تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا بكر بن سهل الدمياطي ، حدثنا عمرو بن هاشم البيروتي، أخبرنا سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : (حُورٌ عِينٌ) قال : «حور بيض عين ضخام العيون شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر» قلت : أخبرني عن قوله تعالى : (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) قال : «صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي» قلت : أخبرني عن قوله: (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) قال «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» قلت : أخبرني عن قوله (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قال : «رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشر وهو الغرقئ» قلت : يا رسول الله أخبرني عن قوله (عُرُباً أَتْراباً) قال «هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصا شمصا ، خلقهن الله بعد الكبر فجعلهن عذارى عربا متعشقات محببات أترابا على ميلاد واحد» قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : «بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة» قلت : يا رسول الله وبم ذاك؟ قال : «بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عزوجل. ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير. بيض الألوان خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب ، يقلن نحن الخالدات فلا نموت أبدا ونحن الناعمات فلا نبأس أبدا ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا ، طوبى لمن كنا له وكان لنا» قلت : يا رسول الله المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها ، من يكون زوجها؟ قال : «يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقا ، فتقول يا رب إن هذا كان أحسن خلقا معي فزوجنيه ، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة».

وفي حديث الصور الطويل المشهور أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يشفع للمؤمنين كلهم في دخول الجنة ، فيقول الله تعالى قد شفعتك وأذنت لهم بدخولها ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ، فيدخل الرجل منهم على ثنتين وسبعين زوجة سبعين مما ينشئ الله ، وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله بعبادتهما الله في الدنيا ، يدخل على الأولى منهما في غرفة من ياقوتة على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ عليه سبعون زوجا من سندس وإستبرق ، وإنه ليضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها من وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبده لها مرآة ، يعني وكبدها له مرآة ، فبينما هو عندها لا يملها ولا تمله ولا يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يفتر ذكره ولا يشتكي قبلها إلا أنه لا مني ولا منية ، فبينما هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أن لك أزواجا غيرها فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة ، كلما جاء واحدة قالت : والله ما في الجنة شيء أحسن منك ، وما في الجنة شيء أحب إلي منك» وقال عبد الله بن وهب :

٢١

أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال له : أنطأ في الجنة؟ قال «نعم ، والذي نفسي بيده دحما دحما (١) ، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا».

وقال الطبراني : حدثنا إبراهيم بن جابر الفقيه البغدادي ، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي الواسطي حدثنا معلى بن عبد الرّحمن الواسطي ، حدثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا».

وقال أبو داود الطيالسي : أخبرنا عمران عن قتادة عن أنس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا في النساء ، قلت : يا رسول الله ويطيق ذلك؟ قال : يعطى قوة مائة» (٢) ورواه الترمذي من حديث أبي داود وقال : صحيح غريب. وروى أبو القاسم الطبراني من حديث حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال : «إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال الحافظ أبو عبد الله المقدسي : هذا الحديث عندي على شرط الصحيح والله أعلم.

وقوله : (عُرُباً) قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن ، ألم تر إلى الناقة الضبعة (٣) هي كذلك ، وقال الضحاك عن ابن عباس : العرب العواشق لأزواجهن وأزواجهن لهن عاشقون ، وكذا قال عبد الله بن سرجس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية ويحيى بن أبي كثير وعطية والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ، وقال ثور بن يزيد عن عكرمة قال : سئل ابن عباس عن قوله : (عُرُباً) قال : هي الملقة لزوجها. وقال شعبة عن سماك عن عكرمة : هي الغنجة. وقال الأجلح بن عبد الله عن عكرمة : هي الشكلة ، وقال صالح بن حيّان عن عبد الله بن بريدة في قوله : (عُرُباً) قال : الشكلة بلغة أهل مكة والغنجة بلغة أهل المدينة ، وقال تميم بن حذلم : هي حسن التبعل. وقال زيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن : العرب حسنات الكلام وقال ابن أبي حاتم ذكر عن سهل بن عثمان العسكري ، حدثنا أبو علي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (عُرُباً) ـ قال ـ كلامهن عربي».

وقوله : (أَتْراباً) قال الضحاك عن ابن عباس : يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة ، وقال مجاهد : الأتراب المستويات ، وفي رواية عنه الأمثال ، وقال عطية الأقران وقال السدي

__________________

(١) دحمة : دفعه شديدا ، ودحم المرأة : نكحها بدفع وقوة.

(٢) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٦.

(٣) ضبعت الناقة : أي اشتهت الفحل.

