تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

هذا ما عرضنا على هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يقول أرشدني ، قالت وعند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من عظماء المشركين ، قالت : فجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض عنه ويقبل على الآخر ويقول : «أترى بما أقول بأسا؟» فيقول : لا! ففي هذا أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) (١) وقد روى الترمذي هذا الحديث عن سعيد بن يحيى الأموي بإسناده مثله ، ثم قال : وقد رواه بعضهم عن هشام بن عروة عن أبيه قال : أنزلت (عَبَسَ وَتَوَلَّى) في ابن أم مكتوم ولم يذكر فيه عن عائشة. قلت : كذلك هو في الموطأ.

ثم روى ابن جرير (٢) وابن أبي حاتم أيضا من طريق العوفي عن ابن عباس قوله : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب ، وكان يتصدى لهم كثيرا ويحرص عليهم أن يؤمنوا فأقبل إليه رجل أعمى يقال له عبد الله ابن أم مكتوم يمشي وهو يناجيهم ، فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آية من القرآن ، وقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، فأعرض عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبس في وجهه وتولى وكره كلامه ، وأقبل على الآخرين فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجواه وأخذ ينقلب إلى أهله أمسك الله بعض بصره وخفق برأسه ثم أنزل الله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى).

فلما نزل فيه ما نزل أكرمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمه وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حاجتك؟ هل تريد من شيء؟ ـ وإذا ذهب من عنده قال ـ هل لك حاجة في شيء؟» وذلك لما أنزل الله تعالى : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) فيه غرابة ونكارة ، وقد تكلم في إسناده.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، حدثني يونس عن ابن شهاب قال : قال سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم» وهو الأعمى الذي أنزل الله تعالى فيه (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) وكان يؤذن مع بلال ، قال سالم : وكان رجلا ضرير البصر فلم يك يؤذن حتى يقول له الناس حين ينظرون إلى بزوغ الفجر أذن. وهكذا ذكر عروة بن الزبير ومجاهد وأبو مالك وقتادة والضحاك وابن زيد وغير واحد من السلف والخلف أنها نزلت في ابن أم مكتوم ، والمشهور أن اسمه عبد الله ويقال عمرو ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨٠ ، باب ١ ، ومالك في القرآن حديث ٨.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٤٣.

٣٢١

وقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي هذه السورة أو الوصية بالمساواة بين الناس في إبلاغ العلم من شريفهم ووضيعهم وقال قتادة والسدي (كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) يعني القرآن (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه.

وقوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) أي هذه السورة أو العظة وكلاهما متلازم بل جميع القرآن في (صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي معظمة موقرة (مَرْفُوعَةٍ) أي عالية القدر (مُطَهَّرَةٍ) أي من الدنس والزيادة والنقص. وقوله تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وابن زيد : هي الملائكة. وقال وهب بن منبه : هم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال قتادة : هم القراء. وقال ابن جريج عن ابن عباس : السفرة بالنبطية القراء ، وقال ابن جرير (١) : والصحيح أن السفرة الملائكة والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه ومنه يقال السفير الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير كما قال الشاعر : [الوافر]

وما أدع السفارة بين قومي

وما أمشي بغشّ إن مشيت (٢)

وقال البخاري (٣) : سفرة : الملائكة ، سفرت أصلحت بينهم وجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تعالى وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم. وقوله تعالى : (كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي خلقهم كريم حسن شريف وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة ومن هاهنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد.

قال الإمام أحمد (٤) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا هشام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شاق ، له أجران» (٥) أخرجه الجماعة من طريق قتادة به.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ(٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٤٦.

(٢) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري ١٢ / ٤٤٦ ، وتفسير البحر المحيط ٨ / ٤١٧ ، وفتح القدير ٥ / ٣٨٣.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٨٠ ، في الترجمة.

(٤) المسند ٦ / ٤٨ ، ٩٤ ، ٩٨ ، ١١٠ ، ١٧٠ ، ١٩٢ ، ٢٣٩ ، ٢٦٦.

(٥) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٨٠ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٤٤ ، وأبو داود في الوتر باب ١٤ ، والترمذي في ثواب القرآن باب ١٣ ، وابن ماجة في الأدب باب ٥٢ ، والدارمي في فضائل القرآن باب ١١.

٣٢٢

مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

يقول تعالى ذاما لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) قال الضحاك عن ابن عباس (قُتِلَ الْإِنْسانُ) لعن الإنسان ، وكذا قال أبو مالك : وهذا لجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه بلا مستند بل بمجرد الاستبعاد وعدم العلم ، قال ابن جريج (ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفره ، وقال ابن جرير (١) ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافرا أي ما حمله على التكذيب بالمعاد. وقد حكاه البغوي عن مقاتل والكلبي وقال قتادة (ما أَكْفَرَهُ) ما ألعنه ، ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير وأنه قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي قدر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قال العوفي عن ابن عباس : ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه ، وكذا قال عكرمة والضحاك وأبو صالح وقتادة والسدي واختاره ابن جرير وقال مجاهد : هذه كقوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه عمله ، وكذا قال الحسن وابن زيد ، وهذا هو الأرجح والله أعلم. وقوله تعالى : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي أنه بعد خلقه له (أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر ، والعرب تقول : قبرت الرجل إذا ولى ذلك منه ، وأقبره الله ، وعضبت قرن الثور وأعضبه الله وبترت ذنب البعير وأبتره الله ، وطردت عني فلانا وأطرده الله ، أي جعله طريدا ، قال الأعشى : [السريع]

لو أسندت ميتا إلى صدرها

عاش ولم ينقل إلى قابر (٢)

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي بعثه بعد موته ومنه يقال البعث والنشور (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) [الروم : ٢٠] ، (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) [البقرة : ٢٥٩] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أصبغ بن الفرج ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح أخبره عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه» قيل : وما هو يا رسول الله؟ قال : «مثل حبة خردل منه تنشؤون» (٣) وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من رواية الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بدون هذه الزيادة ولفظه «كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب» (٤).

