تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

لم يلق ابن عباس ، وقال الطبراني ، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مر بهذه الآية (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) وقف ثم قال : «اللهم آت نفسي تقواها ، أنت وليها ومولاها ، وخير من زكاها».

[حديث آخر] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا يعقوب بن حميد المدني ، حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي ، حدثنا معن بن محمد الغفاري عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) قال «اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها» لم يخرجوه من هذا الوجه ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمر عن صالح بن سعيد عن عائشة أنها فقدت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مضجعه فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد وهو يقول «رب أعط نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها» تفرد به.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا عاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث عن زيد بن أرقم ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع. وعلم لا ينفع ودعوة لا يستجاب لها» قال زيد : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن (٣) ، رواه مسلم من حديث أبي معاوية عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن الحارث وأبي عثمان النهدي عن زيد بن أرقم به.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي ، وقال محمد بن كعب : (بِطَغْواها) أي بأجمعها ، والأول أولى ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما ، فأعقبهم ذلك تكذيبا في قلوبهم بما جاءهم به رسولهم عليه الصلاة والسّلام من الهدى واليقين (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف عاقر الناقة ، وهو أحيمر ثمود ، وهو الذي قال الله تعالى : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] الآية. وكان هذا الرجل عزيزا

__________________

(١) المسند ٦ / ٢٠٩.

(٢) المسند ٤ / ٣٧١.

(٣) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٧٣.

٤٠١

فيهم شريفا في قومه نسيبا رئيسا مطاعا ، كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام عن أبيه عن عبد الله بن زمعة قال : خطب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة» (٢) ورواه البخاري في التفسير ومسلم في صفة النار والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما ، وكذا ابن جرير (٣) وابن أبي حاتم عن هشام بن عروة به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا عيسى بن يونس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن محمد بن خثيم عن محمد بن كعب القرظي عن محمد بن خثيم أبي يزيد ، عن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «ألا أحدثك بأشقى الناس؟» قال : بلى. قال : «رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل منه هذه» يعني لحيته.

وقوله تعالى : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) يعني صالحا عليه‌السلام (ناقَةَ اللهِ) أي احذروا ناقة الله أن تمسوها بسوء (وَسُقْياها) أي لا تعتدوا عليها في سقياها فإن لها شرب يوم ولكم شرب يوم معلوم ، قال الله تعالى : (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) أي كذبوه فيما جاءهم به فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي غضب عليهم فدمر عليهم (فَسَوَّاها) أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء.

قال قتادة : بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم وذكرهم ، فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها. وقوله تعالى : (وَلا يَخافُ) وقرئ فلا يخاف (عُقْباها) قال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة ، وكذا قال مجاهد والحسن وبكر بن عبد الله المزني وغيرهم ، وقال الضحاك والسدي : (وَلا يَخافُ عُقْباها) أي لم يخف الذي عقرها عاقبة ما صنع ، والقول الأول أولى لدلالة لسياق عليه والله أعلم. آخر تفسير سورة والشمس وضحاها ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الليل

وهي مكية

تقدم قوله عليه الصلاة والسّلام لمعاذ : «فهلا صليت ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى :

__________________

(١) المسند ٤ / ١٧.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩١ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٤٩ ، والترمذي في تفسير سورة ٩١.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٦٠٥.

٤٠٢

١] ، (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١].

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (١١)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا شعبة عن المغيرة عن إبراهيم ، عن علقمة أنه قدم الشام ، فدخل مسجد دمشق فصلى فيه ركعتين وقال : اللهم ارزقني جليسا صالحا قال فجلس إلى أبي الدرداء فقال له أبو الدرداء : ممن أنت؟ قال : من أهل الكوفة ، قال : كيف سمعت ابن أم عبد يقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) قال علقمة : والذكر والأنثى فقال أبو الدرداء : لقد سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما زال هؤلاء حتى شككوني ثم قال ألم يكن فيكم صاحب الوساد وصاحب السر الذي لا يعلمه أحد غيره ، والذي أجير من الشيطان على لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد رواه البخاري (٢) هاهنا ومسلم من طريق الأعمش عن إبراهيم قال قدم أصحاب عبد الله على أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم فقال : أيكم يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ قالوا كلنا ، قال : أيكم أحفظ؟ فأشاروا إلى علقمة فقال : كيف سمعته يقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ـ قال ـ والذكر والأنثى قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ هكذا ، وهؤلاء يريدون أن أقرأ (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) والله لا أتابعهم ، هذا لفظ البخاري. وهكذا قرأ ذلك ابن مسعود وأبو الدرداء ورفعه أبو الدرداء ، وأما الجمهور فقرؤوا ذلك كما هو المثبت في المصحف الإمام العثماني في سائر الآفاق (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) فأقسم تعالى ب (اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي إذا غشى الخليقة بظلامه (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي بضيائه وإشراقه.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) كقوله تعالى : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) [النبأ : ٨] وكقوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩] ولما كان القسم بهذه الأشياء المتضادة كان المقسم عليه أيضا متضادا ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة أيضا ومتخالفة فمن فاعل خيرا ومن فاعل شرا. قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي أعطى ما أمر بإخراجه واتقى الله في أموره (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بالمجازاة على ذلك قاله قتادة ، وقال خصيف بالثواب.

وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو صالح وزيد بن أسلم (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي

__________________

(١) المسند ٦ / ٤٤٩.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩٢ ، في الترجمة.

٤٠٣

بالخلف. وقال أبو عبد الرّحمن السلمي والضحاك (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بلا إله إلا الله وفي رواية عن عكرمة (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بما أنعم الله عليه ، وفي رواية عن زيد بن أسلم (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) قال : الصلاة والزكاة والصوم وقال مرة وصدقة الفطر. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا صفوان بن صالح الدمشقي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا زهير بن محمد ، حدثني من سمع أبا العالية الرياحي يحدث عن أبي بن كعب قال : سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الحسنى قال : «الحسنى : الجنة».

وقوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) قال ابن عباس : يعني للخير ، وقال زيد بن أسلم : يعني للجنة ، وقال بعض السلف : من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، ومن جزاء السيئة السيئة بعدها ، ولهذا قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) أي بما عنده (وَاسْتَغْنى) قال عكرمة عن ابن عباس : أي بخل بماله واستغنى عن ربه عزوجل. رواه ابن أبي حاتم (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي بالجزاء في الدار الآخرة (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي لطريق الشر كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عزوجل يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة.

[رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن عياش ، حدثني العطاف بن خالد ، حدثني رجل من أهل البصرة عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق عن أبيه قال : سمعت أبي يذكر أن أباه سمع أبا بكر وهو يقول : قلت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله أنعمل على ما فرغ منه أو على أمر مؤتنف؟ قال «بل على أمر قد فرغ منه» قال : ففيم العمل يا رسول الله؟ قال : «كل ميسر لما خلق له».

[رواية علي رضي الله عنه] قال البخاري (٢) : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرّحمن السلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال : «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» قال : ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) إلى قوله (لِلْعُسْرى).

وكذا رواه من طريق شعبة ووكيع عن الأعمش بنحوه. ثم رواه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرّحمن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقعد وقعدنا حوله ومعه

__________________

(١) المسند ١ / ٥ ، ٦.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٩٢ ، باب ٦.

٤٠٤

مخصرة (١) فنكس ، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال : «ما منكم من أحد ـ أو ما من نفس منفوسة (٢) ـ إلا كتب مكانها من الجنة والنار وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة» فقال رجل : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال : «أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فيسيرون إلى عمل أهل الشقاء ، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (٣) وقد أخرجه بقية الجماعة من طرق عن سعيد بن عبيدة به.

[رواية عبد الله بن عمر] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا عبد الرّحمن ، حدثنا شعبة عن عاصم بن عبيد الله قال سمعت سالم بن عبد الله يحدث عن ابن عمر قال : قال عمر : يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أفي أمر قد فرغ أو مبتدأ أو مبتدع؟ قال : «فيما قد فرغ منه ، فاعمل يا ابن الخطاب ، فإن كلا ميسر ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة وأما من كان من أهل الشقاء فإنه يعمل للشقاء (٥) ، ورواه الترمذي في القدر عن بندار عن ابن مهدي به ، وقال : حسن صحيح.

[حديث آخر من رواية جابر] قال ابن جرير (٦) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه قال : يا رسول الله أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نستأنفه؟ فقال : «لأمر قد فرغ منه» فقال سراقة : ففيم العمل إذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كل عامل ميسر لعمله» ورواه مسلم (٧) عن أبي الطاهر عن ابن وهب به.

[حديث آخر] قال ابن جرير (٨) : حدثني يونس ، حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طلق بن حبيب عن بشير بن كعب العدوي قال : سأل غلامان شابان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالا : يا رسول الله أنعمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أو في شيء يستأنف؟ فقال : «بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير» قالا : ففيم العمل إذا؟ قال : «اعملوا فكل عامل ميسر

__________________

(١) المخصرة : ما أخذه الإنسان بيده من عصا ، أو عكازة ، أو قضيب.

(٢) نفس منفوسة : أي نفس مولودة.

(٣) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٨٣ ، ومسلم في القدر حديث ٦ ، ٧ ، وأبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في تفسير سورة ٩٢.

(٤) المسند ٢ / ٥٢.

(٥) أخرجه الترمذي في القدر باب ٣.

(٦) تفسير الطبري ١٢ / ٦١٧.

(٧) كتاب القدر حديث ٨.

(٨) تفسير الطبري ١٢ / ٦١٧.

