تفسير القرآن العظيم - ج ٨

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٨

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٢٠

خَصاصَةٌ) (١) وكذا رواه البخاري في موضع آخر ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن فضيل بن غزوان به نحوه وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح.

قال أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا داود بن قيس الفراء عن عبيد الله بن مقسم ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» انفرد بإخراجه مسلم (٣) فرواه عن القعنبي عن داود بن قيس به.

وقال الأعمش وشعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأقمر عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» (٤) ورواه أحمد وأبو داود من طريق شعبة والنسائي من طريق الأعمش ، كلاهما عن عمرو بن مرة به ، وقال الليث عن يزيد بن الهاد عن سهيل بن أبي صالح عن صفوان بن أبي يزيد عن القعقاع بن اللجلاج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» (٥).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبدة بن سليمان ، أخبرنا ابن المبارك ، حدثنا المسعودي عن جامع بن شداد عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرّحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال له عبد الله : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئا ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكره الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذاك البخل وبئس الشيء البخل.

وقال سفيان الثوري عن طارق بن عبد الرّحمن عن سعيد بن جبير عن أبي الهياج الأسدي

__________________

(١) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار باب ١٠ ، وتفسير سورة ٥٩ ، باب ٦ ، ومسلم من الأشربة حديث ١٧٢ ، والترمذي في تفسير سورة ٥٩ ، باب ٣.

(٢) المسند ٣ / ٣٢٣.

(٣) كتاب البر حديث ٥٦ ، ٥٧.

(٤) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٤٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠.

(٥) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب ٨ ، والنسائي في الجهاد باب ٨ ، وابن ماجة في الجهاد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٦ ، ٣٤٠ ، ٣٤٢ ، ٤٤١ ، ٥٠٥.

١٠١

قال : كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شح نفسي لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل ، وإذا الرجل عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنه. رواه ابن جرير (١).

وقال ابن جرير (٢) : حدثني محمد بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن عبد الرّحمن الدمشقي ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، حدثنا مجمع بن جارية الأنصاري عن عمه يزيد بن جارية عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «برىء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة».

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [التوبة : ١٠٠] فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة الداعون لهم في السر والعلانية ، ولهذا قال تعالى : في هذه الآية الكريمة (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ) أي قائلين (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) أي بغضا وحسدا (لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه‌الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب ، لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ).

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن عبد الرّحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) الآية. وقال إسماعيل ابن علية عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسببتموهم. سمعت نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها» ورواه البغوي ، وقال أبو داود : حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب عن الزهري قال : قال عمر رضي الله عنه (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) قال الزهري : قال عمر رضي الله عنه : هذه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة قرى عربية فدك وكذا فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ـ وللفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ (وَالَّذِينَ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤١.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٢.

١٠٢

جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) فاستوعبت هذه الآية الناس فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق. قال أيوب ـ أو قال حظّ ـ إلا بعض من تملكون من أرقائكم (١). كذا رواه أبو داود وفيه انقطاع.

وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور عن معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر بن الخطاب (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) ـ حتى بلغ ـ (عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١] الآية. ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) ـ حتى بلغ ـ (لِلْفُقَراءِ) ... (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة وليس أحد إلا له فيها حق ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق فيها جبينه.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ(١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧)

يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبي وأضرابه حين بعثوا إلى يهود بني النضير يعدونهم النصر من أنفسهم فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) قال الله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) أي لكاذبون فيما وعدوهم به إما لأنهم قالوا لهم قولا ، ومن نيتهم أن لا يفوا لهم به ، وإما لأنهم لا يقع منهم الذي قالوه ، ولهذا قال تعالى : (وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) أي لا يقاتلون معهم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي قاتلوا معهم (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) وهذه بشارة مستقلة بنفسها ، وقوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله كقوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) [النساء : ٧٧] ولهذا قال تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ثم قال تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) يعني أنهم من جبنهم

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الإمارة باب ١٩ ، والنسائي في الفيء باب ١٦.

١٠٣

وهلعهم لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام بالمبارزة والمقاتلة بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة.

ثم قال تعالى : (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي عداوتهم فيما بينهم شديدة ، كما قال تعالى: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام : ٦٥] ولهذا قال تعالى : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين وهم مختلفون غاية الاختلاف ، قال إبراهيم النخعي : يعني أهل الكتاب والمنافقين (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) ثم قال تعالى : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال مجاهد والسدي ومقاتل بن حيان : يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر ، وقال ابن عباس : (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني يهود بني قينقاع ، وكذا قال قتادة ومحمد بن إسحاق ، وهذا القول أشبه بالصواب فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أجلاهم قبل هذا.

وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذين وعدوهم النصر من المنافقين وقول المنافقين لهم (إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، ثم لما حقت الحقائق وجد بهم الحصار والقتال ، تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة ، مثالهم في هذا كمثل الشيطان إذ سول للإنسان ـ والعياذ بالله ـ الكفر ، فإذا دخل فيما سول له تبرأ منه وتنصل وقال (إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ). وقد ذكر بعضهم هاهنا قصة لبعض عباد بني إسرائيل هي كالمثال لهذا المثل ، لا أنها المرادة وحدها بالمثل ، بل هي منه مع غيرها من الوقائع المشاكلة لها.

فقال ابن جرير (١) : حدثنا خلاد بن أسلم أخبرنا النضر بن شميل أخبرنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الله بن نهيك قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول إن راهبا تعبد ستين سنة ، وإن الشيطان أراده فأعياه فعمد إلى امرأة فأجنها ، ولها إخوة فقال لإخوتها عليكم بهذا القس فيداويها ، قال فجاؤوا بها إليه فداواها وكانت عنده ، فبينما هو يوما عندها إذ أعجبته فأتاها فحملت ، فعمد إليها فقتلها فجاء إخوتها ، فقال الشيطان للراهب : أنا صاحبك إنك أعييتني أنا صنعت هذا بك فأطعني أنجك مما صنعت بك ، فاسجد لي سجدة ، فسجد له فلما سجد له قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ، فذلك قوله : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ).

وقال ابن جرير (٢) : حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثنا أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن عمارة عن عبد الرّحمن بن يزيد عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية (كَمَثَلِ

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧.

(٢) تفسير الطبري ١٢ / ٤٧.

١٠٤

الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) قال : كانت امرأة ترعى الغنم وكان لها أربعة إخوة ، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب ، قال فنزل الراهب ففجر بها فحملت ، فأتاه الشيطان فقال له اقتلها ثم ادفنها فإنك رجل مصدق يسمع قولك ، فقتلها ثم دفنها قال فأتى الشيطان إخوتها في المنام ، فقال لهم إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأختكم ، فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا ، فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا : لا بل قصها علينا.

قال فقصها فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك ، فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك ، فقالوا : فو الله ما هذا إلا لشيء قال فانطلقوا فاستعدوا ملكهم على ذلك الراهب ، فأتوه فأنزلوه ثم انطلقوا به فلقيه الشيطان ، فقال إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري ، فاسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه ، قال فسجد له ، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل. وكذا روي عن ابن عباس وطاوس ومقاتل بن حيان نحو ذلك ، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا فالله أعلم.

وهذه القصة مخالفة لقصة جريج العابد فإن جريجا اتهمته امرأة بغي بنفسها ، وادعت أن حملها منه ورفعت أمرها إلى ولي الأمر فأمر به فأنزل من صومعته وخربت صومعته وهو يقول ما لكم ما لكم؟ قالوا يا عدو الله فعلت بهذه المرأة كذا وكذا ، فقال جريج اصبروا ثم أخذ ابنها وهو صغير جدا ، ثم قال يا غلام من أبوك. قال أبي الراعي وكانت قد أمكنته من نفسها فحملت منه ، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك عظموه كلهم تعظيما بليغا وقالوا نعيد صومعتك من ذهب ، قال لا بل أعيدوها من طين كما كانت.

وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) أي فكان عاقبة الآمر بالكفر والفاعل له ومصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها (وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي جزاء كل ظالم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢٠)

قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر النهار ، قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر ، فتغير وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، قال : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة فصلى ثم خطب فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ـ إلى آخر الآية (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١] وقرأ الآية التي في الحشر (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ

١٠٥

لِغَدٍ) تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره ـ حتى قال ـ ولو بشق تمرة» قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (١) انفرد بإخراجه مسلم من حديث شعبة بإسناده مثله ، فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) أمر بتقواه وهو يشمل فعل ما به أمر وترك ما عنه زجر.

وقوله تعالى : (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم (وَاتَّقُوا اللهَ) تأكيد ثان (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم ، لا تخفى عليه منكم خافية ولا يغيب من أموركم جليل ولا حقير وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي لا تنسوا ذكر الله تعالى : فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ، ولهذا قال تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي الخارجون عن طاعة الله الهالكون يوم القيامة الخاسرون يوم معادهم ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [المنافقون : ٩].

وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ، حدثنا المغيرة ، حدثنا حريز بن عثمان عن نعيم بن نمحة قال : كان في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ، فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله عزوجل فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزوجل ، إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزوجل أن تكونوا أمثالهم (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم وخلوا بالشقوة والسعادة ، وأين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستنصحوا بكتابه وتبيانه ، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) [الأنبياء : ٩٠] لا خير في قول لا يراد به وجه الله ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٧٠ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٥٨ ، ٣٦١.

١٠٦

لائم. هذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات ، وشيخ حريز بن عثمان وهو نعيم بن نمحة لا أعرفه بنفي ولا إثبات ، غير أن أبا داود السجستاني قد حكم بأن شيوخ حريز كلهم ثقات ، وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر والله أعلم.

وقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة ، كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١] وقال تعالى : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) [غافر : ٥٨] وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨]. في آيات أخر دالات على أن الله تعالى يكرم الأبرار ويهين الفجار ، ولهذا قال تعالى هاهنا : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) أي الناجون المسلمون من عذاب الله عزوجل.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٤)

يقول تعالى معظما لأمر القرآن ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه ، لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عزوجل ، فكيف يليق بكم أيها البشر أن لا تلين قلوبكم وتخشع وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) إلى آخرها يقول لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته إياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله ، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع ، ثم قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وكذا قال قتادة وابن جرير.

وقد ثبت في الحديث المتواتر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما عمل له المنبر ، وقد كان يوم الخطبة يقف إلى جانب جذع من جذوع المسجد ، فلما وضع المنبر أول ما وضع وجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخطب فجاوز الجذع إلى نحو المنبر ، فعند ذلك حن الجذع وجعل يئن كما يئن الصبي الذي

١٠٧

يسكنّ لما كان يسمع من الذكر والوحي عنده ، ففي بعض روايات هذا الحديث قال الحسن البصري بعد إيراده : فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجذع وهكذا هذه الآية الكريمة إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١] الآية. وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن ، وقد قال تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [البقرة : ٧٤].

ثم قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات.

وقوله تعالى : (هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) قد تقدم الكلام على ذلك في أول التفسير بما أغنى عن إعادته هاهنا ، والمراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، وقد قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] وقال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ٥٤] وقال تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس : ٥٨] ثم قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ) أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة. وقوله تعالى : (الْقُدُّوسُ) قال وهب بن منبه أي الطاهر. وقال مجاهد وقتادة أي المبارك وقال ابن جريج تقدسه الملائكة الكرام (السَّلامُ) أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله.

وقوله تعالى : (الْمُؤْمِنُ) قال الضحاك عن ابن عباس : أي أمن خلقه من أن يظلمهم. وقال قتادة : أمن بقوله أنه حق. وقال ابن زيد : صدق عباده المؤمنين في إيمانهم به. وقوله تعالى : (الْمُهَيْمِنُ) قال ابن عباس وغير واحد : أي الشاهد على خلقه بأعمالهم بمعنى هو رقيب عليهم كقوله (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [البروج : ٩] وقوله (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) [يونس : ٤٦] وقوله (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] الآية.

وقوله تعالى : (الْعَزِيزُ) أي الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه ، ولهذا قال تعالى : (الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) أي الذي لا تليق الجبرية إلا له ولا التكبر إلا لعظمته ، كما تقدم في الصحيح «العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته» (١) وقال قتادة : الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء. وقال ابن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في اللباس باب ٢٦ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٨ ، ـ

١٠٨

جرير : الجبار المصلح أمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم. وقال قتادة : المتكبر يعني عن كل سوء ثم قال تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) الخلق التقدير والبرء هو الفري ، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود وليس كل من قدر شيئا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزوجل. قال الشاعر يمدح آخر : [الكامل]

ولأنت تفري ما خلقت وبعض

القوم يخلق ثم لا يفري (١)

أي أنت تنفذ ما خلقت أي قدرت ، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد ، فالخلق التقدير والفري التنفيذ ، ومنه يقال قدر الجلاد ثم فرى أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده. وقوله تعالى : (الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) أي الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد ، والصورة التي يختار كقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) ولهذا قال (الْمُصَوِّرُ) أي الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها.

