تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف ، فبلغ ذلك معاذا فقال منافق ، فذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأل الفتى فقال : يا رسول الله : جئت أصلي معه فطول علي ، فانصرفت وصليت في ناحية المسجد ، فعلفت ناقتي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتان يا معاذ؟ أين أنت من (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] ـ (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) [الشمس : ١] ـ (وَالْفَجْرِ) ـ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) [الليل : ١]» (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤)

أما الفجر فمعروف وهو الصبح ، قاله علي وابن عباس وعكرمة ومجاهد والسدي ، وعن مسروق ومحمد بن كعب ومجاهد : المراد به فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر ، وقيل المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده كما قاله عكرمة ، وقيل المراد به جميع النهار ، وهو رواية عن ابن عباس ، والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف.

وقد ثبت في صحيح البخاري (٢) عن ابن عباس مرفوعا «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام» يعني عشر ذي الحجة قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء» وقيل : المراد بذلك العشر الأول من المحرم ، حكاه أبو جعفر بن جرير ولم يعزه إلى أحد ، وقد روى أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس (وَلَيالٍ عَشْرٍ) قال : هو العشر الأول من رمضان ، والصحيح القول الأول.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثنا عياش بن عقبة ، حدثني خير بن نعيم عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر» ، ورواه النسائي عن محمد بن رافع وعبدة بن عبد الله ، وكل منهما عن زيد بن الحباب به ورواه ابن جرير (٤) وابن أبي حاتم من حديث زيد بن الحباب به ، وهذا إسناد

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ١٧٨ ، والنسائي في الإقامة باب ٣٩ ، ٤١ ، والافتتاح باب ٧٠.

(٢) أخرجه البخاري في العيدين باب ١١ ، وابن ماجة في الصيام باب ٣٩.

(٣) المسند ٣ / ٣٢٧.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٥٦٢ ، ٥٦٣.

٣٨١

رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قد تقدم في هذا الحديث أن الوتر يوم عرفة لكونه التاسع ، وأن الشفع يوم النحر لكونه العاشر ، وقاله ابن عباس وعكرمة والضحاك أيضا [قول ثان] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثني عقبة بن خالد عن واصل بن السائب قال : سألت عطاء عن قوله تعالى : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قلت : صلاتنا وترنا هذا؟ قال : لا ولكن الشفع يوم عرفة والوتر ليلة الأضحى [قول ثالث] قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثني أبي عن النعمان ، يعني ابن عبد السّلام ، عن أبي سعيد بن عوف ، حدثني بمكة قال : سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس ، فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر ، فقال : الشفع قول الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] والوتر قوله تعالى : (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] وقال ابن جريج : أخبرني محمد بن المرتفع أنه سمع ابن الزبير يقول : الشفع أوسط أيام التشريق والوتر آخر أيام التشريق.

وفي الصحيحين من رواية أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» (١).

[قول رابع] قال الحسن البصري وزيد بن أسلم : الخلق كلهم شفع ووتر أقسم تعالى بخلقه ، وهو رواية عن مجاهد والمشهور عنه الأول ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال : الله وتر واحد ، وأنتم شفع ، ويقال الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب.

[قول خامس] قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال : الشفع الزوج ، والوتر : الله عزوجل. وقال أبو عبد الله عن مجاهد : الله الوتر وخلقه الشفع الذكر والأنثى وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) كل شيء خلقه الله شفع. السماء والأرض والبر والبحر والجن والإنس والشمس والقمر ونحو هذا ، ونحا مجاهد في هذا ما ذكروه في قوله تعالى : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩] أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد [قول سادس] قال قتادة عن الحسن (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) هو العدد منه شفع ومنه وتر.

[قول سابع في الآية الكريمة] رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج ثم قال ابن جرير : وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر يؤيد القول الذي ذكرنا عن أبي الزبير ، حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني ، حدثنا زيد بن الحباب أخبرني عياش بن عقبة ، حدثني خير بن نعيم عن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٦٩ ، ومسلم في الذكر حديث ٥ ، ٦ ، وأبو داود في الوتر باب ١ ، والترمذي في الوتر باب ٢ ، والنسائي في قيام الليل باب ٢٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١٤.

٣٨٢

الزبير عن جابر أن رسول الله قال : «الشفع اليومان والوتر اليوم الثالث» هكذا ورد هذا الخبر بهذا اللفظ ، وهو مخالف لما تقدم من اللفظ في رواية أحمد والنسائي وابن أبي حاتم وما رواه هو أيضا والله أعلم.