٤٠٥

لعمله الذي خلق له» قالا : فالآن نجد ونعمل.

[رواية أبي الدرداء] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا هشيم بن خارجة ، حدثنا أبو الربيع سليمان بن عتبة السلمي عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أبي إدريس عن أبي الدرداء قال : قالوا يا رسول الله أرأيت ما نعمل أمر قد فرغ منه أم شيء نستأنفه؟ قال «بل أمر قد فرغ منه» فقالوا : فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال : «كل امرئ مهيأ لما خلق له» تفرد به أحمد من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال ابن جرير (٢) : حدثني الحسن بن سلمة بن أبي كبشة ، حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا عباد بن راشد عن قتادة ، حدثني خليد العصري عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلا الثقلين : اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا» وأنزل الله في ذلك القرآن (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن ابن أبي كبشة بإسناده مثله.

[حديث آخر] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثني الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا كان له نخيل ، ومنها نخلة فرعها في دار رجل صالح فقير ذي عيال ، فإذا جاء الرجل فدخل داره فيأخذ التمرة من نخلته فتسقط التمرة ، فيأخذها صبيان الرجل الفقير ، فينزل من نخلته فينزع التمرة من أيديهم ، وإن أدخل أحدهم التمرة في فمه أدخل إصبعه في حلق الغلام ونزع التمرة من حلقه ، فشكا ذلك الرجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهب» ولقي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب النخلة فقال له : «أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة» فقال له : لقد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها وإن لي لنخلا كثيرا ما فيها نخلة أعجب إلي ثمرة من ثمرها ، فذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتبعه رجل كان يسمع الكلام من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن صاحب النخلة فقال الرجل : يا رسول الله إن أنا أخذت النخلة فصارت لي النخلة فأعطيتك إياها أتعطيني ما أعطيته بها نخلة في الجنة؟ قال : «نعم».

ثم إن الرجل لقي صاحب النخلة ولكلاهما نخل ، فقال له : أخبرك أن محمدا أعطاني بنخلتي المائلة في دار فلان نخلة في الجنة ، فقلت له قد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها ، فسكت عنه الرجل فقال له : أراك إذا بعتها ، قال لا إلا أن أعطى بها شيئا ولا أظنني أعطاه ، قال : وما مناك؟ قال : أربعون نخلة ، فقال الرجل : لقد جئت بأمر عظيم ، نخلتك تطلب بها أربعين

__________________

(١) المسند ٦ / ٤٤١.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٦١٣.

٤٠٦

نخلة؟ ثم سكتا وأنشآ في كلام آخر ، ثم قال : أنا أعطيتك أربعين نخلة ، فقال : أشهد لي إن كنت صادقا ، فأمر بأناس فدعاهم فقال : اشهدوا إني قد أعطيته من نخلي أربعين نخلة بنخلته التي فرعها في دار فلان بن فلان.

ثم قال : ما تقول؟ فقال صاحب النخلة : قد رضيت ، ثم قال بعد ليس بيني وبينك بيع لم نفترق ، فقال له : قد أقالك الله ولست بأحمق حين أعطيتك أربعين نخلة بنخلتك المائلة ، فقال صاحب النخلة : قد رضيت على أن تعطيني الأربعين على ما أريد ، قال : تعطينيها على ساق ، ثم مكث ساعة ثم قال : هي لك على ساق ، وأوقف له شهودا وعد له أربعين نخلة على ساق ، فتفرقا ، فذهب الرجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إن النخلة المائلة في دار فلان قد صارت لي فهي لك ، فذهب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الرجل صاحب الدار فقال له «النخلة لك ولعيالك» قال عكرمة : قال ابن عباس فأنزل الله عزوجل : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) ـ إلى قوله ـ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) إلى آخر السورة ، هكذا رواه ابن أبي حاتم وهو حديث غريب جدا.

قال ابن جرير (١) : وذكر أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه : حدثنا هارون بن إدريس الأصم ، حدثنا عبد الرّحمن بن محمد المحاربي ، حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان أبو بكر رضي الله عنه يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أناسا ضعفاء فلو أنك تعتق رجالا جلداء يقومون معك ويمنعونك ويدفعون عنك ، فقال : أي أبت إنما أريد ـ أظنه قال ـ ما عند الله ، قال : فحدثني بعض أهل بيتي أن هذه الآية أنزلت فيه (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى).

وقوله تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) قال مجاهد : أي إذا مات وقال أبو صالح ومالك عن زيد بن أسلم : إذا تردى في النار.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢١)

قال قتادة : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي نبين الحلال والحرام ، وقال غيره : من سلك طريق الهدى وصل إلى الله وجعله كقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) حكاه ابن جرير ، وقوله

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦١٤.

