تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

تفسير سورة الجمعة

وهي مدنية

عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين ، رواه مسلم (١) في صحيحه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤)

يخبر تعالى أنه يسبح له ما في السموات وما في الأرض ، أي من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، كما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) [الإسراء : ٤٤] ثم قال تعالى : (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي هو مالك السموات والأرض المتصرف فيهما بحكمه ، وهو القدوس ، أي المنزه عن النقائص الموصوف بصفات الكمال (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) تقدم تفسيرهما غير مرة. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) الأميون هم العرب ، كما قال تعالى : (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٢٠] وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر ، كما قال تعالى في قوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به ، وكذا قال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤].

وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] وقوله : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] وقوله تعالى إخبارا عن القرآن : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [هود : ١٧] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته ، صلوات الله وسلامه عليه ، إلى جميع الخلق أحمرهم وأسودهم ، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام بالآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة.

وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا

__________________

(١) كتاب الجمعة حديث ٦٤.

١٤١

منهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة على حين فترة من الرسل وطموس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت الله أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، أي نزرا يسيرا ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه‌السلام ، ولهذا قال تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

وذلك أن العرب كانوا قديما متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، فبدلوه وغيروه وقلبوه وخالفوه واستبدلوا بالتوحيد شركا وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله ، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ، فبعث الله محمدا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله تعالى حاكم فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع ، وجمع له تعالى وله الحمد والمنة جميع المحاسن ممن كان قبله وأعطاه ما لم يعط أحدا من الأولين ولا يعطيه أحدا من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.

وقوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه‌الله تعالى : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا سليمان بن بلال عن ثور عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قالوا : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثا ، وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان الفارسي ثم قال : «لو كان الإيمان عند الثريا لنا له رجال ـ أو رجل ـ من هؤلاء» (١) ورواه مسلم والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير من طرق ، عن ثور بن زيد الديلي عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة به.

ففي هذا الحديث دليل على أن هذه السورة مدنية وعلى عموم بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع الناس ، لأنه فسر قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) بفارس ، ولهذا كتب كتبه إلى فارس والروم وغيرهم من الأمم ، يدعوهم إلى الله عزوجل وإلى اتباع ما جاء به ، ولهذا قال مجاهد وغير واحد في قوله تعالى : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال : هم الأعاجم وكل من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير العرب.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي ، حدثنا الوليد بن مسلم،

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٢ ، باب ١ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٣١ ، والترمذي في تفسير سورة ٦٢ ، باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ٤١٧ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٩٠.

١٤٢

حدثنا أبو محمد عيسى بن موسى عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في أصلاب أصلاب رجال من أصحابي ورجالا ونساء من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب» ثم قرأ : (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) يعني بقية من بقي من أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره ، وقوله تعالى : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) يعني ما أعطاه الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم من النبوة العظيمة وما خص به أمته من بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

يقول تعالى ذاما لليهود الذين أعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ثم لم يعملوا بها : مثلهم في ذلك كمثل الحمار يحمل أسفارا ، أي كمثل الحمار إذا حمل كتبا لا يدري ما فيها ، فهو يحملها حملا حسيا ولا يدري ما عليه ، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه حفظوه لفظا ولم يفهموه ولا عملوا بمقتضاه ، بل أولوه وحرفوه وبدلوه فهم أسوأ حالا من الحمير ، لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩] وقال تعالى هاهنا : (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وقال الإمام أحمد (١) رحمه‌الله : حدثنا ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا والذي يقول له أنصت ليس له جمعة».

ثم قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي إن كنتم تزعمون أنكم على هدى ، وأن محمدا وأصحابه على ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين إن كنتم صادقين ، أي فيما تزعمونه.

قال الله تعالى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) أي بما يعملون لهم من الكفر والظلم والفجور (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود ، حيث قال تعالى : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ

__________________

(١) المسند ١ / ٢٣٠.

