تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال ما فعل أصحابك؟ فقال كفانيهم الله تعالى ثم قال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني وإلا فإنك لا تستطيع قتلي ، قال وما هو؟ قال تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي ، ثم قل : باسم الله رب الغلام فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ثم رماه وقال : باسم الله رب الغلام ، فوقع السهم في صدغه ، فوضع الغلام يده على موضع السهم ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام. فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك ، فخدت فيها الأخاديد وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلا فأقحموه فيها ، قال فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون فجاءت امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي : اصبري يا أماه فإنك على الحق».

وهكذا رواه مسلم (١) في آخر الصحيح عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة به نحوه ، ورواه النسائي عن أحمد بن سلمان عن عفان عن حماد بن سلمة ومن طريق حماد بن زيد كلاهما عن ثابت به واختصروا أوله ، وقد جوده الإمام أبو عيسى الترمذي فرواه في تفسير هذه السورة عن محمود بن غيلان وعبد بن حميد ـ المعنى واحد ـ قالا : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن ثابت البناني عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى العصر همس والهمس في بعض قولهم تحريك شفتيه كأنه يتكلم فقيل له إنك يا رسول الله إذا صليت العصر همست ، قال : «إن نبيا من الأنبياء كان أعجب بأمته فقال : من يقوم لهؤلاء. فأوحى الله إليه أن خيرهم بين أن أنتقم منهم ، وبين أن أسلط عليهم عدوهم ، فاختاروا النقمة ، فسلط الله عليهم الموت فمات منهم في يوم سبعون ألفا» قال : وكان إذا حدث بهذا الحديث ، حدث بهذا الحديث الآخر قال : كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يتكهن له ، فقال الكاهن : انظروا لي غلاما فهما أو قال : فطنا لقنا فأعلمه علمي هذا ، فذكر القصة بتمامها ، وقال في آخره : يقول الله عزوجل : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) ـ حتى بلغ ـ (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

قال : فأما الغلام فإنه دفن ، فيذكر أنه أخرج في زمان عمر بن الخطاب وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل (٢) ، ثم قال الترمذي : حسن غريب ، وهذا السياق ليس فيه صراحة ، أن سياق هذه القصة من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي : فيحتمل أن يكون من كلام صهيب الرومي ، فإنه كان عنده علم من أخبار النصارى والله أعلم.

__________________

(١) كتاب الزهد حديث ٧٣.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨٥ ، باب ٢.

٣٦١

وقد أورد محمد بن إسحاق بن يسار هذه القصة في السيرة (١) بسياق آخر فيها مخالفة لما تقدم فقال : حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي ، وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان ، وكان في قرية من قراها قريبا من نجران ـ ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد ـ ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر ، فلما نزلها فيمون ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه ، قالوا : نزلها رجل فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر ، وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر.

فبعث الثامر ابنه عبد الله بن الثامر مع غلمان أهل نجران ، فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم ، وكان يعلمه فكتمه إياه وقال له : يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه ، والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان ، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه ، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى أقداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح لكل اسم قدح ، حتى إذا حصاها أوقد نارا ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا ، حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم يضره شيء ، فأخذه ، ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه ، فقال : وما هو؟ قال : هو كذا وكذا ، قال : وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع فقال أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك ، وما أظن أن تفعل.

فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال له : يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني ، وأدعو الله لك فيعافيك مما أنت فيه من البلاء؟ فيقول نعم ، فيوحد الله ويسلم ، فيدعو الله له ، فيشفى حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه ، فاتبعه على أمره ودعا له ، فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران ، فدعاه فقال له : أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك ، قال : لا تقدر على ذلك ، قال : فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس ، وجعل يبعث به إلى مياه نجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك فيلقى به فيها ، فيخرج ليس به بأس ، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر : إنك والله لا تقدر على قتلي حتى تؤمن بما آمنت به وتوحد الله ، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني ، قال : فوحد الله ذلك الملك وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ، ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله ، وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٣٤ ، ٣٦.

٣٦٢

على دين عبد الله بن الثامر ، وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم عليه‌السلام من الإنجيل وحكمه ، ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث ، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.

