم قال تابعه عمرو بن خالد عن عبيد الله يعني ابن عمرو عن عبد الكريم (١). وكذا رواه الترمذي والنسائي في تفسيرهما من طريق عبد الرزاق به. وهكذا رواه ابن جرير (٢) عن أبي كريب عن زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو به.

وروى أحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وهذا لفظه من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي عند المقام فمر به أبو جهل بن هشام ، فقال يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعده فأغلظ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتهره ، فقال يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا فأنزل الله (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (٣) وقال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته (٤). وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد (٤) أيضا : حدثنا إسماعيل بن يزيد أبو يزيد ، حدثنا فرات عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لئن رأيت رسول الله يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه قال : فقال : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا».

وقال ابن جرير (٥) أيضا : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، أخبرنا يونس بن أبي إسحاق عن الوليد بن العيزار عن ابن عباس قال : قال أبو جهل لئن عاد محمد يصلي عند المقام

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩٦ ، باب ٤ ، ومسلم في المنافقين حديث ٣٨ ، والترمذي في تفسير سورة ٩٦ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٦ ، ٢ / ٣٧٠.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٦٤٩.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٩٦ ، باب ٢ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٦.

(٤) المسند ١ / ٢٤٨.

(٥) تفسير الطبري ١٢ / ٦٤٩.

٤٢٣

لأقتلنه ، فأنزل الله عزوجل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتى بلغ هذه الآية (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ، ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ ، فَلْيَدْعُ نادِيَهُ ، سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى ، فقيل: ما يمنعك؟ قال : قد اسود ما بيني وبينه من الكتائب ، قال ابن عباس : والله لو تحرك لأخذته الملائكة والناس ينظرون إليه.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر عن أبيه ، حدثنا نعيم بن أبي هند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال : فقال واللات والعزى لئن رأيته يصلي كذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، قال فقيل له : ما لك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقا من نار ، وهولا وأجنحة قال : فقال رسول الله : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» قال : وأنزل الله لا أدري في حديث أبي هريرة أم لا (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) إلى آخر السورة (٢) ، وقد رواه أحمد بن حنبل ومسلم والنسائي وابن أبي حاتم من حديث معتمر بن سليمان به.

وقوله تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها ، وصل حيث شئت ، ولا تباله فإن الله حافظك وناصرك وهو يعصمك من الناس (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) كما ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن عمارة بن غزية ، عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» (٣) وتقدم أيضا أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يسجد في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) و (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).

آخر تفسير سورة اقرأ ، ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة.

تفسير سورة القدر

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٥)

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٤٩.

(٢) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٣٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٧٠.

(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٢١٥.

٤٢٤

يخبر تعالى أنه أنزل القرآن ليلة القدر ، وهي الليلة المباركة التي قال الله عزوجل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] وهي ليلة القدر وهي من شهر رمضان كما قال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال تعالى معظما لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها فقال : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

قال أبو عيسى الترمذي (١) عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد قال : قام رجل إلى الحسن بن علي بعد ما بايع معاوية فقال : سودت وجوه المؤمنين ، أو يا مسود وجوه المؤمنين ، فقال : لا تؤنبني رحمك الله ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١] يا محمد ، يعني نهرا في الجنة ونزلت (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) يملكها بعدك بنو أمية يا محمد ، قال القاسم : فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص يوما. ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل ، وقد قيل عن القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن والقاسم بن الفضل الحداني هو ثقة وثقه يحيى القطان وعبد الرّحمن بن مهدي قال : وشيخه يوسف بن سعد ، ويقال يوسف بن مازن رجل مجهول ولا يعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.

وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن به ، وقول الترمذي : إن يوسف هذا مجهول فيه نظر ، فإنه قد روى عنه جماعة ، منهم حماد بن سلمة وخالد الحذاء يونس بن عبيد ، وقال فيه يحيى بن معين : هو مشهور ، وفي رواية عن ابن معين قال : هو ثقة. ورواه ابن جرير من طريق القاسم بن الفضل عن يوسف بن مازن كذا قال وهذا يقتضي اضطرابا في هذا الحديث والله أعلم ، ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جدا ، قال شيخنا الإمام الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي : هو حديث منكر.

(قلت) وقول القاسم بن الفضل الحداني إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوما ولا تنقص ليس بصحيح ، فإن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه استقل بالملك حين سلم إليه الحسن بن علي الإمرة سنة أربعين ، واجتمعت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها لم تخرج عنهم إلا مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين ، والأهواز وبعض البلاد قريبا من تسع سنين ، لكن لم تزل يدهم عن الإمرة بالكلية ،

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩٧ ، باب ١.

