تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم ، أي عظيما شديدا أليما. ثم قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء وتارة تجمع وتنشر جناحا (ما يُمْسِكُهُنَ) أي في الجو (إِلَّا الرَّحْمنُ) أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته ، وهذه كقوله تعالى (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل : ٧٩].

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ)(٢٧)

يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصرا ورزقا ، منكرا عليهم فيما اعتقدوه ومخبرا لهم أنه لا يحصل لهم ما أملوه ، فقال تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) أي ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ولا ناصر لكم غيره ، ولهذا قال تعالى : (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) ثم قال تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) أي من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده ، أي لا أحد يعطي ويمنع ويخلق ويرزق وينصر إلا الله عزوجل وحده لا شريك له ، أي وهم يعلمون ذلك ومع هذا يعبدون غيره ، ولهذا قال تعالى : (بَلْ لَجُّوا) أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم (فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي في معاندة واستكبار ونفور على إدبارهم عن الحق لا يسمعون له ولا يتبعونه.

ثم قال تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي مكبا على وجهه ، أي يمشي منحنيا لا مستويا على وجهه أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب بل تائه حائر ضال ، أهذا أهدى (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) أي منتصب القامة (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي على طريق واضح بين وهو في نفسه مستقيم وطريقه مستقيمة ، هذا مثلهم في الدنيا وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشي سويا على صراط مستقيم مفض به إلى الجنة الفيحاء ، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم.

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ) [الصافات : ٢٢ ـ

٢٠١

٢٦] الآيات. أزواجهم : أشباههم. قال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا ابن نمير ، حدثنا إسماعيل عن نفيع ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال : «أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادرا على أن يمشيهم على وجوههم» (٢) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من طريق يونس بن محمد عن شيبان عن قتادة عن أنس به نحوه.

وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي العقول والإدراك (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) أي قلما تستعملون هذه القوى التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض وأرجائها مع اختلاف ألسنتكم في لغاتكم وألوانكم ، وحلالكم وأشكالكم وصوركم (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم. ثم قال تعالى مخبرا عن الكفار المنكرين للمعاد المستبعدين وقوعه (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي متى يقع هذا الذي تخبرنا بكونه من الاجتماع بعد هذا التفرق (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلا الله عزوجل لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي وإنما علي البلاغ وقد أديته إليكم.

قال تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي لما قامت القيامة وشاهدها الكفار ورأوا أن الأمر كان قريبا لأن كل ما هو آت آت وإن طال زمنه ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك لما يعلمون ما لهم هناك من الشر أي فأحاط بهم ذلك وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) [الزمر : ٤٧ ـ ٤٨] ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) أي تستعجلون.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ(٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ)(٣٠)

يقول تعالى : (قُلْ) يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه (أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي خلصوا أنفسكم فإنه لا منقذ لكم من الله إلا التوبة والإنابة والرجوع إلى دينه ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم. ثم قال تعالى : (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي آمنا برب العالمين الرّحمن الرّحيم

__________________

(١) المسند ٣ / ١٦٧.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٥ ، باب ١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٥٤.

٢٠٢

وعليه توكلنا في جميع أمورنا كما قال تعالى : (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣] ولهذا قال تعالى : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي منا ومنكم ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة.

ثم قال تعالى إظهارا للرحمة في خلقه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي ذاهبا في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد ولا السواعد الشداد ، والغائر عكس النابع ولهذا قال تعالى : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي نابع سائح جار على وجه الأرض ، أي لا يقدر على ذلك إلا الله عزوجل فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه وأجراها في سائر أقطار الأرض بحسب ما يحتاج العباد إليه من القلة والكثرة ، فلله الحمد والمنة. آخر تفسير سورة الملك ولله الحمد والمنة.

تفسير سورة القلم

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٧)

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة وأن قوله تعالى : (ن) كقوله (ص). (ق) ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقيل : المراد بقوله (ن) حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل للأرضين السبع كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) : حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان هو الثوري ، حدثنا سليمان هو الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم قال : اكتب. قال : وماذا أكتب؟ قال : اكتب القدر ، فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون ورفع بخار الماء ففتقت منه السماء وبسطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال فإنها لتفخر على الأرض ، وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن أبي معاوية عن الأعمش به ، وهكذا رواه شعبة ومحمد بن فضيل ووكيع عن الأعمش به.

وزاد شعبة في روايته ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) وقد رواه شريك عن الأعمش عن أبي ظبيان أو مجاهد عن ابن عباس فذكر نحوه ، ورواه معمر عن الأعمش أن ابن عباس قال :

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٥.