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٤٧ ، ولفظه : وفي قوله (أَكْفَرَهُ) وجهان : أحدهما : التعجب من كفره ، مع إحسان الله إليه ، وأيادنه عنده ، والآخر : ما الذي أكفره ، أي أيّ شيء أكفره؟.

(٢) البيت في ديوان الأعشى ص ١٨٩ ، ومقاييس اللغة ٥ / ٤٧ ، وتفسير البحر المحيط ٨ / ٤٢٠ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٤٤٨.

(٣) أخرجه مسلم في الفتن حديث ١٤٢ ، في المسند في الجنائز باب ١١٧ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٢٨ ، ٣ / ٢٨.

(٤) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٣٩ ، باب ٣ ، وأبو داود في السنة باب ٢٢ ، ومالك في الجنائز حديث ٤٩.

٣٢٣

وقوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) قال ابن جرير (١) : يقول جل ثناؤه كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) يقول : لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض لربه عزوجل ثم روى هو وابن أبي حاتم من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) قال : لا يقضي أحدا أبدا كل ما افترض عليه ، وحكاه البغوي عن الحسن البصري بنحو من هذا ، ولم أجد للمتقدمين فيه كلاما سوى هذا ، والذي يقع لي في معنى ذلك ، والله أعلم ، أن المعنى (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي بعثه (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب الله له أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا ، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.

وقد روى ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال : قال عزير عليه‌السلام قال الملك الذي جاءني فإن القبور هي بطن الأرض ، وإن الأرض هي أم الخلق فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبور التي مد الله لها انقطعت الدنيا ومات من عليها ولفظت الأرض ما في جوفها وأخرجت القبور ما فيها ، وهذا شبيه بما قلناه من معنى الآية ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

وقوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) فيه امتنان وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة على إحياء الأجسام بعد ما كانت عظاما بالية وترابا متمزقا (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من السماء على الأرض (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي أسكناه فيها فدخل في تخومها وتخلل في أجزاء الحب المودع فيها فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً) فالحب كل ما يذكر من الحبوب والعنب معروف والقضب هو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة ، ويقال لها القت أيضا ، وقال ذلك ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي ، وقال الحسن البصري : القضب العلف.

(وَزَيْتُوناً) وهو معروف وهو أدم وعصيره أدم ويستصبح به ويدهن به (وَنَخْلاً) يؤكل بلحا وبسرا ورطبا وتمرا ونيئا ومطبوخا ويعتصر منه رب وخل (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي بساتين ، قال الحسن وقتادة : (غُلْباً) نخل غلاظ كرام ، وقال ابن عباس ومجاهد : الحدائق كل ما التف واجتمع. وقال ابن عباس أيضا : (غُلْباً) الشجر الذي يستظل به ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي طوال ، وقال عكرمة : غلبا أي غلاظ الأوساط. وفي رواية غلاظ الرقاب ، ألم تر إلى الرجل إذا كان غليظ الرقبة قيل : والله إنه لأغلب ، رواه ابن أبي حاتم

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٤٨.

٣٢٤

وأنشد ابن جرير للفرزدق : [الوافر]

عوى فأثار أغلب ضيغميا

فويل ابن المراغة ما استثار (١)

وقوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار ، قال ابن عباس: الفاكهة كل ما أكل رطبا ، والأب ، ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس ، وفي رواية عنه : هو الحشيش للبهائم.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك : الأب الكلأ ، وعن مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد : الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم ، وعن عطاء : كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب. وقال الضحاك : كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب.

وقال ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس : الأب نبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس. ورواه ابن جرير من ثلاث طرق عن ابن إدريس ثم قال : حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير قال : عدّ ابن عباس وقال : الأب ما أنبتت الأرض للأنعام وهذا لفظ حديث أبي كريب. وقال أبو السائب في حديثه. ما أنبتت الأرض مما يأكل الناس وتأكل الأنعام.

وقال العوفي عن ابن عباس : الأب الكلأ والمرعى ، وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وابن زيد وغير واحد. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي قال : سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) فقال : أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم ، وهذا منقطع بين إبراهيم التيمي والصديق رضي الله عنه.

فأما ما رواه ابن جرير (٢) حيث قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، حدثنا حميد عن أنس قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) فلما أتى على هذه الآية (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) قال : قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ فقال : لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف فهو إسناد صحيح ، وقد رواه غير واحد عن أنس به ، وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه وإلا فهو وكل من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض لقوله : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا) وقوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار إلى يوم القيامة.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ

__________________

(١) البيت في ديوان الفرزدق ص ٣٥٥ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٤٥٠.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٥١.