٤٢٥

بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة ، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة وذلك أزيد من ألف شهر ، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر ، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير وعلى هذا فيقارب ما قاله للصحة في الحساب والله أعلم.

ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم دولة بني أمية ، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق ، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم أيامهم ، فإن ليلة القدر شريفة جدا والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر ، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة بمقتضى هذا الحديث ، وهل هذا إلا كما قال القائل :

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وقال آخر :

إذا أنت فضلت امرأ ذا براعة

على ناقص كان المديح من النقص

ثم الذي يفهم من الآية أن الألف شهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية والسورة مكية ، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية ، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها ، والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة فهذا كله مما يدل على ضعف الحديث ونكارته والله أعلم وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا مسلم يعني ابن خالد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر قال : فعجب المسلمون من ذلك قال : فأنزل الله عزوجل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام بن مسلم عن المثنى بن الصباح ، عن مجاهد قال : كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدو بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس أخبرنا ابن وهب ، حدثني مسلمة بن علي عن علي بن عروة قال : ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عاما ، لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل ابن العجوز ويوشع بن نون ، قال : فعجب أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك فأتاه جبريل فقال : يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين ، فقد أنزل الله خيرا من ذلك فقرأ عليه (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٥٣.

٤٢٦

وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك ، قال : فسر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس معه.

وقال سفيان الثوري : بلغني عن مجاهد (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) قال : عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر ، رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا ابن أبي زائدة عن ابن جريج عن مجاهد : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس في تلك الشهور ليلة القدر ، وهكذا قال قتادة بن دعامة والشافعي وغير واحد وقال عمرو بن قيس الملائي : عمل فيها خير من عمل ألف شهر ، وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر هو اختيار ابن جرير ، وهو الصواب لا ما عداه وهو كقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل» رواه أحمد (١) وكما جاء في قاصد الجمعة بهيئة حسنة ، ونية صالحة أنه يكتب له عمل سنة أجر صيامها وقيامها إلى غير ذلك من المعاني المشابهة لذلك.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما حضر رمضان قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم» ورواه النسائي من حديث أيوب به. ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» (٣).

وقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحلق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له ، وأما الروح فقيل المراد به هاهنا جبريل عليه‌السلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام ، وقيل هم ضرب من الملائكة كما تقدم في سورة النبأ والله أعلم.

وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) قال مجاهد : سلام هي من كل أمر ، وقال سعيد بن منصور : حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا الأعمش عن مجاهد في قوله : (سَلامٌ هِيَ) قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى ، وقال قتادة وغيره : تقضى فيها الأمور وتقدر الآجال والأرزاق كما قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤].

__________________

(١) المسند ١ / ٦٢ ، ٦٥ ، ٦٦ ، ٧٥.

(٢) المسند ٢ / ٢٣٠ ، ٣٨٥ ، ٤٢٥.

(٣) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٥ ، ٢٧ ، والصوم باب ٦ ، ومسلم في المسافرين حديث ١٧٣ ١٧٦.

٤٢٧

وقوله تعالى : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم عن أبي إسحاق عن الشعبي في قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) قال تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد حتى يطلع الفجر ، وروى ابن جرير (١) عن ابن عباس أنه كان يقرأ من كل امرى (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) وروى البيهقي في كتابه فضائل الأوقات عن علي أثرا غريبا في نزول الملائكة ومرورهم على المصلين ليلة القدر وحصول البركة للمصلين ، وروى ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار أثرا غريبا عجيبا مطولا جدا ، في تنزل الملائكة من سدرة المنتهى صحبة جبريل عليه‌السلام إلى الأرض ودعائهم للمؤمنين والمؤمنات.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا عمران يعني القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ليلة القدر : «إنها ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى». وقال الأعمش عن المنهال عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى في قوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) قال : لا يحدث فيها أمر. وقال قتادة وابن زيد في قوله : (سَلامٌ هِيَ) يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر.

ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية ، حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليلة القدر في العشر البواقي ، من قامهن ابتغاء حسبتهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهي ليلة وتر : تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة كأن فيها قمرا ساطعا ساكنة ساجية لا برد فيها ولا حر ، ولا يحل لكوكب يرمى به فيها حتى تصبح ، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ» وهذا إسناد حسن ، وفي المتن غرابة وفي بعض ألفاظه نكارة.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا زمعة عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ليلة القدر «ليلة سمحة طلقة بلجة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء» وروى ابن أبي عاصم النبيل بإسناده عن جابر بن عبد الله أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها وهي طلقة بلجة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها».