٤٠٧

تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي الجميع ملكنا وأنا المتصرف فيهما وقوله تعالى : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) قال مجاهد : أي توهج.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يقول : «أنذرتكم النار» حتى لو أن رجلا كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا ، قال : حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثني شعبة ، حدثني أبو إسحاق ، سمعت النعمان بن بشير يخطب ويقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أهون أهل النار عذابا يوم. القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه». رواه البخاري (٣).

وقال مسلم (٤) : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا».

وقوله تعالى : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) أي لا يدخلها دخولا يحيط به من جميع جوانبه إلا الأشقى ثم فسره فقال : (الَّذِي كَذَّبَ) أي بقلبه (وَتَوَلَّى) أي عن العمل بجوارحه وأركانه.

قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا عبد ربه بن سعيد عن المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل النار إلا شقي» قيل : ومن الشقي؟ قال : «الذي لا يعمل بطاعة ولا يترك لله معصية».

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يونس وسريج قالا : حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلا من أبى» قالوا : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» رواه البخاري (٧) عن محمد بن سنان عن فليح به.

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٧٢.

(٢) المسند ٤ / ٢٧٤.

(٣) كتاب الرقاق باب ٥١.

(٤) كتاب الإيمان حديث ٣٦٠ ، ٣٦٤.

(٥) المسند ٢ / ٣٤٩.

(٦) المسند ٢ / ٣٦١.

(٧) كتاب الاعتصام باب ٢.

٤٠٨

وقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيزحزح عن النار التقي النقي الأتقى ثم فسره بقوله : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه وماله وما وهبه الله من دين ودنيا (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي ليس بذله ماله في مكافأة من أسدى إليه معروفا ، فهو يعطي في مقابلة ذلك وإنما دفعه ذلك (ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي طمعا في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات قال الله تعالى : (وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات.

وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى أن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك ، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإن لفظها لفظ العموم ، وهو قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الأوصاف وسائر الأوصاف الحميدة ، فإنه كان صديقا تقيا كريما جوادا بذالا لأمواله في طاعة مولاه ونصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكم من دراهم ودنانير بذلها ابتغاء وجه ربه الكريم ، ولم يكن لأحد من الناس عنده منة يحتاج إلى أن يكافئه بها ، ولكن كان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ، ولهذا قال له عروة بن مسعود وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية : أما والله لو لا يدلك كانت عندي لم أجزك بها لأجبتك (١).

وكان الصديق قد أغلظ له في المقالة ، فإن كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم ، ولهذا قال تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى). وفي الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أنفق زوجين في سبيل الله دعته خزنة الجنة يا عبد الله هذا خير» فقال أبو بكر : يا رسول الله ما على من يدعى منها ضرورة فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال : «نعم وأرجو أن تكون منهم» (٢).

آخر تفسير سورة الليل ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الضحى

وهي مكية

روينا من طريق أبي الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بزة المقرئ قال : قرأت على عكرمة بن سليمان ، وأخبرني أنه قرأ على إسماعيل بن قسطنطين وشبل بن عباد ، فلما

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٣١٣.

(٢) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي باب ٥ ، ومسلم في الزكاة حديث ٨٤ ، ٨٥.

٤٠٩

بلغت والضحى قالا لي : كبر حتى تختم مع خاتمة كل سورة فإنا قرأنا على ابن كثير فأمرنا بذلك وأخبرنا أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك. وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس فأمره بذلك ، وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أبي بن كعب فأمره بذلك وأخبره أبي أنه قرأ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بذلك ، فهذه سنة تفرد بها أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبد الله البزي من ولد القاسم بن أبي بزة ، وكان إماما في القراءات ، فأما في الحديث فقد ضعفه أبو حاتم الرازي وقال : لا أحدث عنه.

وكذلك أبو جعفر العقيلي قال : هو منكر الحديث ، لكن حكى الشيخ شهاب الدين أبو شامة في شرح الشاطبية عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة فقال له : أحسنت وأصبت السنة ، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث ، ثم اختلف القراء في موضع هذا التكبير وكيفيته فقال بعضهم : يكبر من آخر (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١] ، وقال آخرون : من آخر (وَالضُّحى) ، وكيفية التكبير عند بعضهم أن يقول الله أكبر ويقتصر ، ومنهم من يقول الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر. وذكر القراء في مناسبة التكبير من أول سورة الضحى أنه لما تأخر الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفتر تلك المدة ثم جاء الملك فأوحى إليه (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) السورة بتمامها كبر فرحا وسرورا ، ولم يرو ذلك بإسناد يحكم عليه بصحة ولا ضعف ، فالله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان عن الأسود بن قيس قال سمعت جندبا يقول : اشتكى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فأنزل الله عزوجل : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) (٢) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير (٣) من طرق عن الأسود بن

__________________

(١) المسند ٤ / ٣١٢ ، ٣١٣.