٣٢٥

شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢)

قال ابن عباس : الصاخة اسم من أسماء يوم القيامة عظمه الله وحذره عباده ، وقال ابن جرير (١) : لعله اسم للنفخة في الصور وقال البغوي : الصاخة يعني صيحة يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها تصخ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) أي يراهم ويفر منهم ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم والخطب جليل.

قال عكرمة : يلقى الرجل زوجته فيقول لها : يا هذه أي بعل كنت لك؟ فتقول : نعم البعل كنت وتثني بخير ما استطاعت فيقول لها : فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبينها لي لعلي أنجو مما ترين ، فتقول له : ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا أتخوف مثل الذي تخاف. قال : وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول : يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني بخير. فيقول له : يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك شيئا ، يقول الله تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ).

وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق يقول : نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي ، حتى أن عيسى ابن مريم يقول لا أسأله اليوم إلا نفسي لا أسأله مريم التي ولدتني ، ولهذا قال تعالى : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) قال قتادة : الأحب فالأحب والأقرب فالأقرب من هول ذلك اليوم.

وقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي هو في شغل شاغل عن غيره ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا الوليد بن صالح ، حدثنا ثابت أبو زيد العباداني عن هلال بن خباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا» قال : فقالت زوجته يا رسول الله ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ـ أو قال : ما أشغله عن النظر ـ» (٢).

وقد رواه النسائي منفردا به عن أبي داود عن عارم عن ثابت بن يزيد وهو أبو زيد الأحول البصري أحد الثقات عن هلال بن خباب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وقد رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن محمد بن الفضل عن ثابت بن يزيد عن هلال بن خباب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تحشرون حفاة عراة غرلا» فقالت امرأة : أيبصر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال : يا فلانة (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ثم قال الترمذي :

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٥٣.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨٠ ، باب ٢ ، والنسائي في الجنائز باب ١١٨.

٣٢٦

وهذا حديث حسن صحيح ، وقد روي من غير وجه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال النسائي : أخبرني عمرو بن عثمان ، حدثنا بقية ، حدثنا الزبيدي ، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا» فقالت عائشة : يا رسول الله فكيف بالعورات؟ فقال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) انفرد به النسائي من هذا الوجه.

ثم قال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أزهر بن حاتم ، حدثنا الفضل بن موسى عن عائذ بن شريح عن أنس بن مالك قال : سألت عائشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ، إني ساءلتك عن حديث فتخبرني أنت به قال : «إن كان عندي منه علم» قالت : يا نبي الله كيف يحشر الرجال؟ قال «حفاة عراة» ثم انتظرت ساعة فقالت : يا رسول الله كيف يحشر النساء؟ قال : كذلك حفاة عراة» قالت : وا سوأتاه من يوم القيامة قال : «وعن أي ذلك تسألين إنه قد نزل علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أو لا يكون».

قالت : أية آية هي يا نبي الله؟ قال : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) وقال البغوي في تفسيره : أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أنبأنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أخبرني الحسين بن عبد الله ، حدثنا عبد الله بن عبد الرّحمن ، حدثنا محمد بن عبد العزيز ، حدثنا ابن أبي أويس ، حدثنا أبي عن محمد بن أبي عياش ، عن عطاء بن يسار ، عن سودة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث الناس حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان ، فقلت يا رسول الله : وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال : «قد شغل الناس لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه» هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عمار الحسين بن حريث المروزي عن الفضل بن موسى به ولكن قال أبو حاتم الرازي عائذ بن شريح ضعيف وفي حديثه ضعف.

وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي يكون الناس هنالك فريقين وجوه مسفرة أي مستنيرة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي مسرورة فرحة من السرور في قلوبهم قد ظهر البشر على وجوههم وهؤلاء هم أهل الجنة (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يعلوها ويغشاها قترة أي سواد ، قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا أبو علي محمد مولى جعفر بن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم» قال فهو قوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) وقال ابن عباس (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) أي يغشاها سواد الوجوه وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي الكفرة قلوبهم الفجرة في أعمالهم كما قال تعالى : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧]. آخر تفسير سورة عبس ولله الحمد والمنة.

٣٢٧

تفسير سورة التكوير

وهي مكية

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا عبد الله بن بحير القاص أن عبد الرّحمن بن يزيد الصنعاني أخبره أنه سمع ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (٢) وهكذا رواه الترمذي عن العباس بن عبد العظيم العنبري عن عبد الرزاق به.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ(٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ)(١٤)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) يعني أظلمت. وقال العوفي عنه : ذهبت. وقال مجاهد : اضمحلت وذهبت ، وكذا قال الضحاك وقال قتادة : ذهب ضوؤها ، وقال سعيد بن جبير : (كُوِّرَتْ) غورت. وقال الربيع بن خثيم : (كُوِّرَتْ) يعني رمي بها ، وقال أبو صالح : (كُوِّرَتْ) ألقيت ، وعنه أيضا : نكست ، وقال زيد بن أسلم : تقع في الأرض قال ابن جرير (٣) : والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض ، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بعض ، فمعنى قوله تعالى : (كُوِّرَتْ) جمع بعضها إلى بعض ثم لفت فرمي بها ، وإذا فعل بها ذلك ذهب ضوؤها.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وعمرو بن عبد الله الأودي حدثنا أبو أسامة عن مجالد عن شيخ من بجيلة عن ابن عباس (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ، ويبعث الله ريحا دبورا فتضرمها نارا ، وكذا قال عامر الشعبي ، ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح عن ابن يزيد بن أبي

__________________

(١) المسند ٢ / ٢٧ ، ٣٦ ، ١٠٠.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨١ ، باب ١.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٤٥٧.

