تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

قلن ذلك قبل ذلك منهن.

وقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينا.

وقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين وقد كان جائزا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب رضي الله عنها ، قد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رق لها رقة شديدة وقال للمسلمين : «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا» ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك وصدقه فيما وعده وبعثها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر. وكانت سنة اثنتين إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ثمان فردها عليه بالنكاح الأول ولم يحدث لها صداقا.

كما قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا ابن إسحاق حدثنا داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع ، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول ولم يحدث شهادة ولا صداقا (٢) ، ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ومنهم من يقول بعد سنتين ، وهو صحيح ، لأن إسلامه كان بعد تحريم المسلمات على المشركين بسنتين وقال الترمذي : ليس بإسناده بأس ولا نعرف وجه هذا الحديث ولعله جاء من حفظ داود بن الحصين ، وسمعت عبد بن حميد يقول : سمعت يزيد بن هارون يذكر عن ابن إسحاق هذا الحديث وحديث ابن الحجاج يعني ابن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد ، فقال يزيد : حديث ابن عباس أجود إسنادا والعمل على حديث عمرو بن شعيب ، ثم قلت وقد روى حديث الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وضعفه الإمام أحمد وغير واحد ، والله أعلم.

وأجاب الجمهور عن حديث ابن عباس بأن ذلك كان قضية عين ، يحتمل أنه لم تنقض عدتها منه لأن الذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه. وقال آخرون بل إذا انقضت العدة هي بالخيار ، إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت

__________________

(١) المسند ١ / ٢٦١.

(٢) أخرجه أبو داود في الطلاق باب ٢٤ ، والترمذي في النكاح باب ٤٣ ، وابن ماجة في النكاح باب ٥٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٠٨.

١٢١

فسخته وذهبت فتزوجت وحملوا عليه حديث ابن عباس ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والزهري وغير واحد ، وقوله تعالى: (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فانكحوهن أي تزوجوهن بشرطه من انقضاء العدة والولي وغير ذلك. وقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) تحريم من الله عزوجل على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن.

وفي الصحيح عن الزهري عن عروة عن المسور ومروان بن الحكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية ، جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) ـ إلى قوله ـ (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) فطلق عمر بن الخطاب يومئذ امرأتين تزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والأخرى صفوان بن أمية (١).

وقال ابن ثور عن معمر عن الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بأسفل الحديبية حين صالحهم ، على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاءه النساء نزلت هذه الآية وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى زوجها وقال (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ).

وهكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم وقال : وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري : طلق عمر يومئذ قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة. فتزوجها معاوية وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية ، وهي أم عبيد الله فتزوجها أبو جهم بن حذيفة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما ، وطلق طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فتزوجها بعده خالد بن سعيد بن العاص (٢).

وقوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين.

وقوله تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي في الصلح واستثناء النساء منه والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك ، ثم قال تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشروط باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٣١.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٣٢٧ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٦٨.

١٢٢

أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) قال مجاهد وقتادة : هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد إذا فرت إليهم امرأة ولم يدفعوا إلى زوجها شيئا ، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن الزهري قال : أقر المؤمنون بحكم الله فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم ، وأبي المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين ، فقال الله تعالى للمؤمنين به (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ).

فلو أنها ذهبت بعد هذه الآية امرأة من أزواج المؤمنين إلى المشركين ، رد المؤمنون إلى زوجها النفقة التي أنفق عليها من العقب الذي بأيديهم الذي أمروا أن يردوه على المشركين من نفقاتهم ، التي أنفقوا على أزواجهم اللاتي آمن وهاجرن ، ثم ردوا إلى المشركين فضلا إن كان بقي لهم ، والعقب ما كان بأيدي المؤمنين من صداق نساء الكفار حين آمن وهاجرن.

وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ، يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار أمر له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يعطى مثل ما أنفق من الغنيمة ، وهكذا قال مجاهد (فَعاقَبْتُمْ) أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) يعني مهر مثلها. وهكذا قال مسروق وإبراهيم وقتادة ومقاتل والضحاك وسفيان بن حسين والزهري أيضا. وهذا لا ينافي الأول لأنه إن أمكن الأول فهو أولى وإلا فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار ، وهذا أوسع وهو اختيار ابن جرير ، ولله الحمد والمنة.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢)

قال البخاري : حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن عمه قال : أخبرني عروة أن عائشة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرته أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) ـ إلى قوله ـ (غَفُورٌ رَحِيمٌ)

قال عروة : قالت عائشة فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد بايعتك» كلاما ، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط ، وما يبايعهن إلا بقوله : «قد

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧١.

١٢٣

بايعتك على ذلك» هذا لفظ البخاري (١).

وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرّحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة قالت : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله شيئا الآية وقال «فيما استطعتن وأطقتن» قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال «إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة» (٣) هذا إسناد صحيح وقد رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة والنسائي أيضا من حديث الثوري ومالك بن أنس ، كلهم عن محمد بن المنكدر عن أميمة به ، وقال الترمذي : حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن المنكدر ، وقد رواه أحمد أيضا من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن المنكدر عن أميمة به وزاد : ولم يصافح منا امرأة ، وكذا رواه ابن جرير من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر به.

ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر الرازي عن محمد بن المنكدر ، حدثتني أميمة بنت رقيقة وكانت أخت خديجة خالة فاطمة من فيها إلى فيّ فذكره.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سليط بن أيوب بن الحكم بن سليم عن أمه سلمى بنت قيس ، وكانت إحدى خالات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد صلت معه القبلتين ، وكانت إحدى نساء بني عدي بن النجار قالت : جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبايعه في نسوة من الأنصار ، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف قال : «ولا تغششن أزواجكن» قالت: فبايعناه ثم انصرفنا فقلت لامرأة منهن ارجعي فسلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما غش أزواجنا؟ قالت: فسألته فقال «تأخذ ماله فتحابي به غيره».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا عبد الرّحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب ، حدثني أبي عن أمه عائشة بنت قدامة يعني ابن مظعون قالت أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النسوة ويقول : «أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ولا تعصينني في معروف قالت : فأطرقن فقال لهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ـ قلن نعم ـ فيما استطعتن» فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي أي بنية نعم ، فيما استطعت فكنت أقول كما يقلن.

__________________

(١) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٠ ، باب ٣.

(٢) المسند ٦ / ٣٥٧.

(٣) أخرجه الترمذي في السير باب ٣٧ ، والنسائي في البيعة باب ١٨ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٤٣.

(٤) المسند ٦ / ٣٧٩ ، ٣٨٠ ، ٤٢٢ ، ٤٢٣.

(٥) المسند ٦ / ٣٦٥.

١٢٤

وقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت : بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ علينا (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها قالت : أسعدتني فلانة فأريد أن أجزيها ، فما قال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ، فانطلقت ورجعت فبايعها (١) ، ورواه مسلم. وفي رواية : فما وفي منهن امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان.

وللبخاري (٢) عن أم عطية قالت : أخذ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند البيعة أن لا ننوح ، فما وفت منا امرأة غير خمسة نسوة. أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ وامرأتان أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ وامرأة أخرى.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد ، كما قال البخاري (٣) : حدثنا محمد بن عبد الرّحيم ، حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني ابن جريج أن الحسن بن مسلم أخبره عن طاوس عن ابن عباس قال : شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد ، فنزل نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده ، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) حتى فرغ من الآية كلها ثم قال حين فرغ «أنتن على ذلك؟» فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله ، لا يدري الحسن من هي ، قال : فتصدقن ، قال : وبسط بلال ثوبه فجعلن يلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال.

وقال الإمام أحمد (٤) : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش عن سليمان بن سليم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاءت أميمة بنت رقيقة إلى رسول الله تبايعه على الإسلام فقال : «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفترينه بين يديك ورجليك ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى».

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا سفيان عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة بن الصامت قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجلس فقال : تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ـ قرأ الآية التي أخذت على النساء : (إِذا جاءَكَ

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٠ ، باب ٣ ، ومسلم في الجنائز حديث ٣٣.