قال ابن إسحاق : فهذا حديث محمد بن كعب القرظي وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر فالله أعلم أي ذلك كان ، قال فسار إليهم ذو نواس بجنده فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو القتل فاختاروا القتل ، فخد الأخدود فحرق بالنار وقتل بالسيف ، ومثل بهم حتى قتل منهم قريبا من عشرين ألفا ، ففي ذي نواس وجنده أنزل الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) هكذا ذكر محمد بن إسحاق في السيرة أن الذي قتل أصحاب الأخدود هو ذو نواس واسمه زرعة ، ويسمى في زمان مملكته بيوسف ، وهو ابن تبان أسعد أبي كرب وهو تبع الذي غزا المدينة وكسى الكعبة واستصحب معه حبرين من يهود المدينة ، فكان تهود من تهود من أهل اليمن على يديهما كما ذكره ابن إسحاق مبسوطا ، فقتل ذو نواس في غداة واحدة في الأخدود عشرين ألفا ولم ينج منهم سوى رجل واحد يقال له دوس ذو ثعلبان ، ذهب فارسا وطردوا وراءه فلم يقدروا عليه فذهب إلى قيصر ملك الشام فكتب إلى النجاشي ملك الحبشة ، فأرسل معه جيشا من نصارى الحبشة يقدمهم أرياط وأبرهة فاستنقذوا اليمن من أيدي اليهود ، وذهب ذو نواس هاربا فلجج في البحر فغرق ، واستمر ملك الحبشة في أيدي النصارى سبعين سنة ، ثم استنقذه سيف بن ذي يزن الحميري من أيدي النصارى لما استجاش بكسرى ملك الفرس ، فأرسل معه من في السجون فكانوا قريبا من سبعمائة ، ففتح بهم اليمن ورجع الملك إلى حمير ، وسنذكر طرفا من ذلك إن شاء الله في تفسير سورة (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل : ١].

وقال ابن إسحاق (١) : وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه حدث أن رجلا من أهل نجران كان في زمان عمر بن الخطاب حفر خربة من خرب نجران لبعض حاجته ، فوجد عبد الله بن الثامر تحت دفن فيها قاعدا واضعا يده على ضربة في رأسه ممسكا عليها بيده ، فإذا أخذت يده عنها تفجرت دما ، وإذا أرسلت يده ردت عليها فأمسكت دمها وفي يده خاتم مكتوب فيه ربي الله ، فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله وردوا عليه الدفن الذي كان عليه ففعلوا.

وقد قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا رحمه‌الله : حدثنا أبو بلال الأشعري ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ٣٦ ، ٣٧.

٣٦٣

حدثنا إبراهيم بن محمد عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، حدثني بعض أهل العلم أن أبا موسى لما افتتح أصبهان وجد حائطا من حيطان المدينة قد سقط ، فبناه فسقط ثم بناه فسقط ، فقيل له : إن تحته رجلا صالحا ، فحفر الأساس فوجد فيه رجلا قائما معه سيف فيه مكتوب : أنا الحارث بن مضاض نقمت على أصحاب الأخدود ، فاستخرجه أبو موسى وبنى الحائط فثبت. (قلت) : هو الحارث بن مضاض بن عمرو بن مضاض بن عمرو الجرهمي ، أحد ملوك جرهم الذين ولوا أمر الكعبة بعد ولد نبت بن إسماعيل بن إبراهيم ، وولد الحارث هذا هو عمرو بن الحارث بن مضاض هو آخر ملوك جرهم بمكة لما أخرجتهم خزاعة وأجلوهم إلى اليمن ، وهو القائل في شعره الذي قال ابن هشام (١) إنه أول شعر قالته العرب : [الطويل]

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

أنيس ولم يسمر بمكة سامر (٢)

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا

صروف الليالي والجدود العواثر

وهذا يقتضي أن هذه القصة كانت قديما بعد زمان إسماعيل عليه‌السلام بقرب من خمسمائة سنة أو نحوها ، وما ذكره ابن إسحاق يقتضي أن قصتهم كانت في زمن الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما من الله السّلام وهو أشبه ، والله أعلم. وقد يحتمل أن ذلك قد وقع في العالم كثيرا كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا صفوان عن عبد الرّحمن بن جبير قال : كانت الأخدود في اليمن زمان تبع وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد ، فاتخذوا أتونا وألقي فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد ، وفي العراق في أرض بابل بختنصر الذي صنع الصنم وأمر الناس أن يسجدوا له ، فامتنع دانيال وصاحباه عزريا وميشائيل فأوقد لهم أتونا وألقى فيه الحطب والنار ثم ألقاهما فيه ، فجعلها الله تعالى عليهما بردا وسلاما وأنقذهما منها وألقى فيها الذين بغوا عليه ، وهم تسعة رهط فأكلتهم النار.

وقال أسباط عن السدي في قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قال : كانت الأخدود ثلاثة : خد بالعراق ، وخد بالشام ، وخد باليمن. رواه ابن أبي حاتم ، وعن مقاتل قال : كانت الأخدود ثلاثة : واحد بنجران باليمن والأخرى بالشام والأخرى بفارس حرقوا بالنار ، أما التي بالشام فهو انطنانوس الرومي ، وأما التي بفارس فهو بختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس ، فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا وأنزل في التي كانت

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ١١٥ ، ١١٦.

