تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

الإمام محمد بن نصر كيف رواه ولم يتكلم عليه ، ولا عرف بحاله ، ولا تعرض لضعف بعض رجاله ، غير أنه رواه من وجه آخر عن سعيد بن جبير مرسلا بنحوه ومن طريق أخرى عن الحسن البصري مرسلا قريبا منه.

ثم قال محمد بن نصر : حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ ، أخبرنا النضر ، أخبرنا عباد بن منصور قال : سمعت عدي بن أرطاة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال سمعت رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلا وقعت على ملك يصلي ، وإن منهم ملائكة سجودا منذ خلق الله السموات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، وإن منهم ملائكة ركوعا لم يرفعوا رؤوسهم منذ خلق الله السموات والأرض ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عزوجل قالوا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وهذا إسناد لا بأس به.

وقوله تعالى : (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) قال مجاهد وغير واحد : (وَما هِيَ) أي النار التي وصفت (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) ثم قال تعالى : (كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) أي ولى (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أشرق (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي العظائم يعني النار ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وغير واحد من السلف (نَذِيراً لِلْبَشَرِ لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) أي لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق أو يتأخر عنها ويولي ويردها.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ(٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (٥٦)

يقول تعالى مخبرا أن (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) أي معتقلة بعملها يوم القيامة قاله ابن عباس وغيره (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) أي ما عبدنا الله ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) أي نتكلم فيما لا نعلم. وقال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) يعني الموت كقوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما هو ـ يعني عثمان بن مظعون ـ فقد جاءه اليقين من

٢٨١

ربه» (١).

قال الله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي من كان متصفا بمثل هذه الصفات فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه لأن الشفاعة إنما تنجع إذا كان المحل قابلا ، فأما من وافى الله كافرا يوم القيامة فإنه له النار لا محالة خالدا فيها.

ثم قال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي كأنهم في نفارهم عن الحق وإعراضهم عنه حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ، قاله أبو هريرة وابن عباس في رواية عنه وزيد بن أسلم وابنه عبد الرّحمن ، أو رام ، وهو رواية عن ابن عباس وهو قول الجمهور. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس : الأسد بالعربية ، ويقال له بالحبشية قسورة ، وبالفارسية شير ، وبالنبطية أويا.

وقوله تعالى : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قاله مجاهد وغيره ، كقوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] وفي رواية عن قتادة : يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل ، فقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها.

ثم قال تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي حقا إن القرآن تذكرة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان : ٣٠]. وقوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) [التكوير : ٢٩] أي هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب. قاله قتادة.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا زيد بن الحباب ، أخبرني سهيل أخو حزم ، حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) وقال «قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له» (٣) ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث زيد بن الحباب ، والنسائي من حديث المعافى ابن عمران ، كلاهما عن سهيل بن عبد الله القطعي به ، وقال الترمذي : حسن غريب وسهيل ليس بالقوي ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن هدبة بن خالد عن سهيل به ، وهكذا رواه أبو يعلى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣ ، ومناقب الأنصار باب ٤٦ ، والشهادات باب ٣٠ ، وأحمد في المسند ٦ / ٤٣٦.

(٢) المسند ٣ / ١٤٢ ، ٢٤٣.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧٤ ، باب ٤ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٥.

٢٨٢

والبزار والبغوي وغيرهم من حديث سهيل القطعي به. آخر تفسير سورة المدثر ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة القيامة

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ(٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) (١٥)

قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيا جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي. والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد ومن عدم بعث الأجساد ، ولهذا قال تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة ، وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعا ، هكذا حكاه ابن أبي حاتم : وقد حكى ابن جرير عن الحسن والأعرج أنهما قرءا «لأقسم بيوم القيامة» وهذا يوجه قول الحسن لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة ، والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة رحمه‌الله ، وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، واختاره ابن جرير.

