تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

عليه وحده كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وهاهنا بيّن له مقدار ما يقوم فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قال ابن عباس والضحاك والسدي (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) يعني يا أيها النائم. وقال قتادة : المزمل في ثيابه. وقال إبراهيم النخعي : نزلت وهو متزمل بقطيفة ، وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال : يا محمد زملت القرآن وقوله تعالى : (نِصْفَهُ) بدل من الليل (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقصان قليل لا حرج عليك في ذلك.

وقوله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) أي اقرأه على تمهل فإنه يكون عونا على فهم القرآن وتدبره. وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان يقرأ السورة فيرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. وفي صحيح البخاري (١) عن أنس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : كانت مدا ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد بسم الله ويمد الرّحمن ويمد الرّحيم.

وقال ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ١ ـ ٤] (٢) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرّحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقال لقارئ القرآن : اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (٤) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث سفيان الثوري به ، وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل وتحسين الصوت بالقراءة كما جاء في الحديث زينوا القرآن بأصواتكم (٥) و «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» (٦) و «لقد أوتي

__________________

(١) كتاب فضائل القرآن باب ٢٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الحروف باب ١ ، والترمذي في ثواب القرآن باب ٢٣ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٠٢.

(٣) المسند ٢ / ١٩٢.

(٤) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢٠ ، والترمذي في ثواب القرآن باب ١٨.

(٥) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٥٢ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٠ ، والنسائي في الافتتاح باب ٨٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١٧٦ ، والدارمي في فضائل القرآن باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٨٣ ، ٢٨٥ ، ٢٩٦ ، ٣٠٤.

(٦) أخرجه البخاري في التوحيد باب ٤٤ ، وأبو داود في الوتر باب ٢٠ ، والدارمي في الصلاة باب ١٧١ ، وفضائل القرآن باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ١ / ١٧٢ ، ١٧٥ ، ١٧٩.

٢٦١

هذا مزمارا من مزامير آل داود» (١) يعني أبا موسى ، فقال أبو موسى : لو كنت أعلم أنك كنت تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا : وعن ابن مسعود أنه قال : لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذوه هذّ (٢) الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ، رواه البغوي.

وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة : سمعت أبا وائل قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال هذا كهذ الشعر لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرن بينهن ، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في ركعة (٣).

وقوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) قال الحسن وقتادة : أي العمل به وقيل: ثقيل وقت نزوله من عظمته ، كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه : أنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفخذه على فخذي فكادت ترض فخذي (٤).

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض» تفرد به أحمد.

وفي أول صحيح البخاري عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها : أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : «أحيانا يأتي في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا (٦) ، هذا لفظه.

وقال الإمام أحمد (٧) : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا عبد الرّحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها (٨) ، وقال ابن جرير (٩) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن

__________________

(١) أخرجه البخاري في فضائل القرآن باب ٣١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٣٥ ، ٢٣٦.

(٢) أي لا تسرعوا في قراءته كما تسرعوا في قراءة الشعر ، والهذّ : سرعة القطع.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان باب ١٠٦ ، وأحمد في المسند ١ / ٤١٧.

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة باب ١٢ ، وتفسير سورة ٤ ، باب ١٨.

(٥) المسند ٢ / ٢٢٢.

(٦) أخرجه البخاري في بدء الوحي باب ٢.

(٧) المسند ٦ / ١١٨.

(٨) الجران : باطن العنق ، والمعنى : أنها تثبت في مكانها.

(٩) تفسير الطبري ١٢ / ٢٨٠.

٢٦٢

هشام بن عروة عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها ، فما تستطيع أن تحرك حتى يسرى عنه وهذا مرسل ، الجران هو باطن العنق ، واختار ابن جرير أنه ثقيل من الوجهين معا ، كما قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم ، كما ثقل في الدنيا ثقل يوم القيامة في الموازين.

وقوله تعالى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) قال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : نشأ ، قام بالحبشة ، وقال عمر وابن عباس وابن الزبير : الليل كله ناشئة ، وكذا قال مجاهد وغير واحد ، يقال نشأ إذا قام من الليل وفي رواية عن مجاهد : بعد العشاء ، وكذا قال أبو مجلز وقتادة وسالم وأبو حازم ومحمد بن المنكدر : والغرض أن ناشئة الليل هي ساعاته وأوقاته وكل ساعة منه تسمى ناشئة وهي الآنات ، والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان وأجمع على التلاوة ، ولهذا قال تعالى : (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش ، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا الأعمش أن أنس بن مالك قرأ هذه الآية إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأصوب قيلا فقال له رجل : إنما نقرؤها (وَأَقْوَمُ قِيلاً) ، فقال له : إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد.