٢٠٣

فذكره ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ثم قال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال : إن أول شيء خلق ربي عزوجل القلم ثم قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم خلق النون فوق الماء ثم كبس الأرض عليه. وقد روى الطبراني ذلك مرفوعا ، فقال : حدثنا أبو حبيب زيد بن المهتدي المرودي ، حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أول ما خلق الله القلم والحوت فقال للقلم : اكتب. قال : ما أكتب؟ قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة» ثم قرأ (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) فالنون الحوت ، والقلم القلم.

[حديث آخر] في ذلك رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ثم قال له : اكتب ، قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما يكون ـ أو ما هو كائن ـ من عمل أو رزق أو أثر أو أجل فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ولأنقصنك ممن أبغضت».

وقال ابن أبي نجيح : إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال : كان يقال النون الحوت العظيم الذي تحت الأرض السابعة ، وقد ذكر البغوي وجماعة من المفسرين أن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض ، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن ، والله أعلم.

ومن العجيب أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل ، حدثنا حميد عن أنس أن عبد الله بن سلام بلغه مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فأتاه فسأله عن أشياء قال إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي ، قال : ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه؟ وما بال الولد ينزع إلى أمه؟ قال : «أخبرني بهن جبريل آنفا» قال ابن سلام : فذاك عدو اليهود من الملائكة. قال : «أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب ، وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت ، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت» (٣) ورواه البخاري من طرق عن حميد ورواه مسلم أيضا ، وله من حديث ثوبان مولى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم نحو هذا ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي عن ثوبان أن حبرا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٦.

(٢) المسند ٣ / ١٨٩.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢ ، باب ٦.

٢٠٤

سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مسائل ، فكان منها أن قال : فما تحفتهم ، يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة ، قال : «زيادة كبد الحوت» قال : فما غداؤهم على أثرها؟ قال : «ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها» قال : فما شرابهم عليه؟ قال «من عين فيها تسمى سلسبيلا» (١) وقيل : المراد بقوله : (ن) لوح من نور.

قال ابن جرير (٢) : حدثنا الحسن بن شبيب المكتب ، حدثنا محمد بن زياد الجزري عن فرات بن أبي الفرات عن معاوية بن قرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) لوح من نور وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة ، وهذا مرسل غريب ، وقال ابن جريج : أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام ، وقيل المراد بقوله : (ن) دواة ، والقلم القلم. قال ابن جرير (٣) : حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن الحسن وقتادة في قوله (ن) قالا هي الدواة ، وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدا فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خلق الله النون وهي الدواة».

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله حدثنا ثابت الثمالي عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم : فقال اكتب. قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول به بر أو فجور أو رزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ، ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال : فقال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩] وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل.

وقوله تعالى : (وَالْقَلَمِ) الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ـ ٥] فهو قسم منه تعالى وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ، ولهذا قال : (وَما يَسْطُرُونَ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني وما يكتبون. وقال أبو الضحى عن ابن عباس : (وَما يَسْطُرُونَ) أي

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٣٤.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٧ ، وفيه : الحسن بن شبيل المكتب بدل ، الحسن بن شبيب المكتب.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٦ ، وفيه : ابن عبد الأعلى بدل عبد الأعلى.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٦.

٢٠٥

وما يعملون وقال السدي : وما يسطرون يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد ، وقال آخرون: بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق ، قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف عام.

وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا : حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الواحد بن سليم السلمي عن عطاء ، هو ابن أبي رباح ، حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال : دعاني أبي ، حين حضره الموت فقال : إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب ، قال يا رب وما أكتب؟ قال اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد» (١) وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق عن الوليد بن عبادة عن أبيه به ، وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي به ، وقال حسن صحيح غريب. ورواه أبو داود في كتاب السنة من سننه عن جعفر بن مسافر عن يحيى بن حسان عن ابن رباح عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي حفصة ، واسمه حبيش بن شريح الحبشي الشامي ، عن عبادة فذكره.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا رباح بن زيد عن عمر بن حبيب عن القاسم بن أبي بزة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء» غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : (وَالْقَلَمِ) ، يعني الذي كتب به الذكر. وقوله تعالى : (وَما يَسْطُرُونَ) أي يكتبون كما تقدم.

وقوله : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) أي لست ولله الحمد بمجنون كما يقوله الجهلة من قومك ، المكذبون بما جئتهم به من الهدى والحق المبين ، فنسبوك فيه إلى الجنون ، (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي بل إن لك الأجر العظيم والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق وصبرك على أذاهم ، ومعنى (غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع كقوله (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [التين : ٦] أي غير مقطوع عنهم. وقال مجاهد : غير ممنون أي غير محسوب وهو يرجع إلى ما قلناه.

وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال العوفي عن ابن عباس : وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام ، وكذلك قال مجاهد وأبو مالك والسدي والربيع بن أنس ، وكذا قال الضحاك وابن زيد. وقال عطية : لعلى أدب عظيم. وقال معمر عن قتادة : سئلت عائشة عن خلق

__________________

(١) أخرجه أبو داود في السنة باب ١٦ ، والترمذي في القدر باب ١٧ ، وتفسير سورة ٦٨ ، وأحمد في المسند ٥ / ٣١٧.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ١٧٧.

٢٠٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : كان خلقه القرآن تقول كما هو في القرآن. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : بلى. قالت : فإن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان القرآن.

وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام قال : سألت عائشة فقلت أخبرني يا أم المؤمنين عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : أتقرأ القرآن؟ فقلت : نعم فقالت : كان خلقه القرآن (١). هذا مختصر من حديث طويل ، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث قتادة بطوله ، وسيأتي في سورة المزمل إن شاء الله تعالى وبه الثقة.

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا إسماعيل حدثنا يونس عن الحسن قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن. وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أسود ، حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن رجل من بني سواد قال : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : أما تقرأ القرآن؟ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) قال : قلت حدثيني عن ذاك. قالت : صنعت له طعاما وصنعت له حفصة طعاما ، فقلت لجاريتي اذهبي فإن جاءت هي بالطعام فوضعته قبل فاطرحي الطعام ، قالت فجاءت بالطعام قالت فألقت الجارية فوقعت القصعة فانكسرت وكان نطع ، قالت فجمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال «اقتصوا ـ أو اقتصي شك أسود ـ ظرفا مكان ظرفك» قالت : فما قال شيئا.

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس ، حدثنا أبي ، حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن عن سعد بن هشام قال : أتيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها : أخبريني بخلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت كان خلقه القرآن أما تقرأ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٥)؟ وقد روى أبو داود والنسائي من حديث الحسن نحوه. وقال ابن جرير (٦) : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال : حججت فدخلت على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن ، وهكذا رواه أحمد (٧) عن عبد الرّحمن بن مهدي ، ورواه النسائي في التفسير عن إسحاق بن منصور عن

__________________

(١) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ١٣٩.

(٢) المسند ٦ / ٢١٦.

(٣) المسند ٦ / ١١١.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ١٨٠.

(٥) أخرجه أبو داود في التطوع باب ٢٦ ، والنسائي في قيام الليل باب ٢.

(٦) تفسير الطبري ١٢ / ١٨٠.

(٧) المسند ٦ / ١٨٨.

٢٠٧

عبد الرّحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح به.

ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسّلام صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له وخلقا تطبعه وترك طبعه الجبلي ، فمهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم ، وكل خلق جميل كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته؟ وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن الناس خلقا ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا كان ألين من كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا شممت مسكا ولا عطرا كان أطيب من عرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، وقال البخاري (٢) : حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله حدثنا إسحاق بن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن الناس وجها وأحسن الناس خلقا ليس بالطويل ولا بالقصير والأحاديث في هذا كثيرة ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.

قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده خادما له قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خير بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثما ، فإذا كان إثما كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتي إليه إلا أن تنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عزوجل وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عجلان ، عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق» تفرد به.

وقوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضال منك ومنهم ، وهذا كقوله تعالى : (سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) [القمر : ٢٦] وكقوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٢٤] قال ابن جريج : قال ابن عباس في هذه الآية ستعلم ويعلمون يوم القيامة ، وقال العوفي عن ابن عباس : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي المجنون ، وكذا قال مجاهد وغيره ، وقال قتادة وغيره : بأيكم المفتون أي أولى بالشيطان ، ومعنى المفتون ظاهر أي الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه ، وإنما دخلت الباء في قوله (بِأَيِّكُمُ) لتدل على تضمين الفعل في قوله (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ)

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب باب ٢٣ ، ومسلم في الفضائل حديث ٨١ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٠٧ ، ٢٠٠ ، ٢٢٢ ، ٢٢٧ ، ٢٢٨ ، ٢٦٥ ، ٢٧٠.

(٢) كتاب المناقب باب ٢٣.

(٣) المسند ٦ / ٢٣٢.

(٤) المسند ٢ / ٣٨١.

٢٠٨

وتقديره فستعلم ويعلمون أو فستخبر ويخبرون بأيكم المفتون ، والله أعلم. ثم قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي ، ويعلم الحزب الضال عن الحق.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)(١٦)

يقول تعالى كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم والخلق العظيم (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) قال ابن عباس : لو ترخص لهم فيرخصون. وقال مجاهد (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق (١). ثم قال تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته إنما يتقي بإيمانه الكاذبة التي يجترئ بها على أسماء الله تعالى واستعمالها في كل وقت في غير محلها ، قال ابن عباس : المهين الكاذب ، وقال مجاهد : هو الضعيف القلب ، قال الحسن : كل حلاف مكابر مهين ضعيف.