قال أبو العالية والربيع بن أنس وغيرهما : هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية ، ومنها وتر كالمغرب فإنها ثلاث وهي وتر النهار ، وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل. وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عمران بن حصين (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) قال هي الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر وهذا منقطع وموقوف ولفظه خاص بالمكتوبة وقد روي متصلا مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظه عام.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو داود هو الطيالسي ، حدثنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام أن شيخا حدثه من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال : «هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» هكذا وقع في المسند ، وكذا رواه ابن جرير عن بندار عن عفان وعن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى وكلاهما عن همام ، وهو ابن يحيى ، عن قتادة عن عمران بن عصام ، عن شيخ عن عمران بن حصين ، وكذا رواه أبو عيسى الترمذي (٢) عن عمرو بن علي عن ابن مهدي وأبي داود ، كلاهما عن همام عن قتادة عن عمران بن عصام عن رجل من أهل البصرة ، عن عمران بن حصين به ، ثم قال : غريب لا نعرفه إلا من حديث قتادة ، وقد رواه خالد بن قيس أيضا عن قتادة ، وقد روي عن عمران بن عصام عن عمران نفسه والله أعلم.

(قلت) : ورواه ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره ، هكذا رأيته في تفسيره فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام.

وهكذا رواه ابن جرير (٣) : أخبرنا نصر بن علي ، حدثني أبي ، حدثني خالد بن قيس عن قتادة عن عمران بن عصام عن عمران بن حصين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشفع والوتر قال : «هي الصلاة منها شفع ومنها وتر» فأسقط ذكر الشيخ المبهم ، وتفرد به عمران بن عصام الضبعي أبو عمارة البصري إمام مسجد بني ضبيعة. وهو والد أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي ، روى عنه قتادة وابنه أبو جمرة والمثنى بن سعيد وأبو التياح يزيد بن حميد.

وذكره ابن حبان في كتاب الثقات ، وذكره خليفة بن خياط في التابعين من أهل

__________________

(١) المسند ٤ / ٤٣٧.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨٩ ، باب ١.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٥٦٣.

٣٨٣

البصرة ، وكان شريفا نبيلا حظيا عند الحجاج بن يوسف ، ثم قتله يوم الزاوية سنة ثلاث وثمانين لخروجه مع ابن الأشعث ، وليس له عند الترمذي سوى هذا الحديث الواحد ، وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه والله أعلم ، ولم يجزم ابن جرير بشيء من هذه الأقوال في الشفع والوتر.

وقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قال العوفي عن ابن عباس : أي إذا ذهب ، وقال عبد الله بن الزبير (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) حتى يذهب بعضه بعضا ، وقال مجاهد وأبو العالية وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وابن زيد (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) إذا سار ، وهذا يمكن حمله على ما قال ابن عباس أي ذهب ، ويحتمل أن يكون المراد إذا سار أي أقبل ، وقد يقال إن هذا أنسب لأنه في مقابلة قوله : (وَالْفَجْرِ) فإن الفجر هو إقبال النهار وإدبار الليل ، فإذا حمل قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) على إقباله كان قسما بإقبال الليل وإدبار النهار وبالعكس كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) [التكوير : ١٧ ـ ١٨] وكذا قال الضحاك (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي يجري ، وقال عكرمة (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.

ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام ، حدثنا أبو عامر حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول في قوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) قال : أسر يا سار ولا تبيتن إلا بجمع ، وقوله تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي لذي عقل ولب ودين وحجا ، وإنما سمي العقل حجرا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ، ومنه حجر البيت لأنه يمنع الطائف من اللصوق بجداره الشامي ، ومنه حجر اليمامة ، وحجر الحاكم على فلان إذا منعه التصرف (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢] كل هذا من قبيل واحد ، ومعنى متقارب ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب التي يتقرب بها إليه عباده المتقون المطيعون له ، الخائفون منه المتواضعون لديه الخاضعون لوجهه الكريم.

ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم وطاعتهم قال بعده : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين خارجين عن طاعته مكذبين لرسله جاحدين لكتبه ، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبرا فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) وهؤلاء عاد الأولى وهم أولاد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح ، قاله ابن إسحاق ، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هودا عليه‌السلام فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٧ ـ ١٠] وقد ذكر الله قصتهم في القرآن في غير ما موضع ليعتبر بمصرعهم المؤمنون ، فقوله تعالى : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) عطف بيان زيادة تعريف بهم.

٣٨٤

وقوله تعالى : (ذاتِ الْعِمادِ) لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشا ، ولهذا ذكرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) ... (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [الأعراف : ٦٩] وقال تعالى : (فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥] وقال هاهنا : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم. قال مجاهد : إرم ، أمة قديمة يعني عادا الأولى ، كما قال قتادة بن دعامة والسدي : إن إرم بيت مملكة عاد ، وهذا قول حسن جيد وقوي ، وقال مجاهد وقتادة والكلبي في قوله : (ذاتِ الْعِمادِ) كانوا أهل عمد لا يقيمون ، وقال العوفي عن ابن عباس : إنما قيل لهم (ذاتِ الْعِمادِ) لطولهم ، واختار الأول ابن جرير ورد الثاني فأصاب.