(٢) كتاب الجنائز باب ٤٦.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٠ ، باب ٣.

(٤) المسند ٢ / ١٩٦.

(٥) المسند ٥ / ٣١٤.

١٢٥

الْمُؤْمِناتُ) ـ فمن وفي منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه» (١) أخرجاه في الصحيحين.

وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني ، عن أبي عبد الله عبد الرّحمن بن عسيلة الصنابحي عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأولى ، وكنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن يفرض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف ، وقال «فإن وفيتم فلكم الجنة» رواه ابن أبي حاتم.

وقد روى ابن جرير (٢) من طريق العوفي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال : «قل لهن إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا» وكانت هند بنت عتبة بن ربيعة التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء فقالت : إني إن أتكلم يعرفني وإن عرفني قتلني ، وإنما تنكرت فرقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسكت النسوة اللاتي مع هند وأبين أن يتكلمن فقالت هند وهي متنكرة : كيف تقبل من النساء شيئا لم تقبله من الرجال؟.

ففطن إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لعمر «قل لهن ولا يسرقن» قالت هند : والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا؟ قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها فدعاها فأخذت بيده فعاذت به فقال : «أنت هند؟» قالت : عفا الله عما سلف ، فصرف عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ولا يزنين» فقالت : يا رسول الله ، وهل تزني امرأة حرة؟ قال «لا والله ما تزني الحرة ـ قال ـ ولا يقتلن أولادهن» قالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر ، قال : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قال (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال : منعهن أن ينحن ، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ويخدشن الوجوه ويقطعن الشعور ، ويدعون بالويل والثبور. وهذا أثر غريب وفي بعضه نكارة والله أعلم ، فإن أبا سفيان وامرأته لما أسلما لم يكن رسول الله يخيفهما بل أظهر الصفاء والود لهما ، وكذلك كان الأمر من جانبه عليه‌السلام لهما.

وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الفتح ، بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرجال على الصفا ، وعمر بايع النساء تحتها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر بقيته كما تقدم وزاد : فلما قال : ولا تقتلن أولادكن. قالت هند : ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا ، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى. رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي حدثتني

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦٠ ، باب ٣ ، ومسلم في الحدود حديث ٤١.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٧٤.

١٢٦

غبطة بنت سليمان ، حدثتني عمتي عن جدتها عن عائشة قالت : جاءت هند بنت عتبة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتبايعه فنظر إلى يدها فقال «اذهبي فغيري يدك» فذهبت فغيرتها بحناء ثم جاءت فقال «أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئا» فبايعها وفي يدها سواران من ذهب ، فقالت : ما تقول في هذين السوارين؟ فقال «جمرتان من نار جهنم».

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال : بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء وفي يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال «ولا تقتلن أولادكن» فقالت امرأة : تقتل آباءهم وتوصينا بأولادهم؟ قال ، وكان بعد ذلك إذا جاء النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن ، فإذا أقررن رجعن ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ) أموال الناس الأجانب ، فأما إذا كان الزوج مقصرا في نفقتها فلها أن تأكل من ماله بالمعروف ما جرت به عادة أمثالها وإن كان من غير علمه عملا بحديث هند بنت عتبة أنها قالت : يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني ، فهل عليّ جناح إن أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك» (١) أخرجاه في الصحيحين.

وقوله تعالى : (وَلا يَزْنِينَ) كقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] وفي حديث سمرة : ذكر عقوبة الزناة بالعذاب الأليم في نار الجحيم. وقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : جاءت فاطمة بنت عتبة تبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ عليها (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ) الآية ، قالت : فوضعت يدها على رأسها حياء فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة: أقري أيتها المرأة فو الله ما بايعنا إلا على هذا ، قالت : فنعم إذا ، فبايعها بالآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل عن حصين عن عامر هو الشعبي قال : بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء وعلى يده ثوب قد وضعه على كفه ثم قال «ولا تقتلن أولادكن» فقالت امرأة : تقتل آباءهم وتوصي بأولادهم؟ قال : وكان بعد ذلك إذا جاءت النساء يبايعنه جمعهن فعرض عليهن فإذا أقررن رجعن. وقوله تعالى : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) وهذا يشمل قتله بعد وجوده كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه.