١٤٣

النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [البقرة : ٩٤ ـ ٩٦] ، وقد أسلفنا الكلام هناك ، وبينا أن المراد أن يدعوا على الضلال من أنفسهم أو خصومهم كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] ومباهلة المشركين في سورة مريم (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥].

وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي ، أبو يزيد ، حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيت محمدا عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه ، قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو فعل لأخذته الملائكة عيانا ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا» (٢) رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق عن معمر ، عن عبد الكريم ، قال البخاري وتبعه عمرو بن خالد عن عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم ، ورواه النسائي أيضا عن عبد الرّحمن بن عبيد الله الحلبي عن عبيد الله بن عمرو الرقي به أتم.

وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) كقوله تعالى في سورة النساء (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٨] وفي معجم الطبراني من حديث معاذ بن محمد الهذلي عن يونس عن الحسن عن سمرة مرفوعا «مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره فقالت له الأرض يا ثعلب ديني ، فخرج له حصاص (٣) فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠)

إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع ، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار ، وفيه كمل جميع الخلائق فإنه اليوم السادس من الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض ، وفيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة ،

__________________

(١) المسند ١ / ٢٤٨.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٩٦ ، في الترجمة ، والترمذي في تفسير سورة ٩٦ ، باب ١.

(٣) الحصاص : شدة العدو.

١٤٤

وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه ، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عبيدة بن حميد عن منصور عن أبي معشر عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي ، حدثنا سلمان قال : قال أبو القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا سلمان ما يوم الجمعة؟» قلت : الله ورسوله أعلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يوم الجمعة يوم جمع الله فيه أبواكم ـ أو أبوكم ـ» وقد روي عن أبي هريرة من كلامه نحو هذا فالله أعلم.

وقد كان يقال له في اللغة القديمة يوم العروبة ، وثبت أن الأمم قبلنا أمروا به فضلوا عنه ، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم ، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق ، واختار الله لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع ، اليهود غدا والنصارى بعد غد» (١) لفظ البخاري وفي لفظ لمسلم (٢) «أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا ، والأولون يوم القيامة المقضي بينهم قبل الخلائق».

وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها ، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها كقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] وكان عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما يقرءانها «فامضوا إلى ذكر الله».

فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا ، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (٣) لفظ البخاري وعن أبي قتادة قال : بينما نحن نصلي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلّى قال : «ما شأنكم؟» قالوا : استعجلنا إلى الصلاة قال «فلا تفعلوا ، إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا»(٤)

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجمعة باب ١ ، ١٢ ، والأيمان باب ١ ، والتعبير باب ٤٠ ، ومسلم في الجمعة حديث ١٩.

(٢) كتاب الجمعة حديث ٢١.

(٣) أخرجه البخاري في الأذان باب ٢٠ ، ومسلم في المساجد حديث ١٥١ ، ١٥٢.

(٤) أخرجه البخاري في الأذان باب ٢٠ ، ومسلم في المساجد ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٥٥.

١٤٥

أخرجاه. وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون ، وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» (١). رواه الترمذي من حديث عبد الرزاق كذلك ، وأخرجه من طريق يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بمثله ، قال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة في قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها ، وكان يتأول قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي المشي معه ، وروي عن محمد بن كعب وزيد بن أسلم وغيرهما نحو ذلك.

ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئه إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل» (٢) ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» (٣) وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حق لله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده» (٤) رواه مسلم ، وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة» (٥) رواه أحمد والنسائي وابن حبان.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أوس بن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من غسل واغتسل يوم الجمعة وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة أجر سنة أجر صيامها وقيامها» (٧) وهذا الحديث له طرق وألفاظ ، وقد أخرجه أهل السنن الأربعة وحسنه الترمذي ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ١٢٧.

(٢) أخرجه البخاري في الجمعة باب ٢ ، ومسلم في الجمعة حديث ١.

(٣) أخرجه البخاري في الجمعة باب ٢ ، ومسلم في الجمعة حديث ٥.