وقوله تعالى : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) أعاد ابن زيد الضمير على العماد لارتفاعها وقال : بنوا عمدا بالأحقاف لم يخلق مثلها في البلاد ، وأما قتادة وابن جرير فأعاد الضمير على القبيلة أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد يعني في زمانهم ، وهذا القول هو الصواب ، وقول ابن زيد ومن ذهب مذهبه ضعيف لأنه لو كان أراد ذلك لقال التي لم يعمل مثلها في البلاد وإنما قال : (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثني معاوية بن صالح عمن حدثه عن المقدام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه ذكر إرم ذات العماد فقال : «كان الرجل منهم يأتي على الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم» ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو الطاهر ، حدثنا أنس بن عياض ، عن ثور بن زيد الديلي قال : قرأت كتابا وقد سمى حيث قرأه أنا شداد بن عاد وأنا الذي رفعت العماد وأنا الذي شددت بذراعي نظر واحد وأنا الذي كنزت كنزا على سبعة أذرع لا يخرجه إلا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قلت) : فعلى كل قول سواء كانت العماد أبنية بنوها أو أعمدة بيوتهم للبدو أو سلاحا يقاتلون به أو طول الواحد منهم ، فهم قبيلة وأمة من الأمم ، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع المقرونون بثمود كما هاهنا ، والله أعلم.

ومن زعم أن المراد بقوله : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) مدينة إما دمشق كما روي عن سعيد بن المسيب وعكرمة ، أو إسكندرية كما روي عن القرظي أو غيرهما ففيه نظر ، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان ، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد

٣٨٥

وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.

وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) ، مبنية بلبن الذهب والفضة قصورها ودورها وبساتينها ، وأن حصباءها لآلئ وجواهر وترابها بنادق المسك وأنهارها سارحة وثمارها ساقطة ، ودورها لا أنيس بها وسورها وأبوابها تصفر ليس بها داع ولا مجيب ، وأنها تنتقل فتارة تكون بأرض الشام وتارة باليمن وتارة بالعراق وتارة بغير ذلك من البلاد ، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.

وذكر الثعلبي وغيره أن رجلا من الأعراب وهو عبد الله بن قلابة في زمان معاوية ذهب في طلب أباعر له شردت ، فبينما هو يتيه في ابتغائها إذ اطلع على مدينة عظيمة لها سور وأبواب ، فدخلها فوجد فيها قريبا مما ذكرناه من صفات المدينة الذهبية التي تقدم ذكرها ، وأنه رجع فأخبر الناس فذهبوا معه إلى المكان الذي قال فلم يروا شيئا.

وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) هاهنا مطولة جدا فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها ، ولو صح إلى ذلك الأعرابي فقد يكون اختلق ذلك أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال ، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج وليس كذلك ، وهذا مما يقطع بعدم صحته ، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض ، فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللئالئ والإكسير الكبير ، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها ، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات ويطنزون بهم ، والذي يجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية وكنوزا كثيرة من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله ، فأما على الصفة التي زعموها فكذب وافتراء وبهت ولم يصح في ذلك شيء مما يقولونه إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب.

وقول ابن جرير (١) يحتمل أن يكون المراد بقوله : (إِرَمَ) قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف ، فيه نظر لأن المراد من السياق إنما هو الإخبار عن القبيلة ، ولهذا قال بعده : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) يعني يقطعون الصخر بالوادي ، قال ابن عباس ينحتونها ويخرقونها ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد ومنه يقال مجتابي النمار إذا خرقوها ، واجتاب الثوب إذا فتحه ومنه الجيب أيضا وقال الله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) [الشعراء : ١٤٩] ، وأنشد ابن جرير وابن أبي حاتم هاهنا قول الشاعر : [الطويل]

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٦٦.

٣٨٦

ألا كل شيء ما خلا الله بائد

كما باد حي من شنيف ومارد (١)

هم ضربوا في كل صمّاء صعدة

بأيد شداد أيّدات السواعد

وقال ابن إسحاق : كانوا عربا وكان منزلهم بوادي القرى ، وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته.

وقوله تعالى : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قال العوفي عن ابن عباس : الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره ، ويقال كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها (٢) ، وكذا قال مجاهد : كان يوتد الناس بالأوتاد ، وهكذا قال سعيد بن جبير والحسن والسدي. قال السدي : كان يربط الرجل في كل قائمة من قوائمة في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فتشدخه ، وقال قتادة : بلغنا أنه كان له مطال وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد وحبال ، وقال ثابت البناني عن أبي رافع : قيل لفرعون ذي الأوتاد لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي أنزل عليهم رجزا من السماء وأحل بهم عقوبة ، لا يردها عن القوم المجرمين.

وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) قال ابن عباس : يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون ويجازي كلا بسعيه في الدنيا والآخرة ، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله ويقال كلا بما يستحقه ، وهو المنزه عن الظلم الجور. وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا غريبا جدا وفي إسناده نظر وفي صحته ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا يونس الحذاء ، عن أبي حمزة البيساني ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ إن المؤمن لدى الحق أسير ، يا معاذ إن المؤمن لا يسكن روعه ولا يأمن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم خلف ظهره ، يا معاذ إن المؤمن قيده القرآن عن كثير من شهواته وعن أن يهلك فيها هو بإذن الله عزوجل فالقرآن دليله ، والخوف محجته ، والشوق مطيته ، والصلاة كهفه ، والصوم جنته ، والصدقة فكاكه ، والصدق أميره ، والحياء وزيره ، وربه عزوجل من وراء ذلك كله بالمرصاد».