٣٢٨

مريم عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال في قول الله (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال : «كورت في جهنم».

وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا موسى بن محمد بن حبان حدثنا درست بن زياد حدثنا يزيد الرقاشي حدثنا أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشمس والقمر نوران عقيران في النار» هذا حديث ضعيف لأن يزيد الرقاشي ضعيف ، والذي رواه البخاري في الصحيح بدون هذه الزيادة ، ثم قال البخاري حدثنا مسدد حدثنا عبد العزيز بن المختار حدثنا عبد الله الداناج حدثني أبو سلمة بن عبد الرّحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الشمس والقمر يكوران يوم القيامة» انفرد به البخاري (١) ، وهذا لفظه وإنما أخرجه في كتاب بدء الخلق وكان جديرا أن يذكره هاهنا أو يكرره كما هي عادته في أمثاله.

وقد رواه البزار فجود إيراده فقال : حدثنا إبراهيم بن زياد البغدادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن عبد الله الداناج قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن بن خالد بن عبد الله القسري في هذا المسجد مسجد الكوفة ، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الشمس والقمر نوران في النار عقيران يوم القيامة» ، فقال الحسن : وما ذنبهما؟ فقال : أحدثك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقول : ـ أحسبه قال ـ وما ذنبهما. ثم قال لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه ولم يرو عبد الله الداناج عن أبي سلمة سوى هذا الحديث.

وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي انتثرت كما قال تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢] وأصل الانكدار الانصباب. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت واختلطت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحوش فماجوا بعضهم في بعض.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال : اختلطت (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) قال : أهملها أهلها (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال : قالت الجن نحن نأتيكم بالخبر ، قال فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تتأجج ، قال فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا ، قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم. رواه ابن جرير (٢) وهذا لفظه وابن أبي حاتم ببعضه ، وهكذا قال مجاهد والربيع بن خثيم والحسن البصري وأبو

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٤.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٦٠.

٣٢٩

صالح وحماد بن أبي سليمان والضحاك في قوله جلا وعلا : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تناثرت ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تغيرت.

وقال يزيد بن أبي مريم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) قال «انكدرت» في جهنم وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى وأمه ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها» رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المتقدم.

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي زالت عن أماكنها ونسفت فتركت الأرض قاعا صفصفا وقوله : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) قال عكرمة ومجاهد : عشار الإبل ، قال مجاهد : (عُطِّلَتْ) تركت وسيبت وقال أبي بن كعب والضحاك ، أهملها أهلها ، وقال الربيع بن خثيم : لم تحلب ولم تصر تخلى منها أربابها ، وقال الضحاك : تركت لا راعي لها والمعنى في هذا كله متقارب ، والمقصود أن العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل منها التي قد وصلت في حملها إلى الشهر العاشر ـ واحدتها عشراء ولا يزال ذلك اسمها حتى تضع ـ قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها بعد ما كانوا أرغب شيء فيها بما دهمهم من الأمر العظيم المفظع الهائل ، وهو أمر يوم القيامة وانعقاد أسبابها ووقوع مقدماتها وقيل بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها كذلك لا سبيل لهم إليها ، وقد قيل في العشار إنها السحاب تعطل عن المسير بين السماء والأرض لخراب الدنيا وقيل إنها الأرض التي تعشر ، وقيل إنها الديار التي كانت تسكن تعطلت لذهاب أهلها. حكى هذه الأقوال كلها الإمام أبو عبد الله القرطبي في كتابه التذكرة ورجح أنها الإبل وعزاه إلى أكثر الناس. (قلت) : لا يعرف عن السلف والأئمة سواه والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨] قال ابن عباس : يحشر كل شيء حتى الذباب رواه ابن أبي حاتم ، وكذا قال الربيع بن خثيم والسدي وغير واحد ، وكذا قال قتادة في تفسير هذه الآية إن هذه الخلائق موافية فيقضي الله فيها ما يشاء ، وقال عكرمة حشرها موتها.

وقال ابن جرير (١) : حدثني علي بن مسلم الطوسي حدثنا عباد بن العوام حدثنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال حشر البهائم موتها ، وحشر كل شيء الموت غير الجن والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة ، حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن سفيان عن أبيه عن أبي يعلى عن الربيع بن خثيم (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال أتى عليها أمر الله ، قال سفيان قال أبي فذكرته لعكرمة فقال قال ابن عباس حشرها موتها ، وقد تقدم عن أبي بن كعب أنه قال

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٥٩.

٣٣٠

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) اختلطت قال ابن جرير والأولى قول من قال (حُشِرَتْ) جمعت قال الله تعالى : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي مجموعة.