(٤) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٧.

(٥) أخرجه النسائي في الجمعة باب ٧ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٠٤.

(٦) المسند ٤ / ١٠٤.

(٧) أخرجه أبو داود في الطهارة باب ١٢٧ ، والترمذي في الجمعة باب ٦ ، والنسائي في الجمعة باب ١٤ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٨٣.

١٤٦

قرب كبشا أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» (١) أخرجاه.

ويستحب له أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتنظف ويتسوك ويتطهر. وفي حديث أبي سعيد المتقدم «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك وأن يمس من طيب أهله».

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن عمران بن أبي يحيى ، عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أيوب الأنصاري : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحدا ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى» وفي سنن أبي داود وابن ماجة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته» (٣) وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب الناس يوم الجمعة ، فرأى عليهم ثياب النمار فقال : «ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوبي مهنته» (٤) رواه ابن ماجة.

وقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) المراد بهذا النداء هو النداء الثاني الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذ يؤذن بين يديه فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس كما رواه البخاري رحمه‌الله حيث قال : حدثنا آدم هو ابن أبي إياس ، حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس ، زاد النداء الثاني على الزوراء (٥) يعني يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا محمد بن راشد المكحولي عن مكحول أن النداء كان في يوم الجمعة مؤذن واحد ، حين يخرج الإمام ثم تقام الصلاة وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به ، فأمر عثمان رضي الله عنه أن ينادي قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس. وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون

__________________

(١) أخرجه البخاري في الجمعة باب ٤ ، ومسلم في الجمعة حديث ١٠.

(٢) المسند ٥ / ٤٢٠.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٢١٣ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٨٣.

(٤) أخرجه ابن ماجة في الإقامة باب ٨٣.

(٥) أخرجه البخاري في الجمعة باب ٢١ ، وابن ماجة في الإقامة باب ٩٧.

١٤٧

العبيد والنساء والصبيان ، ويعذر المسافر والمريض وقيّم المريض وما أشبه ذلك من الأعذار ، كما هو مقرر في كتب الفروع.

وقوله تعالى : (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة ، ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني ، واختلفوا هل يصح إذا تعاطاه متعاط أم لا؟ على قولين وظاهر الآية عدم الصحة كما هو مقرر في موضعه ، والله أعلم. وقوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة خير لكم أي في الدنيا والآخرة إن كنتم تعلمون.

وقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي فرغ منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء وأمرهم بالاجتماع أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ، كما كان عراك بن مالك رضي الله عنه إذا صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ، رواه ابن أبي حاتم.

وروي عن بعض السلف أنه قال : من باع واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول الله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) وقوله تعالى : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم اذكروا الله ذكرا كثيرا ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ، ولهذا جاء في الحديث «من دخل سوقا من الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحي عنه ألف ألف سيئة» (١) وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (١١)

يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذ فقال تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) أي على المنبر تخطب ، هكذا ذكره غير واحد من التابعين ، منهم أبو العالية والحسن وزيد بن أسلم وقتادة ، وزعم مقاتل بن حيان أن التجارة كانت لدحية بن خليفة قبل أن يسلم ، وكان معها طبل فانصرفوا إليها وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر إلا القليل منهم ، وقد صح بذلك الخبر فقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا ابن إدريس عن حصين عن سالم بن أبي الجعد عن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الدعوات باب ٣٥ ، وابن ماجة في التجارات باب ٤٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٤٧.

(٢) المسند ٣ / ٣١٣.

١٤٨

جابر قال : قدمت عير مرة المدينة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب فخرج الناس وبقي اثنا عشر رجلا فنزلت (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (١) أخرجاه في الصحيحين من حديث سالم به.

وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زكريا بن يحيى ، حدثنا هشيم عن حصين عن سالم بن أبي الجعد وأبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى لم يبق مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا اثنا عشر رجلا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي نارا» ونزلت هذه الآية (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) وقال : كان في الاثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

وفي قوله تعالى : (وَتَرَكُوكَ قائِماً) دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائما. وقد روى مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة قال : كانت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس (٢) ، ولكن هاهنا شيء ينبغي أن يعلم وهو : أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب المراسيل ، حدثنا محمود بن خالد عن الوليد ، أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان يقول : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب ، وقد صلّى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة ، يعني فانفضوا ولم يبق معه إلا نفر يسير وقوله تعالى : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ) أي الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة (خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته. آخر تفسير سورة الجمعة ولله الحمد والمنة ، وبه التوفيق والعصمة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٢ ، باب ٢ ، ومسلم في الجمعة حديث ٣٦ ـ ٣٩.

(٢) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٣٤.

١٤٩

تفسير سورة المنافقون

وهي مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ(٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤)

يقول تعالى مخبرا عن المنافقين أنهم إنما يتفوهون بالإسلام إذا جاءوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك ، ولهذا قال تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك ، وأظهروا لك ذلك ، وليسوا كما يقولون ، ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله فقال : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ثم قال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي فيما أخبروا به وإن كان مطابقا للخارج لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه ، ولهذا كذبهم بالنسبة إلى اعتقادهم.

وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة والحلفات الآثمة ليصدقوا فيما يقولون ، فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم ، فاعتقدوا أنهم مسلمون ، فربما اقتدى بهم فيما يفعلون وصدقهم فيما يقولون ، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالا ، فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس ، ولهذا قال تعالى : (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ولهذا كان الضحاك بن مزاحم يقرؤها اتخذوا إيمانهم جنة أي تصديقهم الظاهر جنة أي تقية يتقون به القتل ، والجمهور يقرؤها (أَيْمانَهُمْ) جمع يمين ، وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران ، واستبدالهم الضلالة بالهدى ، فطبع الله (عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ). أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي.

وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) أي وكانوا أشكالا حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم ، وهم مع ذلك

١٥٠

في غاية الضعف والخور والهلع والجزع والجبن ، ولهذا قال تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما وقع أمر أو كائنة أو خوف يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم كما قال تعالى : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) [الأحزاب : ١٩] فهم جهامات (١) وصور بلا معاني ، ولهذا قال تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال.

وقد قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا يزيد ، حدثنا عبد الملك بن قدامة الجمحي عن إسحاق بن بكير بن أبي الفرات عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن للمنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة وطعامهم نهبة وغنيمتهم غلول ولا يقربون المساجد إلا هجرا ، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا ، مستكبرين لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل صخب بالنهار» وقال يزيد بن مرة : سخب بالنهار.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨)

يقول تعالى مخبرا عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكبارا عن ذلك واحتقارا لما قيل لهم ، ولهذا قال تعالى : (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) كما قال في سورة براءة ، وقد تقدم الكلام على ذلك وإيراد الأحاديث المروية هنالك.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العدني قال : قال سفيان (لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) قال ابن أبي عمر : وحوّل سفيان وجهه على يمينه ونظر بعينه شزرا ثم قال : هو هذا. وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في عبد الله بن أبي ابن سلول كما سنورده قريبا إن شاء الله تعالى ، وبه الثقة وعليه التكلان.

وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة (٣) : ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، يعني مرجعه

__________________

(١) الجهام : السحاب الذي لا ماء فيه ، وهنا بمعنى الذي لا خير فيه.

(٢) المسند ٢ / ٢٩٣.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ١٠٥.

١٥١

من أحد ، وكان عبد الله بن أبي ابن سلول كما حدثني ابن شهاب الزهري له مقام يقومه كل جمعة ، لا ينكر شوفا له من نفسه ومن قومه ، وكان فيهم شريفا ، إذا جلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال : أيها الناس ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهركم ، أكرمكم الله به وأعزكم به فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ، يعني مرجعه بثلث الجيش ورجع الناس ، قام يفعل ذلك كما كان يفعله ، فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه وقالوا : اجلس ، أي عدو الله لست لذلك بأهل وقد صنعت ما صنعت ، فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول : والله لكأنما قلت بجرا إن قمت أشدد أمره ، فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا : ويلك ما لك؟ قال : قمت أشدد أمره فوثب علي رجال من أصحابه يجذبونني ويعنفونني ، لكأنما قلت بجرا إن قمت أشدد أمره. قالوا : ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : والله ما أبتغي أن يستغفر لي.