وقوله تعالى : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم وكذا قال مقاتل. ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأحكام باب ٢٨ ، ومسلم في الأقضية حديث ٧.

(٢) المسند ٦ / ١٥١.

١٢٧

داود (١) : حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب. حدثنا عمرو يعني ابن الحارث عن ابن الهاد عن عبد الله بن يونس عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين».

وقوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) يعني فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عنه من منكر. قال البخاري (٢) : حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا وهب بن جرير حدثنا أبي قال : سمعت الزبير عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء. وقال ميمون بن مهران : لم يجعل الله طاعة لنبيه إلا في المعروف والمعروف طاعة ، وقال ابن زيد : أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف. وقد قال غيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وسالم بن أبي الجعد وأبي صالح وغير واحد : نهاهن يومئذ عن النوح ، وقد تقدم حديث أم عطية في ذلك أيضا.

وقال ابن جرير (٣) : حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في هذه الآية ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذ عليهن النياحة ولا تحدثن الرجال إلا رجلا منكن محرما ، فقال عبد الرّحمن بن عوف : يا رسول الله إن لنا أضيافا وإنا نغيب عن نسائنا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس أولئك عنيت ، ليس أولئك عنيت» وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أخبرنا ابن أبي زائدة حدثني مبارك عن الحسن قال : كان فيما أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا تحدثن الرجال إلا أن تكون ذات محرم ، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه.

وقال ابن جرير (٤) : حدثنا ابن حميد حدثنا هارون عن عمرو عن عاصم عن ابن سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت : كان فيما اشترط علينا رسول الله من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح فقالت امرأة من بني فلان إن بني فلان أسعدوني فلا حتى أجزيهم ، فانطلقت فأسعدتهم ثم جاءت فبايعت ، قالت فما وفي منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنس بن مالك.

وقد روى البخاري هذا الحديث من طريق حفصة بنت سيرين عن أم عطية نسيبة الأنصارية رضي الله عنها. وقد روي نحوه من وجه آخر أيضا.

وقال ابن جرير (٥) حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا عمر بن فروخ القتات حدثني

__________________

(١) كتاب الطلاق باب ٢٩.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٦٠ ، باب ٦٣.

(٣) تفسير الطبري ١٢ / ٧٤.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٧٥.

(٥) تفسير الطبري ١٢ / ٧٥.

١٢٨

مصعب بن نوح الأنصاري قال : أدركت عجوزا لنا كانت فيمن بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت فأتيته لأبايعه فأخذ علينا فيما أخذ أن لا تنحن ، فقالت عجوز يا رسول الله إن أناسا قد كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني وإنهم قد أصابتهم مصيبة فأنا أريد أسعدهم قال : «فانطلقي فكافئيهم» فانطلقت فكافأتهم ثم إنها أتته فبايعته وقال هو المعروف الذي قال الله عزوجل : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا القعنبي حدثنا الحجاج بن صفوان عن أسيد بن أبي أسيد البراد عن امرأة من المبايعات قالت كان فيما أخذ علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجها ولا ننشر شعرا ولا نشق جيبا ولا ندعوا ويلا.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا محمد بن سنان القزاز حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إسحاق بن عثمان أبو يعقوب ، حدثني إسماعيل بن عبد الرّحمن بن عطية عن جدته أم عطية قالت : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمع نساء الأنصار في بيت ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقام على الباب وسلّم علينا فرددن أو فرددنا عليه‌السلام ، ثم قال أنا رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكن قالت فقلنا : مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله ، فقال : تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا ولا تسرقن ولا تزنين ، قالت : فقلنا نعم ، قالت فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال : اللهم اشهد ، قالت ، وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا ، ونهانا عن اتباع الجنائز قال إسماعيل فسألت جدتي عن قوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قالت : النياحة.

وفي الصحيحين من طريق الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» (٢) وفي الصحيحين أيضا عن أبي موسى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم برىء من الصالقة والحالقة والشاقة (٣). وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا هدبة بن خالد حدثنا أبان بن يزيد حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيدا حدثه أن أبا سلام حدثه أن أبا مالك الأشعري حدثه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت ـ وقال ـ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب» (٤).