ولهذا قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) قال ابن عباس وعكرمة وعطاء بن أبي مسلم : الفراغ والنوم ، وقال أبو العالية ومجاهد وأبو مالك والضحاك والحسن وقتادة والربيع بن أنس وسفيان الثوري : فراغا طويلا. وقال قتادة : فراغا وبغية ومنقلبا. وقال السدي (سَبْحاً طَوِيلاً) تطوعا كثيرا. وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (سَبْحاً طَوِيلاً) قال: لحوائجك فأفرغ لدينك الليل ، قال وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ثم إن الله تبارك وتعالى منّ على عباده فخففها ووضعها وقرأ (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) إلى آخر الآية ثم قرأ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ـ حتى بلغ ـ (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) الليل نصفه أو ثلثه ثم جاء أمر أوسع وأفسح وضع الفريضة عنه وعن أمته فقال وقال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] وهذا الذي قاله كما قاله.

والدليل عليه ما رواه الإمام أحمد (١) في مسنده حيث قال : حدثنا يحيى ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام أنه طلق امرأته ثم ارتحل إلى المدينة ليبيع عقارا له بها ، ويجعله في الكراع والسلاح ثم يجاهد الروم حتى يموت ، فلقي رهطا من قومه فحدثوه أن رهطا من قومه ستة أرادوا ذلك على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أليس

__________________

(١) المسند ٦ / ٥٤.

٢٦٣

لكم فيّ أسوة حسنة؟» فنهاهم عن ذلك فأشهدهم على رجعتها ، ثم رجع إلينا فأخبرنا أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال : ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال نعم ، قال : ائت عائشة فسلها ثم ارجع إليّ فأخبرني بردها عليك. قال : فأتيت على حكيم بن أفلح فاستلحقته إليها (١) فقال : ما أنا بقاربها (٢) إني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين (٣) شيئا فأبت فيهما إلا مضيا ، فأقسمت عليه فجاء معي فدخلنا عليها فقالت : حكيم وعرفته قال : نعم. قالت : من هذا الذي معك؟ قال : سعيد بن هشام. قالت : من هشام؟ قال : ابن عامر. قالت : فترحمت عليه وقالت : نعم المرء كان عامرا. قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قلت : بلى. قالت : فإن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان القرآن ، فهممت أن أقوم ثم بدا لي قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت : ألست تقرأ هذه السورة (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)؟ قلت : بلى. قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرا ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.

فهممت أن أقوم ثم بدا لي وتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله لما شاء أن يبعثه من الليل فيتسوك ثم يتوضأ ثم يصلي ثمان ركعات ولا يجلس فيهن إلا عند الثامنة ، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو ثم ينهض ولا يسلم ، ثم يقول ليصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله وحده ثم يدعوه ثم يسلم تسليما يسمعنا ، ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني ، فلما أسن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبع ثم صلّى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم فتلك تسع يا بني ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلّى صلاة أحب أن يداوم عليها ، وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلّى من النهار ثنتي عشرة ركعة ، ولا أعلم نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرا كاملا غير رمضان. فأتيت ابن عباس فحدثته بحديثها فقال : صدقت أما لو كنت أدخل عليها لأتيتها حتى تشافهني مشافهة ، هكذا رواه الإمام أحمد بتمامه وقد أخرجه مسلم (٤) في صحيحه من حديث قتادة بنحوه.

[طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها في هذا المعنى] قال ابن جرير (٥) : حدثنا ابن وكيع ،

__________________

(١) استلحقته إليها : أي طلبت منه مرافقته إياي في الذهاب إليها.

(٢) ما أنا بقاربها : أي لن اقترب منها ، أو لا أريد قربها.

(٣) أي أصحاب الجمل وشيعة علي.

(٤) كتاب المسافرين حديث ١٣٩.

(٥) تفسير الطبري ١٢ / ٢٧٩.

٢٦٤

حدثنا زيد بن الحباب ، وحدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران قالا جميعا ، واللفظ لابن وكيع عن موسى بن عبيدة ، حدثني محمد بن طحلاء عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أجعل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج كالمغضب ، وكان بهم رحيما ، فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال : «أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما ديم عليه» ونزل القرآن (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل.

ورواه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف ، والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة وليس كذلك ، وإنما هي مكية وقوله في هذا السياق إن بين نزول أولها وآخرها ثمانية أشهر غريب ، فقد تقدم في رواية أحمد أنه كان بينهما سنة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة عن مسعر عن سماك الحنفي ، سمعت ابن عباس يقول : أول ما نزل أول المزمل كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة ، وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي أسامة به ، وقال الثوري ومحمد بن بشر العبدي ، كلاهما عن مسعر عن سماك عن ابن عباس كان بينهما سنة ، وروى ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس مثله.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن قيس بن وهب عن أبي عبد الرّحمن قال : لما نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قاموا حولا حتى ورت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال : فاستراح الناس. وكذا قال الحسن البصري والسدي.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام قال : فقلت يعني لعائشة أخبرينا عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت : ألست تقرأ (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قلت بلى ، قالت : فإنها كانت قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم وحبس آخرها في السماء ستة عشر شهرا ثم نزل ، وقال معمر عن قتادة (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) قاموا حولا أو حولين حتى انتفخت سوقهم وأقدامهم ، فأنزل الله تخفيفها بعد في آخر السورة.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٢٨٠.