وقوله تعالى : (هَمَّازٍ) قال ابن عباس وقتادة : يعني الاغتياب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم وينقل الحديث لفساد ذات البين وهي الحالقة ، وقد ثبت في الصحيحين من حديث مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال : مر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقبرين فقال «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» (٢) الحديث. وأخرجه بقية الجماعة في كتبهم من طرق عن مجاهد به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام أن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يدخل الجنة قتات» (٤) رواه الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن إبراهيم به ، وحدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري عن منصور عن إبراهيم عن همام عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يدخل الجنة قتات» يعني نماما (٥) ، وحدثني يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا أبو سعيد الأحول عن الأعمش ، حدثني إبراهيم منذ نحو ستين سنة عن همام بن الحارث قال : مر رجل على حذيفة ، فقيل إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء ،

__________________

(١) تفسير الطبري ٢ / ١٨٢.

(٢) أخرجه البخاري في الوضوء باب ٥٥ ، ومسلم في الطهارة حديث ١١١.

(٣) المسند ٥ / ٣٨٢ ، ٣٨٩ ، ٣٩١ ، ٣٩٧ ، ٤٠٢ ، ٤٠٤.

(٤) أخرجه البخاري في الأدب باب ٥٠ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٩ ، ١٧٠ ، وأبو داود في الأدب باب ٣٣ ، والترمذي في البر باب ٧٩.

(٥) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٣٨٩.

٢٠٩

فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ، أو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة قتات» (١) وقال أحمد (٢) : حدثنا هشام ، حدثنا مهدي عن واصل الأحدب عن أبي وائل قال : بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنة نمام».

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن ابن خثيم عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بخياركم؟» قالوا : بلى يا رسول الله. قال : «الذين إذا رأوا ذكر الله عزوجل» ثم قال : «ألا أخبركم بشراركم المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت» (٤) ورواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد عن يحيى بن سليم عن ابن خثيم به.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا سفيان عن ابن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن بن غنم يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خيار عباد الله الذين إذا رأوا ذكر الله ، وشرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الباغون للبرآء العنت».

وقوله تعالى : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير (مُعْتَدٍ) في تناول ما أحل الله له يتجاوز فيها الحد المشروع (أَثِيمٍ) أي يتناول المحرمات ، وقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) أما العتل فهو الفظ الغليظ الصحيح الجموع المنوع.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا وكيع وعبد الرّحمن عن سفيان عن معبد بن خالد عن حارثة بن وهب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أنبئكم بأهل النار كل عتل جواظ مستكبر» وقال وكيع «كل جواظ جعظري مستكبر» (٧) أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا أبا داود من حديث سفيان الثوري وشعبة كلاهما عن معبد بن خالد به. وقال الإمام أحمد (٨) أيضا : حدثنا أبو عبد الرّحمن ، حدثنا موسى بن علي قال : سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال عند ذكر أهل النار «كل جعظري جواظ مستكبر جماع مناع» تفرد به أحمد.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٥ / ٣٨٩.

(٢) المسند ٥ / ٣٩١.

(٣) المسند ٦ / ٤٥٩.

(٤) أخرجه ابن ماجة في الطهارة باب ٢٦.

(٥) المسند ٤ / ٢٢٧.

(٦) المسند ٤ / ٣٠٦.

(٧) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٨ ، باب ١ ، ومسلم في الجنة حديث ٤٦ ، ٤٧ ، والترمذي باب ١٣ ، وابن ماجة في الزهد باب ٤.

(٨) المسند ٢ / ١٦٩ ، ٢١٤.

٢١٠

قال أهل اللغة : الجعظري الفظ الغليظ. والجواظ الجموع المنوع. وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرّحمن بن غنم قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العتل الزنيم فقال : «هو الشديد الخلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشراب ، الظلوم للناس رحيب الجوف» وبهذا الإسناد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة الجواظ الجعظري والعتل الزنيم» وقد أرسله أيضا غير واحد من التابعين :

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه. وأرحب جوفه وأعطاه من الدنيا مقضما فكان للناس ظلوما قال فذلك العتل الزنيم» وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريقين مرسلين ونص عليه غير واحد من السلف ، منهم مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغيرهم أن العتل هو المصحح الخلق الشديد القوى في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك.

وأما الزنيم فقال البخاري (٣) : حدثنا محمود حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن أبي حصين عن مجاهد عن ابن عباس (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) قال : رجل من قريش له زنمة مثل زنمة الشاة ، ومعنى هذا أنه كان مشهورا بالسوء كشهرة الشاة ذات الزنمة من بين أخواتها ، وإنما الزنيم في لغة العرب هو الدعي في القوم ، قاله ابن جرير وغير واحد من الأئمة ، وقال : ومنه قول حسان بن ثابت ، يعني يذم بعض كفار قريش : [الطويل]

وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الراكب القدح الفرد (٤)

وقال آخر :

زنيم ليس يعرف من أبوه

بغيّ الأم ذو حسب لئيم (٥)

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمار بن خالد الواسطي ، حدثنا أسباط عن هشام عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : (زَنِيمٍ) قال : الدعي الفاحش اللئيم. ثم قال ابن عباس : [الطويل]

زنيم تداعاه الرجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع (٦)

__________________

(١) المسند ٤ / ٢٢٧.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ١٨٥.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٨ ، باب ١.