فأما يوم القيامة فمعروف وأما النفس اللوامة فقال قرة بن خالد عن الحسن البصري في هذه الآية : إن المؤمن والله ما نراه إلا يلوم نفسه. ما أردت بكلمتي ، ما أردت بأكلتي ، ما أردت بحديث نفسي ، وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه ، وقال جويبر : بلغنا عن الحسن أنه قال في قوله : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : ليس أحد من أهل السموات والأرضين إلا يلوم نفسه يوم القيامة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم عن إسرائيل عن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : يلوم على الخير والشر لو فعلت كذا وكذا ، ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل به.

٢٨٣

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مؤمل ، حدثنا سفيان عن ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) قال : تلوم على الخير والشر ، ثم رواه من وجه آخر عن سعيد أنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال : هي النفس اللؤوم ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد تندم على ما فات وتلوم عليه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : اللوامة المذمومة ، وقال قتادة (اللَّوَّامَةِ) الفاجرة. وقال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة بالمعنى والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات.

وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي يوم القيامة أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) وقال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس : أن نجعله خفا أو حافرا ، وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير ، ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا ، والظاهر من الآية أن قوله تعالى : (قادِرِينَ) حال من قوله تعالى : (نَجْمَعَ) أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية ، وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج.

وقوله : (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) قال سعيد عن ابن عباس : يعني يمضي قدما ، وقال العوفي عن ابن عباس (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) يعني الأمل ، يقول الإنسان أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة.

وقال مجاهد (لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) ليمضي أمامه راكبا رأسه ، وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما إلا من عصمه الله تعالى ، وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير والضحاك والسدي وغير واحد من السلف : هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب ، وكذا قال ابن زيد وهذا هو الأظهر من المراد ، ولهذا قال بعده (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أي يقول متى يكون يوم القيامة وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده كما قال تعالى : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) [سبأ : ٢٩ ـ ٣٠].

وقال تعالى هاهنا : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) قرأ أبو عمرو بن العلاء (بَرِقَ) بكسر الراء أي حار ، وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣] أي بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا لا يستقر لهم بصر على شيء من شدة الرعب ، وقرأ آخرون برق بالفتح وهو

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٣٢٧.

٢٨٤

قريب في المعنى من الأول ، والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور.

وقوله تعالى : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي ذهب ضوؤه (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) قال مجاهد : كورا ، وقرأ ابن زيد عند تفسير هذه الآية (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير : ١] وروي عن ابن مسعود أنه قرأ وجمع بين الشمس والقمر.

وقوله تعالى : (يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ) أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة حينئذ يريد أن يفر ويقول أين المفر أي هل من ملجأ أو موئل ، قال الله تعالى : (كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف : أي لا نجاة ، وهذه الآية كقوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) [الشورى : ٤٧] أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه ، وكذا قال هاهنا : (لا وَزَرَ) أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه ، ولهذا قال : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي المرجع والمصير.

ثم قال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] وهكذا قال هاهنا : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، وكما قال تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يقول : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه. وقال قتادة : شاهد على نفسه وفي رواية قال : إذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه. وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك وتترك الجذل في عينك لا تبصره!.

وقال مجاهد : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو جادل عنها فهو بصير عليها. وقال قتادة (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه. وقال السدي (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) حجته. وكذا قال ابن زيد والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) يقول : لو ألقى ثيابه. وقال الضحاك : ولو ألقى ستوره وأهل اليمن يسمون الستر المعذار. والصحيح قول مجاهد وأصحابه كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] كقوله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) [المجادلة : ١٨] وقال العوفي عن ابن عباس (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال (لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) وقال (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) [النحل : ٨٧] (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ) [النحل : ٢٨] وقولهم (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

٢٨٥

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)(٢٥)

هذا تعليم من الله عزوجل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عزوجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له وتكفل الله له أن يجمعه في صدره وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه عليه ، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره والثانية تلاوته والثالثة تفسيره وإيضاح معناه. ولهذا قال تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) أي بالقرآن كما قال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] ثم قال تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أي في صدرك (وَقُرْآنَهُ) أي أن تقرأه (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الرّحمن عن أبي عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه قال : فقال لي ابن عباس : أنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرك شفتيه ، وقال لي سعيد : وأنا أحرك شفتي كما رأيت ابن عباس يحرك شفتيه ، فأنزل الله عزوجل (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) قال : جمعه في صدرك ثم تقرأه (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي فاستمع له وأنصت (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه (٢). وقد رواه البخاري ومسلم من غير وجه عن موسى بن أبي عائشة به. ولفظ البخاري فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله عزوجل.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى التيمي ، حدثنا موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي يلقى منه شدة ، وكان إذا نزل عليه عرف في تحريكه شفتيه يتلقى أوله ويحرك به شفتيه ، خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فأنزل الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد : إن هذه الآية نزلت في ذلك.