٢٦٥

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد هو ابن جبير قال : لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قال : مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله تعالى عليه بعد عشر سنين (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ـ إلى قوله ـ (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) فخفف الله تعالى عنهم بعد عشر سنين ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن رافع عن يعقوب القمي به.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) فأمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا فشق ذلك على المؤمنين ثم خفف الله تعالى عنهم ورحمهم فأنزل بعد هذا (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) فوسع الله تعالى وله الحمد ولم يضيق.

وقوله تعالى : (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أكثر من ذكره وانقطع إليه وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك كما قال تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) [الشرح : ٧] أي إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته وعبادته لتكون فارغ البال ، قاله ابن زيد بمعناه أو قريب منه ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو صالح وعطية والضحاك والسدي (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي أخلص له العبادة ، وقال الحسن : اجتهد وابتل إليه نفسك. وقال ابن جرير (٢) : يقال للعابد متبتل ، ومنه الحديث المروي : نهى عن التبتل يعني الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج. وقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو ، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) كما قال تعالى في الآية الأخرى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] وكقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٤] وآيات كثيرة في هذا المعنى فيها الأمر بإفراد العبادة والطاعة لله وتخصيصه بالتوكل عليه.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (١٨)

يقول تعالى آمرا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصبر على ما يقوله من كذبه من سفهاء قومه ، وأن يهجرهم

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٢٧٩.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٢٨٦.

٢٦٦

هجرا جميلا وهو الذي لا عتاب معه ثم قال له متهددا لكفار قومه ومتوعدا ، وهو العظيم الذي لا يقوم لغضبه شيء (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) أي دعني والمكذبين المترفين أصحاب الأموال فإنهم على الطاعة أقدر من غيرهم وهم يطالبون من الحقوق بما ليس عند غيرهم (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي رويدا كما قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) [لقمان : ٢٤] ، ولهذا قال هاهنا : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) وهي القيود ، قاله ابن عباس وعكرمة وطاوس ومحمد بن كعب وعبد الله بن بريدة وأبو عمران الجوني وأبو مجلز والضحاك وحماد بن أبي سليمان وقتادة والسدي وابن المبارك والثوري وغير واحد.

(وَجَحِيماً) وهي السعير المضطرمة (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) قال ابن عباس : ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج (وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) أي تزلزل (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) أي تصير ككثبان الرمل بعد ما كانت حجارة صماء ثم إنها تنسف نسفا فلا يبقى منها شيء إلا ذهب حتى تصير الأرض قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا أي واديا ولا أمتا أي رابية ، ومعناه لا شيء ينخفض ولا شيء يرتفع.

ثم قال تعالى مخاطبا لكفار قريش والمراد سائر الناس : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي بأعمالكم (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والثوري (أَخْذاً وَبِيلاً) أي شديدا أي فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر كما قال تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) [النازعات : ٢٥] وأنتم أولى بالهلاك والدمار إن كذبتم رسولكم ، لأن رسولكم أشرف وأعظم من موسى بن عمران ، ويروى عن ابن عباس ومجاهد.

وقوله تعالى : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) يحتمل أن يكون (يَوْماً) معمولا لتتقون كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به؟ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم فعلى الأول كيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم ، وعلى الثاني كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه ، وكلاهما معنى حسن ، ولكن الأول أولى والله أعلم.

ومعنى قوله (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) أي من شدة أهواله وزلازله وبلابله ، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم ابعث النار فيقول من كم. فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة. قال الطبراني : حدثنا يحيى بن أيوب العلاف حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد ، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) قال : «ذلك يوم القيامة وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار ، قال من كم يا رب؟ قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وينجو واحد» فاشتد ذلك على المسلمين وعرف ذلك

٢٦٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم «إن بني آدم كثير ، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، وإنه لا يموت منهم رجل حتى ينتشر لصلبه ألف رجل ففيهم وفي أشباههم جنة لكم» هذا حديث غريب وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث.

وقوله تعالى : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) قال الحسن وقتادة أي بسببه من شدته وهوله ، ومنهم من يعيد الضمير على الله تعالى : وروي عن ابن عباس ومجاهد وليس بقوي لأنه لم يجر له ذكر هاهنا ، وقوله تعالى : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي كان وعد هذا اليوم مفعولا أي واقعا لا محالة وكائنا لا محيد عنه.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٠)

يقول تعالى : (إِنَّ هذِهِ) أي السورة (تَذْكِرَةٌ) أي يتذكر بها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي ممن شاء الله تعالى هدايته كما قيده في السورة الأخرى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) [الإنسان : ٣٠].

ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) أي تارة هكذا وتارة هكذا وذلك كله من غير قصد منكم ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل لأنه يشق عليكم ، ولهذا قال : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي تارة يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا وهذا من هذا (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي الفرض الذي أوجبه عليكم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي من غير تحديد بوقت أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال في سورة سبحان (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي بقراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠].

وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله بهذه الآية وهي قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية، أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» (١) وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت وهو في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (٢) ، وفي صحيح مسلم عن أبي

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاستئذان باب ١٨ ، ومسلم في الصلاة حديث ٤٥.

(٢) أخرجه الترمذي في المواقيت باب ٦٩ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١. ومسلم في الصلاة حديث ٣٨.

٢٦٨

هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام» (١) وفي صحيح ابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعا «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بأم القرآن».

وقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أي علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار في ترك قيام الليل من مرضى لا يستطيعون ذلك ، ومسافرين في الأرض يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر ، وآخرين مشغولين بما هو الأهم في حقهم من الغزو في سبيل الله ، وهذه الآية بل السورة كلها مكية ولم يكن القتال شرع بعد ، فهي من أكبر دلائل النبوة لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة ، ولهذا قال تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) أي قوموا بما تيسر عليكم منه.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية عن أبي رجاء محمد ، قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ولا يقوم به إنما يصلي المكتوبة ، قال يتوسد القرآن لعن الله ذاك ، قال الله تعالى للعبد الصالح (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) [يوسف : ٦٨] (وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ) [الأنعام : ٩١] قلت : يا أبا سعيد ، قال الله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) قال نعم ولو خمس آيات ، وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري أنه كان يرى حقا واجبا على حملة القرآن أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل ، ولهذا جاء في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن رجل نام حتى أصبح ، فقال : «ذاك رجل بال الشيطان في أذنه» (٣) فقيل معناه نام عن المكتوبة ، وقيل عن قيام الليل: وفي السنن «أوتروا يا أهل القرآن» (٤) وفي الحديث الآخر «من لم يوتر فليس منا» (٥) وأغرب من هذا ما حكي عن أبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة من إيجابه قيام شهر رمضان ، فالله أعلم.

وقال الطبراني : حدثنا أحمد بن سعيد بن فرقد الجدّي ، حدثنا أبو محمد بن يوسف الزبيدي ، حدثنا عبد الرّحمن عن محمد بن عبد الله بن طاوس من ولد طاوس ، عن أبيه عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) قال : «مائة آية» وهذا حديث غريب جدا لم أره إلا في معجم الطبراني رحمه‌الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤١.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٢٩٤.

(٣) أخرجه البخاري في التهجد باب ١٣ ، ومسلم في المسافرين حديث ٢٠٥.

(٤) أخرجه أبو داود في الوتر باب ١ ، والترمذي في الوتر باب ٥ ، والنسائي في قيام الليل باب ٢٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١٤ ، وأحمد في المسند ١ / ١١٠ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٨.

(٥) أخرجه أبو داود في الوتر باب ٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٤٣ ، ٥ / ٣٥٧.

٢٦٩

وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل لمن قال إن فرض الزكاة نزل بمكة لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة والله أعلم. وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من السلف : إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولا من قيام الليل ، واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال كما تقدم ، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لذلك الرجل : «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال : هل علي غيرها؟ قال : «لا إلا أن تطوع» (١).

وقوله تعالى : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) يعني من الصدقات ، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره ، كما قال تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) [البقرة : ٢٤٥] وقوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا.

وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن سويد قال : قال عبد الله : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟» قالوا : يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال : «اعلموا ما تقولون» قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله؟ قال : «إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخر» (٢) ورواه البخاري من حديث حفص بن غياث والنسائي من طريق أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به ، ثم قال تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها فإنه غفور رحيم لمن استغفره ، آخر تفسير سورة المزمل ، ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة المدثر

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(١٠)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٣٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ٨.

(٢) أخرجه البخاري في الرقاق باب ١٢ ، والنسائي في الوصايا باب ١ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٨٢.

٢٧٠

ثبت في صحيح البخاري من حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر أنه كان يقول : أول شيء نزل من القرآن (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولا قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] كما سيأتي ذلك هنالك إن شاء الله تعالى.

قال البخاري : حدثنا يحيى ، حدثنا وكيع عن علي بن المبارك ، عن يحيى بن أبي كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرّحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) قلت : يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت لي فقال جابر : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت أمامي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا ، فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا عليّ ماء باردا ـ قال ـ فدثروني وصبوا علي ماء باردا ـ قال ـ فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) هكذا ساقه من هذا الوجه. وقد رواه مسلم من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه : «فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي فقلت : زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) ـ إلى ـ (فَاهْجُرْ) قال أبو سلمة : والرجز الأوثان ـ ثم حمي الوحي وتتابع» (٢) هذا لفظ البخاري ، وهذا السياق هو المحفوظ وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وهو جبريل حين أتاه بقوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ١ ـ ٥] ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا.