[فصل] اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٥٤.

(٢) المسند ٥ / ٣٢٤.

٤٢٨

الأمة؟ على قولين : قال أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري : حدثنا مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر. وقد أسند من وجه آخر ، وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر ، وقد نقله صاحب العدة أحد أئمة الشافعية عن جمهور العلماء فالله أعلم ، وحكى الخطابي عليه الإجماع ونقله الراضي جازما به عن المذهب ، والذي دل عليه الحديث أنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا.

قال الإمام أحمد بن حنبل (١) : حدثنا يحيى بن سعيد عن عكرمة بن عمار ، حدثني أبو زميل سماك الحنفي ، حدثني مالك بن مرثد بن عبد الله ، حدثني مرثد قال : سألت أبا ذر قلت : كيف سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة القدر؟ قال : أنا كنت أسأل الناس عنها قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان هي أو في غيره؟ قال : «بل هي في رمضان» قلت : تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال : «بل هي إلى يوم القيامة» قلت : في أي رمضان هي؟ قال : «التمسوها في العشر الأول والعشر الآخر» ثم حدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وحدث ثم اهتبلت غفلته قلت : في أي العشرين هي؟ قال : «ابتغوها في العشر الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها».

ثم حدث رسول الله ثم اهتبلت غفلته فقلت : يا رسول الله أقسمت عليك بحقي عليك لما أخبرتني في أي العشر هي؟ فغضب عليّ غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته وقال : «التمسوها في السبع الأواخر ، لا تسألني عن شيء بعدها» ورواه النسائي عن الفلاس عن يحيى بن سعيد القطان به ، ففيه دلالة على ما ذكرناه وفيه أنها تكون باقية إلى يوم القيامة في كل سنة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا كما زعمه بعض طوائف الشيعة من رفعها بالكلية على ما فهموه من الحديث الذي سنورده بعد من قوله عليه‌السلام «فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم» لأن المراد رفع علم وقتها عينا. وفيه دلالة على أن ليلة القدر يختص وقوعها بشهر رمضان من بين سائر الشهور ، لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة وترتجي في جميع الشهور على السواء.

وقد ترجم أبو داود (٢) في سننه على هذا فقال : «باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان» حدثنا حميد بن زنجويه النسائي ، أخبرنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير ، حدثني موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : «هي في كل رمضان» ، وهذا إسناد رجاله ثقات،

__________________

(١) المسند ٥ / ١٧١.

(٢) كتاب رمضان باب ٧.

٤٢٩

إلا أن أبا داود قال رواه شعبة وسفيان عن أبي إسحاق فأوقفاه ، وقد حكي عن أبي حنيفة. رحمه‌الله رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي واستغربه الرافعي جدا.

[فصل] ثم قد قيل إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان ، يحكى هذا عن أبي رزين ، وقيل إنها تقع ليلة سبع عشرة ، وروى فيه أبو داود حديثا مرفوعا عن ابن مسعود ، وروى موقوفا عليه وعلى زيد بن أرقم وعثمان بن أبي العاص وهو قول عن محمد بن إدريس الشافعي ويحكى عن الحسن البصري ، ووجهوه بأنها ليلة بدر وكانت ليلة جمعة هي السابعة عشرة من شهر رمضان ، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر وهي اليوم الذي قال الله تعالى فيه : (يَوْمَ الْفُرْقانِ). وقيل ليلة تسع عشرة يحكى عن علي وابن مسعود أيضا رضي الله عنهما.

وقيل ليلة إحدى وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري قال : اعتكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العشر الأول من رمضان واعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك ، فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : الذي تطلب أمامك ثم قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان قال : «من كان اعتكف معي فليرجع فإني رأيت ليلة القدر وإني أنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء». وكان سقف المسجد جريدا من النخل وما نرى في السماء شيئا ، فجاءت قزعة فمطرنا ، فصلى بنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصديق رؤياه ، وفي لفظ في صبح إحدى وعشرين (١) ، أخرجاه في الصحيحين.

قال الشافعي : وهذا الحديث أصح الروايات ، وقيل ليلة ثلاث وعشرين لحديث عبد الله بن أنيس في صحيح مسلم ، وهو قريب السياق من رواية أبي سعيد فالله أعلم ، وقيل ليلة أربع وعشرين ، قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» إسناده رجاله ثقات.