(٢) أخرجه البخاري في التهجد باب ٤ ، وفضائل القرآن باب ١ ، وتفسير سورة ٩٣ ، في الترجمة ، باب ١ ، ومسلم الجهاد حديث ١١٤ ، ١١٥ ، والنسائي في الافتتاح باب ٧٠ ، والترمذي في تفسير سورة ٩٣ ، باب ١.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٣.

٤١٠

قيس عن جندب ، هو ابن عبد الله البجلي ، ثم العلقي به وفي رواية سفيان بن عيينة عن الأسود بن قيس سمع جندبا قال أبطأ جبريل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال المشركون ودع محمدا ربه ، فأنزل الله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي قالا حدثنا أبو أسامة حدثني سفيان ، حدثني الأسود بن قيس أنه سمع جندبا يقول رمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجر في إصبعه فقال : «هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت؟».

قال فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم ، فقالت له امرأة ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) والسياق لأبي سعيد ، قيل : إن هذه المرأة هي أم جميل امرأة أبي لهب ، وذكر أن إصبعه عليه‌السلام دميت ، وقوله هذا الكلام الذي اتفق أنه موزون ثابت في الصحيحين ولكن الغريب هاهنا جعله سببا لتركه القيام ونزول هذه السورة.

فأما ما رواه ابن جرير (١) : حدثنا ابن أبي الشوارب ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا سليمان الشيباني عن عبد الله بن شداد أن خديجة قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أرى ربك إلا قد قلاك ، فأنزل الله (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وقال أيضا (٢) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه قال أبطأ جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة إني أرى ربك قد قلاك مما نرى من جزعك ، قال فنزلت (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) إلى آخرها فإنه حديث مرسل من هذين الوجهين ولعل ذكر خديجة ليس محفوظا أو قالته على وجه التأسف والحزن ، والله أعلم.

وقد ذكر بعض السلف منهم ابن إسحاق أن هذه السورة هي التي أوحاها جبريل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تبدى له في صورته التي خلقه الله عليها ، ودنا إليه وتدلى منهبطا عليه وهو بالأبطح (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) قال : قال له هذه السورة (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) قال العوفي عن ابن عباس : لما نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياما فتغير بذلك ، فقال المشركون : ودعه ربه وقلاه فأنزل الله (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) أي سكن فأظلم وادلهم؟ قاله مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وغيرهم ، وذلك دليل ظاهر على قدرة خالق هذا وهذا كما قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢] وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦].

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٣.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٤.

٤١١

وقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أي ما تركك (وَما قَلى) أي وما أبغضك.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، ولهذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحا كما هو معلوم بالضرورة من سيرته ، ولما خير عليه‌السلام في آخر عمره بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة وبين الصيرورة إلى الله عزوجل ، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود قال : اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حصير فأثر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه وقلت : يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظل تحت شجرة ثم راح وتركها» (٢) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث المسعودي به وقال الترمذي حسن صحيح.

وقوله تعالى : (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أمته ، وفيما أعده له من الكرامة ، ومن جملته نهر الكوثر الذي حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي ، وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : عرض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده كنزا كنزا فسر بذلك ، فأنزل الله (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم ، رواه ابن جرير (٣) من طريقه.

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ومثل هذا ما يقال إلا عن توقيف ، وقال السدي عن ابن عباس من رضاء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار ، رواه ابن جرير (٤) وابن أبي حاتم وقال الحسن : يعني بذلك الشفاعة ، وهكذا قال أبو جعفر الباقر وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا معاوية بن هشام عن علي بن صالح عن يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى).

ثم قال تعالى يعدد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : (أَلَمْ يَجِدْكَ

__________________

(١) المسند ١ / ٣٩١.

(٢) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٤٤ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٤.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٤.

٤١٢

يَتِيماً فَآوى) وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه ، وقيل بعد أن ولد عليه‌السلام ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين ، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره ، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان ، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل ، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج ، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل ، فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه رضي الله عنهم أجمعين ، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به.

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) كقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢] الآية. ومنهم من قال إن المراد بهذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضل في شعاب مكة وهو صغير ثم رجع ، وقيل إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام ، وكان راكبا ناقة في الليل ، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة ، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق حكاهما البغوي ، وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) أي كنت فقيرا ذا عيال فأغناك الله عمن سواه فجمع له بين مقامي الفقير الصابر والغني الشاكر صلوات الله وسلامه عليه.

وقال قتادة في قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) قال : كانت هذه منازل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعثه الله عزوجل. رواه ابن جرير (١) وابن أبي حاتم وفي الصحيحين من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» (٢) وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه» (٣).

ثم قال تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي كما كنت يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم أي لا تذله وتنهره وتهنه ولكن أحسن إليه وتلطف به ، قال قتادة : كن لليتيم كالأب الرّحيم (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم المسترشد قال ابن إسحاق : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وكما كنت ضالا فهداك الله فلا تنهر السائل في العلم

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٥.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٥ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٢٠ ، والترمذي في الزهد باب ٤٠ ، وابن ماجة في الزهد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١٢ ، ٣١٥.