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) قال ابن جرير (١) : حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن سعيد بن المسيب قال : قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود أين جهنم؟ قال البحر فقال ما أراه إلا صادقا (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) وقال ابن عباس وغير واحد يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير نارا تأجج ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله تعالى : (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ٦] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أبو طاهر حدثني عبد الجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط ـ شيخ صالح يشبه مالك بن أنس ـ عن معاوية بن سعيد قال : إن هذا البحر بركة ـ يعني بحر الروم ، وسط الأرض والأنهار كلها تصب فيه والبحر الكبير يصب فيه ، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس ، فإذا كان يوم القيامة أسجر وهذا أثر غريب عجيب.

وفي سنن أبي داود «لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز فإن تحت البحر نارا وتحت النار بحرا» (٢) الحديث. وقد تقدم الكلام عليه في سورة فاطر. وقال مجاهد والحسن بن مسلم : (سُجِّرَتْ) أو قدت وقال الحسن : يبست وقال الضحاك وقتادة : غاض ماؤها فذهب فلم يبق فيها قطرة ، وقال الضحاك أيضا : (سُجِّرَتْ) فجرت ، وقال السدي : فتحت وصيرت ، وقال الربيع بن خثيم : (سُجِّرَتْ) فاضت.

وقوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي جمع كل شكل إلى نظيره كقوله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات : ٢٢٠] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا محمد بن الصباح البزار حدثنا الوليد بن أبي ثور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) ـ قال ـ الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله» وذلك بأن الله عزوجل يقول : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) [الواقعة : ٧ ـ ١٠] قال هم الضرباء.

ثم رواه ابن أبي حاتم من طرق أخر عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقرأ (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) فقال : تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم ، وفي رواية هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة أو النار ، وفي رواية عن النعمان قال : سئل عمر عن قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال : يقرن بين الرجل الصالح

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٦٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الجهاد باب ٩.

٣٣١

مع الرجل الصالح ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي رواية عن النعمان أن عمر قال للناس : ما تقولون في تفسير هذه الآية (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ)؟ فسكتوا

قال : ولكن أعلمه هو الرجل يزوج نظيره من أهل الجنة ، والرجل يزوج نظيره من أهل النار ثم قرأ (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال ، والأمثال من الناس جمع بينهم ، وكذا قال الربيع بن خثيم والحسن وقتادة واختاره ابن جرير (١) وهو الصحيح.

[قول آخر] في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرّحمن ، حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن سرار عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : يسيل واد من أصل العرش من ماء فيما بين الصيحتين ومقدار ما بينهما أربعون عاما ، فينبت منه كل خلق بلي من الإنسان أو طير أو دابة ، ولو مر عليهم مار قد عرفهم قبل ذلك لعرفهم على وجه الأرض قد نبتوا ، ثم ترسل الأرواح فتزوج الأجساد فذلك قول الله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) وكذا قال أبو العالية وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري أيضا في قوله تعالى : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي زوجت بالأبدان. وقيل : زوج المؤمنون بالحور العين وزوج الكافرون بالشياطين حكاه القرطبي في التذكرة.

وقوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) هكذا قراءة الجمهور سئلت. والموؤودة هي التي كان أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات ، فيوم القيامة تسأل الموؤودة على أي ذنب قتلت ليكون ذلك تهديدا لقاتلها ، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذا؟ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) أي سألت. وكذا قال أبو الضحى : سألت أي طالبت بدمها. وعن السدي وقتادة مثله.

وقد وردت أحاديث تتعلق بالموؤودة فقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الله بن يزيد. حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو الأسود وهو محمد بن عبد الرّحمن بن نوفل عن عروة عن عائشة عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت : حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ناس وهو يقول : «لقد هممت أن أنهى عن الغيلة (٣) فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم ولا يضر

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٦٢.

(٢) المسند ٦ / ٤٣٤.

(٣) الغيلة : أن يجامع الرجل زوجته وهي ترضع.

٣٣٢

أولادهم ذلك شيئا» ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الوأد الخفي وهو الموؤودة سئلت» (١) ورواه مسلم من حديث أبي عبد الرّحمن المقري وهو عبد الله بن يزيد عن سعيد بن أبي أيوب. ورواه أيضا ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن إسحاق السيلحيني عن يحيى بن أيوب ، ورواه مسلم أيضا وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك بن أنس ثلاثتهم عن أبي الأسود به.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا ابن أبي عدي عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل ، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال : «لا» قلنا : فإنها كانت وأدت أختا لنا في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئا؟ قال «الوائدة والموؤودة في النار إلا أن يدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها» ورواه النسائي من حديث داود بن أبي هند به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة وأبي الأحوص عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الوائدة والموؤودة في النار» وقال أحمد (٣) أيضا حدثنا إسحاق الأزرق ، أخبرنا عوف ، حدثتني حسناء ابنة معاوية الصريمية عن عمها قال : قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال : «النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والموؤودة في الجنة».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا قرة قال : سمعت الحسن يقول : قيل يا رسول الله من في الجنة؟ قال : «الموؤودة في الجنة» هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن ومنهم من قبله. وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبو عبد الله الظهراني ، حدثنا حفص بن عمر العدني ، حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : قال ابن عباس : أطفال المشركين في الجنة فمن زعم أنهم في النار فقد كذب يقول الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) قال ابن عباس : هي المدفونة.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب في قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) قال : جاء قيس بن عاصم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني وأدت بنات لي في الجاهلية قال : «أعتق عن كل واحدة منهن رقبة» قال : يا رسول الله إني صاحب إبل قال : «فانحر عن كل واحدة منهن بدنة» قال الحافظ أبو بكر

__________________

(١) أخرجه مسلم في النكاح حديث ١٤٠ ، ١٤١ ، وأبو داود في الطب باب ١٦ ، والترمذي في الطب باب ٢٧ ، والنسائي في النكاح باب ٥٤ ، والدارمي في النكاح باب ٣٣ ، ومالك في الرضاع حديث ١٧.