٢٢

(أَتْراباً) أي في الأخلاق المتواخيات بينهن ، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد ، يعني لا كما كن ضرائر متعاديات. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن عبد الله بن الكهف عن الحسن ومحمد (عُرُباً أَتْراباً) قالا : المستويات الأسنان يأتلفن جميعا ويلعبن جميعا.

وقد روى أبو عيسى الترمذي عن أحمد بن منيع عن أبي معاوية عن عبد الرّحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن أصواتا لم تسمع الخلائق بمثلها ـ قال ـ يقلن نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ونحن الراضيات فلا نسخط طوبى لمن كان لنا وكنا له» (١) ثم قال : هذا حديث غريب.

وقال الحافظ أبو يعلى : أخبرنا أبو خيثمة ، حدثنا إسماعيل بن عمر ، حدثنا ابن أبي ذئب عن فلان ابن عبد الله بن رافع عن بعض ولد أنس بن مالك عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن نحن خيرات حسان خبئنا لأزواج كرام» قلت : إسماعيل بن عمر هذا هو أبو المنذر الواسطي أحد الثقات الأثبات. وقد روى هذا الحديث الإمام عبد الرّحيم بن إبراهيم الملقب بدحيم عن ابن أبي فديك ، عن ابن أبي ذئب عن عون بن الخطاب بن عبد الله بن رافع عن ابن لأنس عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الحور العين يغنين في الجنة نحن الحور الحسان خلقنا لأزواج كرام» وقوله تعالى : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي خلقن لأصحاب اليمين أو ادخرن لأصحاب اليمين أو زوجن لأصحاب اليمين ، والأظهر أنه متعلق بقوله (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين ، وهذا توجيه ابن جرير.

وروي عن أبي سليمان الداراني رحمه‌الله تعالى قال : صليت ليلة ثم جلست أدعو وكان البرد شديدا فجعلت أدعو بيد واحدة ، فأخذتني عيني فنمت فرأيت حوراء لم ير مثلها وهي تقول : يا أبا سليمان أتدعو بيد واحدة وأنا أغذى لك في النعيم منذ خمسمائة سنة.

قلت : ويحتمل أن يكون قوله : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) متعلقا بما قبله وهو قوله : (أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي في أسنانهم ، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة ، وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٢٤.

٢٣

أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد بن هارون وعفان قالا : حدثنا حماد بن سلمة وروى الطبراني واللفظ له من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع».

وروى الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي عن عمران القطان عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن بن غنم عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بني ثلاث وثلاثين سنة» (٣) ثم قال : حسن غريب.

وقال ابن وهب : أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبدا وكذلك أهل النار» (٤) ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن رشدين بن سعد عن عمرو بن الحارث به.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثنا القاسم بن هاشم ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا رواد بن الجراح العسقلاني ، حدثنا الأوزاعي عن هارون بن رئاب عن أنس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك! على حسن يوسف ، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة ، وعلى لسان محمد جرد مرد مكحلون» وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا محمود بن خالد وعباس بن الوليد قالا : حدثنا عمر عن الأوزاعي عن هارون بن رئاب عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جردا مردا مكحلين. ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم».

وقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا محمد بن بكار ، حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن عبد الله بن مسعود ، قال وكان بعضهم يأخذ عن بعض قال : أكرينا (٥) ذات ليلة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم غدونا عليه فقال : «عرضت علي الأنبياء

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ١٥ ، ١٦.

(٢) المسند ٢ / ٢٩٥ ، ٣٤٣.

(٣) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٨.

(٤) أخرجه الترمذي في الجنة باب ٢٣.

(٥) أكرينا : أي أطلنا وأخرنا.

٢٤

وأتباعها بأممها فيمر علي النبي والنبي في العصابة! والنبي في الثلاثة والنبي وليس معه أحد ـ وتلا قتادة هذه الآية (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) [هود : ٧٨] قال : حتى مر علي موسى بن عمران في كبكبة (١) من بني إسرائيل قال : قلت ربي من هذا؟ قال : هذا أخوك موسى بن عمران ومن تبعه من بني إسرائيل! قال : قلت رب فأين أمتي؟ قال : انظر عن يمينك في الظّراب (٢) قال فإذا وجوه الرجال قال : قال أرضيت؟ قال : قلت : قد رضيت رب.