ورواه مسلم في صحيحه منفردا به من حديث أبان بن يزيد العطار به وعن أبي سعيد أن

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٧٦.

(٢) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٦ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٥.

(٣) أخرجه البخاري في الجنائز باب ٣٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٨.

(٤) أخرجه مسلم في الجنائز حديث ٢٩.

١٢٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعن النائحة والمستمعة رواه أبو داود (١). وقال ابن جرير (٢) : حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن يزيد مولى الصهباء عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) قال النوح (٣) ، ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حميد عن أبي نعيم وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع كلاهما عن يزيد بن عبد الله الشيباني مولى الصهباء به وقال الترمذي حسن غريب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) (١٣)

ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة كما نهى عنها في أولها فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار ممن غضب الله عليه ولعنه واستحق من الله الطرد والإبعاد ، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء وقد يئسوا من الآخرة أي من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزوجل.

وقوله تعالى : (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) فيه قولان : أحدهما كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم الذين في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك لأنهم لا يعتقدون بعثا ولا نشورا ، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه. قال العوفي عن ابن عباس (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) إلى آخر السورة يعني من مات من الذين كفروا فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عزوجل ، وقال الحسن البصري (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال : الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات ، وقال قتادة : كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا وكذا قال الضحاك ، رواهن ابن جرير (٤).

والقول الثاني معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير ، قال الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) قال كما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه ، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل وابن زيد والكلبي ومنصور ، وهو اختيار ابن جرير رحمه‌الله.

آخر تفسير سورة الممتحنة ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) كتاب الجنائز باب ٢٥.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٧٥.

(٣) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٦ ، باب ٣ ، وابن ماجة في الجنائز باب ٥١.

(٤) تفسير الطبري ١٢ / ٧٦.

١٣٠

تفسير سورة الصف

وهي مدنية

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وعن عطاء بن يسار ، عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال تذاكرنا أيكم يأتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيسأله أي الأعمال أحب إلى الله ، فلم يقم أحد منا فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلينا رجلا ، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة يعني سورة الصف كلها ، هكذا رواه الإمام أحمد.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قراءة قال أخبرني أبي سمعت الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرّحمن حدثني عبد الله بن سلام أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عزوجل ، فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك ، قال فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم هذه السورة (سَبَّحَ لِلَّهِ) الصف. قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلها (٢).

قال أبو سلمة : وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها. قال يحيى بن أبي كثير : وقرأها علينا أبو سلمة كلها. قال الأوزاعي وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها ، قال أبي وقرأها علينا الأوزاعي كلها وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله عزوجل لعملناه فأنزل الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ).

قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال أبو سلمة فقرأها علينا ابن سلام ، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة ، قال ابن كثير فقرأها علينا الأوزاعي ، قال عبد الله فقرأها علينا ابن كثير. ثم قال الترمذي ، وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي ، فروى ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن سلام أو عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام ، قلت : وهكذا رواه الإمام

__________________

(١) المسند ٥ / ٤٥٢.

(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٦١ ، باب ١.

١٣١

أحمد عن يعمر عن ابن المبارك به ، قال الترمذي وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي نحو رواية محمد بن كثير.

قلت وكذا رواه الوليد بن يزيد عن الأوزاعي كما رواه ابن كثير ، قلت وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه ، وأنا أسمع ، أخبرنا أبو المنجا عبد الله بن عمر بن اللتي ، أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب السجزي قال: أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرّحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي ، أخبرنا عيسى بن عمر بن عمران السمرقندي. أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرّحمن الدارمي بجميع مسنده ، أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي فذكر بإسناده مثله ، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار ولم يقرأها لأنه كان أميا ، وضاق الوقت عن تلقينها إياه ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي رحمه‌الله ، أخبرنا القاضي تقي الدين بن سليمان ابن الشيخ أبي عمر ، أخبرنا أبو المنجا بن اللتي ، فذكره بإسناده وتسلسل لي من طريقه وقرأها علي بكمالها ولله الحمد والمنة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) (٤)