(٢) البيت الأول لعمرو بن الحارث بن مضاض أو للحارث الجرهمي في لسان العرب (حجن). وبلا نسبة في شرح قطر الندي ص ١٥٩. والبيت الثاني للحارث الجرهمي في لسان العرب (حجن) ، ولعمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي في تاج العروس (شرح خطبة المصنف) ، ومعجم البلدان (مكة) ، ولمضاض بن عمرو الجرهمي في معجم البلدان (الحجون) ، ولشاعر جرهم في معجم البلدان (مأرب)

٣٦٤

بنجران.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرّحمن الدشتكي ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه ، عن الربيع هو ابن أنس في قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قال : سمعنا أنهم كانوا قوما في زمان الفترة ، فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر وصاروا أحزابا (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [الروم : ٣٢] ، اعتزلوا إلى قرية سكنوها وأقاموا على عبادة الله (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) [البينة : ٥] ، فكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين وحدث حديثهم فأرسل إليهم فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا ، وأنهم أبوا عليه كلهم وقالوا لا نعبد إلا الله وحده لا شريك له ، فقال لهم : إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدت فإني قاتلكم ، فأبوا عليه فخد أخدودا من نار وقال لهم الجبار ووقفهم عليها : اختاروا هذه أو الذي نحن فيه ، فقالوا : هذه أحب إلينا ، وفيهم نساء وذرية ففزعت الذرية ، فقالوا لهم أي آباؤهم لا نار من بعد اليوم فوقعوا فيها ، فقبضت أرواحهم من قبل أن يمسهم حرها وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين فأحرقهم الله بها ففي ذلك أنزل الله عزوجل : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ورواه ابن جرير (١) : حدثت عن عمار عن عبد الله بن أبي جعفر به نحوه.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي حرقوا ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن أبزى (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ(١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ(١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ(٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢)

يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) بخلاف ما أعد لأعدائه من الحريق والجحيم ، ولهذا قال : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) ثم قال تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن بطشه وانتقامه من أعدائه الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره لشديد عظيم قوي ، فإنه تعالى ذو القوة المتين الذي ما شاء كان كما يشاء في مثل لمح البصر أو هو أقرب ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي من قوته وقدرته التامة يبدئ الخلق ويعيده كما

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٢٥.

٣٦٥

بدأه بلا ممانع ولا مدافع.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) أي يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه ولو كان الذنب من أي شيء كان ، والودود قال ابن عباس وغيره : هو الحبيب (ذُو الْعَرْشِ) أي صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق ، والمجيد فيه قراءتان : الرفع على أنه صفة للرب عزوجل ، والجر على أنه صفة للعرش وكلاهما معنى صحيح (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي مهما أراد فعله لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وحكمته وعدله كما روينا عن أبي بكر الصديق أنه قيل له وهو في مرض الموت : هل نظر إليك الطبيب؟ قال : نعم. قالوا فما قال لك؟ قال : قال لي إني فعال لما أريد.

وقوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) أي هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إذا أخذ الظالم أخذه أخذا أليما شديدا أخذ عزيز مقتدر قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على امرأة تقرأ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) فقام يستمع فقال : «نعم قد جاءني».

وقوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي هم في شك وريب وكفر وعناد (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي هو قادر عليهم قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) أي عظيم كريم (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل.

قال ابن جرير (١) : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا قرة بن سليمان ، حدثنا حرب بن سريج ، حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك في قوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكر الله (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) في جبهة إسرافيل.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا معاوية بن صالح أن أبا الأعبس هو عبد الرّحمن بن سلمان قال : ما من شيء قضى الله : القرآن ، فما قبله وما بعده إلا وهو في اللوح المحفوظ ، واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه.

وقال الحسن البصري : إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه ، وقد روى البغوي من طريق إسحاق بن بشر : أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٣١.

٣٦٦

ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة ، قال : واللوح لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه من الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك.

وقال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش ، وقال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله تعالى خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور وكتابه نور ، لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء» آخر تفسير سورة البروج ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الطارق

وهي مكية

قال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد قال عبد الله وسمعته أنا منه ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن عبد الله بن عبد الرّحمن الطائفي عن عبد الرّحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني ، عن أبيه أنه أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصى حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) حتى ختمها قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ، ثم قرأتها في الإسلام قال : فدعتني ثقيف فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش ، نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه (١) ، وقال النسائي : حدثنا عمرو بن منصور ، حدثنا أبو نعيم عن مسعر عن محارب بن دثار عن جابر قال : صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة والنساء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتان أنت يا معاذ! ما كان يكفيك أن تقرأ بالسماء والطارق والشمس وضحاها ونحوها؟» (٢).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٣٥.