وقال أحمد (٢) : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن الصنابحي عن بلال قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» ابن لهيعة ضعيف ، وقد خالفه ما رواه البخاري عن أصبغ عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير عن أبي عبد الله الصنابحي قال : قال أخبرني بلال مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها أول السبع من العشر الأواخر فهذا الموقوف أصح والله أعلم.

وهكذا روي عن ابن مسعود وابن عباس وجابر والحسن وقتادة وعبد الله بن وهب أنها ليلة

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٣٥ ، ومسلم في الصيام حديث ٢١١.

(٢) المسند ٦ / ١٢.

٤٣٠

أربع وعشرين ، وقد تقدم في سورة البقرة حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا : «إن القرآن أنزل ليلة أربع وعشرين» وقيل تكون ليلة خمس وعشرين لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى» فسره كثيرون بليالي الأوتار وهو أظهر وأشهر ، وحمله آخرون على الإشفاع كما رواه مسلم عن أبي سعيد أنه حمله على ذلك والله أعلم ، وقيل إنها تكون ليلة سبع وعشرين لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها ليلة سبع وعشرين.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا سفيان سمعت عبدة وعاصما عن زر سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر ، قال يرحمه‌الله لقد علم أنها في شهر رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف ، قلت وكيف تعلمون ذلك؟ قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها ، تطلع ذلك اليوم لا شعاع لها يعني الشمس ، وقد رواه مسلم من طريق سفيان بن عيينة وشعبة والأوزاعي عن عبدة عن زر عن أبي فذكره وفيه فقال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني ، وو الله إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين ، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.

وفي الباب عن معاوية وابن عمر وابن عباس وغيرهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها ليلة سبع وعشرين ، وهو قول طائفة من السلف وهو الجادة من مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله وهو رواية عن أبي حنيفة أيضا وقد حكي عن بعض السلف أنه حاول استخراج كونها ليلة سبع وعشرين من القرآن من قوله : (هِيَ) لأنها الكلمة السابعة والعشرون من السورة فالله أعلم.

وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم عن ليلة القدر ، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر ، قال ابن عباس فقلت لعمر إني لأعلم ـ أو إني لأظن ـ أي ليلة القدر هي فقال عمر : وأي ليلة هي؟ فقلت سابعة تمضي ـ أو سابعة تبقى ـ من العشر الأواخر فقال عمر : من أين علمت ذلك؟ قال ابن عباس فقلت خلق الله سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام ، وإن الشهر يدور على سبع وخلق الإنسان من سبع ، ويأكل من سبع ويسجد على سبع ، والطواف بالبيت سبع ورمي الجمار سبع لأشياء ذكرها ، فقال عمر لقد فطنت لأمر ما فطنا له ، وكان قتادة يزيد عن ابن عباس في قوله ويأكل من سبع ، قال هو قول الله تعالى : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً) [عبس : ٢٧] الآية. وهذا إسناد جيد قوي ومتن غريب جدا فالله أعلم.

__________________

(١) المسند ٥ / ١٣٠.

٤٣١

وقيل إنها تكون في ليلة تسع وعشرين. وقال الإمام أحمد بن حنبل (١) : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا سعيد بن سلمة ، حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن عمر بن عبد الرّحمن عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة القدر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في رمضان التمسوها في العشر الأواخر فإنها في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا سليمان بن داود وهو أبو داود الطيالسي ، حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في ليلة القدر : «إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى» تفرد به أحمد وإسناده لا بأس به.

وقيل إنها تكون في آخر ليلة لما تقدم من هذا الحديث آنفا ، ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي بكرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث يبقين أو آخر ليلة يعني التمسوا ليلة القدر» (٣) وقال الترمذي: حسن صحيح ، وفي المسند من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة القدر «إنها آخر ليلة».

[فصل] قال الشافعي في هذه الروايات : صدرت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جوابا للسائل إذا قيل له أنلتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية؟ يقول «نعم» وإنما ليلة القدر معينة لا تنتقل. نقله الترمذي عنه بمعناه وروي عن أبي قلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة نص عليه مالك والثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور والمزني وأبو بكر بن خزيمة وغيرهم ، وهو محكي عن الشافعي نقله القاضي عنه وهو الأشبه والله أعلم.

وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» (٤) وفيهما أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» ولفظه للبخاري.