قال : انظر إلى الأفق عن يسارك فإذا وجوه الرجال قال : أرضيت؟ قلت : قد رضيت رب. قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب». قال وأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد قال سعيد وكان بدريا قال : يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم قال : فقال «اللهم اجعله منهم» قال أنشأ رجل آخر قال : يا نبي الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال : «سبقك بها عكاشة» قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإن استطعتم فداكم أبي وأمي أن تكونوا من أصحاب السبعين فافعلوا ، وإلا فكونوا من أصحاب الظّراب ، وإلا فكونوا من أصحاب الأفق ، فإني قد رأيت أناسا كثيرا قد تأشّبوا حوله ـ ثم قال ـ إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة» فكبرنا ثم قال : «إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قال : فكبرنا قال : «إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة» قال فكبرنا ، قال ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : فقلنا بيننا : من هؤلاء السبعون ألفا؟ فقلنا : هم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا. قال : فبلغه ذلك فقال : «بل هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون».

وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه ، وهذا الحديث له طرق كثيرة من غير هذا الوجه في الصحاح وغيرها ، وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران ، حدثنا سفيان عن أبان بن أبي عياش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هما جميعا من أمتي».

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ(٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ(٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(٥٦)

لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال : (وَأَصْحابُ

__________________

(١) الكبكبة : الجماعة من الناس.

(٢) الظراب : الجبال الصغار

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٦٤٦.

٢٥

الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي أيّ شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فسر ذلك فقال : (فِي سَمُومٍ) وهو الهواء الحار (وَحَمِيمٍ) وهو الماء الحار (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) قال ابن عباس: ظل الدخان ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وأبو صالح وقتادة والسدي وغيرهم ، وهذه كقوله تعالى : (انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ٢٩ ـ ٣٤] ولهذا قال هاهنا : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) وهو الدخان الأسود (لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) أي ليس طيب الهبوب ولا حسن المنظر كما قال الحسن وقتادة (وَلا كَرِيمٍ) أي ولا كريم المنظر ، قال الضحاك : كل شراب ليس بعذب فليس بكريم.

وقال ابن جرير (١) : العرب تتبع هذه اللفظة في النفي فيقولون : هذا الطعام ليس بطيب ولا كريم ، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم. وهذه الدار ليست بنظيفة ولا كريمة. وكذا رواه ابن جرير من طريقين آخرين عن قتادة به نحوه ، ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) أي كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم لا يلوون ما جاءتهم به الرسل (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي يقيمون ولا ينوون توبة (عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) وهو الكفر بالله وجعل الأوثان والأنداد أربابا من دون الله. قال ابن عباس (الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) : الشرك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. وقال الشعبي : هو اليمين الغموس.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحدا ، كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٣ ـ ١٠٥] ولهذا قال هاهنا : (لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي هو موقت بوقت محدود ، لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملؤوا منها بطونهم ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) وهي الإبل العطاش ، واحدها أهيم والأنثى هيماء ، ويقال : هائم وهائمة ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة :

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٤٧. ولفظه : والعرب تتبع كل منفيّ عنه صفة حمد نفي الكرم عنه ، فتقول : ما هذا الطعام بطيب ولا كريم.

٢٦

الهيم ، الإبل العطاش الظماء ، وعن عكرمة أنه قال : الهيم الإبل المراض تمص الماء مصا ولا تروى. وقال السدي : الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبدا حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبدا. وعن خالد بن معدان أنه كان يكره أن يشرب شرب الهيم عبة واحدة من غير أن يتنفس ثلاثا ، ثم قال تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، كما قال تعالى في حق المؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) [الكهف : ١٠٧] أي ضيافة وكرامة.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) (٦٢)

يقول تعالى مقررا للمعاد ، ورادا على المكذبين به من أهل الزيغ ، والإلحاد من الذين قالوا (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) [الصافات : ١٦] وقولهم ذلك صدر منهم على وجه التكذيب والاستبعاد. فقال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، أفليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟ ولهذا قال : (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال مستدلا عليهم بقوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) أي أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق لذلك؟ ثم قال تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي صرفناه بينكم ، وقال الضحاك : ساوى فيه بين أهل السماء والأرض (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي وما نحن بعاجزين (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي نغير خلقكم يوم القيامة.

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) أي من الصفات والأحوال. ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة ، قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) [مريم : ٦٧] وقال (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) [يس : ٧٧ ـ ٧٩] وقال تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٣٦ ـ ٤٠].