(٣) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ١٢٥.

٤١٣

المسترشد.

قال ابن إسحاق (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي فلا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فحاشا ولا فظا على الضعفاء من عباد الله ، وقال قتادة يعني رد المسكين برحمة ولين (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي وكما كنت عائلا فقيرا فأغناك الله فحدث بنعمة الله عليك كما جاء في الدعاء المأثور النبوي : «واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها عليك قابليها وأتمها علينا» (١) وقال ابن جرير (٢) : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة قال : كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها.

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا منصور بن أبي مزاحم ، حدثنا الجراح بن مليح عن أبي عبد الرّحمن عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر : «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر ، والجماعة رحمة والفرقة عذاب» (٣) إسناده ضعيف وفي الصحيحين عن أنس أن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ، قال : «لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم» (٤). وقال أبو داود : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» (٥) ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد عن ابن المبارك عن الربيع بن مسلم وقال صحيح.

وقال أبو داود (٦) : حدثنا عبد الله بن الجراح ، حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أبلى بلاء فذكره فقد شكره ، ومن كتمه فقد كفره» تفرد به أبو داود. وقال أبو داود : حدثنا مسدد ، حدثنا بشر ، حدثنا عمارة بن غزية ، حدثني رجل من قومي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعطي عطاء فوجد فليجز به ، فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره ومن كتمه فقد كفره» قال أبو داود : ورواه يحيى بن أيوب عن عمارة بن غزية عن شرحبيل عن جابر كرهوه فلم يسموه ، تفرد به أبو داود.

وقال مجاهد : يعني النبوة التي أعطاك ربك وفي رواية عنه القرآن ، وقال ليث عن رجل عن الحسن بن علي (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قال : ما عملت من خير فحدث إخوانك ، وقال

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٧٨.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٥.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٢٧٨ ، ٣٧٥.

(٤) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١١ ، والترمذي في القيامة باب ٤٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٠٠ ، ٢٠٤.

(٥) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١١ ، والترمذي في البر باب ٣٥.

(٦) كتاب الأدب باب ١١.

٤١٤

محمد بن إسحاق ، ما جاءك الله من نعمة وكرامة من النبوة فحدث بها واذكرها وادع إليها ، قال : فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر ما أنعم به عليه من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله ، وافترضت عليه الصلاة فصلى. آخر تفسير سورة الضحى ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الشرح

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

يقول تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) يعني أما شرحنا لك صدرك أي نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا كقوله : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٢٥] وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق وقيل : المراد بقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) شرح صدره ليلة الإسراء كما تقدم من رواية مالك بن صعصعة ، وقد أورده الترمذي هاهنا ، وهذا وإن كان واقعا ليلة الإسراء كما رواه مالك بن صعصعة ، ولكن لا منافاة فإن من جملة شرح صدره الذي فعل بصدره ليلة الإسراء وما نشأ عنه من الشرح المعنوي أيضا ، فالله أعلم.

قال عبد الله ابن الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن عبد الرّحيم أبو يحيى البزاز ، حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا معاذ بن محمد بن معاذ بن محمد بن أبي بن كعب ، حدثني أبو محمد بن معاذ عن معاذ عن محمد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئا على أن يسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشياء لا يسأله عنها غيره فقال : يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا وقال «لقد سألت يا أبا هريرة ، إني لفي الصحراء ابن عشر سنين وأشهر وإذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو؟ قال نعم فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط ، وثياب لم أرها على أحد قط فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأحدهما مسا ، فقال أحدهما لصاحبه : أضجعه فأضجعاني بلا قصر ولا هصر ، فقال أحدهما لصاحبه : افلق صدره فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع ، فقال له : أخرج الغل والحسد ، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها فطرحها ، فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم هز إبهام

__________________

(١) المسند ٥ / ١٣٩.

٤١٥

رجلي اليمني فقال : أغد واسلم ، فرجعت بها أعدو رقة على الصغير ورحمة للكبير».

وقوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) بمعنى (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) الإنقاض الصوت ، وقال غير واحد من السلف في قوله : (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي أثقلك حمله ، وقوله تعالى : (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) قال مجاهد : لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرنا عمرو بن الحارث عن دراج ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أتاني جبريل فقال : إن ربي وربك يقول كيف رفعت ذكرك؟ قال : الله أعلم ، قال : إذا ذكرت ذكرت معي» وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يونس عن عبد الأعلى به. ورواه أبو يعلى من طريق ابن لهيعة عن دراج.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا أبو عمر الحوضي ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سألت ربي مسألة وددت أني لم أسأله ، قلت قد كان قبلي أنبياء منهم من سخرت له الريح ومنهم من يحيي الموتى ، قال : يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك ضالا فهديتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ قلت : بلى يا رب ، قال ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت : بلى يا رب».