__________________

(١) المسند ١ / ٣٤٣.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٥ ، باب ١ ، والترمذي في تفسير سورة ٧٥ ، باب ١ ، والنسائي في الافتتاح باب ٣٧.

٢٨٦

وقد روى ابن جرير (١) من طريق العوفي عن ابن عباس (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) قال : كان لا يفتر من القراءة مخافة أن ينساه فقال الله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أن نجمعه لك (وَقُرْآنَهُ) أن نقرئك فلا تنسى ، وقال ابن عباس وعطية العوفي (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) تبيين حلاله وحرامه وكذا قال قتادة.

وقوله تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ومخالفة ما أنزله الله عزوجل على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الحق والقرآن العظيم ، أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة.

ثم قال تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أي تراه عيانا كما رواه البخاري رحمه‌الله تعالى في صحيحه «إنكم سترون ربكم عيانا» (٢). وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عزوجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها ولا منعها ، لحديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما في الصحيحين أنا ناسا قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟» قالوا : لا ، قال : «فإنكم ترون ربكم كذلك» (٣).

وفي الصحيحين عن جرير قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال : «إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر! فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا» (٤) وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزوجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن» (٥). وفي إفراد مسلم عن صهيب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ـ قال ـ يقول الله تعالى : تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم وهي الزيادة» ثم تلا هذه الآية (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٦) وفي إفراد مسلم عن جابر في حديثه «إن الله يتجلى للمؤمنين يضحك» (٧) يعني في عرصات القيامة ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عزوجل في العرصات وفي

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٣٣٩.

(٢) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤.

(٣) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢.

(٤) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٩.

(٥) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٦.

(٦) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٩٧.

(٧) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣١٦.

٢٨٧

روضات الجنات ، وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا عبد الملك بن أبحر ، حدثنا ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه ، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين» (٢) ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن شبابة عن إسرائيل عن ثوير قال : سمعت ابن عمر فذكره ، قال : ورواه عبد الملك بن أبحر عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر ، وكذلك رواه الثوري عن ثوير عن مجاهد عن ابن عمر ولم يرفعه ، ولو لا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن ، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضع من هذا التفسير وبالله التوفيق.

وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام ، وهداة الأنام ، ومن تأول ذلك بأن المراد بإلى مفرد الآلاء وهي النعم كما قال الثوري عن منصور عن مجاهد (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنتظر الثواب من ربها ، رواه ابن جرير (٣) من غير وجه عن مجاهد وكذا قال أبو صالح أيضا فقد أبعد هذا القائل النجعة وأبطل فيما ذهب إليه ، وأين هو من قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] قال الشافعي رحمه‌الله تعالى : ما حجب الكفار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عزوجل ثم قد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما دل عليه سياق الآية الكريمة وهي قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال ابن جرير : حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري ، حدثنا آدم ، حدثنا المبارك عن الحسن (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال حسنة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) قال : تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق.

وقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة ، قال قتادة : كالحة ، وقال السدي : تغير ألوانها ، وقال ابن زيد (باسِرَةٌ) أي عابسة (تَظُنُ) أي تستيقن (أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) قال مجاهد : داهية ، وقال قتادة : شر ، وقال السدي. تستيقن أنها هالكة ، وقال ابن زيد : تظن أن ستدخل النار ، وهذا المقام كقوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] وكقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢] وكقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً) ـ إلى قوله ـ (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) [الغاشية : ٢ ـ ١٠] في أشباه ذلك من الآيات والسياقات.

__________________

(١) المسند ٢ / ١٣.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٧٥ ، باب ٢.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٣٤٣.