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥)

٢٧

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤)

يقول تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) أي تنبتونه في الأرض (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أي بل نحن الذين نقره قراره وننبته في الأرض. قال ابن جرير (١) : وقد حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي ، حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولن زرعت ولكن قل حرثت» قال أبو هريرة : ألم تسمع إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) ورواه البزار عن محمد بن عبد الرّحيم عن مسلم الجرمي به ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد عن عطاء عن أبي عبد الرّحمن : لا تقولوا زرعنا ولكن قولوا حدثنا وروي عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) وأمثالها يقول : بل أنت يا رب.

وقوله تعالى : (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم بل ولو نشاء لجعلناه حطاما أي لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) ثم فسر ذلك بقوله : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي لو جعلناه حطاما لظللتم تفكهون في المقالة تنوعون كلامكم فتقولون تارة إنا لمغرمون أي لملقون.

وقال مجاهد وعكرمة : إنا لموقع بنا. وقال قتادة : معذبون وتارة يقولون بل نحن محرومون. وقال مجاهد أيضا : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) ملقون للشر أي بل نحن محارفون ، قاله قتادة ، أي لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح ، وقال مجاهد : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي محدودون يعني لا حظ لنا ، وقال ابن عباس ومجاهد (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تعجبون. وقال مجاهد أيضا : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم ، وهذا يرجع إلى الأول ، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم ، وهذا اختيار ابن جرير (٢). وقال عكرمة : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تلاومون ، وقال الحسن وقتادة والسدي : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) تندمون ، ومعناه إما على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب ، قال الكسائي : تفكه من الأضداد ، تقول العرب تفكهت بمعنى تنعمت ، وتفكهت بمعنى حزنت.

ثم قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) يعني السحاب ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) يقول بل نحن المنزلون (لَوْ نَشاءُ

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٢.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٤.

٢٨

جَعَلْناهُ أُجاجاً) أي زعاقا مرا لا يصلح لشرب ولا زرع (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذبا زلالا (لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل : ١٠ ـ ١١].

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن مرة ، حدثنا فضيل بن مرزوق عن جابر عن أبي جعفر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا شرب الماء قال : «الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ، ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» ثم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها. وللعرب شجرتان [إحداهما] المرخ ، [والأخرى] العفار ، إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار.

وقوله تعالى : (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) قال مجاهد وقتادة : أي تذكر النار الكبرى ، قال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا قوم ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية. قال : «إنها قد ضربت بالماء ضربتين ـ أو مرتين ـ حتى يستنفع بها بنو آدم ويدنوا منها» وهذا الذي أرسله قتادة قد رواه الإمام أحمد (١) في مسنده فقال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت بالبحر مرتين ، ولو لا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد» وقال الإمام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، فقال : «إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» (٢) رواه البخاري من حديث مالك ومسلم من حديث أبي الزناد ورواه مسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به وفي لفظ «والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» (٣).

وقد قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عمرو الخلال ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثنا معن بن عيسى القزار عن مالك عن عمه أبي سهل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتدرون ما مثل ناركم هذه من نار جهنم؟ لهي أشد سوادا من ناركم هذه بسبعين ضعفا» قال الضياء المقدسي وقد رواه أبو مصعب عن مالك ولم يرفعه وهو عندي على

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٤٤.

(٢) أخرجه الترمذي في جهنم باب ٧ ، ومالك في جهنم حديث ٥١ ، والبخاري في بدء الخلق ١٠ ، ومسلم في الجنة حديث ٣٠.

(٣) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٣١.

٢٩

شرط الصحيح.

وقوله تعالى : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والنضر بن عربي : يعني بالمقوين المسافرين ، واختاره ابن جرير (١) وقال : ومنه قولهم : أقوت الدار إذا رحل أهلها ، وقال غيره : القي والقواء القفر الخالي البعيد من العمران. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم : المقوي هاهنا الجائع ، وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد : (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) ، للحاضر والمسافر لكل طعام لا يصلحه إلا النار ، وكذا روى سفيان عن جابر الجعفي عن مجاهد ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : قوله : (لِلْمُقْوِينَ) يعني المستمتعين من الناس أجمعين ، وكذا ذكر عن عكرمة ، وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع ، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فأطبخ بها واصطلى بها واشتوى ، واستأنس بها وانتفع بها سائر الانتفاعات ، فلهذا أفرد المسافرون وإن كان ذلك عاما في حق الناس كلهم!