قد تقدم الكلام على قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) غير مرة بما أغنى عن إعادته. وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به ، ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا ، سواء ترتب عليه عزم للموعود أم لا ، واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف ، وإذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان» (١). وفي الحديث الآخر في الصحيح «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها» (٢) فذكر منهن إخلاف الوعد ، وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين

__________________

(١) أخرجه البخاري في الشهادات باب ٢٨ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧ ، ١٠٩ ، والترمذي في الإيمان باب ١٤.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٢.

١٣٢

في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ).

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : أتانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا صبي فذهبت لأخرج لألعب فقالت أمي : يا عبد الله تعال أعطك فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما أردت أن تعطيه؟» قالت : تمرا. فقال : «أما إنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة» (١) وذهب الإمام مالك رحمه‌الله تعالى إلى أنه إذا تعلق بالوعد غرم على الموعود وجب الوفاء به كما لو قال لغيره تزوج ولك علي كل يوم كذا فتزوج وجب عليه أن يعطيه ما دام كذلك ، لأنه تعلق به حق آدمي وهو مبني على المضايقة ، وذهب الجمهور إلى أنه لا يجب مطلقا ، وحملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [النساء : ٧٦ ـ ٧٧].

وقال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [محمد : ٢٠] الآية. وهكذا هذه الآية معناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون لوددنا أن الله عزوجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وهذا اختيار ابن جرير.

وقال مقاتل بن حيان : قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به ، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) فبين لهم فابتلوا يوم أحد بذلك ، فولوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدبرين فأنزل الله في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وقال : أحبكم إلي من قاتل في سبيلي.

ومنهم من يقول : أنزلت في شأن القتال ، يقول الرجل قاتلت ولم يقاتل وطعنت ولم يطعن وضربت ولم يضرب وصبرت ولم يصبر. وقال قتادة والضحاك : نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون قتلنا وضربنا وطعنا وفعلنا ، ولم يكونوا فعلوا ذلك. وقال ابن زيد : نزلت في قوم من

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٨٠ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٤٧.

١٣٣

المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك ، وقال مالك عن زيد بن أسلم (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) قال : في الجهاد.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) ـ إلى قوله ـ (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) فما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة قالوا في مجلس لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت فأنزل الله تعالى هذا فيهم ، فقال عبد الله بن رواحة لا أبرح حبيسا في سبيل الله حتى أموت ، فقتل شهيدا.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء ، حدثنا علي بن مسهر عن داود بن أبي هند ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي عن أبيه قال : بعث أبو موسى إلى قراء أهل البصرة ، فدخل عليه منهم ثلاثمائة رجل كلهم قد قرأ القرآن ، فقال أنتم قراء أهل البصرة وخيارهم. وقال كنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيناها غير أني قد حفظت منها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ولهذا قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) فهذا إخبار من الله تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا صفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى ، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله لتكون كلمة الله هي العليا ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان.

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا هشيم ، أخبرنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، والقوم إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال» ورواه ابن ماجة من حديث مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف به.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا الأسود يعني ابن شيبان حدثني يزيد بن عبد الله بن الشخير قال : قال مطرف كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته ، فقلت يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك فقد لقيت فهات ، فقلت كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة ، قال أجل فلا إخالني أكذب على خليلي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلت فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عزوجل؟ فقال : رجل غزا في سبيل الله خرج محتسبا مجاهدا فلقي العدو فقتل وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ثم قرأ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) وذكر الحديث هكذا أورد هذا الحديث من هذا الوجه بهذا السياق ، وهذا اللفظ واختصره ، وقد أخرجه الترمذي والنسائي من حديث شعبة عن منصور بن المعتمر

__________________

(١) المسند ٣ / ٨٠.

١٣٤

عن ربعي بن خراش عن زيد بن بيان عن أبي ذر بأبسط من هذا السياق وأتم ، وقد أوردناه في مواضع أخر ولله الحمد.