قال ابن أبي حاتم : يونس الحذاء وأبو حمزة مجهولان وأبو حمزة عن معاذ مرسل. ولو كان عن أبي حمزة لكان حسنا أي لو كان من كلامه لكان حسنا ، ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا

__________________

(١) البيتان بلا نسبة في تفسير الطبري ١٢ / ٥٧١ ، وفي التفسير «من شنيق» بدل «من شنيف» ، و «كل صلاء» بدل «كل صمّاء».

(٢) انظر تفسير الطبري ١٢ / ٥٧٠.

٣٨٧

أبي ، حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع عن ابن عبد الكلاعي أنه سمعه وهو يعظ الناس يقول : إن لجهنم سبع قناطر قال : والصراط عليهن ، قال : فيحبس الخلائق عند القنطرة الأولى فيقول (قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) قال : فيحاسبون على الصلاة ويسألون عنها ، قال : فيهلك فيها من هلك وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثانية حوسبوا على الأمانة كيف أدوها وكيف خانوها ، قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا ، فإذا بلغوا القنطرة الثالثة سئلوا عن الرحم كيف وصلوها وكيف قطعوها ، قال : فيهلك من هلك وينجو من نجا ، قال : والرحم يومئذ متدلية إلى الهوى في جهنم تقول : اللهم من وصلني فصله ، ومن قطعني فاقطعه ، قال : وهي التي يقول الله عزوجل : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) هكذا أورد هذا الأثر ولم يذكر تمامه.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠)

يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره في ذلك ، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله تعالى : (كَلَّا) أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا ، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين : إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك وإذا كان فقيرا بأن يصبر.

وقوله تعالى : (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) فيه أمر بالإكرام له كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن يحيى بن أبي سليمان عن يزيد بن أبي عتاب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه ـ ثم قال بإصبعه ـ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا».

وقال أبو داود (١) : حدثنا محمد بن الصباح بن سفيان ، أخبرنا عبد العزيز يعني ابن أبي حازم ، حدثني أبي عن سهل يعني ابن سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقرن بين إصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام ، (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) يعني لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ويحث بعضهم على بعض في ذلك (وَتَأْكُلُونَ

__________________

(١) كتاب الأدب باب ١٢٣.

٣٨٨

التُّراثَ) يعني الميراث (أَكْلاً لَمًّا) أي من أي جهة حصل لهم ذلك من حلال أو حرام (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي كثيرا ، زاد بعضهم فاحشا.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة ، فقال تعالى : (كَلَّا) أي حقا (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال وقام الخلائق من قبورهم لربهم (وَجاءَ رَبُّكَ) يعني لفصل القضاء بين خلقه وذلك بعد ما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق محمد صلوات الله وسلامه عليه ، بعد ما يسألون أولي العزم من الرسل واحدا بعد واحد ، فكلهم يقول : لست بصاحب ذاكم حتى تنتهي النوبة إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : «أنا لها أنا لها» فيذهب فيشفع عند الله تعالى في أن يأتي لفصل القضاء ، فيشفعه الله تعالى في ذلك.

وهي أول الشفاعات وهي المقام المحمود كما تقدم بيانه في سورة سبحان ، فيجيء الرب تبارك وتعالى : لفصل القضاء كما يشاء المقام المحمود والملائكة يجنئون بين يديه صفوفاً وصفوفاً.

وقوله تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي عن العلاء بن خالد الكاهلي عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» (١) وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي عن عمر بن حفص به. ورواه أيضا عن عبد بن حميد عن أبي عامر عن سفيان الثوري عن العلاء بن خالد عن شقيق بن سلمة ، وهو أبو وائل ، عن عبد الله بن مسعود قوله ولم يرفعه ، وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن عرفة عن مروان بن معاوية الفزاري عن العلاء بن خالد عن شقيق عن عبد الله قوله.

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي وكيف تنفعه الذكرى (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) يعني يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصيا ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعا كما قال الإمام أحمد بن حنبل (٢) : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله يعني ابن المبارك ، حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن محمد بن أبي عميرة ، وكان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : لو أن عبدا خرّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت هرما في طاعة الله

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٢٩ ، والترمذي في جهنم باب ١.

(٢) المسند ٤ / ١٨٥.

٣٨٩

لحقره يوم القيامة ، ولودّ أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب.

ورواه بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن عتبة بن عبد الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) أي ليس أحد أشد عذابا من تعذيب الله من عصاه (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي وليس أحد أشد قبضا ووثقا من الزبانية لمن كفر بربهمعزوجل ، وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين ، فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته (راضِيَةً) أي في نفسها (مَرْضِيَّةً) أي قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في جملتهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) وهذا يقال لها عند الاحتضار وفي يوم القيامة أيضا ، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره ، فكذلك هاهنا.

ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية ، فروى الضحاك عن ابن عباس : نزلت في عثمان بن عفان ، وعن بريدة بن الحصيب : نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وقال العوفي عن ابن عباس : يقال للأرواح المطمئنة يوم القيامة (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) يعني صاحبك وهو بدنها الذي كانت تعمره في الدنيا (راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وروي عنه أنه كان يقرؤها فادخلي في عبدي (وَادْخُلِي جَنَّتِي) وكذا قال عكرمة والكلبي ، واختاره ابن جرير وهو غريب ، والظاهر الأول لقوله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] (وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ) [غافر : ٤٣] أي إلى حكمه والوقوف بين يديه.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أحمد بن عبد الرّحمن بن عبد الله الدشتكي ، حدثني أبي عن أبيه عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) قال : نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا ، فقال : «أما إنه سيقال لك هذا» ثم قال : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن يمان عن أشعث عن سعيد بن جبير قال : قرأت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) فقال أبو بكر رضي الله عنه إن هذا لحسن ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن الملك سيقول لك هذا عند الموت» وكذا رواه ابن جرير (١) عن أبي كريب عن ابن يمان به وهذا مرسل حسن.

ثم قال ابن أبي حاتم وحدثنا الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن شجاع الجزري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عباس بالطائف فجاء طير لم ير على خلقته فدخل نعشه ثم لم ير خارجا منه فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر لا يدري من تلاها (يا أَيَّتُهَا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٨١.

٣٩٠

النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ورواه الطبراني عن عبد الله بن أحمد عن أبيه عن مروان بن شجاع عن سالم بن عجلان الأفطس به فذكره.

وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر الهروي المعروف بشكر في كتاب العجائب بسنده عن قباث بن رزين أبي هاشم قال : أسرت في بلاد الروم فجمعنا الملك وعرض علينا دينه على أن من امتنع ضربت عنقه فارتد ثلاثة وجاء الرابع فامتنع فضربت عنقه وألقي رأسه في نهر هناك فرسب في الماء ثم طفا على وجه الماء ونظر إلى أولئك الثلاثة فقال : يا فلان ويا فلان ويا فلان يناديهم بأسمائهم قال الله تعالى في كتابه : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) ثم غاص في الماء ، قال فكادت النصارى أن يسلموا ووقع سرير الملك ورجع أولئك الثلاثة إلى الإسلام قال وجاء الفداء من عند الخليفة أبي جعفر المنصور فخلصنا.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة رواحة بنت أبي عمرو الأوزاعي عن أبيها حدثني سليمان بن حبيب المحاربي حدثني أبو أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل : «قل اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك» ثم روى عن أبي سليمان بن وبر أنه قال : حديث رواحة هذا واحد أمه ، آخر تفسير سورة الفجر ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة البلد

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(١٠)

هذا قسم من الله تبارك وتعالى بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حالا لينبه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها ، قال خصيف عن مجاهد (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) لا رد عليهم. أقسم بهذا البلد. وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ)

٣٩١

يعني مكة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال أنت يا محمد يحل لك أن تقابل به ، وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي صالح وعطية والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد ، وقال مجاهد ما أصبت فيه فهو حلال لك.

وقال قتادة : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) قال : أنت به من غير حرج ولا إثم ، وقال الحسن البصري أحلها الله له ساعة من نهار ، وهذا المعنى الذي قالوه ورد به الحديث المتفق على صحته. «إن هذا البلد حرم الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه (١) ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب» وفي لفظ آخر : «فإن أحد ترخص بقتال رسول الله فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم» (٢).

وقوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) قال ابن جرير (٣) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن عطية عن شريك عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يولد له ، ورواه ابن أبي حاتم من حديث شريك وهو ابن عبد الله القاضي به ، وقال عكرمة الوالد العاقر وما ولد الذي يلد رواه ابن أبي حاتم. وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والضحاك وسفيان الثوري وسعيد بن جبير والسدي والحسن البصري وخصيف وشرحبيل بن سعد وغيرهم : يعني بالوالد آدم وما ولد ولده ، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي ، لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي أم المساكن أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده ، وقال أبو عمران الجوني : هو إبراهيم وذريته ، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، واختار ابن جرير أنه عام في كل والد وولده وهو محتمل أيضا.

وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) روي عن ابن مسعود وابن عباس وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي وخيثمة والضحاك وغيرهم يعني منتصبا ، زاد ابن عباس في رواية عنه منتصبا في بطن أمه ، والكبد الاستواء والاستقامة ، ومعنى هذا القول لقد خلقناه سويا مستقيما كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٦ ـ ٧] وكقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وقال ابن جريج وعطاء عن ابن عباس : في كبد قال في شدة خلق ألم تر إليه وذكر مولده ونبات أسنانه ، وقال مجاهد (فِي كَبَدٍ) نطفة ثم علقة ثم مضغة يتكبد في الخلق ، قال مجاهد : وهو كقوله تعالى : (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) وأرضعته كرها ومعيشته كره فهو يكابد ذلك.