ويحتج للشافعي أنها لا تنتقل وأنها معينة من الشهر بما رواه البخاري (٥) في صحيحه عن

__________________

(١) المسند ٥ / ٣٢٠.

(٢) المسند ٢ / ٥١٩.

(٣) أخرجه الترمذي الصوم باب ٧٢.

(٤) أخرجه البخاري في القدر باب ٢ ، ٣ ، ومسلم في الصيام حديث ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(٥) كتاب القدر باب ٤.

٤٣٢

عبادة بن الصامت قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين. فقال : «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة ، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلا ذلك العام فقط ، اللهم إلا أن يقال إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط وقوله : «فتلاحى فلان وفلان فرفعت» فيه استئناس لما يقال إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع كما جاء في الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (١) وقوله «فرفعت» أي رفع علم تعيينها لكم لا أنها رفعت بالكلية من الوجود كما يقوله جهلة الشيعة لأنه قد قال بعد هذا : «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».

وقوله : «وعسى أن يكون خيرا لكم» يعني عدم تعيينها لكم فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أكثر للعبادة بخلاف ما إذا علموا عينها فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط ، وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في ابتغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزوجل ، ثم اعتكف أزواجه من بعده (٢) ، أخرجاه من حديث عائشة. ولهما عن ابن عمر كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، وقالت عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر (٣) أخرجاه ، ولمسلم عنها كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره وهذا معنى قولها وشد المئزر: وقيل المراد بذلك اعتزال النساء ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه الإمام أحمد (٤) : حدثنا سريج ، حدثنا أبو معشر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره واعتزل نساءه انفرد به أحمد.

وقد حكي عن مالك رحمه‌الله أن في جميع ليالي العشر تطلب ليلة القدر على السواء لا يترجح منها ليلة على أخرى رأيته في شرح الرافعي رحمه‌الله ، والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر رمضان أكثر ، وفي العشر الأخير منه ثم في أوتاره أكثر والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.

لما رواه الإمام أحمد (٥) : حدثنا يزيد هو ابن هارون ، حدثنا الجريري وهو سعيد بن إياس

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة في الفتن باب ٢٢.

(٢) أخرجه البخاري في الاعتكاف باب ١ ، ومسلم في الاعتكاف حديث ٤.

(٣) أخرجه البخاري في القدر باب ٥ ، ومسلم في الاعتكاف حديث ٧.

(٤) المسند ٦ / ٦٦ ، ٦٧.

(٥) المسند ٦ / ١٨٢.

٤٣٣

عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت : يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال : «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» (١) وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» وهذا لفظ الترمذي ثم قال هذا حديث حسن صحيح وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال هذا صحيح على شرط الشيخين ، ورواه النسائي أيضا من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال : «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

[ذكر أثر غريب ونبأ عجيب يتعلق بليلة القدر] رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم عند تفسير هذه السورة الكريمة فقال : حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا سيار بن حاتم حدثنا موسى بن سعيد يعني الراسبي عن هلال بن أبي جبلة ، عن أبي عبد السّلام عن أبيه عن كعب أنه قال : إن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة ، علوها في الجنة وعروقها وأغصانها من تحت الكرسي ، فيها ملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عزوجل ، يعبدون الله عزوجل على أغصانها في كل موضع شعرة منها ملك ومقام جبريلعليه‌السلام في وسطها فينادي الله جبريل أن ينزل في كل ليلة القدر مع الملائكة الذين يسكنون سدرة المنتهى وليس فيهم ملك إلا قد أعطي الرأفة والرحمة للمؤمنين.

فينزلون مع جبريل في ليلة القدر حين تغرب الشمس ، فلا تبقى بقعة في ليلة القدر إلا وعليها ملك إما ساجد وإما قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات ، إلا أن تكون كنيسة أو بيعة أو بيت نار أو وثن أو بعض أماكنكم التي تطرحون فيها الخبث ، أو بيت فيه سكران أو بيت فيه مسكر أو بيت فيه وثن منصوب ، أو بيت فيه جرس معلق أو مبولة أو مكان فيه كساحة البيت ، فلا يزالون ليلتهم تلك يدعون للمؤمنين والمؤمنات وجبريل لا يدع أحدا من المؤمنين إلا صافحه ، وعلامة ذلك من اقشعر جلده ورق قلبه ودمعت عيناه فإن ذلك من مصافحة جبريل.