ووجه الجمع أن أول شيء نزل بعد فترة الوحي هذه السورة ، كما قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا حجاج ، حدثنا ليث ، حدثنا عقيل عن ابن شهاب قال : سمعت أبا سلمة بن عبد الرّحمن يقول : أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ثم فتر الوحي عني فترة فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء ، فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء الآن قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثيت منه فرقا حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي فقلت لهم زملوني زملوني فزملوني ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) ثم حمي الوحي

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٤ ، باب ١.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٤ ، باب ١ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٥ ، ٢٥٧.

(٣) المسند ٣ / ٣٢٥.

٢٧١

وتتابع» (١) أخرجاه من حديث الزهري به.

وقال الطبراني : حدثنا محمد بن علي بن شعيب السمسار ، حدثنا الحسن بن بشر البجلي ، حدثنا المعافي بن عمران عن إبراهيم بن يزيد : سمعت ابن أبي مليكة يقول سمعت ابن عباس يقول : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما ، فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم ليس بساحر ، وقال بعضهم كاهن ، وقال بعضهم ليس بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر ، وقال بعضهم : بل سحر يؤثر ، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) وقوله تعالى : (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس ، وبهذا حصل الإرسال كما حصل بالأول النبوة.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظم. وقوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال الأجلح الكندي عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي : [الطويل]

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر

لبست ولا من غدرة أتقنّع (٢)

وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في الآية (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : في كلام العرب نقي الثياب وفي رواية بهذا الإسناد فطهر من الذنوب ، وكذا قال إبراهيم والشعبي وعطاء ، وقال الثوري عن رجل عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : من الإثم ، وكذا قال إبراهيم النخعي وقال مجاهد (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : نفسك ليس ثيابك ، وفي رواية عنه (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي عملك فأصلح ، وكذا قال أبو رزين ، وقال في رواية أخرى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي لست بكاهن ولا ساحر فأعرض عما قالوا. وقال قتادة (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهرها من المعاصي ، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لدنس الثياب ، وإذا وفي وأصلح إنه لمطهر الثياب ، وقال عكرمة والضحاك : لا تلبسها على معصية. وقال الشاعر: [الطويل]

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٥٦.

(٢) يروى البيت :

إني بحمد الله لا ثوب غادر

لبست ولا من خزية أتقنّع

وهو لغيلان في لسان العرب (طهر) ، وتهذيب اللغة ٦ / ١٧٢ ، ١٥ / ١٥٤ وتاج العروس (طهر) ، وتفسير الطبري ١٢ / ٢٩٨ ، والبحر المحيط ٦ / ٤٦ ، ٨ / ٣٦٣ ، ولابن مطر المازني في معجم الشعراء ص ٤٦٨ ، والمرصع ص ٢٧٨ ، ولبرذع بن عدي الأوسي في مجالس ثعلب ص ٢٥٣ ، وبلا نسبة في لسان العرب (ثوب) ، (قط) ، وأساس البلاغة (قنع) ، (خزي) ، وتاج العروس (ثوب) ، (قنع)

٢٧٢

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه

فكل رداء يرتديه جميل (١)

وقال العوفي عن ابن عباس (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) يعني لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب ، ويقال : لا تلبس ثيابك على معصية ، وقال محمد بن سيرين (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي اغسلها بالماء ، وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه ، وهذا القول اختاره ابن جرير ، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب ، فإن العرب تطلق الثياب عليه كما قال امرؤ القيس : [الطويل]

أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل

وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي (٢)

وإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

وقال سعيد بن جبير (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) وقلبك ونيتك فطهر ، وقال محمد بن كعب القرظي والحسن البصري : وخلقك فحسن ، وقوله تعالى : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (وَالرُّجْزَ) وهو الأصنام فاهجر ، وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد : إنها الأوثان ، وقال إبراهيم والضحاك (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي اترك المعصية ، وعلى كل تقدير فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب : ١] (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ). [الأعراف : ١٤٢].

وقوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها ، وكذا قال عكرمة ومجاهد وعطاء وطاوس وأبو الأحوص وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ ولا تمنن أن تستكثر وقال الحسن البصري : لا تمنن بعملك على ربك تستكثره وكذا قال الربيع بن أنس واختاره ابن جرير ، وقال خصيف عن مجاهد في قوله تعالى : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قال : تمنن في كلام العرب تضعف ، وقال ابن زيد : لا تمنن بالنبوة على الناس تستكثرهم بها تأخذ عليه

__________________

(١) البيت للسموأل في ديوانه ص ٩٠ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥٣١ ، ومغني اللبيب ١ / ١٩٦ ، وله أو لعبد الملك بن عبد الرّحيم الحارثي المعروف بالجلاح الحارثي في شرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١١٠ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٧٦ ، ولدكين بن رجاء في الشعر والشعراء ٢ / ٦١٢.