(٢) أخرجه النسائي في الافتتاح باب ٧٠.

٣٦٧

خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ(٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠)

يقسم تبارك وتعالى بالسماء وما جعل فيها من الكواكب النيرة ولهذا قال تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ثم قال : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) ثم فسره بقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) قال قتادة وغيره : إنما سمي النجم طارقا لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار ، ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا (١) أي يأتيهم فجأة بالليل ، وفي الحديث الآخر المشتمل على الدعاء «إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن» (٢). وقوله تعالى : (الثَّاقِبُ) قال ابن عباس : المضيء وقال السدي : يثقب الشياطين إذا أرسل عليها ، وقال عكرمة : هو مضيء ومحرق للشيطان.

وقوله تعالى : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات كما قال تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١]. وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد ، لأن من قدر على البداءة فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وقوله تعالى : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) يعني المني يخرج دفقا من الرجل والمرأة ، فيتولد منهما الولد ، بإذن الله عزوجل ، ولهذا قال : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) يعني صلب الرجل وترائب المرأة وهو صدرها.

وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) صلب الرجل وترائب المرأة أصفر رقيق لا يكون الولد إلا منهما ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن مسعر ، سمعت الحكم ذكر عن ابن عباس (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) قال : هذه الترائب ، ووضع يده على صدره.

وقال الضحاك وعطية عن ابن عباس : تريبة المرأة موضع القلادة ، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الترائب بين ثدييها ، وعن مجاهد : الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر ، وعنه أيضا : الترائب أسفل من التراقي ، وقال سفيان الثوري : فوق الثديين ، وعن سعيد بن جبير : الترائب أربعة أضلاع من هذا الجانب الأسفل وعن الضحاك : الترائب بين الثديين والرجلين والعينين ، وقال الليث بن سعد عن معمر بن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ١٢٠ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٨٠ ، ١٨٤.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٤١٩.

٣٦٨

حبيبة المدني أنه بلغه في قول الله عزوجل : (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) قال : هو عصارة القلب من هناك يكون الولد ، وعن قتادة (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) من بين صلبه ونحره.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) فيه قولان [أحدهما] على رجع هذا الماء الدافق ، إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك. قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما. [والقول الثاني] إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق أي إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر لأن من قدر على البداءة قدر على الإعادة ، وقد ذكر الله عزوجل هذا الدليل في القرآن في غير ما موضع ، وهذا القول قال به الضحاك واختاره ابن جرير ولهذا قال تعالى : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي يوم القيامة تبلى فيه السرائر أي تظهر وتبدو ويبقى السر علانية والمكنون مشهورا.

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يرفع لكل غادر لواء عند استه يقال هذه غدرة فلان بن فلان» (١) وقوله تعالى : (فَما لَهُ) أي الإنسان يوم القيامة (مِنْ قُوَّةٍ) أي في نفسه (وَلا ناصِرٍ) أي من خارج منه أي لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ولا يستطيع له أحد ذلك.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(١٧)

قال ابن عباس : الرجع المطر ، وعنه : هو السحاب فيه المطر ، وعنه (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) تمطر ثم تمطر ، وقال قتادة : ترجع رزق العباد كل عام ولو لا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم (٢) ، وقال ابن زيد : ترجع نجومها وشمسها وقمرها يأتين من هاهنا (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) قال ابن عباس : هو انصداعها عن النبات ، وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والسدي وغير واحد.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) قال ابن عباس : حق ، وكذا قال قتادة ، وقال آخر : حكم عدل (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي بل هو جد حق ، ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ويصدون عن سبيله فقال : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي يمكرون بالناس في دعوتهم إلى خلاف القرآن ، ثم قال تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي أنظرهم ولا تستعجل لهم (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي قليلا أي وسترى ماذا أحل بهم من العذاب والنكال والعقوبة والهلاك كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] آخر تفسير سورة الطارق ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجزية باب ٢٢ ، والأدب باب ٩٩ ، ومسلم في الجهاد حديث ٨ ، ١٠ ، ١٧.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٥٣٩.

٣٦٩

تفسير سورة الأعلى

وهي مكية

والدليل على ذلك ما رواه البخاري : حدثنا عبدان ، أخبرني أبي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال : أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم ، فجعلا يقرئاننا القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين ثم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون : هذا رسول الله قد جاء فما جاء حتى قرأت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) في سور مثلها (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا وكيع ، حدثنا إسرائيل عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحب هذه السورة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) تفرد به أحمد. وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمعاذ : «هلا صليت ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، و (الشَّمْسِ وَضُحاها) و (اللَّيْلِ إِذا يَغْشى) (٣) وقال الإمام أحمد(٤) : حدثنا سفيان عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في العيدين ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا (٥).