وقال أبو نعيم في دلائل النبوة : حدثنا أبو أحمد الغطريفي ، حدثنا موسى بن سهل الجويني ، حدثنا أحمد بن القاسم بن بهزان الهيتي : حدثنا نصر بن حماد عن عثمان بن عطاء عن الزهري عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لما فرغت مما أمرني الله به من أمر السموات والأرض قلت يا رب إنه لم يكن نبي قبلي إلا وقد كرمته جعلت إبراهيم خليلا وموسى كليما ، وسخرت لداود الجبال ، ولسليمان الريح والشياطين ، وأحييت لعيسى الموتى فما جعلت لي؟ قال أو ليس قد أعطيتك أفضل من ذلك كله أني لا أذكر إلا ذكرت معي وجعلت صدور أمتك أناجيل يقرءون القرآن ظاهرا ولم أعطها أمة ، وأعطيتك كنزا من كنوز عرشي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان يعني ذكره فيه وأورد من شعر حسان بن ثابت : [الطويل]

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٧.

٤١٦

أغرّ عليه للنبوة خاتم

من الله من نور يلوح ويشهد (١)

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشقّ له من اسمه ليجلّه

فذو العرش محمود وهذا محمد

وقال آخرون : رفع الله ذكره في الأولين والآخرين ونوه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به ، وأن يأمروا أممهم بالإيمان به ، ثم شهد ذكره في أمته فلا يذكر الله إلا ذكر معه ، وما أحسن ما قال الصرصري رحمه‌الله :

لا يصحّ الأذان في الفرض إلا

باسمه العذب في الفم المرضي

وقال أيضا :

ألم تر أنا لا يصحّ أذاننا

ولا فرضنا إن لم نكرّره فيهما

وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر ثم أكد هذا الخبر. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا حميد بن حماد بن أبي خوار أبو الجهم ، حدثنا عائذ بن شريح قال : سمعت أنس بن مالك يقول كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا وحياله حجر ، فقال : لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» فأنزل الله عزوجل : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن محمد بن معمر ، عن حميد بن حماد ولفظه : «لو جاء العسر حتى يدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يخرجه» ثم قال : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ثم قال البزار : لا نعلم رواه عن أنس إلا عائذ بن شريح.

[قلت] وقد قال فيه أبو حاتم الرازي : في حديثه ضعف ، ولكن رواه شعبة عن معاوية بن قرة عن رجل عن عبد الله بن مسعود موقوفا. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا أبو قطن ، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن قال : كانوا يقولون لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن ، قال: خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما مسرورا فرحا وهو يضحك وهو يقول : «لن يغلب عسر يسرين ، لن يغلب عسر يسرين ، فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» وكذا رواه من حديث عوف الأعرابي ويونس بن عبيد عن الحسن مرسلا.

وقال سعيد عن قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال : «لن يغلب

__________________

(١) الأبيات في ديوان حسان بن ثابت ص ٣٣٨ ، والبيت الثالث في خزانة الأدب ١ / ٢٢٣.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٦٢٨.

٤١٧

عسر يسرين» ومعنى هذا أن العسر معرّف في الحالتين فهو مفرد واليسر منكر ، فتعدد ولهذا قال: «لن يغلب عسر يسرين» يعني قوله : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فالعسر الأول عين الثاني واليسر تعدد. وقال الحسن بن سفيان : حدثنا يزيد بن صالح ، حدثنا خارجة عن عباد بن كثير عن أبي الزناد عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نزلت المعونة من السماء على قدر المؤونة ، ونزل الصبر على قدر المصيبة» ومما يروى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال :

صبرا جميلا ما أقرب الفرجا

من راقب الله في الأمور نجا

من صدق الله لم ينله أذى

ومن رجاه يكون حيث رجا

وقال ابن دريد : أنشدني أبو حاتم السجستاني :

إذا اشتملت على اليأس القلوب

وضاق لما به الصدر الرحيب

وأوطأت المكاره واطمأنت

وأرسلت في أماكنها الخطوب

ولم تر لانكشاف الضر وجها

ولا أغنى بحيلته الأريب

أتاك على قنوط منك غوث

يمن به اللطيف المستجيب

وكل الحادثات إذا تناهت

فموصول بها الفرج القريب

وقال آخر :

ولرب نازلة يضيق بها الفتى

ذرعا وعند الله منها المخرج

كملت فلما استحكمت حلقاتها

فرجت وكان يظنها لا تفرج

وقوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطا فارغ البال وأخلص لربك النية والرغبة ، ومن هذا القبيل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المتفق على صحته : «لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدؤوا بالعشاء» (٢) قال مجاهد في هذه الآية : إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك ، وفي رواية عنه : إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك ، وعن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، وعن ابن عياض نحوه ، وفي رواية عن ابن مسعود : (فَانْصَبْ وَإِلى

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٦٧ ، وأبو داود في الطهارة باب ٤٣ ، والدارمي في الصلاة باب ١٣٧ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٣ ، ٥٤ ، ٧٣.