(٢) البيت لامرئ القيس في ديوانه ص ١٢ ، ١٣ ، والبيت الأول في الجنى الداني ص ٣٥ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٢٢ ، والدرر ٣ / ١٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٢٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٢٨٩ ، وتاج العروس (عنز) ، (زمع) ، (دلل) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٦٧ ، ورصف المباني ص ٥٢ ، وشرح الأشموني ٢ / ٤٦٧ ، ومغني اللبيب ١ / ١٣ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧٢ ، والبيت الثاني في أساس البلاغة (ثوب) ، وكتاب الجيم ٧ / ٢٥٧ ، ولسان العرب (ثوب) ، وبلا نسبة في لسان العرب (نظف) ، وتاج العروس (ثوب)

٢٧٣

عوضا من الدنيا. فهذه أربعة أقوال والأظهر القول الأول ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزوجل قاله مجاهد. وقال إبراهيم النخعي : اصبر على عطيتك لله عزوجل. وقوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وزيد بن أسلم والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد (النَّاقُورِ) الصور ، قال مجاهد : وهو كهيئة القرن.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أسباط بن محمد عن مطرف عن عطية العوفي عن ابن عباس (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟» فقال : قال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا» (١) وهكذا رواه الإمام أحمد عن أسباط به ، ورواه ابن جرير (٢) عن أبي كريب عن ابن فضيل وأسباط كلاهما عن مطرف به ، ورواه من طريق أخرى عن العوفي عن ابن عباس به.

وقوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) أي شديد (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) أي غير سهل عليهم كما قال تعالى : (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر : ٨] ، وقد روينا عن زرارة بن أوفى قاضي البصرة أنه صلّى بهم الصبح ، فقرأ هذه السورة فلما وصل إلى قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) شهق شهقة ثم خرّ ميتا رحمه‌الله تعالى.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ(٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)(٣٠)

يقول تعالى متوعدا لهذا الخبيث الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا فكفر بأنعم الله وبدلها كفرا وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وجعلها من قول البشر وقد عدد الله عليه نعمه حيث قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) أي خرج من بطن أمه وحده لا مال له ولا ولد ثم رزقه الله تعالى : (مالاً مَمْدُوداً) أي واسعا كثيرا قيل ألف دينار وقيل مائه ألف دينار ، وقيل أرضا يستغلها ، وقيل غير ذلك وجعل له بنين (شُهُوداً) قال مجاهد لا يغيبون أي حضورا عنده لا يسافرون بالتجارات بل مواليهم وأجراؤهم يتولون ذلك عنهم : وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم ، وكانوا فيما ذكره السدي وأبو مالك وعاصم بن عمر بن قتادة ثلاثة عشر ،

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٧٣.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٣٠٤.

٢٧٤

وقال ابن عباس ومجاهد كانوا عشرة وهذا أبلغ في النعمة وهو إقامتهم عنده (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك.

(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) أي معاندا وهو الكفر على نعمه بعد العلم قال الله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا ، قبل أن يبلغ قعره ، والصعود جبل من نار يصعد فيه الكافر سبعين خريفا ، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا» (٢) وقد رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن الحسن بن موسى الأشيب به ، ثم قال غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج ، كذا قال ، وقد رواه ابن جرير (٣) عن يونس عن عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج وفيه غرابة ونكارة.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرّحمن المعروف بعلان المصري قال : حدثنا منجاب ، أخبرنا شريك عن عمار الدهني عن عطية العوفي عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) قال : «هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت وإذا رفعها عادت ، فإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت» ورواه البزار وابن جرير(٤) من حديث شريك به. وقال قتادة عن ابن عباس : صعودا صخرة في جهنم يكلف أن يصعدها وقال مجاهد (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي مشقة من العذاب ، وقال قتادة : عذابا لا راحة فيه ، واختاره ابن جرير.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي إنما أرهقناه صعودا أي قربناه من العذاب الشاق لبعده عن الإيمان لأنه فكر وقدر أي تروى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكر ما ذا يختلق من المقال (وَقَدَّرَ) أي تروى (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) دعاء عليه (ثُمَّ نَظَرَ) أي أعاد النظرة والتروي (ثُمَّ عَبَسَ) أي قبض بين عينيه وقطب (وَبَسَرَ) أي كلح وكره ومنه قول توبة بن الحمير : [الطويل]

وقد رابني منها صدود رأيته

وإعراضها عن حاجتي وبسورها (٥)

وقوله : (ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) أي صرف عن الحق ورجع القهقهرى مستكبرا عن الانقياد للقرآن (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم ، ولهذا قال : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ليس بكلام الله ، وهذا المذكور في هذا السياق

__________________

(١) المسند ٣ / ٧٥.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢١ ، باب ١.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٣٠٨.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٣٠٨.

(٥) البيت في تفسير الطبري ١٢ / ٣٠٩.

٢٧٥

هو الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله.

وكان من خبره في هذا ما رواه العوفي عن ابن عباس قال دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قحافة فسأله عن القرآن ، فلما أخبره خرج على قريش فقال يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا : والله لئن صبأ الوليد لتصبو قريش ، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال : أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه بيته ، فقال للوليد : ألم تر إلى قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال : ألست أكثرهم مالا وولدا؟ فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه ، فقال الوليد : أقد تحدث به عشيرتي؟ فلا والله لا أقرب ابن أبي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) فأنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ إلى قوله ـ (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ).

وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة ، وإنه عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وما أشك أنه سحر فأنزل الله : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الآية.

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) قبض ما بين عينيه وكلح ، وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام فأتاه فقال أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا. قال : لم؟ قال يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرض لما قبله ، قال قد علمت قريش أني أكثرهم مالا ، قال : فقل فيه قولا يعلم قومك أنك منكر لما قال وأنك كاره له ، قال فماذا أقول فيه ، فو الله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو وما يعلى ، وقال والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال فدعني حتى أتفكر فيه ، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره ، فنزلت : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ـ حتى بلغ ـ (تِسْعَةَ عَشَرَ).

وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد نحوا من هذا ، وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قبل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه ، فقال قائلون : شاعر وقال آخرون : ساحر وقال آخرون : كاهن وقال آخرون : مجنون كما قال تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨] كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ، ففكر وقدر ونظر وعبس وبسر ، فقال : (إِنْ هذا إِلَّا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٣٠٩.

٢٧٦

سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، قال الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأغمره فيها من جميع جهاته ، ثم قال تعالى : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) وهذا تهويل لأمرها وتفخيم ، ثم فسر ذلك بقوله تعالى : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم ثم تبدل غير ذلك ، وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون ، قاله ابن بريدة وأبو سنان وغيرهم.

وقوله تعالى : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) قال مجاهد أي للجلد ، وقال أبو رزين : تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل ، وقال زيد بن أسلم : تلوح أجسادهم عليها. وقال قتادة : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) أي حراقة للجلد وقال ابن عباس : تحرق بشرة الإنسان. وقوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي من مقدمي الزبانية عظيم خلقهم غليظ خلقهم.

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرني حارث عن عامر عن البراء في قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال : إن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن خزنة جهنم فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء الرجل فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذ (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) فأخبر أصحابه وقال: «ادعهم أما إني سائلهم عن تربة الجنة إن أتوني ، أما إنها در مكة بيضاء» فجاؤوه فسألوه عن خزنة جهنم فأهوى بأصابع كفيه مرتين وأمسك الإبهام في الثانية ثم قال : «أخبروني عن تربة الجنة» فقالوا : أخبرهم يا ابن سلام ، فقال : كأنها خبزة بيضاء : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن الخبز إنما يكون من الدرمك» هكذا وقع عند ابن أبي حاتم عن البراء.

والمشهور عن جابر بن عبد الله كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا مندة ، حدثنا أحمد بن عبدة ، أخبرنا سفيان ويحيى بن حكيم ، حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم. فقال : «بأي شيء؟» قال : سألتهم يهود هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون فقالوا لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ علي بأعداء الله لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة» فأرسل إليهم فدعاهم قالوا : يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال : «هكذا» وطبق كفيه ثم طبق كفيه مرتين وعقد واحدة وقال لأصحابه : «إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك» فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تربة الجنة؟» فنظر بعضهم إلى بعض فقالوا : خبزة يا أبا القاسم. فقال : «الخبز من الدرمك» (١) وهكذا رواه الترمذي عند هذه الآية عن ابن أبي عمر عن سفيان به ، وقال هو والبزار لا يعرف إلا من حديث مجالد ، وقد رواه الإمام أحمد عن علي بن المديني عن سفيان فقص الدرمك فقط.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٧٤ ، باب ٤ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٦١.

٢٧٧

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (٣٧)

يقول تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ) أي خزانها (إِلَّا مَلائِكَةً) زبانية غلاظا شدادا ، وذلك رد على مشركي قريش حين ذكروا عدد الخزنة فقال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ، فقال الله تعالى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون ، وقد قيل إن أبا الأشدين واسمه كلدة بن أسيد بن خلف قال : يا معشر قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجابا منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة لينتزعوه من تحت قدميه فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه ، قال السهيلي وهو الذي دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مصارعته ، وقال إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرارا فلم يؤمن ، قال وقد نسب ابن إسحاق خبر المصارعة إلى ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب. (قلت) : ولا منافاة بين ما ذكراه والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختبارا منا للناس (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي يعلمون أن هذا الرسول حق فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) أي إلى إيمانهم أي بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي من المنافقين (وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي من مثل هذا وأشباهه يتأكد الإيمان في قلوب أقوام ويتزلزل عند آخرين ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة.

وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلا هو تعالى لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط ، كما قد قاله طائفة من أهل الضلالة والجهالة من الفلاسفة اليونانيين ومن شايعهم من الملتين الذين سمعوا هذه الآية فأرادوا تنزيلها على العقول العشرة والنفوس التسعة التي اخترعوا دعواها وعجزوا عن إقامة الدلالة على مقتضاها ، فأفهموا صدر هذه الآية وقد كفروا بآخرها وهو قوله : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

٢٧٨

وقد ثبت في حديث الإسراء المروي في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : «فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم» (١). وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أسود ، حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن مورق عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى» فقال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد (٣) ، ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي حديث حسن غريب ، ويروى عن أبي ذر موقوفا.