هكذا وقع في مسند الإمام أحمد إسناد هذا الحديث ، وقد رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث أبي عوانة وجرير وشعبة ، ثلاثتهم عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير به ، قال الترمذي : وكذا رواه الثوري ومسعر عن إبراهيم ، قال ورواه سفيان بن عيينة عن إبراهيم عن أبيه عن حبيب بن سالم عن أبيه عن النعمان ، ولا يعرف لحبيب رواية عن أبيه ، وقد رواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان به ، كما رواه

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٨٧ ، باب ١.

(٢) المسند ١ / ٩٦.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان باب ٦٣ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٧ ، ٤٨.

(٤) المسند ٤ / ٢٧١.

(٥) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٦٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٢٤ ، ١٣٤ ، ١٤٧ ، ١٤٩ ، ١٥٠ ، ٢٣٦ ، والترمذي في الوتر باب ٩ ، والجمعة باب ٢٢ ، ٣٣ ، والنسائي في الجمعة باب ٣٩ ، ٤٠ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٠ ، ٢٠ ، ٤٨ ، ٩٠ ، ١١٥ ، ١٥٧.

٣٧٠

الجماعة فالله أعلم ، ولفظ مسلم وأهل السنن : كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] ، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما.

وقد روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الرّحمن ابن أبزى وعائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في الوتر ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) و (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، زادت عائشة والمعوذتين. وهكذا روي هذا الحديث من طريق جابر وأبي أمامة صدي بن عجلان وعبد الله ابن مسعود وعمران بن حصين ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، ولو لا خشية الإطالة لأوردنا ما تيسر لنا من أسانيد ذلك ومتونه ، ولكن في الإرشاد بهذا الاختصار كفاية والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى(١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى)(١٣)

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو عبد الرّحمن حدثنا موسى يعني ابن أيوب الغافقي ، حدثنا عمي إياس بن عامر سمعت عقبة بن عامر الجهني : لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «اجعلوها في سجودكم» (٢) ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث ابن المبارك عن موسى بن أيوب به. وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : «سبحان ربي الأعلى» وهكذا رواه أبو داود عن زهير بن حرب عن وكيع به قال وخولف فيه وكيع رواه أبو وكيع وشعبة عن أبي إسحاق عن سعيد عن ابن عباس موقوفا. وقال الثوري عن السدي عن عبد خير قال : سمعت عليا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقال : سبحان ربي الأعلى.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حكام عن عنبسة عن أبي إسحاق الهمداني أن ابن عباس كان إذا قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) يقول : سبحان ربي الأعلى ، وإذا قرأ

__________________

(١) المسند ٤ / ١٥٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٤٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٩٠ ، ١١٥ ، ١٥٧.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٥٤٢.

٣٧١

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] فأتى على آخرها (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [القيامة : ٤٠] يقول : سبحانك وبلى ، وقال قتادة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأها قال : سبحان ربي الأعلى ، وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي خلق الخليقة وسوى كل مخلوق في أحسن الهيئات.

وقوله تعالى : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» (١) وقوله تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي من جميع صنوف النباتات والزروع (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) قال ابن عباس : هشيما متغيرا ، وعن مجاهد وقتادة وابن زيد نحوه.

قال ابن جرير (٢) : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام والذي أخرج المرعى ، (أَحْوى) أخضر إلى السواد فجعله غثاء بعد ذلك ، ثم قال ابن جرير : وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب لمخالفته أقوال أهل التأويل ، وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ) أي يا محمد (فَلا تَنْسى) وهذا إخبار من الله تعالى ووعد منه له. بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وهذا اختيار ابن جرير. وقال قتادة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينسى شيئا إلا ما شاء الله : وقيل : المراد بقوله : (فَلا تَنْسى) طلب ، وجعل معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ أي لا تنسى أي ما نقرئك إلا ما يشاء الله رفعه فلا عليك أن تتركه. وقوله تعالى : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي يعلم ما يجهر به العباد وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم لا يخفى عليه من ذلك شيء.

وقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي نسهل عليك أفعال الخير وأقواله ونشرع لك شرعا سهلا سمحا مستقيما عدلا لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عسر. وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي ذكر حيث تنفع التذكرة ، ومن هاهنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم ، وقال : حدث الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذّب الله ورسوله ، وقوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قبله يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي لا يموت فيستريح ولا يحيى حياة تنفعه بل هي مضرة عليه ، لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم

__________________

(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ١٦ ، والترمذي في القدر باب ١٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٩.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٥٤٤.