وقال قتادة والسدي : أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ، وذلك أن غلاما من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحدثه بحديث عنه وأمر شديد ، فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك ، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعذموه ، وأنزل الله فيه ما تسمعون ، وقيل لعدو الله : لو أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعل يلوي رأسه ، أي لست فاعلا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الربيع الزهراني ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل منزلا لم يرتحل حتى يصلي فيه ، فلما كانت غزوة تبوك بلغه أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) ، فارتحل قبل أن ينزل آخر النهار ، وقيل لعبد الله بن أبي : ائت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يستغفر لك ، فأنزل الله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) ـ إلى قوله ـ (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) وهذا إسناد صحيح إلى سعيد بن جبير. وقوله : إن ذلك كان في غزوة تبوك فيه نظر بل ليس بجيد ، فإن عبد الله بن أبي ابن سلول لم يكن ممن خرج في غزوة تبوك ، بل رجع بطائفة من الجيش ، وإنما المشهور عند أصحاب المغازي والسير أن ذلك في غزوة المريسيع ، وهي غزوة بني المصطلق.

وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى بن حبان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة في قصة بني المصطلق ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء جهجاه بن سعيد الغفاري ، وكان أجيرا لعمر بن الخطاب وسنان بن وبر قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن يحيى بن حبان قال : ازدحما على الماء فاقتتلا ، فقال سنان : يا معشر الأنصار ، وقال الجهجاه : يا معشر المهاجرين ، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند عبد الله بن أبي ، فلما سمعها قال : قد ثاورونا في بلادنا ، والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ثم أقبل

١٥٢

على من عنده من قومه وقال : هذا ما صنعتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها ، فسمعها زيد بن أرقم رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وهو غليم عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخبره الخبر ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله مر عباد بن بشر فليضرب عنقه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمدا يقتل أصحابه ، لا ، ولكن ناد يا عمر الرحيل» فلما بلغ عبد الله بن أبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه فاعتذر إليه ، وحلف بالله ما قال ، ما قال عليه زيد بن أرقم ، وكان عند قومه بمكان فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل.

وراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهجرا في ساعة كان لا يروح فيها ، فلقيه أسيد بن الحضير رضي الله عنه فسلم عليه بتحية النبوة ثم قال : والله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما بلغك ما قال صاحبك ابن أبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل» قال : فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل. ثم قال : ارفق به يا رسول الله ، فو الله لقد جاء الله بك وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه ، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكا ، فسار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا ، وصدر يومه حتى اشتد الضحى ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث ، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا ونزلت سورة المنافقين (١).

وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق أخبرنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمر بن دينار ، سمعت جابر بن عبد الله يقول : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة فكسع (٢) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار : فقال الأنصاري : يا للأنصار! وقال المهاجري يا للمهاجرين فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة».

وقال عبد الله بن أبي ابن سلول : وقد فعلوها ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال جابر : وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم كثر المهاجرون بعد ذلك ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» (٣) ورواه الإمام أحمد عن حسين بن محمد المروزي عن سفيان بن عيينة ، ورواه البخاري عن الحميدي ومسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن سفيان به نحوه.

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ٢ / ٢٩٠ ، ٢٩٢.

(٢) كسع : ضرب.

(٣) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٣ ، باب ٥ ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٩٢ ، ٣٩٣.