__________________

(١) لا يختلى خلاه : أي لا يقطع شجرة ، والخلا : النبت الرطب.

(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ٣٩ ، ومسلم في الحج حديث ٤٤٥ ، ٤٤٧ ، ٤٦٤.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٥٨٦.

٣٩٢

وقال سعيد بن جبير (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) في شدة وطلب معيشة ، وقال عكرمة : في شدة وطول ، وقال قتادة : في مشقة. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عاصم أخبرنا عبد الحميد بن جعفر سمعت محمد بن علي أبا جعفر الباقر سأل رجلا من الأنصار عن قول الله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : في قيامه واعتداله فلم ينكر عليه أبو جعفر ، وروي من طريق أبي مودود سمعت الحسن قرأ هذه الآية (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : يكابد أمرا من أمر الدنيا وأمرا من أمر الآخرة ، وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة ، وقال ابن زيد : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) قال : آدم خلق في السماء فسمي ذلك الكبد ، واختار ابن جرير أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها.

وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) قال الحسن البصري : يعني (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) يأخذ ماله. وقال قتادة (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) قال : ابن آدم يظن أن لن يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه ، وأين أنفقه ، وقال السدي (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) قال الله عزوجل ، وقوله تعالى : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي يقول ابن آدم أنفقت مالا لبدا أي كثيرا قاله مجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) قال مجاهد أي أيحسب أن لم يره الله عزوجل وكذا قال غيره من السلف : وقوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) أي يبصر بهما (وَلِساناً) أي ينطق به فيعبر عما في ضميره (وَشَفَتَيْنِ) يستعين بهما على الكلام وأكل الطعام وجمالا لوجهه وفمه.

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي الربيع الدمشقي عن مكحول قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى يا ابن آدم قد أنعمت عليك نعما عظاما لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها ، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما وجعلت لهما غطاء ، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك ، وإن رأيت ما حرمت عليك فأطبق عليهما غطاءهما ، وجعلت لك لسانا وجعلت له غلافا فانطق بما أمرتك وأحللت لك ، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك. وجعلت لك فرجا وجعلت لك سترا ، فأصب بفرجك ما أحللت لك ، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك ، ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي».

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) الطريقين قال سفيان الثوري عن عاصم عن زر عن عبد الله هو ابن مسعود (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال : الخير والشر ، وكذا روي عن علي وابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي وائل وأبي صالح ومحمد بن كعب والضحاك وعطاء الخراساني في آخرين ، وقال عبد الله بن وهب : أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما نجدان فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» تفرد به سنان بن سعد ، ويقال سعد بن سنان ، وقد وثقه ابن معين ، وقال الإمام أحمد والنسائي

٣٩٣

والجوزجاني منكر الحديث ، وقال أحمد : تركت حديثه لاضطرابه ، وروى خمسة عشر حديثا منكرة كلها ما أعرف منها حديثا واحدا يشبه حديثه حديث الحسن ـ يعني البصري ـ لا يشبه حديث أنس.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن أبي رجاء قال : سمعت الحسن يقول (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «يا أيها الناس إنهما النجدان نجد الخير ونجد الشر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» وكذا رواه حبيب ابن الشهيد ومعمر ويونس بن عبيد وأبو وهب عن الحسن مرسلا ، وهكذا أرسله قتادة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عيسى بن عفان عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) قال الثديين ، وروي عن الربيع بن خثيم وقتادة وأبي حازم مثل ذلك ، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن عيسى بن عفان به ثم قال : والصواب القول الأول ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٢ ـ ٣].

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠)

قال ابن جرير (٢) : حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد ، حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبيه عن أبي عطية عن ابن عمر في قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ) أي دخل (الْعَقَبَةَ) قال : جبل في جهنم. وقال كعب الأحبار : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) هو سبعون درجة في جهنم وقال الحسن البصري : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) قال عقبة في جهنم ، وقال قتادة : إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى. وقال قتادة : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال (فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) وقال ابن زيد (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثم بينها فقال تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ) قرئ فك رقبة بالإضافة ، وقرئ على أنه فعل وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله ، وكلتا القراءتين معناهما متقارب.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا علي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن أبي هند عن إسماعيل بن أبي حكيم ، مولى آل الزبير عن سعيد بن مرجانة أنه سمع أبا هريرة يقول : قال

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٩٢.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٥٩٢.

(٣) المسند ٢ / ٤٢٢.

٣٩٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب ـ أي عضو ـ منها إربا منه من النار حتى أنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج» (١).

فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد : نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه : ادع مطرفا ، فلما قام بين يديه قال : اذهب فأنت حر لوجه الله ، وقد رواه البخاري ، ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سعيد بن مرجانة به ، وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.

وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : أيّما مسلم أعتق رجلا مسلما فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظما من عظامه محررا من النار ، وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار» رواه ابن جرير (٢) هكذا وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حيوة بن شريح ، حدثنا بقية حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من بنى مسجدا ليذكر الله فيه بنى الله له بيتا في الجنة. ومن أعتق نفسا مسلمة كانت فديته من جهنم ، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة».

[طريق أخرى] قال أحمد (٤) : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا حريز عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عبسة : حدثنا حديثا ليس فيه تزيد ولا نسيان. قال عمرو : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضوا بعضو ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة ، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل» (٥) وروى أبو داود والنسائي بعضه.

[طريق أخرى] قال أحمد (٦) : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا الفرج ، حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة ، قال السلمي : قلت له : حدثنا حديثا سمعته من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم ، قال سمعته يقول : «من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا

__________________

(١) أخرجه مسلم في الكفارات باب ٦ ، ومسلم في العتق حديث ٢٢ ، ٢٣ ، والترمذي في النذور باب ١٤.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٥٩٣.

(٣) المسند ٤ / ٣٨٦.

(٤) المسند ٤ / ١١٣.

(٥) أخرجه أبو داود في العتاق باب ١٤ ، والترمذي في النذور باب ٢٠ ، وابن ماجة في العتق باب ٤.

(٦) المسند ٤ / ٣٨٦.

٣٩٥

يوم القيامة ، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة ، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار ، ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها» وهذه أسانيد جيدة قوية ، ولله الحمد.

[حديث آخر] قال أبو داود (١) : حدثنا عيسى بن محمد الرملي ، حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة عن الغريف بن عياش الديلمي ، قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان ، فغضب وقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنما أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال : «أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار» ، وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الغريف بن عياش الديلمي ، عن واثلة به.

[حديث آخر] قال أحمد (٢) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا هشام عن قتادة عن قيس الجذامي عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار» ، وحدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة ، قال : ذكر لنا أن قيسا الجذامي حدث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار» تفرد به أحمد (٣) من هذا الوجه.

[حديث آخر] قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا : حدثنا عيسى بن عبد الرّحمن البجلي من بني بجيلة من بني سليم عن طلحة بن مصرف عن عبد الرّحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة ، فقال : «لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة ، أعتق النسمة وفك الرقبة» فقال : يا رسول الله أو ليستا بواحدة ، قال : «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في عتقها ، والمنحة الوكوف (٥) ، والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع ، واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير».

وقوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) قال ابن عباس : ذي مجاعة ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وغير واحد ، والسغب هو الجوع ، وقال إبراهيم النخعي : في يوم

__________________

(١) كتاب العتاق باب ١٣.

(٢) المسند ٤ / ١٥٠.

(٣) المسند ٤ / ١٤٧.

(٤) المسند ٤ / ٢٩٩.

(٥) المنحة الوكوف : غزيرة اللبيب.

٣٩٦

الطعام فيه عزيز ، وقال قتادة : في يوم مشتهى فيه الطعام (١).

وقوله تعالى : (يَتِيماً) أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيما (ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قرابة منه ، قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك والسدي ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام (٢) أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن سلمان بن عامر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان : صدقة وصلة» (٣) وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح.

وقوله تعالى : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي فقيرا مدقعا لاصقا بالتراب ، وهو الدقعاء أيضا. قال ابن عباس : (ذا مَتْرَبَةٍ) هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له ولا شيء يقيه من التراب ، وفي رواية هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ليس له شيء ، وفي رواية عنه : هو البعيد التربة ، قال ابن أبي حاتم : يعني الغريب عن وطنه ، وقال عكرمة : هو الفقير المديون المحتاج ، وقال سعيد بن جبير ، هو الذي لا أحد له ، وقال ابن عباس وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان : هو ذو العيال ، وكل هذه قريبة المعنى.

وقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي ثم مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه محتسب ثواب ذلك عند الله عزوجل كما قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩] وقال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [النحل : ٩٧] الآية.

وقوله تعالى : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي كان من المؤمنين العاملين صالحا «المتواصين بالصبر على أذى الناس وعلى الرحمة بهم كما جاء في الحديث الشريف الراحمون يرحمهم الرّحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (٤) وفي الحديث الآخر «لا يرحم الله من لا يرحم الناس» (٥). وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن ابن عامر عن عبد الله بن عمرو يرويه قال : «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا» (٦).

وقوله تعالى (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٢ / ٥٩٥.

(٢) المسند ٤ / ٢١٤.

(٣) أخرجه الترمذي في الزكاة باب ٢٦ ، والنسائي في الزكاة باب ٢٢ ، ٨٢ ، وابن ماجة في الزكاة باب ٢٨.

(٤) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٥٨ ، والترمذي في البر باب ١٦.

(٥) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ٦٦ ، والترمذي في البر باب ١٦ ، والزهد باب ٤٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٠.

(٦) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٥٨.