٣٧٢

العذاب وأنواع النكال.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا ابن أبي عدي عن سليمان يعني التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون وأما أناس يريد الله بهم الرحمة فيميتهم في النار فيدخل عليهم الشفعاء فيأخذ الرجل أنصاره فينبتهم ـ أو قال ـ ينبتون ـ في نهر الحياة ـ أو قال الحياة ـ أو قال الحيوان ـ أو قال نهر الجنة ـ فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» قال : وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترون الشجرة تكون خضراء ثم تكون صفراء ثم تكون خضراء؟ قال : فقال بعضهم : كأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بالبادية.

وقال أحمد (٢) أيضا : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس ـ أو كما قال ـ تصيبهم النار بذنوبهم ـ أو قال بخطاياهم ـ فيميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة ، فجيء بهم ضبائر (٣) ضبائر فنبتوا على أنهار الجنة فيقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل» قال : فقال رجل من القوم حينئذ : كأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بالبادية (٤) ، ورواه مسلم من حديث بشر بن المفضل وشعبة كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به مثله.

ورواه أحمد (٥) أيضا عن يزيد عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل النار الذين لا يريد الله إخراجهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، وإن أهل النار الذين يريد الله إخراجهم يميتهم فيها إماتة حتى يصيروا فحما ، ثم يخرجون ضبائر فيلقون على أنهار الجنة فيرش عليهم من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل». وقد قال الله تعالى إخبارا عن أهل النار : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف: ٧٧] وقال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى)(١٩)

يقول تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي طهر نفسه من الأخلاق الرذيلة وتابع ما أنزل الله

__________________

(١) المسند ٣ / ٥.

(٢) المسند ٣ / ١١.

(٣) ضبائر ضبائر : أي جماعات جماعات.

(٤) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٠٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧.

(٥) المسند ٣ / ٢٠.

٣٧٣

على الرسول صلوات الله وسلامه عليه (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وطاعة لأمر الله وامتثالا لشرع الله. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن أحمد العزرمي ، حدثنا عمي محمد بن عبد الرّحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب ، عن عبد الرّحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) قال : «من شهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله».

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) قال : «هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها» ثم قال : لا يروى عن جابر إلا من هذا الوجه ، وكذا قال ابن عباس : إن المراد بذلك الصلوات الخمس ، واختاره ابن جرير.

وقال ابن جرير (١) : حدثني عمرو بن عبد الحميد الآملي ، حدثنا مروان بن معاوية عن أبي خلدة قال : دخلت على أبي العالية فقال لي : إذا غدوت غدا إلى العيد فمر بي ، قال : فمررت به فقال : هل طعمت شيئا؟ قلت : نعم. قال : أفضت على نفسك من الماء؟ قلت : نعم. قال: فأخبرني ما فعلت زكاتك! قلت : قد وجهتها قال : إنما أردتك لهذا ثم قرأ (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال : إن أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء.

(قلت) : وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال أبو الأحوص : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة فليقدم بين يدي صلاته زكاته فإن الله تعالى يقول : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) وقال قتادة في هذه الآية (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) زكى ماله وأرضى خالقه.

ثم قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي تقدمونها على أمر الآخرة وتبدونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي ثواب الله في الدار الآخرة خير من الدنيا وأبقى ، فإن الدنيا دنية فانية والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ويهتم بما يزول عنه قريبا ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ذويد عن أبي إسحاق عن عروة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له».

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا أبو حمزة عن عطاء

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٤٧.

(٢) المسند ٦ / ٧١.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٥٤٨.

٣٧٤

عن عرفجة الثقفي قال استقرأت ابن مسعود (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ـ فلما بلغ ـ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزويت عنا الآخرة فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل ، وهذا منه على وجه التواضع والهضم أو هو إخبار عن الجنس من حيث هو والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، حدثنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن عبد الله عن أبي موسى الأشعري أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أحب دنياه أضر بآخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على ما يفنى» تفرد به أحمد ، وقد رواه أيضا عن أبي سلمة الخزاعي عن الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به مثله سواء.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا نصر بن علي ، حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان كل هذا ـ أو كان هذا ـ في صحف إبراهيم وموسى» ثم قال : لا نعلم أسند الثقات عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس غير هذا ، وحديثا آخر رواه مثل هذا.

وقال النسائي أخبرنا زكريا بن يحيى ، أخبرنا نصر بن علي ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه ، عن عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : كلها في صحف إبراهيم وموسى ، ولما نزلت (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٦] قال : وفّى إبراهيم (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [النجم : ٣٧] يعني أن هذه الآية كقوله تعالى في سورة النجم (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم : ٣٦ ـ ٤٢] الآيات إلى آخرهن.