وذكر كعب أن من قال في ليلة القدر : لا إله إلا الله ثلاث مرات غفر الله له بواحدة ونجاه من النار بواحدة وأدخله الجنة بواحدة ، فقلنا لكعب الأحبار يا أبا إسحاق صادقا ، فقال كعب الأحبار : وهل يقول لا إله إلا الله في ليلة القدر إلا كل صادق؟ والذي نفسي بيده إن ليلة القدر لتثقل على الكافر والمنافق حتى كأنها على ظهره جبل ، فلا تزال الملائكة هكذا حتى يطلع الفجر ، فأول من يصعد جبريل حتى يكون في وجه الأفق الأعلى من الشمس فيبسط جناحيه وله جناحان أخضران لا ينشرهما إلا في تلك الساعة ، فتصير الشمس لا شعاع لها ثم يدعو ملكا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٨٤ ، وابن ماجة في الدعاء باب ٥.

٤٣٤

ملكا فيصعد فيجتمع نور الملائكة ونور جناحي جبريل ، فلا تزال الشمس يومها ذلك متحيرة ، فيقيم جبريل ومن معه بين الأرض وبين السماء الدنيا يومهم ذلك في دعاء ورحمة واستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولمن صام رمضان إيمانا واحتسابا ، ودعا لمن حدث نفسه إن عاش إلى قابل صام رمضان لله ، فإذا أمسوا دخلوا إلى السماء الدنيا فيجلسون حلقا حلقا فتجتمع إليهم ملائكة سماء الدنيا ، فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة ، فيحدثونهم حتى يقولوا ما فعل فلان وكيف وجدتموه العام؟

فيقولون : وجدنا فلانا عام أول في هذه الليلة متعبدا ، ووجدناه العام مبتدعا ، ووجدنا فلانا مبتدعا ووجدناه العام عابدا ، قال : فيكفون عن الاستغفار لذلك ويقبلون على الاستغفار لهذا ، ويقولون : وجدنا فلانا وفلانا يذكران الله ووجدنا فلانا راكعا وفلانا ساجدا ، ووجدناه تاليا لكتاب الله ، قال : فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدون إلى السماء الثانية ، ففي كل سماء يوم وليلة حتى ينتهوا مكانهم من سدرة المنتهى : فتقول لهم سدرة المنتهى ، يا سكاني حدثوني عن الناس وسموهم لي ، فإن لي عليكم حقا ، وإني أحب من أحب الله ، فذكر كعب الأحبار أنهم يعدون لها ويحكون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، ثم تقبل الجنة على السدرة فتقول : أخبريني بما أخبرك سكانك من الملائكة فتخبرها.

قال : فتقول الجنة رحمة الله على فلان ورحمة الله على فلانة ، اللهم عجلهم إلي فيبلغ جبريل مكانه قبلهم ، فيلهمه الله فيقول : وجدت فلانا ساجدا فاغفر له ، فيغفر له ، فيسمع جبريل جميع حملة العرش فيقولون : رحمة الله على فلان ورحمة الله على فلانة ومغفرته لفلان ، ويقول : يا رب وجدت عبدك فلانا الذي وجدته عام أول على السنة والعبادة ، ووجدته العام قد أحدث حدثا وتولى عما أمر به فيقول الله : يا جبريل إن تاب فأعتبني قبل أن يموت بثلاث ساعات غفرت له. فيقول جبريل لك الحمد إلهي أنت أرحم من جميع خلقك وأنت أرحم بعبادك من عبادك بأنفسهم ، قال : فيرتج العرش وما حوله والحجب والسموات ومن فيهن تقول الحمد لله الرّحيم الحمد لله الرّحيم. قال وذكر كعب أنه من صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله ، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب ، آخر تفسير سورة ليلة القدر. ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة البينة

مدنية

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد هو ابن سلمة ، أخبرنا علي هو ابن زيد عن

__________________

(١) المسند ٣ / ٤٨٩.

٤٣٥

عمار بن أبي عمار قال : سمعت أبا حية البدري وهو مالك بن عمرو بن ثابت الأنصاري قال : لما نزلت (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي «إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة» قال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال «نعم» قال : فبكى أبي.

[حديث آخر] وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت قتادة يحدث أن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بن كعب : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قال : وسماني لك؟ قال «نعم» فبكى (٢) ورواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث شعبة به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان ، حدثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب قال : قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أمرت أن أقرأ عليك سورة كذا وكذا» قلت : يا رسول الله وقد ذكرت هناك؟ قال «نعم» فقلت له : يا أبا المنذر ففرحت بذلك. قال : وما يمنعني والله يقول : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] قال مؤمل : قلت لسفيان القراءة في الحديث؟ قال : نعم. تفرد به من هذا الوجه.