٣٩٧

ثم قال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي أصحاب الشمال (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة عليهم فلا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها! قال أبو هريرة وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي وعطية العوفي والحسن وقتادة والسدي (مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة قال ابن عباس : مغلقة الأبواب ، وقال مجاهد : أصد الباب بلغة قريش أي أغلقه وسيأتي في ذلك حديث في سورة (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١].

وقال الضحاك (مُؤْصَدَةٌ) حيط لا باب له ، وقال قتادة (مُؤْصَدَةٌ) مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد ، وقال أبو عمران الجوني إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره ، فأوثقوا بالحديد ثم أمر بهم إلى جهنم ثم أوصدوها عليهم أي أطبقوها ، قال : فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا ، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا ، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا ، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا ، رواه ابن أبي حاتم.

آخر تفسير سورة البلد ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الشمس

وهي مكية

تقدم حديث جابر الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والليل إذا يغشى؟» (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠)

قال مجاهد (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أي وضوئها. وقال قتادة (وَضُحاها) النهار كله. قال ابن جرير (٢) : والصواب أن يقال : أقسم الله بالشمس ونهارها لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) قال مجاهد : تبعها ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) قال : يتلو النهار ، وقال قتادة : (إِذا تَلاها) ليلة الهلال إذا سقطت الشمس رؤي الهلال ، وقال ابن

__________________

(١) تقدم الحديث في كثير من السور التي قبل.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٥٩٩.

٣٩٨

زيد ، هو يتلوها في النصف الأول من الشهر ثم هي تتلوه وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر ، وقال مالك عن زيد بن أسلم : إذا تلاها ليلة القدر. وقوله تعالى : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) قال مجاهد : أضاء. وقال قتادة (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) إذا غشيها النهار ، وقال ابن جرير : وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك بمعنى والنهار إذا جلا الظلمة لدلالة الكلام عليها.

(قلت) ولو أن هذا القائل تأول ذلك بمعنى (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي البسيطة لكان أولى ولصح تأويله في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) فكان أجود وأقوى ، والله أعلم. ولهذا قال مجاهد (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) إنه كقوله تعالى : (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله على الشمس لجريان ذكرها ، وقالوا في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) يعني إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق.

وقال بقية بن الوليد عن صفوان : حدثني يزيد بن ذي حمامة قال : إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله غشى عبادي خلقي العظيم فالليل يهابه والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم ، وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) يحتمل أن تكون ما هاهنا مصدرية بمعنى والسماء وبنائها ، وهو قول قتادة : ويحتمل أن تكون بمعنى من يعني والسماء وبانيها ، وهو قول مجاهد ، وكلاهما متلازم والبناء هو الرفع كقوله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) ـ أي بقوة ـ (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٧ ـ ٤٨] وهكذا قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) قال مجاهد : (طَحاها) دحاها ، وقال العوفي عن ابن عباس (وَما طَحاها) أي خلق فيها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (طَحاها) قسمها. وقال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبو صالح وابن زيد (طَحاها) بسطها ، وهذا أشهر الأقوال وعليه الأكثر من المفسرين ، وهو المعروف عند أهل اللغة ، قال الجوهري : طحوته مثل دحوته أي بسطته.

وقوله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟» (١) أخرجاه من رواية أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يقول الله عزوجل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٧٩ ، وتفسير سورة ٣٠ ، باب ١ ، ومسلم في القدر حديث ٢٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٣ ، ٢٧٥ ، ٣٩٣.

(٢) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

٣٩٩

وقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها أي بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها. قال ابن عباس (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) بين لها الخير والشر ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك والثوري ، وقال سعيد بن جبير : ألهمها الخير والشر ، وقال ابن زيد : جعل فيها فجورها وتقواها.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل قالا : حدثنا عزرة بن ثابت ، حدثني يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي قال : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكدت عليهم الحجة؟

قلت : بل شيء قضي عليهم ، قال : فهل يكون ذلك ظلما؟ قال : ففزعت منه فزعا شديدا قال : قلت له ليس شيء إلا وهو خلقه وملك يده لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، قال: سددك الله إنما سألتك لأخبر عقلك ، إن رجلا من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون ، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكدت به عليهم الحجة؟ قال : «بل شيء قد قضي عليهم» قال : ففيم نعمل؟ قال : «من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٢) رواه أحمد ومسلم من حديث عزرة بن ثابت به.

وقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى نفسه أي بطاعة الله كما قال قتادة : وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ، ويروى نحوه عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وكقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى : ١٤ ـ ١٥] (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي دسسها أي أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عزوجل ، وقد يحتمل أن يكون المعنى قد أفلح من زكى الله نفسه ، وقد خاب من دسى الله نفسه كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي وأبو زرعة قالا : حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا أبو مالك يعني عمرو بن هشام عن جويبر ، عن الضحاك عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في قول الله عزوجل : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفلحت نفس زكاها الله عزوجل» ورواه ابن أبي حاتم من حديث مالك به ، وجويبر هذا هو ابن سعيد متروك الحديث ، والضحاك

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٠٢ ، ٦٠٣.

(٢) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ٤٣٨.

٤٠٠