(٢) المسند ٣ / ٤٧٨ ، وأخرجه أيضا أبو داود في السنة باب ١٧.

(٣) المسند ٥ / ٥٨.

٣٣٣

البزار : خولف فيه عبد الرزاق ولم يكتبه إلا عن الحسين بن مهدي عنه ، وقد رواه ابن أبي حاتم فقال : أخبرنا أبو عبد الله الظهراني فيما كتب إلي قال : حدثنا عبد الرزاق فذكره بإسناده مثله ، إلا أنه قال وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية وقال في آخره «فأهد إن شئت عن كل واحدة بدنة».

ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين قال : قدم قيس بن عاصم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني وأدت اثنتي عشرة ابنة لي في الجاهلية أو ثلاث عشرة قال : «أعتق عددهن نسما» قال : فأعتق عددهن نسما ، فلما كان في العام المقبل جاء بمائة ناقة فقال : يا رسول الله هذه صدقة قومي على أثر ما صنعت بالمسلمين قال علي بن أبي طالب : فكنا نريحها ونسميها القيسية.

وقوله تعالى : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) قال الضحاك : أعطي كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله ، وقال قتادة : يا ابن آدم تملي فيها ثم تطوى ثم تنشر عليك يوم القيامة فلينظر رجل ماذا يملي في صحيفته.

وقوله تعالى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) قال مجاهد : اجتذبت. وقال السدي : كشفت. وقال الضحاك : تنكشط فتذهب. وقوله تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) قال السدي : أحميت ، وقال قتادة : أوقدت قال : وإنما يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وقوله تعالى : (وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) قال الضحاك وأبو مالك وقتادة والربيع بن خثيم : أي قربت إلى أهلها وقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) هذا هو الجواب أي إذا وقعت هذه الأمور حينئذ تعلم كل نفس ما عملت وأحضر ذلك لها كما قال تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران : ٣٠] وقال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة حدثنا ابن المبارك ، حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : لما نزلت (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال عمر : لما بلغ (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال : لهذا أجري الحديث.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ)(٢٩)

روى مسلم في صحيحه والنسائي في تفسيره عند هذه الآية من حديث مسعر بن كدام عن الوليد بن سريع عن عمرو بن حريث قال : صليت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح فسمعته يقرأ (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١) ورواه النسائي عن بندار

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٢٠١.

٣٣٤

عن غندر عن شعبة عن الحجاج بن عاصم عن أبي الأسود عن عمرو بن حريث به نحوه ، قال ابن أبي حاتم وابن جرير من طريق الثوري عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال : هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن سماك بن حرب ، سمعت خالد بن عرعرة ، سمعت عليا وسئل عن لا (أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) فقال : هي النجوم تخنس بالنهار وتكنس بالليل. وحدثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن خالد عن علي قال : هي النجوم ، وهذا إسناد جيد صحيح إلى خالد بن عرعرة وهو السهمي الكوفي. قال أبو حاتم الرازي : روى عن علي وروى عنه سماك والقاسم بن عوف الشيباني ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا فالله أعلم ، وروى يونس عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي : أنها النجوم ، رواه ابن أبي حاتم. وكذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي وغيرهم أنها النجوم.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن بشار حدثنا هوذة بن خليفة حدثنا عوف عن بكر بن عبد الله في قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال : هي النجوم الدراري التي تجري تستقبل المشرق ، وقال بعض الأئمة ، إنما قيل للنجوم الخنس أي في حال طلوعها ثم هي جوار في فلكها وفي حال غيبوبتها يقال لها كنس ، من قول العرب أوى الظبي إلى كناسة إذا تغيب فيه.

وقال الأعمش عن إبراهيم قال : قال عبد الله فلا أقسم بالخنس قال بقر الوحش ، وكذا قال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عبد الله (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ما هي با عمرو؟ قلت البقر قال وأنا أرى ذلك ، وكذا روى يونس عن أبي إسحاق عن أبيه وقال أبو داود الطيالسي عن عمرو عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) قال البقر تكنس إلى الظل وكذا قال سعيد بن جبير ، وقال العوفي عن ابن عباس هي الظباء ، وكذا قال سعيد أيضا ومجاهد والضحاك ، وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد هي الظباء والبقر.

وقال ابن جرير (٣) حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الآية (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) فقال إبراهيم لمجاهد قل فيها بما سمعت ، قال : فقال مجاهد كنا نسمع فيها شيئا وناس يقولون إنها النجوم ، قال : فقال إبراهيم قل فيها بما سمعت ، قال : فقال مجاهد كنا نسمع أنها بقر الوحش حين تكنس في حجرتها ، قال : فقال

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٦٧.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٦٧.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٤٦٨.