(٤) البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ١١٨ ، ولسان العرب (قدح) ، (نوط) ، (زنم) ، وتهذيب اللغة ١٤ / ٢٩ ، وتاج العروس (قدح) ، (نوط) ، (زنم) ، والأغاني ٤ / ١٤٨ ، وتفسير الطبري ١٢ / ١٨٥.

(٥) البيت بلا نسبة في تفسير الطبري ١٢ / ١٨٦.

(٦) البيت للخطيم التميمي في لسان العرب (زنم) ولحسان بن ثابت في ديوانه ص ١٤٣ ، وبلا نسبة في مقاييس اللغة ٣ / ٢٩ ، وأساس البلاغة (زنم)

٢١١

وقال العوفي عن ابن عباس : الزنيم الدعي ، ويقال : الزنيم رجل كانت به زنمة يعرف بها ، ويقال : هو الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة ، وزعم أناس من بني زهرة أن الزنيم الأسود بن عبد يغوث الزهري وليس به.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه زعم أن الزنيم الملحق النسب ، وقال ابن أبي حاتم : حدثني يونس حدثنا ابن وهب حدثني سليمان بن بلال عن عبد الرّحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في هذه الآية (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) قال سعيد : هو الملصق بالقوم ليس منهم ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عقبة بن خالد عن عامر بن قدامة قال : سئل عكرمة عن الزنيم قال : هو ولد الزنا.

وقال الحكم بن أبان عن عكرمة في قوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) قال : يعرف المؤمن من الكافر مثل الشاة الزنماء ، والزنماء من الشياه التي في عنقها هنتان معلقتان في حلقها. وقال الثوري عن جابر عن الحسن عن سعيد بن جبير قال : الزنيم الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها والزنيم الملصق. رواه ابن جرير (١) ، وروي أيضا من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الزنيم : نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم. قال وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها قال : وقال آخرون كان دعيا.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس عن أبيه عن أصحاب التفسير قالوا : هو الذي تكون له زنمة مثل زنمة الشاة ، وقال الضحاك : كانت له زنمة في أصل أذنه ويقال: هو اللئيم الملصق في النسب ، وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : هو المريب الذي يعرف بالشر ، وقال مجاهد : الزنيم الذي يعرف بهذا الوصف كما تعرف الشاة ، وقال أبو رزين : الزنيم علامة الكفر ، وقال عكرمة : الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها.

والأقوال في هذا كثيرة وترجع إلى ما قلناه وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر الذي يعرف به من بين الناس وغالبا يكون دعيا ولد زنا ، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره كما جاء في الحديث «لا يدخل الجنة ولد زنا» (٣) وفي الحديث الآخر «ولد الزنا شر الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه» (٤).

وقوله تعالى : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يقول تعالى : هذه مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين كفر بآيات الله عزوجل وأعرض عنها ، وزعم أنها

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ١٨٦.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ١٨٦.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٠٣.

(٤) أخرجه أبو داود في العتاق باب ١٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣١١ ، ٦ / ١٠٩.

٢١٢

كذب مأخوذ من أساطير الأولين كقوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) [المدثر : ١١ ـ ٢٦].

وقال تعالى هاهنا : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) قال ابن جرير (١) : سنبين أمره بيانا واضحا حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم كما لا تخفى عليهم السمة على الخراطيم ، وهكذا قال قتادة :

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) شين لا يفارقه آخر ما عليه ، وفي رواية عنه. سيما على أنفه ، وكذا قال السدي وقال العوفي عن ابن عباس (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) يقاتل يوم بدر فيخطم بالسيف في القتال.

وقال آخرون (سَنَسِمُهُ) سمة أهل النار يعني نسود وجهه يوم القيامة وعبر عن الوجه بالخرطوم. حكى ذلك كله أبو جعفر بن جرير ، ومال إلى أنه لا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة وهو متجه.

وقد قال ابن أبي حاتم في سورة (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني خالد بن سعيد عن عبد الملك بن عبد الله ، عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن العبد يكتب مؤمنا أحقابا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه ساخط ، وإن العبد يكتب كافرا أحقابا ثم أحقابا ثم يموت والله عليه راض ، ومن مات همازا لمازا ملقبا للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين».

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ(٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(٣٣)

هذا مثل ضربه الله تعالى لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة وأعطاهم من النعم الجسيمة ، وهو بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) أي اختبرناهم (كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) وهي البستان المشتمل على

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ١٨٩.