وهكذا قال عكرمة فيما رواه ابن جرير عن ابن حميد عن مهران عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) يقول : الآيات التي في سبح اسم ربك الأعلى ، وقال أبو العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى ، واختار ابن جرير أن المراد بقوله : (إِنَّ هذا) إشارة إلى قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ثم قال تعالى : (إِنَّ هذا) أي مضمون هذا الكلام (لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) وهذا الذي اختاره حسن قوي ، وقد

__________________

(١) المسند ٤ / ٤١٢.

٣٧٥

روي عن قتادة وابن زيد نحوه ، والله أعلم ، آخر تفسير سورة سبح ، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

تفسير سورة الغاشية

وهي مكية

قد تقدم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ ب (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة وقال الإمام مالك عن ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير : بم كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١). ورواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة كلاهما عن مالك به ، ورواه مسلم وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن ضمرة بن سعيد به.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)(٧)

الغاشية : من أسماء يوم القيامة. قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد لأنها تغشى الناس وتعمهم ، وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال : مر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على امرأة تقرأ (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) فقام يستمع ويقول : «نعم قد جاءني» وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي ذليلة قاله قتادة ، وقال ابن عباس : تخشع ولا ينفعها عملها.

وقوله تعالى : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي قد عملت عملا كثيرا ونصبت فيه وصليت يوم القيامة نارا حامية. وقال الحافظ أبو بكر البرقاني : حدثنا إبراهيم بن محمد المزكّى ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا سيار ، حدثنا جعفر قال : سمعت أبا عمران الجوني يقول : مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بدير راهب ، قال فناداه يا راهب ، فأشرف قال فجعل عمر ينظر إليه ويبكي ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال : ذكرت قول الله عزوجل في كتابه : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) فذاك الذي أبكاني.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٦٢ ، ٦٣ ، وأبو داود في الصلاة باب ٢٣٦ ، والنسائي في الجمعة باب ٣٩ ، ٤٠ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٩٠ ، ١٥٧ ، ومالك في الجمعة حديث ١٩.

٣٧٦

وقال البخاري (١) : قال ابن عباس (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) النصارى ، وعن عكرمة والسدي (عامِلَةٌ) في الدنيا بالمعاصي و (ناصِبَةٌ) في النار بالعذاب والإغلال ، قال ابن عباس والحسن وقتادة (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي حارة شديدة الحر (تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي قد انتهى حرها وغليانها ، قاله ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي. وقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : شجر من النار ، وقال سعيد بن جبير : هو الزقوم ، وعنه أنها الحجارة ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو الجوزاء وقتادة : هو الشبرق ، قال قتادة : قريش تسميه في الربيع الشبرق وفي الصيف الضريع ، قال عكرمة : وهو شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض.

وقال البخاري (٢) : قال مجاهد : الضريع نبت يقال له الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس وهو سم ، وقال معمر عن قتادة هو الشبرق إذا يبس سمي الضريع ، وقال سعيد عن قتادة (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) من شر الطعام وأبشعه وأخبثه ، وقوله تعالى : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦)

لما ذكر حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء فقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناعِمَةٌ) أي يعرف النعيم فيها وإنما حصل لها ذلك بسعيها ، وقال سفيان (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) قد رضيت عملها. وقوله تعالى : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي رفيعة بهية في الغرفات آمنون (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو كما قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم : ٦٢] وقال تعالى : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) [الطور: ٢٣] وقال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ـ ٢٦] (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي سارحة وهذه نكرة في سياق الإثبات ، وليس المراد بها عينا واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات.

وقال ابن أبي حاتم : قرئ على الربيع بن سليمان ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنهار الجنة تفجر من تحت تلال ـ أو من تحت جبال ـ المسك» (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي عالية ناعمة كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور العين ، قالوا فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها من أربابها.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨٨ ، في الترجمة.

(٢) راجع الحاشية السابقة.

٣٧٧

(وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) قال ابن عباس : النمارق الوسائد ، وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك والسدي والثوري وغيرهم ، وقوله تعالى : (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) قال ابن عباس الزرابي البسط ، وكذا قال الضحاك وغير واحد ، ومعنى مبثوثة أي هاهنا وهاهنا لمن أراد الجلوس عليها ، وذكر هاهنا هذا الحديث الذي رواه أبو بكر بن أبي داود ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبي عن محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى ، حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها (١) ، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية؟» قالوا : نعم يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن المشمرون لها ، قال : «قولوا إن شاء الله» قال القوم: إن شاء الله (٢) ، ورواه ابن ماجة عن العباس بن عثمان الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦)

يقول تعالى آمرا عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) فإنها خلق عجيب وتركيبها غريب ، فإنها في غاية القوة والشدة وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها ، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل ، وكان شريح القاضي يقول اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها الله عزوجل عن الأرض هذا الرفع العظيم ، كما قال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦].