٢٨٨

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى)(٤٠)

يخبر تعالى عن حالة الاحتضار وما عنده من الأهوال ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت فقال تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) إن جعلنا (كلا) رادعة فمعناها لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به بل صار ذلك عندك عيانا ، وإن جعلناها بمعنى «حقّا» فظاهر ، أي حقا إذا بلغت التراقي أي انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي جمع ترقوة وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق ، كقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [الواقعة : ٨٣ ـ ٨٧] وهكذا قال هاهنا : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) ويذكر هاهنا حديث بسر بن جحاش الذي تقدم في سورة يس. والتراقي جمع ترقوة وهي قريبة من الحلقوم.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) قال عكرمة عن ابن عباس : أي من راق يرقى ، وكذا قال أبو قلابة : (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) أي من طبيب شاف ، وكذا قال قتادة والضحاك وابن زيد ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي ، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) قال : قيل من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة.

وبهذا الإسناد عن ابن عباس في قوله : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) قال : التفت عليه الدنيا والآخرة ، وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) يقول آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة فتلتقي الشدة بالشدة إلا من رحمه‌الله (١). وقال عكرمة : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) الأمر العظيم بالأمر العظيم ، وقال مجاهد : بلاء ببلاء ، وقال الحسن البصري في قوله تعالى : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) هما ساقاك إذا التفتا ، وفي رواية عنه ماتت رجلاه فلم تحملاه وقد كان عليهما جوالا ، وكذا قال السدي عن أبي مالك ، وفي رواية عن الحسن : هو لفهما في الكفن ، وقال الضحاك : (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه.

وقوله تعالى : (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) أي المرجع والمآب وذلك أن الروح ترفع إلى السموات ، فيقول الله عزوجل : ردوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٢ / ٣٤٧.

٢٨٩

أخرجهم تارة أخرى ، كما ورد في حديث البراء الطويل. وقد قال الله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) [الأنعام : ٦١ ـ ٦٢].

وقوله جل وعلا : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذبا للحق بقلبه متوليا عن العمل بقالبه ، فلا خير فيه باطنا ولا ظاهرا ، ولهذا قال تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي جذلا أشرا بطرا كسلانا لا همة له ولا عمل ، كما قال تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) [المطففين : ٣٤].

وقال تعالى : (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي يرجع (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) [الانشقاق : ١٣ ـ ١٥] وقال الضحاك عن ابن عباس (ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى) أي يختال : وقال قتادة وزيد بن أسلم : يتبختر. قال الله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) وهذا تهديد ووعيد أكيد من الله تعالى للكافر به المتبختر في مشيه أي يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك كما يقال في مثل هذا على سبيل التهكم والتهديد ، كقوله تعالى : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩] وكقوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) [المرسلات : ٤٦] وكقوله تعالى : (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ١٥] وكقوله جل جلاله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] إلى غير ذلك.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرّحمن يعني ابن مهدي عن إسرائيل عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت سعيد بن جبير قلت (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) قال : قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي جهل ثم نزل به القرآن.

وقال أبو عبد الرّحمن النسائي : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبو النعمان ، حدثنا أبو عوانة (ح) وحدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن سليمان ، حدثنا أبو عوانة عن موسى بن أبي عائشة عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى)؟ قال : قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي جهل ثم أنزله الله عزوجل.

قال ابن أبي حاتم : وحدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا شعيب عن إسحاق ، حدثنا سعيد عن قتادة قوله : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) وعيد على أثر وعيد كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمجامع ثيابه ثم قال : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئا وإني لأعز من مشى بين جبليها.

وقوله تعالى : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) قال السدي : يعني لا يبعث. وقال

٢٩٠

مجاهد والشافعي وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم : يعني لا يؤمر ولا ينهى ، والظاهر أن الآية تعم الحالين أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملا لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الآخرة ، والمقصود هنا إثبات المعاد والرد على من أنكره من أهل الزيغ والجهل والعناد ، ولهذا قال تعالى مستدلا على الإعادة بالبداءة فقال تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين. يمنى : يراق من الأصلاب في الأرحام.

(ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقا آخر سويا سليم الأعضاء ذكرا أو أنثى بإذن الله وتقديره. ولهذا قال تعالى : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).

ثم قال تعالى : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة بقادر على أن يعيده كما بدأه وتناول القدرة للإعادة إما بطريق الأولى بالنسبة إلى البداءة وإما مساوية على القولين في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٣٧] والأول أشهر كما تقدم في سورة الروم بيانه وتقريره والله أعلم.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا شبابة عن شعبة ، عن موسى بن أبي عائشة عن آخر أنه كان فوق سطح يقرأ ويرفع صوته بالقرآن ، فإذا قرأ (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال : سبحانك اللهم فبلى ، فسئل عن ذلك فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك. وقال أبو داود رحمه‌الله حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن موسى بن أبي عائشة قال : كان رجل يصلي فوق بيته فكان إذا قرأ (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال سبحانك فبلى ، فسألوه عن ذلك فقال : سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تفرد به أبو داود (١) ولم يسم هذا الصحابي ولا يضر ذلك.

وقال أبو داود أيضا : حدثنا عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، حدثني إسماعيل بن أمية ، سمعت أعرابيا يقول : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين ، ومن قرأ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) فانتهى إلى قوله (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) فليقل بلى ، ومن قرأ (وَالْمُرْسَلاتِ) [المرسلات : ١] فبلغ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) [المرسلات : ٥٠] فليقل «آمنا بالله» (٢) ورواه أحمد عن سفيان بن عيينة ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان بن عيينة به وقد رواه شعبة عن إسماعيل بن أمية قال: قلت له من حدثك؟ قال : رجل

__________________

(١) كتاب الصلاة باب ١٤٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٥٠ ، والترمذي في تفسير سورة ٩٥ باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٩.

٢٩١

صدق عن أبي هريرة.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد عن قتادة قوله تعالى : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) ذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأها قال «سبحانك وبلى» ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنه مر بهذه الآية (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) قال : سبحانك فبلى. آخر تفسير سورة القيامة ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة الإنسان

وهي مكية

قد تقدم في صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (الم تَنْزِيلُ) السجدة و (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) (٢) وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا ابن زيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه السورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود ، فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخرج نفس صاحبكم ـ أو قال أخيكم ـ الشوق إلى الجنة» مرسل غريب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)(٣)

يقول تعالى مخبرا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئا يذكر لحقارته وضعفه فقال تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) ثم بين ذلك فقال جل جلاله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي أخلاط ، والمشج والمشيج : الشيء المختلط بعضه في بعض ، قال ابن عباس في قوله تعالى : (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون ، وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن والربيع بن أنس : الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٣٥٢.

(٢) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٦٤ ، ٦٦.

٢٩٢

وقوله تعالى : (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره كقوله جل جلاله : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) أي جعلنا له سمعا وبصرا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.

وقوله جل وعلا : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بيناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله جل وعلا : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] وكقوله جل وعلا : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ١٠] أي بينا له طريق الخير وطريق الشر ، وهذا قول عكرمة وعطية وابن زيد ومجاهد في المشهور عنه والجمهور. وروي عن مجاهد وأبي صالح والضحاك والسدي أنهم قالوا في قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) يعني خروجه من الرحم ، وهذا قول غريب والصحيح المشهور الأول.

وقوله تعالى : (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) منصوب على الحال من الهاء في قوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) تقديره فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها» (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن ابن خثيم عن عبد الرّحمن بن سابط عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لكعب بن عجرة : «أعاذك الله من إمارة السفهاء» قال : وما إمارة السفهاء؟ قال : «أمراء يكونون من بعدي لا يهتدون بهداي ، ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي. يا كعب بن عجرة ، الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة ، والصلاة قربات ـ أو قال برهان ـ يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت ، النار أولى به ، يا كعب ، الناس غاديان فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها» ورواه عن عفان عن وهيب عن عبد الله بن عثمان بن خثيم به.

وقد تقدم في سورة الروم عند قوله جل جلاله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم : ٣٠] من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا» (٣).