وقوله تعالى : (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف. ونذكر الحديث المروي في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر» (٢) وتقدم سياق الترمذي وابن ماجة له عن أبي هريرة أيضا وزاد بعد قوله : «وهو وتر يحب الوتر». واللفظ للترمذي : «هو الله الذي لا إله إلا هو الرّحمن ، الرّحيم ، الملك ، القدوس ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ،

__________________

ـ ٣٧٦ ، ٤١٤ ، ٤٢٧ ، ٤٤٢.

(١) البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص ٩٤ ، ولسان العرب (خلق) ، (فرا) ، وتهذيب اللغة ٧ / ٢٦ ، ١٥ / ٢٤٢ ، ومقاييس اللغة ٢ / ٢١٤ ، ٤ / ٤٩٧ ، وديوان الأدب ٢ / ١٢٣ ، وكتاب الجيم ٣ / ٤٩ ، والمخصص ٤ / ١١١ ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٦١٩ ، وتابع العروس (فرا)

(٢) أخرجه البخاري في الدعوات باب ٦٩ ، ومسلم في الذكر حديث ٥ ، ٦ وأبو داود في الوتر باب ١ ، والترمذي في الوتر باب ٢ ، والنسائي في قيام الليل باب ٢٧ ، وابن ماجة في الإقامة باب ١١٤.

١٠٩

الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور». وسياق ابن ماجة بزيادة ونقصان وتقديم وتأخير وقد قدمنا ذلك مبسوطا مطولا بطرقه وألفاظه بما أغنى عن إعادته هاهنا.

وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) كقوله تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [الإسراء : ٤٤] وقوله تعالى : (وَهُوَ الْعَزِيزُ) أي فلا يرام جنابه (الْحَكِيمُ) في شرعه وقدره ، وقد قال الإمام أحمد (١) : حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا خالد يعني ابن طهمان أبو العلاء الخفاف حدثنا نافع بن أبي نافع ، عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» ورواه الترمذي (٢) عن محمود بن غيلان عن أبي أحمد الزبيري به. وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. آخر تفسير سورة الحشر ، ولله الحمد والمنة.

__________________

(١) المسند ٥ / ٢٦.

(٢) كتاب ثواب القرآن باب ٢٢.

١١٠

تفسير سورة الممتحنة

وهي مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣)

كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن حاطبا هذا كان رجلا من المهاجرين ، وكان من أهل بدر أيضا ، وكان له بمكة أولاد ومال ولم يكن من قريش أنفسهم ، بل كان حليفا لعثمان ، فلما عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فتح مكة لما نقض أهلها العهد ، فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال «اللهم عم عليهم خبرنا» فعمد حاطب هذا فكتب كتابا وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة ، يعلمهم بما عزم عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوهم ، ليتخذ بذلك عندهم يدا فأطلع الله تعالى على ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استجابة لدعائه ، فبعث في أثر المرأة فأخذ الكتاب منها ، وهذا بين في هذا الحديث المتفق على صحته.

قال الإمام أحمد (١) : حدثنا سفيان عن عمرو ، أخبرني حسن بن محمد بن علي ، أخبرني عبيد الله بن أبي رافع وقال مرة إن عبيد الله بن أبي رافع أخبره أنه سمع عليا رضي الله عنه يقول : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ (٢) فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة (٣) قلنا أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب ، قال : فأخرجت الكتاب من عقاصها (٤) ، فأخذنا الكتاب فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة ، يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

__________________

(١) المسند ١ / ٧٩ ، ٨٠.

(٢) روضة خاخ : موضع على اثني عشر ميلا من المدينة.

(٣) الظعينة : المرأة.

(٤) العقاص : الذوائب المضفورة.

١١١

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا حاطب ما هذا؟» قال : لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسهم ، وكان من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم ، أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه صدقكم».

فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر ، فقال : «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (١) وهكذا أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة من غير وجه عن سفيان بن عيينة به ، وزاد البخاري في كتاب المغازي : فأنزل الله السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) وقال في كتاب التفسير : قال عمرو ونزلت فيه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) وقال لا أدري الآية في الحديث أو قال عمرو. قال البخاري قال علي يعني ابن المديني قيل لسفيان في هذا نزلت (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) فقال سفيان : هذا في حديث الناس حفظته من عمرو ، ما تركت منه حرفا ولا أدري أحدا حفظه غيري.

وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث حصين بن عبد الرّحمن عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرّحمن السلمي عن علي قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا مرثد والزبير بن العوام وكلنا فارس ، وقال انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها امرأة من المشركين معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين ، فأدركناها تسير على بعير لها حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا : الكتاب؟ فقالت : ما معي كتاب ، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا ، فقلنا ما كذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لتخرجن الكتاب أو لنجردنك فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها وهي محتجزة بكساء فأخرجته ، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال عمر : يا رسول الله قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حملك على ما صنعت؟» قال حاطب : والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هنالك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله ، فقال : «صدق لا تقولوا له إلا خيرا».