وعن كعب الأحبار أنه قال : يقول الله تعالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عبدي المتوكل المختار ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال ، وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر ، يوضون أطرافهم ويأتزرون على أنصافهم صفهم في القتال مثل صفهم في الصلاة» ثم قرأ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) رعاة الشمس يصلون الصلاة حيث وأدركتهم لو على ظهر دابة. رواه ابن أبي حاتم.

وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) قال: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم ، وهذا تعليم من الله للمؤمنين. قال وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) أي ملتصق بعضه في بعض من الصف في القتال ، وقال مقاتل بن حيان : ملتصق بعضه إلى بعض ، وقال ابن عباس (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض.

وقال قتادة (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه. فكذلك الله عزوجل لا يحب أن يختلف أمره وإن الله صف المؤمنين في قتالهم وصفهم في صلاتهم ، فعليكم بأمر الله فإنه عصمة لمن أخذ به ، أورد ذلك كله ابن أبي حاتم ، وقال ابن جرير (١) : حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، حدثنا بقية بن الوليد عن أبي بكر بن أبي مريم عن يحيى بن جابر الطائي عن أبي بحرية قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل ويستحبون القتال على الأرض لقول الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) قال : وكان أبو بحرية يقول : إذا رأيتموني ألتفت في الصف فجؤوا في لحيي.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٦)

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه‌السلام أنه قال لقومه : (لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أصابه من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ولهذا قال «رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٨٢.

١٣٥

فصبر» وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يوصلوا إليه أذى كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) [الأحزاب : ٦٩].

وقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به أزاغ الله قلوبهم عن الهدى وأسكنها الشك والحيرة والخذلان كما قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] وقال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥] ولهذا قال تعالى في هذه الآية (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ).

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) يعني التوراة قد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه ، وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد. فعيسى عليه‌السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشرا بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة.

وما أحسن ما أورد البخاري الحديث الذي قال فيه : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب» (١) ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه.

وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا المسعودي عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال : سمى لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه أسماء منها ما حفظنا فقال «أنا محمد وأنا أحمد والحاشر والمقفي ونبي الرحمة والتوبة والملحمة» (٢) ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به.

وقد قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ، وقال تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [آل عمران : ٨١] قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٦١ ، باب ١ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٢٤.

(٢) أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١٢٦.

١٣٦

وقال محمد بن إسحاق : حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبرنا عن نفسك قال : «دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام» (١) وهذا إسناد جيد وروي له شواهد من وجوه أخر ، فقال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرّحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض ابن سارية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت وكذلك أمهات النبيين يرين».

وقال أحمد (٣) أيضا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج بن فضالة ، حدثنا لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : قلت يا رسول الله ما كان بدء أمرك. قال «دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام».

وقال أحمد (٤) أيضا : حدثنا حسن بن موسى ، سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن مسعود قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا منهم عبد الله بن مسعود وجعفر وعبد الله بن رواحة ، وعثمان بن مظعون وأبو موسى ، فأتوا النجاشي وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ثم قالا له : إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا وعن ملتنا قال : فأين هم؟ قالا : هم في أرضك فابعث إليهم فبعث إليهم ، فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم ، فاتبعوه فسلم ولم يسجد فقالوا له : ما لك لا تسجد للملك. قال : إنا لا نسجد إلا لله عزوجل قال : وما ذاك؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله فأمرنا أن لا نسجد لأحد إلا لله عزوجل وأمرنا بالصلاة والزكاة.

قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم ، قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه. قالوا : نقول كما قال الله عزوجل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ولم يعترضها ولد ، قال : فرفع عودا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ، مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم انزلوا حيث شئتم ، والله لو لا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه ، وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما ، ثم تعجل عبد الله بن مسعود حتى أدرك بدرا ، وزعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استغفر

__________________

(١) سيرة ابن هشام ١ / ١٦٦.

(٢) المسند ٤ / ١٢٧.

(٣) المسند ٥ / ٢٦٢.

(٤) المسند ١ / ٤٦١.

١٣٧

له حين بلغه موته.