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله بن جعفر عن عثمان بن محمد عن

__________________

(١) أخرجه مسلم في الطهارة حديث ١.

(٢) المسند ٣ / ٣٢١.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٥٣.

(٤) المسند ٢ / ٣٢٣.

٢٩٣

المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من خارج يخرج إلا ببابه رايتان : راية بيد ملك وراية بيد شيطان ، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته ، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته».

(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (١٢)

يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه به من السلاسل والأغلال والسعير ، وهو اللهب والحريق في نار جهنم كما قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧١ ـ ٧٢] ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة. قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ولهذا قال : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفا بلا مزج ويروون بها ، ولهذا ضمن يشرب معنى يروى حتى عداه بالباء ونصب عينا على التمييز ، قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور ، وقال بعضهم : هو من عين كافور ، وقال بعضهم : يجوز أن يكون منصوبا بيشرب حكى هذه الأقوال الثلاثة ابن جرير (١).

وقوله تعالى : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يتصرفون فيها حيث شاؤوا وأين شاؤوا من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم ، والتفجير هو الإنباع كما قال تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] وقال (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) [الكهف : ٣٣].

وقال مجاهد : (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) يقودونها حيث شاؤوا وكذا قال عكرمة وقتادة ، وقال الثوري يصرفونها حيث شاؤوا ، وقوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) أي يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات الواجبة بأصل الشرع وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر.

قال الإمام مالك عن طلحة بن عبد الملك الأيلي عن القاسم بن مالك عن عائشة رضي الله

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٣٥٧ ، ٣٥٨.

٢٩٤

عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (١) رواه البخاري من حديث مالك. ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذي شره مستطير أي منتشر عام على الناس إلا من رحم الله ، قال ابن عباس : فاشيا ، وقال قتادة : استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض ، وقال ابن جرير(٢): ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال ، ومنه قول الأعشى : [المتقارب]

فبانت وقد أسأرت في الفؤاد

صدعا على نأيها مستطيرا (٣)

يعني ممتدا فاشيا. وقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) قيل على حب الله تعالى ، وجعلوا الضمير عائدا إلى الله عزوجل لدلالة السياق عليه ، والأظهر أن الضمير عائد على الطعام أي ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له ، قاله مجاهد ومقاتل واختاره ابن جرير كقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) وكقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [البقرة : ١٧٧].

وروى البيهقي من طريق الأعمش عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا أول ما جاء العنب فأرسلت صفية ، يعني امرأته ، فاشترت عنقودا بدرهم فاتبع الرسول سائل فلما دخل به قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه ، فأرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودا فاتبع الرسول السائل ، فلما دخل قال السائل : فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه ، فأرسلت صفية إلى السائل فقالت والله إن عدت لا تصيب منه خيرا أبدا ، ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به.

وفي الصحيح «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر»(٤) أي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ، ولهذا قال تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما ، وأما الأسير فقال سعيد بن جبير والحسن والضحاك : الأسير من أهل القبلة ، وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين ، ويشهد لهذا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء ، وقال عكرمة : هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك ، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأيمان باب ٢٨ ، ومالك في النذور حديث ٨.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٣٥٩.

(٣) يروى البيت :

فبانت وقد أورثت في الفؤاد

صدعا يخالط عثارها

وهو في ديوان الأعشى ص ٣٦٧ ، وتهذيب اللغة ٢ / ٣٢٦ ، وتاج العروس (عثر) ، ولسان العرب (عثر) ، وتفسير الطبري ١٢ / ٣٥٩ ، والبيت بلا نسبة في مجمل اللغة ٣ / ٤٤٤.

(٤) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٩٢.

٢٩٥

وقد وصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث ، حتى أنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (١) قال مجاهد : هو المحبوس ، أي يطعمون الطعام لهؤلاء وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي رجاء ثواب الله ورضاه (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.