٣٣٥

إبراهيم إنهم يكذبون على عليّ ، هذا كما رووا عن علي أنه ضمن الأسفل الأعلى والأعلى الأسفل ، وتوقف ابن جرير في المراد بقوله : (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) هل هو النجوم أو الظباء وبقر الوحش قال ويحتمل أن يكون الجميع مرادا.

وقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) فيه قولان أحدهما إقباله بظلامه وقال مجاهد أظلم وقال سعيد بن جبير إذا نشأ ، وقال الحسن البصري إذا غشي الناس ، وكذا قال عطية العوفي وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس (إِذا عَسْعَسَ) إذا أدبر ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحاك وكذا قال زيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن (إِذا عَسْعَسَ) أي إذا ذهب فتولى.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري سمع أبا عبد الرّحمن السلمي قال : خرج علينا علي رضي الله عنه حين ثوب المثوب بصلاة الصبح فقال : أين السائلون عن الوتر (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) هذا حين أدبر حسن. وقد اختار ابن جرير (١) أن المراد بقوله : (إِذا عَسْعَسَ) إذا أدبر قال لقوله (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي أضاء ، واستشهد بقول الشاعر أيضا : [رجز]

حتى إذا الصبح له تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا (٢)

أي أدبر ، وعندي أن المراد بقوله (إِذا عَسْعَسَ) إذا أقبل وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضا لكن الإقبال هاهنا أنسب ، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ـ ٢] وقال تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) [الضحى : ١ ـ ٢] وقال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً) [الأنعام : ٩٦] وغير ذلك من الآيات ، وقال كثير من علماء الأصول : إن لفظة عسعس تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك ، فعلى هذا يصح أن يراد كل منهما والله أعلم. وقال ابن جرير (٣) : وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب يزعم أن عسعس دنا من أوله وأظلم ، وقال الفراء : كان أبو البلاد النحوي ينشد بيتا. [السريع]

عسعس حتى لو يشا إدّنا

كان له من ضوئه مقبس (٤)

يريد لو يشاء إذ دنا أدغم الذال في الدال ، قال الفراء وكانوا يزعمون أن هذا البيت مصنوع وقوله

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧١.

(٢) البيت لعلقمة بن قرط في ديوانه ص ٢٨ ، والمحتسب ١ / ١٥٧ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٤٧١ ، وتفسير البحر المحيط ٨ / ٤٢٢.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧١.

(٤) البيت لامرئ القيس في زيادات ديوانه ص ٤٦٣ ، والأضداد لابن الأنباري ص ٢٧ ، وبلا نسبة في تهذيب اللغة ١ / ٧٨ ، ولسان العرب (عسس) ، وكتاب العين ١ / ٧٤ ، وتاج العروس (عسس) ، ومقاييس اللغة ٤ / ٤٢.

٣٣٦

تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) قال الضحاك : إذا طلع ، وقال قتادة ، إذا أضاء وأقبل ، وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ ، وهو المروي عن علي رضي الله عنه. وقال ابن جرير : يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبين.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر وهو جبريل عليه الصلاة والسّلام ، قاله ابن عباس والشعبي وميمون بن مهران والحسن وقتادة والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم (ذِي قُوَّةٍ) كقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ) [النجم : ٥ ـ ٦] أي شديد الخلق شديد البطش والفعل (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي له مكانة عند الله عزوجل ومنزلة رفيعة ، قال أبو صالح في قوله تعالى : (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) قال جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن (مُطاعٍ ثَمَ) أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى قال قتادة (مُطاعٍ ثَمَ) أي في السموات يعني ليس هو من أفناد الملائكة بل هو من السادة والأشراف معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة.

وقوله تعالى : (أَمِينٍ) صفة لجبريل بالأمانة ، وهذا عظيم جدا أن الرب عزوجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) قال الشعبي وميمون بن مهران وأبو صالح ومن تقدم ذكرهم : المراد بقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) يعني ولقد رأى محمد جبريل الذي يأتيه بالرسالة عن الله عزوجل على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي البين وهي الرؤية الأولى التي كانت بالبطحاء وهي المذكورة في قوله : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) [النجم : ٥ ـ ١٠] كما تقدم تفسير ذلك وتقريره ، والدليل عليه أن المراد بذلك جبريل عليه‌السلام ، والظاهر والله أعلم أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤيا وهي الأولى ، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) [النجم : ١٣ ـ ١٦] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم وقد نزلت بعد سورة الإسراء.

وقوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وما محمد على ما أنزله الله إليه بضنين أي بمتهم. ومنهم من قرأ ذلك بالضاد أي ببخيل بل يبذله لكل أحد. قال سفيان بن عيينة : ظنين وضنين سواء أي ما هو بكاذب وما هو بفاجر. والظنين المتهم والضنين البخيل. وقال قتادة : كان القرآن غيبا فأنزله الله على محمد فما ضن به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده ، وكذا قال عكرمة وابن زيد وغير واحد واختار ابن جرير (١) قراءة الضاد.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧٣.