٢١٣

أنواع الثمار والفواكه (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي حلفوا فيما بينهم ليجذن ثمرها ليلا لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ليتوفر ثمرها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي فيما حلفوا به ، ولهذا حنثهم الله في أيمانهم فقال تعالى : (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) أي أصابتها آفة سماوية (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ).

قال ابن عباس كالليل الأسود وقال الثوري والسدي مثل الزرع إذا حصد أي هشيما يبسا. وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن أحمد بن الصباح أنبأنا بشير بن زاذان عن عمر بن صبح عن ليث بن أبي سليم ، عن عبد الرّحمن بن سابط عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقا قد كان هيئ له» ثم تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) قد حرموا خير جنتهم بذنبهم.

(فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي لما كان وقت الصبح نادى بعضهم بعضا ليذهبوا إلى الجذاذ أي القطع (أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي تريدون الصرام قال مجاهد : كان حرثهم عنبا (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) أي يتناجون فيما بينهم بحيث لا يسمعون أحدا كلامهم. ثم فسر الله سبحانه وتعالى عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به فقال تعالى : (فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) أي يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيرا يدخلها عليكم ، قال الله تعالى : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي قوة وشدة.

وقال مجاهد (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) أي جد ، وقال عكرمة : على غيظ ، وقال الشعبي (عَلى حَرْدٍ) على المساكين ، وقال السدي (عَلى حَرْدٍ) أي كان اسم قريتهم حرد فأبعد السدي في قوله هذا (قادِرِينَ) أي عليها فيما يزعمون ويرومون (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ) أي فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها وهي على الحالة التي قال الله عزوجل قد استحالت عن تلك النضارة والزهرة وكثرة الثمار إلى أن صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشيء منها فاعتقدوا أنهم قد أخطئوا الطريق ولهذا قالوا (إِنَّا لَضَالُّونَ) أي قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها قاله ابن عباس وغيره ، ثم رجعوا عما كانوا فيه وتيقنوا أنها هي فقالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي بل هي هذه ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن كعب والربيع بن أنس والضحاك وقتادة : أي أعدلهم وخيرهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) قال مجاهد والسدي وابن جريج (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي لو لا تستثنون قال السدي : وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحا وقال ابن جريج : هو قول القائل إن شاء الله ، وقيل معناه قال أوسطهم (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم.

٢١٤

(قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أتوا بالطاعة حيث لا تنفع وندموا واعترفوا حيث لا ينجع ، ولهذا قالوا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا أصروا اليه من منع المساكين من حق الجذاذ ، فما كان جواب بعضهم لبعض إلا الاعتراف بالخطيئة والذنب (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي اعتدينا وبغينا وطغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا.

(عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) قيل : رغبوا في بدلها لهم في الدنيا وقيل احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة والله أعلم. ثم قد ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن ، قال سعيد بن جبير : كانوا من قرية يقال لها ضروان على ستة أميال من صنعاء. وقيل : كانوا من أهل الحبشة ، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة وكانوا من أهل الكتاب.

وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة فكان ما يستغل منها يرد فيها ما يحتاج إليه ويدخر لعياله قوت سنتهم ويتصدق بالفاضل ، فلما مات وورثه بنوه قالوا : لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئا للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم ، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية رأس المال والربح والصدقة فلم يبق لهم شيء.

قال الله تعالى : (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي هكذا عذاب من خالف أمر الله وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ومنع حق المسكين والفقير وذوي الحاجات وبدل نعمة الله كفرا (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم وعذاب الآخرة أشق ، وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن الجذاذ بالليل والحصاد بالليل.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ(٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٤١)

لما ذكر الله تعالى حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عزوجل ، وخالفوا أمره بين أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها ثم قال تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) أي أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ورب الأرض والسماء ولهذا قال : (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي كيف تظنون ذلك؟

ثم قال تعالى : (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) يقول تعالى : أفبأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف متضمن حكما مؤكدا كما تدعونه؟ (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ

٢١٥

الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة؟ (إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي قل لهم من هو المتضمن المتكفل بهذا؟ قال ابن عباس : يقول أيهم بذلك كفيل (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أي من الأصنام والأنداد (فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٤٧)

لما ذكر تعالى أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ، بيّن متى ذلك كائن وواقع فقال تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) يعني يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والزلازل والبلاء ، والامتحان والأمور العظام.