وقد يستدل له بما رواه الإمام أحمد وأبو داود من حديث أبي خداش حبان بن زيد الشرعبي الشامي عن رجل من المهاجرين من قرن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء» (٢) وروى ابن ماجة بإسناد جيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث لا يمنعن : الماء والكلأ والنار» (٣) وله من حديث ابن عباس مرفوعا مثل هذا وزيادة «وثمنه حرام» (٤) ، ولكن في إسناده عبد الله بن خراش بن حوشب وهو ضعيف ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة : الماء الزلال العذب البارد ولو شاء لجعله ملحا أجاجا كالبحار المغرقة ، وخلق النار المحرقة وجعل ذلك مصلحة للعباد ، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم وزجرا لهم في المعاد.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٨٢)

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٧.

(٢) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٦٠ ، وابن ماجة في الرهون باب ١٦ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٦٤.

(٣) أخرجه ابن ماجة في الرهون باب ١٦.

(٤) أخرجه ابن ماجة في الرهون باب ١٦.

٣٠

قال جويبر عن الضحاك : إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه ، وهذا القول ضعيف ، والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله يقسم بما شاء من خلقه ، وهو دليل على عظمته ، ثم قال بعض المفسرين : لا هاهنا زائدة وتقديره أقسم بمواقع النجوم ، ورواه ابن جرير (١) عن سعيد بن جبير ويكون جوابه (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وقال آخرون : ليست لا زائدة لا معنى لها بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسما به على منفي كقول عائشة رضي الله عنها. لا والله ما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط ، وهكذا هاهنا تقدير الكلام : لا أقسم بمواقع النجوم ، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم.

وقال ابن جرير (٢) وقال بعض أهل العربية : معنى قوله : (فَلا أُقْسِمُ) فليس الأمر كما تقولون ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل أقسم واختلفوا في معنى قوله : (بِمَواقِعِ النُّجُومِ) فقال حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقا في السنين بعد. ثم قرأ ابن عباس هذه الآية ، وقال الضحاك عن ابن عباس : نزل القرآن جملة من عند الله من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا ، فنجمته السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين سنة فهو قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) نجوم القرآن ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والسدي وأبو حزرة ، وقال مجاهد أيضا : مواقع النجوم في السماء ويقال مطالعها ومشارقها.

وكذا قال الحسن وقتادة وهو اختيار ابن جرير ، وعن قتادة : مواقعها منازلها ، وعن الحسن أيضا : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة. وقال الضحاك (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) يعني بذلك الأنواء التي كان أهل الجاهلية إذا مطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا وكذا. وقوله : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي معظم ، في كتاب معظم محفوظ موقر.

وقال ابن جرير (٣) حدثني إسماعيل بن موسى : أخبرنا شريك عن حكيم هو ابن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال : الكتاب الذي في السماء. وقال العوفي عن ابن عباس (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) يعني الملائكة ، وكذا قال أنس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو الشعثاء جابر بن زيد ، وأبو نهيك والسدي

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٨.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٧.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٩.

٣١

وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، حدثنا معمر عن قتادة (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الرجس ، وقال : وهي في قراءة ابن مسعود : ما يمسه إلا المطهرون ، وقال أبو العالية (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) ليس أنتم ، أنتم أصحاب الذنوب ، وقال ابن زيد : زعمت كفار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢] وهذا القول قول جيد ، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله ، وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به.

وقال آخرون (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أي من الجنابة والحدث قالوا : ولفظ الآية خبر ومعناها الطلب ، قالوا : والمراد بالقرآن هاهنا المصحف ، كما روى مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو (٢) واحتجوا في ذلك بما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر (٣).

وروى أبو داود في المراسيل من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولا يمس القرآن إلا طاهر» وهذه وجادة (٤) جيدة قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي الأخذ به ، وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص وفي إسناد كل منها نظر ، والله أعلم. وقوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس هو كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع. وقوله تعالى : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) قال العوفي عن ابن عباس : أي مكذبون غير مصدقين ، وكذا قال الضحاك وأبو حزرة والسدي ، وقال مجاهد (مُدْهِنُونَ) أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال بعضهم : معنى وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم أنكم تكذبون أي تكذبون بدل الشكر ، وقد روي عن علي وابن عباس أنهما قرءاها «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» كما سيأتي وقال ابن جرير (٥) : وقد ذكر عن الهيثم بن عدي

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٥٨.

(٢) أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٢٩ ، ومسلم في الإمارة حديث ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤.

(٣) أخرجه مالك في مس القرآن حديث ١.

(٤) الوجادة في اصطلاح المحدثين : اسم لما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة.

(٥) تفسير الطبري ١١ / ٦٦٢.