قال مجاهد وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأثنى عليهم به. ليرغب في ذلك راغب (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (عَبُوساً) ضيقا ، (قَمْطَرِيراً) طويلا ، وقال عكرمة وغيره عنه في قوله (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) قال : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. وقال مجاهد (عَبُوساً) العابس الشفتين (قَمْطَرِيراً) قال : يقبيض الوجه بالبسور. وقال سعيد بن جبير وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول ، (قَمْطَرِيراً) تقليص الجبين وما بين العينين من الهول. وقال ابن زيد ، العبوس الشر ، والقمطرير الشديد ، وأوضح العبارات ، وأجلاها ، وأحلاها ، وأعلاها وأولاها قول ابن عباس رضي الله عنه.

قال ابن جرير (٢) : والقمطرير هو الشديد يقال : هو يوم قمطرير ويوم قماطر ويوم عصيب وعصبصب ، وقد اقمطر اليوم يقمطر اقمطرارا ، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة ومنه قول بعضهم : [الطويل]

بني عمنا هل تذكرون بلاءنا؟

عليكم إذا ما كان يوم قماطر (٣)

قال الله تعالى : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) وهذا من باب التجانس البليغ (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) أي آمنهم مما خافوا منه (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) أي في وجوههم (وَسُرُوراً) أي في قلوبهم ، قاله الحسن البصري وقتادة وأبو العالية والربيع بن أنس ، وهذه كقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٣٩] وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه.

قال كعب بن مالك في حديثه الطويل : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٧٨ ، ٣ / ١١٧ ، ٦ / ٢٩٠ ، ٣١١ ، ٣١٥ ، ٣٢١.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٣٦١.

(٣) البيت بلا نسبة في لسان العرب (قمطر) ، وتاج العروس (قمطر) ، وديوان الأدب ٢ / ٥٧ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٣٦١.

٢٩٦

فلقة قمر (١) ، وقالت عائشة رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه (٢) الحديث.

وقوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم (جَنَّةً وَحَرِيراً) أي منزلا رحبا وعيشا رغيدا ولباسا حسنا. وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الداراني قال : قرئ على أبي سليمان الداراني سورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) فلما بلغ القارئ إلى قوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) قال : بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا ثم أنشد يقول : [الطويل]

كم قتيل بشهوة وأسير

أف من مشتهي خلاف الجميل

شهوات الإنسان تورثه الذل

وتلقيه في البلاء الطويل

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (٢٢)

يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم وما أسبغ عليهم من الفضل العميم فقال تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الصافات ، وذكر الخلاف في الاتكاء هل هو الاضطجاع أو التمرفق أو التربع أو التمكن في الجلوس ، وأن الأرائك هي السرر تحت الحجال.

وقوله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) أي ليس عندهم حر مزعج ولا برد مؤلم بل هي مزاج واحد دائم سرمدي لا يبغون عنها حولا (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي قريبة إليهم أغصانها (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي متى تعاطاه دنا القطف إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع كما قال تعالى في الآية الأخرى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [الرّحمن : ٥٤] وقال جل وعلا : (قُطُوفُها دانِيَةٌ) [الحاقة : ٢٣] قال مجاهد : (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) إن قام ارتفعت معه بقدره ، وإن قعد تذللت له حتى ينالها ، وإن اضطجع تذللت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى : (تَذْلِيلاً) وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد ، وقال مجاهد أرض الجنة من ورق وترابها من المسك ، وأصول شجرها من ذهب وفضة ، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٣ ، والمغازي باب ٧٩ ، وتفسير سورة ٩ ، باب ١٨ ، ومسلم في التوبة حديث ٥٣ ، والترمذي في تفسير سورة ٩ ، باب ١٧ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٨٩ ، ٣٩.

(٢) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٣ ، ومسلم في الرضاع حديث ٣٨.

٢٩٧

والياقوت والورق والثمر بين ذلك ، فمن أكل منها قائما لم تؤذه ، ومن أكل منها قاعدا لم تؤذه ، ومن أكل منها مضطجعا لم تؤذه.

وقوله جلت عظمته : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهي من فضة وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عرى لها ولا خراطيم ، وقوله (قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) فالأول منصوب بخبر كان أي كانت قوارير ، والثاني منصوب إما على البدلية أو تمييز لأنه بينه بقوله جل وعلا : (قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ).