وقد قال البخاري هاهنا : حدثنا آدم حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا (١) واحدا (٢)» وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وفي غيرهما من طرق ، وله ألفاظ وهو حديث طويل مشهور ، وقد قال عبد الله بن المبارك عن أسامة بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : هو يوم القيامة يوم كرب وشدة ، رواه ابن جرير (٣) ثم قال حدثنا ابن حميد ، حدثنا مهران عن سفيان عن المغيرة عن إبراهيم عن ابن مسعود أو ابن عباس ـ الشك من ابن جرير ـ (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : عن أمر عظيم ، كقول الشاعر : [الطويل]

مالت الحرب عن ساق (٤)

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : شدة الأمر ، وقال ابن

__________________

(١) الطبق : فقار الظهر ، أي أنه صار فقارهم كله كالفقار الواحد ، فلا يستطيعون السجود.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٨ ، باب ٢ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢ ، وأبو داود في الرقاق باب ٨٣ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٧.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ١٩٧.

(٤) يروى البيت بتمامه :

صبرا أمام إنّ شرّ باق

وقامت الحرب بنا على ساق

والبيت بلا نسبة في تفسير البحر المحيط لأبي حيان ٨ / ٣١٠ ، وفتح القدير ٥ / ٢٧٥ ، وتفسير الطبري ١٢ / ١٩٧.

٢١٦

عباس : هي أول ساعة تكون في يوم القيامة ، وقال ابن جرير عن مجاهد (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال : شدة الأمر وجده ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) هو الأمر الشديد الفظيع من الهول يوم القيامة ، وقال العوفي عن ابن عباس : قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يقول حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال ، وكشفه دخول الآخرة وكشف الأمر عنه ، وكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس : أورد ذلك كله أبو جعفر بن جرير(١) ، ثم قال (٢) : حدثني أبو زيد عمر بن شبّة ، حدثنا هارون بن عمر المخزومي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا أبو سعيد روح بن جناح عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يعني عن نور عظيم يخرّون له سجدا» ورواه أبو يعلى عن القاسم بن يحيى عن الوليد بن مسلم به وفيه رجل مبهم والله أعلم.

وقوله تعالى : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه ، ولما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة ، إذا تجلى الرب عزوجل فيسجد له المؤمنون ولا يستطيع أحد من الكافرين ولا المنافقين أن يسجد ، بل يعود ظهر أحدهم طبقا واحدا كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه عكس السجود ، كما كانوا في الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون.

ثم قال تعالى : (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) يعني القرآن ، وهذا تهديد شديد أي دعني وإياه مني ومنه أنا أعلم به منه كيف أستدرجه وأمده في غيه وأنظر ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) أي وهم لا يشعرون بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة وهو في نفس الأمر إهانة ، كما قال تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] وقال تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] ولهذا قال هاهنا : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي وأؤخرهم وأنظرهم وأمدهم وذلك من كيدي ومكري بهم ، ولهذا قال تعالى : (إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي عظيم لمن خالف أمري وكذب رسلي واجترأ على معصيتي.

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» (٣) ثم قرأ (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود :

__________________

(١) تفسير الطبري : ١٢ / ١٩٧ ، ١٩٨.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٢٠٠.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ١١ ، باب ٥ ، ومسلم في البر حديث ٦٢ ، وابن ماجة في الفتن باب ٢٢.

٢١٧

١٠٢] وقوله تعالى : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) تقدم تفسيرها في سورة الطور ، والمعنى في ذلك أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزوجل بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى ، وهم يكذبون بما جئتهم به بمجرد الجهل والكفر والعناد.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢)

يقول تعالى : (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم ، فإن الله سيحكم لك عليهم ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يعني ذا النون وهو يونس بن متى عليه‌السلام حين ذهب مغاضبا على قومه ، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر والتقام الحوت له وشرود الحوت به في البحار وظلمات غمرات اليم ، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير الذي لا يرد ما أنفذه من التقدير فحينئذ نادى في الظلمات (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] قال الله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٨] وقال تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ـ ١٤٤] وقال هاهنا : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) قال ابن عباس ومجاهد والسدي : وهو مغموم.

وقال عطاء الخراساني وأبو مالك : مكروب وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٨] خرجت الكلمة تحفّ حول العرش فقالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ، فقال الله تبارك وتعالى : أما تعرفون هذا؟ قالوا : لا ، قال : هذا يونس ، قالوا : يا رب عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة؟ قال : نعم ، قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء ، ولهذا قال تعالى : (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» (٢) ورواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وقوله تعالى :

__________________

(١) المسند ١ / ٣٩٠.

(٢) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٢٤ ، ٣٥ ، وتفسير سورة ٤ باب ٦ ، وسورة ٦ ، باب ٤ ، والتوحيد باب د ، وأبو داود في السنة باب ١٣ ، والترمذي في الصلاة باب ٢٠.

٢١٨

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما (لَيُزْلِقُونَكَ) لينفذونك (بِأَبْصارِهِمْ) أي يعينونك بأبصارهم بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لو لا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم ، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عزوجل ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة.