٣٢

أن من لغة أزدشنوءة ما رزق فلان بمعنى ما شكر فلان.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرّحمن عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يقول : شكركم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا بنجم كذا وكذا» (٢) وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مخول بن إبراهيم النهدي ، وابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبيد الله بن موسى ، وعن يعقوب بن إبراهيم عن يحيى بن أبي بكير ، ثلاثتهم عن إسرائيل به مرفوعا ، وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن حسين بن محمد وهو المروزي به ، وقال : حسن غريب ، وقد رواه سفيان الثوري عن عبد الأعلى ولم يرفعه.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال : ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافرا يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا. وقرأ ابن عباس «وتجعلون شكركم أنكم تكذبون» وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.

وقال مالك في الموطأ عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : «هل تدرون ماذا قال ربكم» قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : «قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب» (٤) أخرجاه في الصحيحين وأبو داود والنسائي ، كلهم من حديث مالك به.

وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي وعمرو بن سواد ، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين ، ينزل الغيث فيقولون بكوكب كذا وكذا»(٥) انفرد به مسلم من هذا الوجه.

__________________

(١) المسند ١ / ١٠٨.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٦ ، باب ٤.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٦٦٢.

(٤) أخرجه البخاري في الاستسقاء باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٢٥ ، وأبو داود في الطب باب ٢٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٥٦ ، باب ٤ ، والنسائي في الاستسقاء باب ١٦ ، والدارمي في الرقاق باب ٤٩ ، ومالك في الاستسقاء حديث ٤.

(٥) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ١٢٦.

٣٣

وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله ليصبح القوم بالنعمة أو يمسيهم بها فيصبح بها قوم كافرين ، يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا» ، قال محمد : هو ابن إبراهيم ، فذكرت هذا الحديث لسعيد بن المسيب فقال : ونحن قد سمعنا من أبي هريرة ، وقد أخبرني من شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يستسقي ، فلما استسقى التفت إلى العباس فقال : يا عباس يا عم رسول الله كم أبقى من نوء الثريا؟ فقال : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا ، قال : فما مضت سابعة حتى مطروا ، وهذا محمول على السؤال عن الوقت الذي أجرى الله فيه العادة بإنزال المطر ، لا أن ذلك النوء مؤثر بنفسه في نزول المطر ، فإن هذا هو المنهي عن اعتقاده ، وقد تقدم شيء من هذه الأحاديث عند قوله تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) [فاطر : ٢].

وقال ابن جرير (٢) : حدثني يونس ، أخبرنا سفيان عن إسماعيل بن أمية فيما أحسبه أو غيره أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا ومطروا يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال : «كذبت بل هو رزق الله» ثم قال ابن جرير (٣) : حدثني أبو صالح الصراري ، حدثنا أبو جابر محمد بن عبد الملك الأزدي ، حدثنا جعفر بن الزبير عن القاسم ، عن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما مطر قوم من ليلة إلا أصبح قوم بها كافرين ـ ثم قال ـ (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) يقول قائل مطرنا بنجم كذا وكذا». وفي حديث عن أبي سعيد مرفوعا : «لو قحط الناس سبع سنين ثم مطروا لقالوا مطرنا بنوء المجدح» (٤). وقال مجاهد (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال : قولهم في الأنواء مطرنا بنوء كذا ، وبنوء كذا ، يقول : قولوا هو من عند الله وهو رزقه ، وهكذا قال الضحاك وغير واحد ، وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول بئس ما أخذ قوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب ، فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ولهذا قال قبله : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ).

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)(٨٧)

يقول تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) أي الروح (الْحُلْقُومَ) أي الحلق وذلك حين الاحتضار ، كما قال تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ

__________________

(١) تفسير الطبري ١١ / ٦٦٢.

(٢) تفسير الطبري ١١ / ٦٦٢.

(٣) تفسير الطبري ١١ / ٦٦٣.

(٤) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٧.

٣٤

بِالسَّاقِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة : ٢٦ ـ ٣٠] ولهذا قال هاهنا : (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي بملائكتنا (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) أي ولكن لا ترونهم ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) [الأنعام : ٦١ ـ ٦٢] وقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها) معناه فهلا ترجعون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ومقرها في الجسد إن كنتم غير مدينين. قال ابن عباس : يعني محاسبين ، وروي عن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والسدي وأبي حزرة مثله.