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي جعلت منصوبة فإنها قائمة ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها ، وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) أي كيف بسطت ومدت ومهدت ، فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه والسماء التي فوق رأسه ، والجبل الذي تجاهه والأرض التي تحته على قدرة خالق ذلك وصانعه وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف ، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه ، وهكذا أقسم ضمام في سؤاله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) لا خطر لها : أي لا مثل لها.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الزهد باب ٣٩.

٣٧٨

كما رواه الإمام أحمد (١) حيث قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس ، قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع.

فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد إنه أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ، قال : «صدق» قال : فمن خلق السماء؟» قال : «الله» قال : فمن خلق الأرض؟ قال : «الله» قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال : «الله» قال : فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال : «صدق» قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة أموالنا؟ قال «صدق» قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال : «نعم» قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال : «صدق» قال : ثم ولى فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئا ولا أنقص منهن شيئا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن صدق ليدخلن الجنة» (٢).

وقد رواه مسلم عن عمر الناقد عن أبي النضر هاشم بن القاسم به ، وعلقه البخاري ورواه الترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة به ورواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن أنس به بطوله وقال في آخره : وأنبأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثني عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل معها ابن صغير لها ترعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أمه من خلقك؟ قالت : الله. قال : فمن خلق أبي؟ قالت : الله. قال : فمن خلقني؟ قالت : الله ، قال : فمن خلق السماء؟ قالت : الله ، قال : فمن خلق الأرض؟ قالت : الله. قال : فمن خلق الجبل؟ قالت : الله. قال : فمن خلق هذه الغنم؟ قالت : الله ، قال : فإني لأسمع لله شأنا وألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال ابن عمر : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما يحدثنا هذا. قال ابن دينار : كان ابن عمر كثيرا ما يحدثنا بهذا ، في إسناده ضعف وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني ضعفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره.

وقوله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي فذكر يا محمد الناس بما

__________________

(١) المسند ٣ / ١٤٣ ، ١٩٣.

(٢) أخرجه البخاري في العلم باب ٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ٩ ، ١٠ ، والترمذي في الزكاة باب ٢ ، والنسائي في الصيام باب ١.

٣٧٩

أرسلت به إليهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ) ولهذا قال : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) [ق : ٤٥] أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم ، وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان.

قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزوجل» ثم قرأ : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (١) وهكذا رواه مسلم في كتاب الإيمان والترمذي والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما من حديث سفيان بن سعيد الثوري به بهذه الزيادة ، وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من رواية أبي هريرة بدون ذكر هذه الآية.

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) أي تولى عن العمل بأركانه وكفر بالحق بجنانه ولسانه ، وهذه كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) [القيامة : ٣١ ـ ٣٢] ولهذا قال : (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ).

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا قتيبة ، حدثنا ليث عن سعيد بن أبي هلال عن علي بن خالد أن أبا أمامة الباهلي مر على خالد بن يزيد بن معاوية ، فسأله عن ألين كلمة سمعها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله» ، تفرد بإخراجه الإمام أحمد ، وعلي بن خالد هذا ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ولم يزد على ما هاهنا ، روى عن أبي أمامة وعنه سعيد بن أبي هلال ، وقوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي : مرجعهم ومنقلبهم (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

آخر تفسير سورة الغاشية ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الفجر

وهي مكية

قال النسائي : أنبأنا عبد الوهاب بن الحكم أخبرني يحيى بن سعيد عن سليمان عن محارب بن دثار وأبي صالح عن جابر قال : صلى معاذ صلاة ، فجاء رجل فصلى معه ، فطول

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ١٧ ، والاعتصام باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٤ ، ٢٦ ، والترمذي في الإيمان باب ١ ، وتفسير سورة ٨٨ ، وابن ماجة في الفتن باب ١. وأحمد في المسند ١ / ١١ ، ١٩ ، ٣٦ ، ٤٨ ، ٢ / ٣١٤ ، ٣٧٧ ، ٤٢٣ ، ٤٣٩ ، ٤٧٥ ، ٤٨٢ ، ٥٠٢ ، ٥٢٨ ، ٣ / ٢٩٥ ، ٣٠٠ ، ٣٣٢ ، ٣٩٤ ، ٥ / ٢٤٦.

(٢) المسند ٥ / ٢٥٨.

٣٨٠