[حديث أنس بن مالك رضي الله عنه] قال أبو داود : حدثنا سليمان بن داود العتكي ، حدثنا شريك (ح) وحدثنا العباس العنبري ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا شريك عن العباس بن ذريح عن الشعبي ، قال العباس عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رقية إلا من عين أو حمة (١) أو دم لا يرقأ» (٢) لم يذكر العباس العين ، وهذا لفظ سليمان (٣).

[حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه] قال أبو عبد الله بن ماجة : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر الرازي عن حصين عن الشعبي عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا رقية إلا من عين أو حمة» (٤) هكذا رواه ابن ماجة ، وقد أخرجه مسلم في صحيحه عن سعيد بن منصور عن هشيم عن حصين بن عبد الرّحمن عن عامر الشعبي عن بريدة موقوفا وفيه قصة ، وقد رواه شعبة عن حصين عن الشعبي عن بريدة قاله الترمذي. وروى هذا الحديث الإمام البخاري من حديث محمد بن فضيل وأبو داود من حديث مالك بن مغول والترمذي من حديث سفيان بن عيينة ، ثلاثتهم عن حصين عن عامر الشعبي عن عمران بن حصين موقوفا «لا رقية إلا من عين أو حمة».

[حديث أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه] قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة بن البرند السامي ، حدثنا ديلم بن غزوان ، حدثنا وهب بن أبي دبى عن أبي حرب عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن العين لتولع الرجل بإذن الله فيتصاعد حالقا ثم يتردى منه» إسناده غريب ولم يخرجوه.

[حديث حابس التميمي] قال الإمام أحمد (٥) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا حرب حدثنا يحيى بن أبي كثير ، حدثني حية بن حابس التميمي أن أباه أخبره أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول :

__________________

(١) الحمة : السم

(٢) دم لا يرقأ : أي دم لا ينقطع.

(٣) أخرجه أبو داود في الطب باب ١٨.

(٤) أخرجه البخاري في الطب باب ١٧ ، ومسلم في الإيمان حديث ٣٧٤ ، وأبو داود في الطب باب ١٧ ، ١٨ ، والترمذي في الطب باب ١٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٧١ ، ٣ / ١١٨ ، ١١٩ ، ١٢٧ ، ٤٨٦ ، ٦ / ٤٣٦ ، ٤٣٨ ، ٤٤٦.

(٥) المسند ٥ / ٧٠.

٢١٩

«لا شيء في الهام والعين حق ، وأصدق الطيرة الفأل» (١) وقد رواه الترمذي عن عمرو بن علي عن أبي غسان يحيى بن أبي كثير عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير به ثم قال غريب. وقال : وروى سنان عن يحيى بن أبي كثير عن حية بن حابس عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلت : كذلك رواه الإمام أحمد (٢) عن حسن بن موسى ، وحسين بن محمد عن شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن حيّة ، حدثه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا بأس في الهام ، والعين حق وأصدق الطيرة الفأل».

[حديث ابن عباس رضي الله عنه] قال الإمام أحمد (٣) : حدثنا عبد الله بن الوليد عن سفيان عن دويد ، حدثني إسماعيل بن ثوبان عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العين حق ، العين حق تستنزل الحالق» غريب.

[طريق أخرى] قال مسلم في صحيحه حدثنا عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي ، أخبرنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا» (٤) انفرد به دون البخاري. وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن منصور عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول : «أعيذ كما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة» (٥) ويقول هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما‌السلام أخرجه البخاري وأهل السنن من حديث المنهال به.

[حديث أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف رضي الله عنه] قال ابن ماجة : حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي أمامة أسعد بن سهل بن حنيف قال : مر عامر بن ربيعة بسهل بن حنيف وهو يغتسل فقال : لم أر كاليوم ولا جلد مخبأة (٦) ، فما لبث أن لبط (٧) به فأتي به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل له أدرك سهلا صريعا قال : «من تتهمون به» قالوا : عامر بن ربيعة قال : «علام يقتل أحدكم أخاه؟ إذا رأى أحدكم من أخيه منا يعجبه فليدع له بالبركة» ثم دعا بماء فأمر عامرا أن يتوضأ فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين وركبتيه وداخلة إزاره ، وأمره أن يصب عليه ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الطب باب ١٩.

(٢) المسند ٥ / ٧٠.

(٣) المسند ١ / ٢٧٤ ، ٢٩٤.

(٤) أخرجه مسلم في السّلام حديث ٤١ ، والترمذي في الطب باب ١٩.

(٥) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ١٠ ، وأبو داود في السنة باب ٢٠ ، والترمذي في الطب باب ١٨ ، وابن ماجة في الطب باب ١٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٣٦ ، ٢٧٠.

(٦) المخبأة : الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعد.

(٧) لبط : أي صرع وسقط على الأرض.

٢٢٠