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا خير بن عرفة المصري ، حدثنا عروة بن مروان الرقي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم بن مالك عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في السموات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف إلا وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعا سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلا أنا لم نشرك بك شيئا».

وقال محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة : حدثنا عمرو بن زرارة ، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال : بينما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أصحابه إذ قال لهم : «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا : ما نسمع من شيء. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط. ما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك راكع أو ساجد».

وقال أيضا : حدثنا محمد بن عبد الله بن قهزاذ ، حدثنا أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي ، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي سمعت الضحاك بن مزاحم يحدث عن مسروق بن الأجدع عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في السماء الدنيا موضع قدم إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) [الصافات : ١٦٥] وهذا مرفوع غريب جدا ثم رواه عن محمود بن آدم عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال : إن من السموات سماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم ثم قرأ (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ).

__________________

(١) أخرجه البخاري في بدء الخلق باب ٦ ، ومناقب الأنصار باب ٤٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٢٦٤ ، والنسائي في الصلاة باب ١ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٠٧ ، ٢٠٩ ، ٢١٠.

(٢) المسند ٥ / ١٧٣.

(٣) أخرجه الترمذي في الزهد باب ٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٩.

٢٧٩

ثم قال : حدثنا أحمد بن سيار ، حدثنا أبو جعفر بن محمد بن خالد الدمشقي المعروف بابن أمه ، حدثنا المغيرة بن عمر بن عطية من بني عمرو بن عوف ، حدثني سليمان بن أيوب عن سالم بن عوف ، حدثني عطاء بن زيد بن مسعود من بني الحبلى ، حدثني سليمان بن عمرو بن الربيع من بني سالم ، حدثني عبد الرّحمن بن العلاء من بني ساعدة عن أبيه العلاء بن سعد وقد شهد الفتح وما بعده ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يوما لجلسائه : «هل تسمعون ما أسمع؟» قالوا : وما تسمع يا رسول الله؟ قال «أطت السماء وحق لها أن تئط إنه ليس فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد وقالت الملائكة (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وهذا إسناد غريب جدا.

ثم قال : حدثنا إسحاق بن محمد بن إسماعيل الفروي ، حدثنا عبد الملك بن قدامة عن عبد الرّحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن عبد الله بن عمر أن عمر جاء والصلاة قائمة ونفر ثلاثة جلوس أحدهم أبو جحش الليثي ، فقال : قوموا فصلوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام اثنان وأبى أبو جحش أن يقوم وقال لا أقوم حتى يأتي رجل هو أقوى مني ذراعين وأشد مني بطشا ، فيصرعني ثم يدسّ وجهي في التراب ، قال عمر فصرعته ودسست وجهه في التراب ، فأتى عثمان بن عفان فحجزني عنه فخرج عمر مغضبا حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ما رأيك يا أبا حفص؟» فذكر له ما كان منه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن رضي عمر رحمة ، والله على ذلك لوددت أنك جئتني برأس الخبيث» فقام عمر يوجه نحوه فلما أبعد ناداه فقال : «اجلس حتى أخبرك بغنى الرب تبارك وتعالى عن صلاة أبي جحش وإن لله تعالى في السماء الدنيا ملائكة خشوعا لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة ، فإذا قامت رفعوا رؤوسهم ثم قالوا ربنا ما عبدناك حق عبادتك وإن لله في السماء الثانية ملائكة سجودا لا يرفعون رؤوسهم حتى تقوم الساعة فإذا قامت الساعة رفعوا رؤوسهم وقالوا سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك».

فقال له عمر : وما يقولون يا رسول الله؟ فقال : «أما أهل السماء الدنيا فيقولون سبحان ذي الملك والملكوت ، وأما أهل السماء الثانية فيقولون سبحان ذي العزة والجبروت ، وأما أهل السماء الثالثة فيقولون سبحان الحي الذي لا يموت ، فقلها يا عمر في صلاتك ، فقال عمر :

يا رسول الله فكيف بالذي كنت علمتني وأمرتني أن أقوله في صلاتي؟ فقال : «قل هذا مرة وهذا مرة» وكان الذي أمره به أن يقوله : «أعوذ بعفوك من عقابك ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بك منك جل وجهك» هذا حديث غريب جدا بل منكر نكارة شديدة ، وإسحاق الفروي روى عنه البخاري ، وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه أبو داود والنسائي والعقيلي والدارقطني.

وقال أبو حاتم الرازي : كان صدوقا إلا أنه ذهب بصره فربما لقن وكتبه صحيحة ، وقال مرة هو مضطرب وشيخه عبد الملك بن قدامة أبو قتادة الجمحي تكلم فيه أيضا ، والعجب من

٢٨٠