٣٣٧

قلت : وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدم ، وقوله تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له كما قال تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٠ ـ ٢١٢] ، وقوله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقا من عند الله عزوجل كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين وأمرهم فتلوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة الكذاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال : ويحكم أين تذهب عقولكم؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل ، أي من إله ، وقال قتادة (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي عن كتاب الله وعن طاعته.

وقوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه منجاة له وهداية ، ولا هداية فيما سواه (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي ليست المشيئة موكولة إليكم فمن شاء اهتدى ومن شاء ضل ، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين. قال سفيان الثوري عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى : لما نزلت هذه الآية (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ). آخر تفسير سورة التكوير. ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الانفطار

وهي مكية

قال النسائي : أخبرنا محمد بن قدامة حدثنا جرير عن الأعمش عن محارب بن دثار عن جابر قال : قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفتان أنت يا معاذ؟ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى ، والضحى ، وإذا السماء انفطرت» (١) وأصل الحديث مخرج في الصحيحين ولكن ذكر (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) في إفراد النسائي. وقد تقدم من رواية عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت ، وإذا السماء انفطرت ، وإذا السماء انشقت» (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب باب ٧٤ ، ومسلم في الصلاة حديث ١٧٨ ، والنسائي في الافتتاح باب ٧٠.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨١ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٧ ، ٣٦ ، ١٠٠.

٣٣٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ)(١٢)

يقول تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت كما قال تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزمل : ١٨] (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي تساقطت (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : فجر الله بعضها في بعض. وقال الحسن : فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها ، وقال قتادة : اختلط عذبها بمالحها.

وقال الكلبي : ملئت (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) قال ابن عباس : بحثت ، وقال السدي : تبعثر تحرك فيخرج من فيها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) أي إذا كان هذا حصل هذا. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب حيث قال الكريم حتى يقول قائلهم غره كرمه ، بل المعنى في هذه الآية : ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي العظيم حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق. كما جاء في الحديث «يقول الله تعالى يوم القيامة يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟».

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان أن عمر سمع رجلا يقرأ (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فقال عمر : الجهل. وقال أيضا : حدثنا عمر بن شبّه ، حدثنا أبو خلف ، حدثنا يحيى البكاء ، سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) قال ابن عمر : غره والله جهله ، قال : وروي عن ابن عباس والربيع بن خثيم والحسن مثل ذلك وقال قتادة : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) شيء ، ما غر ابن آدم غير هذا العدو الشيطان.

وقال الفضيل بن عياض : لو قال لي ما غرك بي لقلت : ستورك المرخاة. وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) لقلت : غرني كرم الكريم. قال البغوي : وقال بعض أهل الإشارة : إنما قال (بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) دون سائر أسمائه وصفاته كأنه لقنه الإجابة وهذا الذي تخيله هذا القائل ليس بطائل لأنه إنما أتى باسمه الكريم لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور ، وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا : نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق ضرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ).

٣٣٩

وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي ما غرك بالرب الكريم (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي جعلك سويا مستقيما معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال. قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا حريز ، حدثني عبد الرّحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير ، عن بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصق يوما في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال : «قال الله عزوجل : يا ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة؟» وكذا رواه ابن ماجة (٢) عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن حريز بن عثمان به. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي وتابعه يحيى بن حمزة عن ثور بن يزيد عن عبد الرّحمن بن ميسرة.

وقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال مجاهد : في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم. وقال ابن جرير (٣) : حدثني محمد بن سنان القزاز ، حدثنا مطهر بن الهيثم ، حدثنا موسى بن علي بن رباح ، حدثني أبي عن جدي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ما ولد لك؟» قال : يا رسول الله ما عسى أن يولد لي إما غلام وإما جارية. قال «فمن يشبه؟» قال : يا رسول الله من عسى أن يشبه إما أباه وإما أمه. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها : «مه لا تقولن هكذا إن النطفة إذا استقرت في الرحم أحضرها الله تعالى كل نسب بينها وبين آدم؟ أما قرأت هذه الآية في كتاب الله تعالى (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) قال : شكلك.

وهكذا رواه ابن أبي حاتم والطبراني من حديث مطهر بن الهيثم به ، وهذا الحديث لو صح لكان فيصلا في هذه الآية ولكن إسناده ليس بالثابت ، لأن مطهر بن الهيثم قال فيه أبو سعيد بن يونس كان متروك الحديث ، وقال ابن حبان ، يروي عن موسى بن علي وغيره ما لا يشبه حديث الأثبات ، ولكن في الصحيحين عن أبي هريرة أن رجلا قال : يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود ، قال «هل لك من إبل؟» قال نعم ، قال : «فما ألوانها» قال : حمر ، قال : «فهل فيها من أورق» قال : نعم ، قال : «فأنى أتاها ذلك» قال : عسى أن يكون نزعة عرق. قال :

«وهذا عسى أن يكون نزعة عرق» (٤).

وقد قال عكرمة في قوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إن شاء في صورة قرد وإن شاء في صورة خنزير ، وكذا قال أبو صالح (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إن شاء في صورة

__________________

(١) المسند ٤ / ٢١٠.

(٢) كتاب الوصايا باب ٤.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧٩ ، ٤٨٠.

(٤) أخرجه البخاري في الطلاق باب ٢٦ ، ومسلم في اللعان حديث ١٨ ، ٢٠.

٣٤٠