١٥٣

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن محمد بن كعب القرظي عن زيد بن أرقم قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أبي: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال : فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، قال : فحلف عبد الله بن أبي أنه لم يكن شيء من ذلك ، قال : فلامني قومي وقالوا : ما أردت إلى هذا؟ قال : فانطلقت فنمت كئيبا حزينا ، قال : فأرسل إلي نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن الله قد أنزل عذرك وصدقك» قال : فنزلت هذه الآية (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ـ حتى بلغ ـ (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (٢) ورواه البخاري عند هذه الآية عن آدم بن أبي إياس عن شعبة ، ثم قال : وقال ابن أبي زائدة عن الأعمش عن عمرو عن ابن أبي ليلى عن زيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه الترمذي والنسائي عندها أيضا من حديث شعبة به.

[طريق أخرى عن زيد] قال الإمام أحمد (٣) رحمه‌الله : حدثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قالا : حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق قال : سمعت زيد بن أرقم ، وقال ابن أبي بكير عن زيد بن أرقم قال : خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي ابن سلول يقول لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي فذكره عمي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحدثته ، فأرسل إلى عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا ، فكذبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط ، وجلست في البيت فقال عمي : ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومقتك! قال حتى أنزل الله (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) قال : فبعث إلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علي ثم قال : «إن الله قد صدقك».

ثم قال أحمد (٤) أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق أنه سمع زيد بن أرقم يقول : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فأصاب الناس شدة فقال عبد الله بن أبي لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ينفضوا من حوله ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بذلك فأرسل إلى عبد الله بن أبي فسأله ، فاجتهد يمينه ما فعل فقالوا : كذب زيد يا رسول الله ، فوقع في نفسي مما قالوا فأنزل الله تصديقي (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) قال ودعاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم.

__________________

(١) المسند ٤ / ٣٦٨ ، ٣٦٩.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٣ ، باب ٧ ، والترمذي في تفسير سورة ٦٣ ، باب ٣.

(٣) المسند ٤ / ٣٧٣.

(٤) المسند ٤ / ٣٧٣.

١٥٤

وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) قال كانوا رجالا أجمل شيء (١) ، وقد رواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث زهير ورواه البخاري أيضا والترمذي من حديث إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني الكوفي عن زيد به.

[طريق أخرى عن زيد] قال أبو عيسى الترمذي (٢) : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبي سعيد الأزدي ، قال : حدثنا زيد بن أرقم قال : غزونا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان معنا أناس من الأعراب ، فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقوننا إليه فسبق أعرابي أصحابه ليملأ الحوض ويجعل حوله حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه ، قال : فأتى رجل من الأنصار الأعرابي فأرخى زمام ناقته لتشرب ، فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض الماء ، فرفع الأعرابي خشبته فضرب بها رأس الأنصاري فشجه ، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره ، وكان من أصحابه فغضب عبد الله بن أبي ثم قال : لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ، يعني الأعراب ، وكانوا يحضرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الطعام ، فقال عبد الله لأصحابه : إذا انفضوا من عند محمد فائتوا محمدا بالطعام فليأكل هو ومن معه ، ثم قال لأصحابه : لئن رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل.

قال زيد وأنا ردف عمي ، قال فسمعت عبد الله بن أبي يقول ما قال ، فأخبرت عمي فانطلق فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحلف وجحد ، قال فصدقه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبني ، قال فجاء إلي عمي فقال ما أردت إلا أن مقتك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبك والمسلمون ، قال فوقع علي من الغم ما لم يقع على أحد قط ، قال فبينما أنا أسير مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، وقد خفقت برأسي من الهم ، إذ أتاني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا ، ثم إن أبا بكر لحقني وقال : ما قال لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قلت : ما قال شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي ، فقال : أبشر ثم لحقني عمر فقلت له مثل قولي لأبي بكر ، فلما أن أصبحنا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة المنافقين.

انفرد بإخراجه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح. وهكذا رواه الحافظ البيهقي عن الحاكم عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي عن سعيد بن مسعود عن عبيد الله بن موسى به ، وزاد بعد قوله سورة المنافقين (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ـ حتى بلغ ـ (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) ـ حتى بلغ ـ (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ).