قال ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج والقوارير لا تكون إلا من زجاج ، فهذه الأكواب هي من فضة وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا ، قال ابن المبارك عن إسماعيل عن رجل عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. رواه ابن أبي حاتم : وقوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي على قدر ريهم لا تزيد عنه ولا تنقص بل هي معدة لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها ، وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح وقتادة وابن أبزى ، وعبد الله بن عبيد بن عمير وقتادة والشعبي وابن زيد ، وقاله ابن جرير وغير واحد ، وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة ، وقال العوفي عن ابن عباس (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) قدرت للكف وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقال الضحاك ، على قدر أكف الخادم ، وهذا لا ينافي القول الأول فإنها مقدرة في القدر والري.

وقوله تعالى : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) أي ويسقون يعني الأبرار أيضا في هذه الأكواب (كَأْساً) أي خمرا (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل وهو حار ليعتدل الأمر ، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة ، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفا كما قال قتادة وغير واحد : وقد تقدم قوله جل وعلا (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) وقال هاهنا : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلا ، وقال عكرمة : اسم عين في الجنة ، وقال مجاهد : سميت بذلك لسلاسة سيلها وحدة جريها ، وقال قتادة : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) عين سلسة مستفيد ماؤها ، وحكى ابن جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحلق واختار هو أنها تعم ذلك كله وهو كما قال.

وقوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي يطوف على أهل الجنة للخدمة ولدان من ولدان الجنة (مُخَلَّدُونَ) أي على حالة واحدة مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن ، ومن فسرهم بأنهم مخرصون في آذانهم الأقرطة فإنما عبر عن المعنى بذلك ، لأن الصغير هو الذي يليق له ذلك دون الكبير.

٢٩٨

وقوله تعالى : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) أي إذا رأيتهم في انتشارهم في قضاء حوائج السادة وكثرتهم وصباحة وجوههم وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم حسبتهم لؤلؤا منثورا ، ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن. وقال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.

وقوله جل وعلا : (وَإِذا رَأَيْتَ) أي وإذا رأيت يا محمد (ثَمَ) أي هناك يعني في الجنة ونعيمها وسعتها وارتفاعها وما فيها من الحبرة والسرور (رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) أي مملكة لله هناك عظيمة وسلطانا باهرا. وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها. وقد قدمنا في الحديث المروي من طريق ثوير بن أبي فاختة عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه» (١) فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى؟

وقد روى الطبراني هاهنا حديثا غريبا جدا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عقبة بن سالم عن أيوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل واستفهم» فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنت بما آمنت به وعملت بما عملت به إني لكائن معك في الجنة؟ قال : «نعم والذي نفسي بيده إنه ليرى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند الله ، ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله فتقوم النعمة أو نعم الله فتكاد تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته» ونزلت هذه السورة (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) ـ إلى قوله ـ (مُلْكاً كَبِيراً) فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة قال «نعم» فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر : ولقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدليه في حفرته بيده.

وقوله جل جلاله : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ومنه سندس وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، والإستبرق منه ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر كما هو المعهود في اللباس (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) وهذه صفة

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ١٣ ، والترمذي في تفسير سورة ٧٥ ، باب ٢.

٢٩٩

الأبرار ، وأما المقربون فكما قال تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣] ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين ، فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما فأذهب الله ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي يقال لهم ذلك تكريما لهم وإحسانا إليهم كما قال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) [الحاقة : ٢٤] وكقوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] وقوله تعالى : (وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) أي جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً(٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١)

يقول تعالى ممتنا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم تنزيلا : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك فاصبر على قضائه وقدره واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) أي لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك بل بلغ ما أنزل إليك من ربك وتوكل على الله فإن الله يعصمك من الناس ، فالآثم هو الفاجر في أفعاله والكفور هو الكافر قلبه.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي أول النهار وآخره (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) كقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وكقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) [المزمل : ١ ـ ٤] ثم قال تعالى منكرا على الكفار ومن أشبههم في حب الدنيا والإقبال عليها والانصباب إليها وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) يعني يوم القيامة.

ثم قال تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني خلقهم (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي وإذا شئنا بعثناهم يوم القيامة وبدلناهم

٣٠٠