وقال سعيد بن جبير والحسن البصري (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) غير مصدقين أنكم تدانون وتبعثون وتجزون فردوا هذه النفس ، وعن مجاهد (غَيْرَ مَدِينِينَ) غير موقنين. وقال ميمون بن مهران : غير معذبين مقهورين.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٩٦)

هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم ، إما أن يكون من المقربين أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين ، وإما أن يكون من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى الجاهلين بأمر الله ، ولهذا قال تعالى : (فَأَمَّا إِنْ كانَ) أي المحتضر (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء أن ملائكة الرحمة تقول : أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان (١). قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (فَرَوْحٌ) يقول راحة وريحان يقول مستراحة ، وكذا قال مجاهد : إن الروح الاستراحة ، وقال أبو حزرة : الراحة من الدنيا ، وقال سعيد بن جبير والسدي : الروح الفرح ، وعن مجاهد (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) جنة ورخاء وقال قتادة : فروح فرحمة ، وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ، (وَرَيْحانٌ) رزق ، وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة ، والفرح والسرور والرزق الحسن ، (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغصن من ريحان الجنة فيقبض روحه

__________________

(١) أخرجه النسائي في الجنائز باب ٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٦٤ ، ٦ / ١٤٠.

٣٥

فيه. وقال محمد بن كعب : لا يموت أحد من الناس حتى يعلم من أهل الجنة هو أم من أهل النار.

وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سورة إبراهيم : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) [إبراهيم : ٢٧] ولو كتبت هاهنا لكان حسنا ، ومن جملتها حديث تميم الداري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى فلان فائتني به فإنه قد جربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ، ائتني به فلأريحنة ـ قال ـ فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ، ومعهم ضبائر الريحان ـ أصل الريحانة واحد ـ وفي رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك» وذكر تمام الحديث بطوله كما تقدم وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية.

قال الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا هارون عن بديل بن ميسرة ، عن عبد الله بن شقيق ، عن عائشة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فروح وريحان برفع الراء (١) ، وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث هارون ، وهو ابن موسى الأعور به ، وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديثه ، وهذه القراءة هي قراءة يعقوب وحده وخالفه الباقون فقرؤوا (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) بفتح الراء.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو الأسود محمد بن عبد الرّحمن بن نوفل أنه سمع درة بنت معاذ تحدث عن أم هانئ ، أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكون النسم طيرا يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها». هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن ، ومعنى يعلق يأكل ، ويشهد له بالصحة أيضا ما رواه الإمام أحمد (٣) عن الإمام محمد بن إدريس الشافعي عن الإمام مالك بن أنس عن الزهري ، عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالك عن أبيه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه». وهذا إسناد عظيم ومتن قويم.

وفي الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش» (٤) الحديث. وقال الإمام

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الحروف باب ٢٣ ، والترمذي في القرآن باب ٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٦٠ ، ٦ / ٦٤.

(٢) المسند ٦ / ٤٢٤ ، ٤٢٥.

(٣) المسند ٣ / ٤٥٥.

(٤) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٢١.

٣٦

أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء بن السائب قال : كان أول يوم عرفت فيه عبد الرّحمن بن أبي ليلى رأيت شيخا أبيض الرأس واللحية على حمار ، وهو يتبع جنازة فسمعته يقول : حدثني فلان بن فلان سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» قال : فأكب القوم يبكون ، فقال : «ما يبكيكم؟» فقالوا : إنا نكره الموت ، قال : «ليس ذاك ولكنه إذا احتضر (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عزوجل ، والله عزوجل للقائه أحب (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) فإذا بشر بذلك كره لقاء الله والله تعالى للقائه أكره» (٢) ، هكذا رواه الإمام أحمد ، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها شاهد لمعناه.

وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي وأما إذا كان المحتضر من أصحاب اليمين (فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم: سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة ، أنت من أصحاب اليمين ، وقال قتادة وابن زيد : سلم من عذاب الله وسلمت عليه ملائكة الله ، كما قال عكرمة : تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين ، وهذا معنى حسن ، ويكون ذلك كقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣٠ ـ ٣٢].

وقال البخاري (٣) (فَسَلامٌ لَكَ) أي مسلم لك أنك من أصحاب اليمين ، وألغيت أن وبقي معناها كما تقول أنت مصدق مسافر عن قليل إذا كان قد قال إني مسافر عن قليل ، وقد يكون كالدعاء له كقولك سقيا لك من الرجال إن رفعت السّلام ، فهو من الدعاء ، وقد حكاه ابن جرير هكذا عن بعض أهل العربية ومال إليه والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق الضالين عن الهدى (فَنُزُلٌ) أي فضيافة (مِنْ حَمِيمٍ) وهو المذاب الذي يصهر به ما في بطونهم والجلود (وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) أي وتقرير له في النار التي تغمره من جميع جهاته. ثم قال تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه ولا محيد لأحد عنه (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٥٩ ، ٢٦٠.