[طريق أخرى] قال أحمد (٤) : حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا : حدثنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لي : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن ـ قال فقرأ ـ (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ـ قال فقرأ فيها ـ ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه لسأل ثانيا ، ولو سأل ثانيا فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب. وإن ذلك الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل خيرا فلن يكفره» (٥) ورواه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة به وقال : حسن صحيح.

[طريق أخرى] قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن خليد الحلبي ، حدثنا محمد بن عيسى الطباع ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه عن جده عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا المنذر إني أمرت أن أعرض عليك القرآن» قال:

__________________

(١) المسند ٣ / ١٣٠.

(٢) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ١٦ ، وتفسير سورة ٩٨ ، في الترجمة ، باب ١ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٢٢ ، والترمذي في المناقب باب ٣٢ ، ٦٤.

(٣) المسند ٥ / ١٢٣.

(٤) المسند ٥ / ١٣١ ، ١٣٢.

(٥) أخرجه الترمذي في المناقب باب ٣٢ ـ ٦٤.

٤٣٦

بالله آمنت وعلى يدك أسلمت ومنك تعلمت ، قال : فرد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القول ، قال : فقال : يا رسول الله أذكرت هناك؟ قال : «نعم باسمك ونسبك في الملأ الأعلى» قال : فاقرأ إذا يا رسول الله ، هذا غريب من هذا الوجه.

والثابت ما تقدم وإنما قرأ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة تثبيتا له وزيادة لإيمانه ، فإنه كما رواه أحمد والنسائي من طريق أنس عنه ، ورواه أحمد وأبو داود من حديث سليمان بن صرد عنه ، ورواه أحمد عن عفان عن حماد عن حميد عن أنس عن عبادة بن الصامت عنه ، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن عيسى عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عنه ـ كان قد أنكر على إنسان وهو عبد الله بن مسعود قراءة شيء من القرآن على خلاف ما أقرأه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستقرأهما وقال لكل منهما «أصبت» قال أبي : فأخذني من الشك ولا إذ كنت في الجاهلية ، فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدره ، قال أبي : ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله فرقا ، وأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن جبريل أتاه فقال : إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف. فقلت : أسأل الله معافاته ومغفرته فقال : على حرفين» فلم يزل حتى قال : «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف» ، كما قدمنا ذكر هذا الحديث بطرقه ولفظه في أول التفسير ، فلما نزلت هذه السورة وفيها (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) [البينة : ٣] قرأها عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءة إبلاغ وتثبيت وإنذار ، لا قراءة تعلم واستذكار والله أعلم.

وهذا كما أن عمر بن الخطاب لما سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية عن تلك الأسئلة وكان فيما قال أو لم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ، قال : «بلى أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا» قال : لا. قال : «فإنك آتيه ومطوف به» فلما رجعوا من الحديبية وأنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الفتح دعا عمر بن الخطاب فقرأها عليه وفيها قوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) [الفتح : ٢٧] الآية كما تقدم.

وروى الحافظ أبو نعيم في كتابه أسماء الصحابة من طريق محمد بن إسماعيل الجعفري المدني حدثنا عبد الله بن سلمة بن أسلم عن ابن شهاب عن إسماعيل بن أبي حكيم المدني ، حدثني فضيل : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله ليسمع قراءة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيقول أبشر عبدي فوعزتي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى» حديث غريب جدا ، وقد رواه الحافظ أبو موسى المديني وابن الأثير من طريق الزهري عن إسماعيل بن أبي حكيم عن نظير المزني ـ أو المدني ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليسمع قراءة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ويقول أبشر عبدي ، فوعزتي لا أنساك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى».

٤٣٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥)

أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم ، وقال مجاهد : لم يكونوا (مُنْفَكِّينَ) يعني منتهين حتى يتبين لهم الحق وهكذا قال قتادة (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي هذا القرآن ، ولهذا قال تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). ثم فسر البينة بقوله : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة ، كقوله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) [عبس: ١٣ ـ ١٦] ، وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) قال ابن جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ليس فيها خطأ لأنها من عند الله عزوجل.

قال قتادة : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يذكر القرآن بأحسن الذكر ، ويثني عليه بأحسن الثناء ، وقال ابن زيد (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) مستقيمة معتدلة ، وقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) كقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران : ١٠٥] يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا ، بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم واختلفوا اختلافا كثيرا ، كما جاء في الحديث المروي من طرق : «إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى اختلفوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : «ما أنا عليه وأصحابي» (١).

وقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) كقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] ولهذا قال : (حُنَفاءَ) أي متحنفين عن الشرك إلى التوحيد كقوله : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته هاهنا (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) وهي أشرف عبادات البدن (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي الملة القائمة العادلة أو الأمة المستقيمة المعتدلة ، وقد استدل كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة أن الأعمال داخلة في الإيمان ، ولهذا قال :

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١ ، والترمذي في الإيمان باب ١٨ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٣٢ ، ٣ / ١٢٠ ، ١٤٥.

٤٣٨

(إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

يخبر تعالى عن مآل الفجار من أهل كفرة الكتاب والمشركين المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة أنهم يوم القيامة (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي ماكثين لا يحولون عنها ولا يزولون (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي شر الخليقة التي برأها الله وذرأها ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية ، وقد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله : (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

ثم قال تعالى : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يوم القيامة (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم المقيم (وَرَضُوا عَنْهُ) فيما منحهم من الفضل العميم.

وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه ، وعبده كأنه يراه وعلم أنه إن لم يره فإنه يراه.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة ، عن أبي هريرة. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بخير البرية؟» قالوا بلى يا رسول الله. قال : «رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه. ألا أخبركم بخير البرية؟» قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة. ألا أخبركم بشر البرية؟» قالوا : بلى قال : «الذي يسأل بالله ولا يعطي به».

آخر تفسير سورة لم يكن ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الزلزلة

وهي مكية

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا سعيد ، حدثنا عياش بن عباس عن

__________________

(١) المسند ٢ / ٣٩٦.

(٢) المسند ٢ / ١٦٩.

٤٣٩

عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو قال : أتى رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أقرئني يا رسول الله» ، قال له : «اقرأ ثلاثا من ذوات الراء» فقال له الرجل : كبر سني واشتد قلبي وغلظ لساني ، قال : «فاقرأ من ذوات حم» فقال مثل مقالته الأولى ، فقال «اقرأ ثلاثا من المسبحات» فقال مثل مقالته ، فقال الرجل : ولكن أقرئني يا رسول الله سورة جامعة فأقرأه : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) حتى إذا فرغ منها قال الرجل : والذي بعثك بالحق نبيا لا أزيد عليها أبدا ، ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلح الرويجل ، أفلح الرويجل ـ ثم قال ـ علي به ـ فجاءه فقال له ـ أمرت بيوم الأضحى جعله الله عيدا لهذه الأمة» فقال له الرجل : أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى فأضحي بها؟ قال : «لا ولكنك تأخذ من شعرك وتقلم أظافرك وتقص شاربك وتحلق عانتك فذاك تمام أضحيتك عند الله عزوجل» (١) وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي عبد الرّحمن المقرئي به.

وقال الترمذي (٢) : حدثنا محمد بن موسى الحرشي البصري حدثنا الحسن بن سلم بن صالح العجلي ، حدثنا ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ إذا زلزلت عدلت له بنصف القرآن» ثم قال : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسن بن سلم ، وقد رواه البزار عن محمد بن موسى الحرشي عن الحسن بن سلم عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن ، و (إِذا زُلْزِلَتِ) تعدل ربع القرآن» هذا لفظه.

وقال الترمذي (٣) أيضا : حدثنا علي بن حجر. حدثنا يزيد بن هارون حدثنا يمان بن المغيرة العنزي ، حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن ، وقل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن ، ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة.

وقال أيضا حدثنا عقبة بن مكرم العمي البصري حدثني ابن أبي فديك أخبرني سلمة بن وردان عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل من أصحابه : «هل تزوجت يا فلان» قال : لا والله يا رسول الله ولا عندي ما أتزوج؟ ـ قال : «أليس معك قل هو الله أحد ـ قال بلى ـ قال ـ ثلث القرآن ـ قال أليس معك إذا جاء نصر الله والفتح؟ ـ قال بلى. قال ربع القرآن ـ قال ـ أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ ـ قال بلى قال ـ ربع القرآن ـ قال ـ أليس معك إذا زلزلت الأرض ـ قال بلى ، قال ـ ربع القرآن ، تزوج تزوج» ثم قال هذا حديث حسن ، تفرد بهن ثلاثتهن الترمذي لم يروهن غيره من أصحاب الكتب.

__________________

(١) أخرجه أبو داود في رمضان باب ٩.

(٢) كتاب ثواب القرآن باب ١٠.

(٣) كتاب ثواب القرآن باب ١٠.

٤٤٠