قد رويت هذه القصة عن جعفر وأم سلمة رضي الله عنهما وموضع ذلك كتاب السيرة والمقصد أن الأنبياء عليهم‌السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أممها وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث ، وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، وكذا على لسان عيسى ابن مريم ، ولهذا قالوا : أخبرنا عن بدء أمرك يعني في الأرض قال : «دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ابن مريم ورؤيا أمي التي رأت» أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك ، والإرهاص فذكره صلوات الله وسلامه عليه.

وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) قال ابن جريج وابن جرير (١) (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة. لما ظهر أمره وجاء بالبينات ، قال الكفرة والمخالفون (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ).

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٩)

يقول تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) أي : لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ويجعل له أندادا وشركاء وهو يدعي إلى التوحيد والإخلاص ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ثم قال تعالى : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل كذاك ذلك مستحيل ، ولهذا قال تعالى : (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وقد تقدم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه كفاية ، ولله الحمد والمنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١٣)

تقدم في حديث عبد الله بن سلام أن الصحابة رضي الله عنهم أرادوا أن يسألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عزوجل ليفعلوه ، فأنزل الله تعالى هذه السورة ومن جملتها هذه الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ثم فسر

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٨٢.

١٣٨

هذه التجارة العظيمة التي لا تبور ، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها ، ثم قال تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه غفرت لكم الزلات وأدخلتكم الجنات والمساكن الطيبات والدرجات العاليات ، ولهذا قال تعالى : (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ثم قال تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها وهي (نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه تكفل الله بنصركم ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) [محمد : ٧] وقال تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٤٠] وقوله تعالى : (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي عاجل ، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة لمن أطاع الله ورسوله ونصر الله ودينه ، ولهذا قال تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(١٤)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى حين قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي من معيني في الدعوة إلى الله عزوجل؟ (قالَ الْحَوارِيُّونَ) وهم أتباع عيسى عليه‌السلام (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي نحن أنصارك على ما أرسلت به وموازروك على ذلك ، ولهذا بعثهم دعاة إلى الناس في بلاد الشام في الإسرائيليين واليونانيين ، وهكذا كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في أيام الحج : «من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي» (١) حتى قيض الله عزوجل له الأوس والخزرج من أهل المدينة فبايعوه ووازروه ، وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم ، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه ، وفوا له بما عاهدوا الله عليه ، ولهذا سماهم الله ورسوله الأنصار وصار ذلك علما عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقوله تعالى : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي لما بلغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسّلام رسالة ربه إلى قومه وآزره من وازره من الحواريين ، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به وضلت طائفة ، فخرجت عما جاءهم به وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم ، وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ٣٢٢ ، ٣٣٩.

١٣٩

حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقا وشيعا فمن قائل منهم : إنه ابن الله ، وقائل إنه ثالث ثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، ومن قائل إنه الله ، وكل هذه الأقوال مفصلة في سورة النساء.

وقوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) أي عليهم ، وذلك ببعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير (١) رحمه‌الله : حدثني أبو السائب ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن المنهال يعني ابن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : لما أراد الله عزوجل أن يرفع عيسى إلى السماء خرج إلى أصحابه وهم في بيت اثنا عشر رجلا من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، قال : ثم قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ قال : فقام شاب من أحدثهم سنا فقال : أنا. فقال له : اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا ، فقال له : «اجلس» ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال أنا ، فقال : نعم أنت ذاك.

قال : فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى عليه‌السلام من روزنة في البيت إلى السماء قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا شبيهه فقتلوه وصلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمنوا به ، فتفرقوا فيه ثلاث فرق ، فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء اليعقوبية ، وقالت فرقة كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى والطائفة التي آمنت في زمن عيسى (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) بإظهار محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دينهم على دين الكفار.

هذا لفظه في كتابه عند تفسير هذه الآية الكريمة ، وهكذا رواه النسائي عند تفسير هذه الآية من سننه عن أبي كريب محمد بن العلاء عن أبي معاوية بمثله سواء.

فأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح عيسى ابن مريم عليه‌السلام كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح ، والله أعلم. آخر تفسير سورة الصف ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٨٦.

١٤٠