وقد روى عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير في المغازي ، وكذا ذكر

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٣ ، باب ١ ، ٢ ، ٣ ، ومسلم في المنافقين حديث ١.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٣ ، باب ١.

١٥٥

موسى بن عقبة في مغازيه أيضا هذه القصة بهذا السياق ، ولكن جعلا الذي بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم كلام عبد الله بن أبي ابن سلول إنما هو أوس بن أرقم من بني الحارث بن الخزرج ، فلعله مبلغ آخر أو تصحيف من جهة السمع والله أعلم.

وقد قال ابن أبي حاتم رحمه‌الله : حدثنا محمد بن عزيز الأيلي ، حدثني سلامة ، حدثني عقيل ، أخبرني محمد بن مسلم أن عروة بن الزبير وعمرو بن ثابت الأنصاري أخبراه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم غزا غزوة المريسيع ، وهي التي هدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها مناة الطاغية التي كانت بين قفا المشلل وبين البحر ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فكسر مناة ، فاقتتل رجلان في غزوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك أحدهما من المهاجرين والآخر من بهز ، وهم حلفاء الأنصار ، فاستعلى الرجل الذي من المهاجرين على البهزي فقال البهزي : يا معشر الأنصار ، فنصره رجال من الأنصار ، وقال المهاجري : يا معشر المهاجرين ، فنصره رجال من المهاجرين حتى كان بين أولئك الرجال من المهاجرين والرجال من الأنصار شيء من القتال ، ثم حجز بينهم فانكفأ كل منافق أو رجل في قلبه مرض إلى عبد الله بن أبي ابن سلول فقال : قد كنت ترجى وتدفع فأصبحت لا تضر ولا تنفع ، قد تناصرت علينا الجلابيب وكانوا يدعون كل حديث هجرة الجلابيب ، فقال عبد الله بن أبي عدو الله : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.

قال مالك بن الدخشم وكان من المنافقين : ألم أقل لكم لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، فسمع بذلك عمر بن الخطاب فأقبل يمشي حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه ، يريد عمر عبد الله بن أبي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر : «أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» قال عمر : نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجلس» فأقبل أسيد بن حضير وهو أحد الأنصار ثم أحد بني عبد الأشهل حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي في هذا الرجل الذي قد أفتن الناس أضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أو قاتله أنت إن أمرتك بقتله؟» قال : نعم والله لئن أمرتني بقتله لأضربن بالسيف تحت قرط أذنيه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجلس» ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آذنوا بالرحيل» فهجر بالناس فسار يومه وليلته والغد حتى متع النهار ، ثم نزل ثم هجر بالناس مثلها حتى صبح بالمدينة في ثلاث سارها من قفا المشلل.

فلما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة أرسل إلى عمر فدعاه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي عمر أكنت قاتله لو أمرتك بقتله؟» قال عمر : نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله لو قتلته يومئذ لأرغمت أنوف رجال لو أمرتهم اليوم بقتله امتثلوه ، فيتحدث الناس أني قد وقعت على أصحابي فأقتلهم صبرا» وأنزل الله عزوجل (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ

١٥٦

حَتَّى يَنْفَضُّوا) ـ إلى قوله تعالى ـ (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) الآية. وهذا سياق غريب وفيه أشياء نفيسة لا توجد إلا فيه.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار (١) : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني ، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا».