(٢) أخرجه مسلم في الذكر حديث ١٨.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٥٦ ، في الترجمة.

(٤) المسند ٤ / ١٥٥.

٣٧

عمي إياس بن عامر عن عقبة بن عامر الجهني قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) قال : «اجعلوها في ركوعكم» ولما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في سجودكم» وكذا رواه أبو داود وابن ماجة من حديث عبد الله بن المبارك عن موسى بن أيوب به ، وقال روح بن عبادة : حدثنا حجاج الصواف عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة» (١) هكذا رواه الترمذي من حديث روح ، ورواه هو والنسائي أيضا من حديث حماد بن سلمة ، من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير ، وقال البخاري في آخر كتابه : حدثنا أحمد بن إشكاب حدثنا محمد بن فضيل ، حدثنا عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرّحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» (٢) ورواه بقية الجماعة إلا أبا داود من حديث محمد بن فضيل بإسناده مثله ، آخر تفسير سورة الواقعة ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٥٩.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٨ ، ومسلم في الذكر حديث ٣٠ ، والترمذي في الدعوات باب ٥٩ ، وابن ماجة في الأدب باب ٥٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٢.

٣٨

تفسير سورة الحديد

وهي مدنية

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا بقية بن الوليد ، حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن ابن أبي بلال عن عرباض بن سارية أنه حدثهم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد وقال : «إن فيهن آية أفضل من ألف آية» (٢) ، وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن بقية به. وقال الترمذي : حسن غريب. ورواه النسائي عن ابن أبي السرح عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن بجير بن سعد ، عن خالد بن معدان قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره مرسلا ، ولم يذكر عبد الله بن أبي بلال ولا العرباض بن سارية ، والآية المشار إليها في الحديث هي والله أعلم قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ..

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣)

يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض أي من الحيوانات والنباتات ، كما قال في الآية الأخرى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤] وقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الذي قد خضع له كل شيء (الْحَكِيمُ) في خلقه وأمره وشرعه (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي هو المالك المتصرف في خلقه فيحيي ويميت ويعطي من يشاء ما يشاء (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) وهذه الآية هي المشار إليها في حديث عرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية.

__________________

(١) المسند ٤ / ١٢٨.

(٢) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٩٨ ، والترمذي في ثواب القرآن باب ٢١.

٣٩

وقال أبو داود : حدثنا عباس بن عبد العظيم ، حدثنا النضر بن محمد ، حدثنا عكرمة ـ يعني ابن عمار ـ حدثنا أبو زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري؟ قال : ما هو؟ قلت : والله لا أتكلم به. قال : فقال لي : أشيء من شك؟ قال وضحك ، قال: ما نجا من ذلك أحد ، قال : حتى أنزل الله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) [يونس : ٩٤] الآية ، قال : وقال لي : إذا وجدت في نفسك شيئا فقل (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١) وقد اختلفت عبارات المفسرين في هذه الآية وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولا.

وقال البخاري : قال يحيى : الظاهر على كل شيء علما والباطن على كل شيء علما. وقال شيخنا الحافظ المزي : يحيى هذا هو ابن زياد الفراء ، له كتاب سماه معاني القرآن ، وقد ورد في ذلك أحاديث ، فمن ذلك ما قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو عند النوم «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول ليس قبلك شيء وأنت الآخر ليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء ، وأنت الباطن ليس دونك شيء. اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر» ورواه مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير عن سهيل قال : كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ، ثم يقول : اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى ، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر (٣) ، وكان يروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن عائشة أم المؤمنين نحو هذا فقال : حدثنا عقبة ، حدثنا يونس ، حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر بفراشه فيفرش له مستقبل القبلة ، فإذا آوى إليه توسد كفه اليمنى ثم همس ما يدرى ما يقول ، فإذا كان في آخر الليل رفع صوته فقال : «اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، إله كل شيء ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى. أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت الأول الذي ليس قبلك شيء ، وأنت الآخر الذي

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ١٠٩.

(٢) المسند ١ / ٤٠٤.

(٣) أخرجه مسلم في الذكر حديث ٦٠.

٤٠