(٢) أخرجه البخاري في الأذان باب ٤٢ ، والأطعمة باب ٥٨ ، ومسلم في المساجد حديث ٦٤ ، ٦٦ ، وأبو داود في الأطعمة باب ١٠ ، والترمذي في المواقيت باب ١٤٥ ، والنسائي في الإمامة باب ٥١ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٣٤ ، والدارمي في الصلاة باب ٥٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٠٠ ، ١١٠ ، ١٦١ ، ٢٣١ ، ٢٣٨ ، ٢٤٩ ، ٤ / ٤٩ ، ٥٤ ، ٦ / ٤٠ ، ٥١ ، ١٤٩ ، ٢٩١ ، ٣٠٣ ، ٣١٤.

٤١٨

رَبِّكَ فَارْغَبْ) بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) ، يعني في الدعاء ، وقال زيد بن أسلم والضحاك : (فَإِذا فَرَغْتَ) أي من الجهاد (فَانْصَبْ) أي في العبادة (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) وقال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عزوجل.

آخر تفسير سورة ألم نشرح ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة التين

وهي مكية

قال مالك وشعبة عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في سفره في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا أو قراءة منه (١) ، أخرجه الجماعة في كتبهم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٨)

اختلف المفسرون هاهنا على أقوال كثيرة فقيل المراد بالتين مسجد دمشق ، وقيل : هي نفسها ، وقيل الجبل الذي عندها ، وقال القرطبي (٢) : هو مسجد أصحاب الكهف ، وروى العوفي عن ابن عباس أنه مسجد نوح الذي على الجودي ، وقال مجاهد : هو تينكم هذا (وَالزَّيْتُونِ) قال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وغيرهم : هو مسجد بيت المقدس. وقال مجاهد وعكرمة : هو هذا الزيتون الذي تعصرون (وَطُورِ سِينِينَ) قال كعب الأحبار وغير واحد : هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) يعني مكة ، قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وإبراهيم النخعي وابن زيد وكعب الأحبار ولا خلاف في

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٠٠ ، ١٠٢ ، وتفسير سورة ٩٥ ، في الترجمة ، باب ١ ، والتوحيد باب ٥٢ ، ومسلم في الصلاة حديث ١٧٥ ، ١٧٧ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٥٠ ، والسفر باب ٦ ، والترمذي في الصلاة باب ١١٤ ، وتفسير سورة ٩٥ ، باب ١ ، والنسائي في الافتتاح باب ٧٢ ، ٧٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٠ ، ومالك في النداء حديث ٢٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٩٨ ، ٣٠٢.

(٢) انظر الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١١١.

٤١٩

ذلك ، وقال بعض الأئمة : هذه محال ثلاثة بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار :

[فالأول] محلة التين والزيتون وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريمعليه‌السلام. [والثاني] طور سينين ، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران. [والثالث] مكة ، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمنا ، وهو الذي أرسل فيه محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء ـ يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ـ وأشرق من ساعير ـ يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى ـ واستعلن من جبال فاران ـ يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرهم مخبرا عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان ، ولهذا أقسم بالأشرف ثم الأشرف منه ثم بالأشرف منهما.

وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) هذا هو المقسم عليه ، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل منتصب القامة سوي الأعضاء حسنها (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إلى النار ، قاله مجاهد وأبو العالية والحسن وابن زيد وغيرهم ، ثم بعد هذا الحسن والنضارة مصيره إلى النار إن لم يطع الله ويتبع الرسل ولهذا قال : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وقال بعضهم (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إلى أرذل العمر ، وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة حتى قال عكرمة : من جمع القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ، واختار ذلك ابن جرير ، ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك لأن الهرم قد يصيب بعضهم ، وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [العصر : ١ ـ ٣] وقوله : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع كما تقدم.

ثم قال : (فَما يُكَذِّبُكَ) أي يا ابن آدم (بَعْدُ بِالدِّينِ) أي بالجزاء في المعاد ، ولقد علمت البداءة وعرفت أن من قدر على البداءة فهو قادر على الرجعة بطريق الأولى ، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا؟ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرّحمن عن سفيان عن منصور قال : قلت لمجاهد (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) عنى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : معاذ الله ، عنى به الإنسان وهكذا قال عكرمة وغيره. وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحدا ، ومن عدله أن يقيم القيامة فينصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه. وقد قدمنا في حديث أبي هريرة مرفوعا «فإذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فأتى على آخرها (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين».

آخر تفسير سورة التين والزيتون ولله الحمد والمنة.

٤٢٠