وذكر عكرمة وابن زيد وغيرهما أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف عبد الله بن عبد الله هذا على باب المدينة ، واستل سيفه فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه عبد الله بن أبي قال له ابنه : وراءك! فقال : ما لك ويلك؟ فقال : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه العزيز وأنت الذليل ، فلما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان إنما يسير ساقة فشكا إليه عبد الله بن أبي ابنه ، فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له ، فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أما إذا أذن لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجز الآن. وقال أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عيينة ، حدثنا أبو هارون المدني قال : قال عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبدا حتى تقول : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الأعز وأنا الأذل ، قال وجاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي فو الذي بعثك بالحق ، ما تأملت وجهه قط هيبة له ، ولئن شئت أن آتيك برأسه لأتيتك فإني أكره أن أرى قاتل أبي.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (١١)

يقول تعالى آمرا لعباده المؤمنين بكثرة ذكره ، وناهيا لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ، ومخبرا لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عما خلق له من طاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فكل مفرط يندم عند الاحتضار ويسأل طول المدة ولو شيئا يسيرا ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات ، كان ما كان وأتى ما هو آت ،

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٢ / ٢٩٢ ، ٢٩٣.

١٥٧

وكل بحسب تفريطه ، أما الكفار فكما قال تعالى : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) [إبراهيم : ٤٤] وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٠].

ثم قال تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي لا ينظر أحدا بعد حلول أجله. وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقا في قوله وسؤاله ممن لو رد لعاد إلى شر مما كان عليه ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ)

وقال أبو عيسى الترمذي (١) : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو جناب الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه زكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله فإنما يسأل الرجعة الكفار ، فقال : سأتلو عليك بذلك قرآنا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال : فما يوجب الزكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا ، قال : فما يوجب الحج؟ قال : الزاد والبعير.

ثم قال : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن أبي حية وهو أبو جناب الكلبي عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ثم قال : وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره عن أبي جناب عن الضحاك عن ابن عباس من قوله وهو أصح ، وضعف أبا جناب الكلبي.

قلت : ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا سليمان بن عطاء عن مسلمة الجهني عن عمه يعني أبا مشجعة بن ربعي ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزيادة في العمر فقال «إن الله لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له فيلحقه دعاؤهم في قبره». آخر تفسير سورة المنافقين. ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٣ ، باب ١.

١٥٨

تفسير سورة التغابن

وهي مدنية وقيل مكية

قال الطبراني : حدثنا محمد بن هارون بن محمد بن بكار الدمشقي ، حدثنا العباس بن الوليد الخلال حدثنا الوليد بن الوليد ، حدثنا ابن ثوبان عن عطاء بن أبي رباح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن» أورده ابن عساكر في ترجمة الوليد بن صالح ، وهو غريب جدا بل منكر.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٤)

هذه السورة هي آخر المسبحات وقد تقدم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها ، ولهذا قال تعالى : (لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) أي هو المتصرف في جميع الكائنات المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره. وقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي ما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع وما لم يشأ لم يكن. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي هو الخالق لكم على هذه الصفة ، وأراد منكم ذلك فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، وهو شهيد على أعمال عباده وسيجزيهم بها أتم الجزاء ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ثم قال تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي بالعدل والحكمة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) أي أحسن أشكالكم ، كقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [الانفطار : ٦ ـ ٨]. وكقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) [غافر : ٦٤] الآية ، وقوله تعالى : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي المرجع والمآب ، ثم أخبر تعالى عن علمه بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى : (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

١٥٩

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٦)

يقول تعالى مخبرا عن الأمم الماضين وما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق فقال تعالى : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي خبرهم وما كان من أمرهم (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم وهو ما حل بهم في الدنيا من العقوبة والخزي (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الدار الآخرة مضاف إلى هذا الدنيوي ، ثم علل ذلك فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والدلائل والبراهين (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) أي كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل (وَاسْتَغْنَى اللهُ) أي عنهم (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٠)

يقول تعالى مخبرا عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي بعثكم ومجازاتكم ، وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقسم بربه عزوجل على وقوع المعاد ووجوده ، فالأولى في سورة يونس (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) [يونس : ٥٣] والثانية في سورة سبأ (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) [سبأ : ٣] الآية. والثالثة هي هذه (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

ثم قال تعالى : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) يعني القرآن (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية. وقوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر كما قال تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] وقال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ـ ٥٠].

وقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) قال ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة ، وذلك أن

١٦٠