فقال عمر : إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه ، فقال : «أليس من أهل بدر؟ ـ فقال ـ لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو قد غفرت لكم ـ» فدمعت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم ، هذا لفظ البخاري في المغازي في غزوة بدر ، وقد روي من وجه آخر عن علي قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٩ ، ٤٦ ، وتفسير سورة ٦٠ ، باب ١ ، ومسلم في فضائل الصحابة حديث ١٦١ ، وأبو داود في الجهاد باب ٩٨ ، والترمذي في تفسير سورة ٦٠ ، باب ١ ، والدارمي في الرقاق باب ٤٨.

١١٢

الحسن الهسنجاني ، حدثنا عبيد بن يعيش ، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي عن أبي سنان هو سعيد بن سنان عن عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري الطائي ، عن الحارث عن علي قال : لما ذا أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي مكة أسر إلى أناس من أصحابه أنه يريد مكة منهم حاطب بن أبي بلتعة ، وأفشى في الناس أنه يريد خيبر ، قال : فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال فبعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا مرثد وليس منا رجل إلا وعنده فرس فقال : «ائتوا روضة خاخ فإنكم ستلقون بها امرأة معها كتاب فخذوه منها».

فانطلقنا حتى رأيناها بالمكان الذي ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلنا لها هات الكتاب فقالت ما معي كتاب ، فوضعنا متاعها وفتشناها فلم نجده في متاعها ، فقال أبو مرثد لعله أن لا يكون معها ، فقلت ما كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كذبنا فقلنا لها لتخرجنه أو لنعرينك. فقالت أما تتقون الله!ألستم مسلمين! فقلنا لتخرجنه أو لنعرينك. قال عمرو بن مرة. فأخرجته من حجزتها. وقال حبيب بن أبي ثابت : أخرجته من قبلها ، فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا الكتاب من حاطب بن أبي بلتعة ، فقام عمر فقال يا رسول الله خان الله ورسوله فائذن لي فلأضرب عنقه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أليس قد شهد بدرا؟ قالوا : بلى ، وقال عمر : بلى ولكنه قد نكث وظاهر أعداءك عليك ، فقال يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم إني بما تعملون بصير» ففاضت عينا عمر وقال : الله ورسوله أعلم فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حاطب فقال : «يا حاطب ما حملك على ما صنعت؟» فقال : يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ، وكان لي بها مال وأهل ولم يكن من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع أهله وماله ، فكتبت بذلك إليهم والله يا رسول الله إني لمؤمن بالله ورسوله ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق حاطب فلا تقولوا لحاطب إلا خيرا» قال حبيب بن أبي ثابت : فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) الآية. وهكذا رواه ابن جرير (١) عن ابن حميد عن مهران ، عن أبي سنان سعيد بن سنان بإسناده مثله.

وقد ذكر ذلك أصحاب المغازي والسير فقال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة (٢) : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا قال : لما أجمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر في السير إليهم ثم أعطاه امرأة ، زعم محمد بن جعفر أنها من مزينة ، وزعم غيره أنها سارة مولاة لبني عبد المطلب وجعل لها جعلا على أن تبلغه لقريش ، فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من السماء

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٥٧.

(٢) سيرة ابن هشام ٢ / ٣٩٨ ، ٣٩٩ ، وتفسير الطبري ١٢ / ٥٧ ، ٥٨.

١١٣

بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فقال : «أدركا امرأة قد كتب معها حاطب كتابا إلى قريش يحذرهم ما قد أجمعنا له من أمرهم».

فخرجا حتى أدركاها بالخليفة ، خليفة بني أبي أحمد ، فاستنزلاها بالحليفة فالتمسا في رحلها فلم يجدا شيئا ، فقال لها علي بن أبي طالب : إني أحلف بالله ما كذب رسول الله وما كذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه قالت : أعرض ، فأعرض فحلت قرون رأسها فاستخرجت الكتاب منها فدفعته إليه ، فأتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا فقال : «يا حاطب ما حملك على هذا؟ فقال : يا رسول الله أما والله إني لمؤمن بالله وبرسوله ما غيرت ولا بدلت ولكني كنت امرأ ليس لي في القوم من أهل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليهم ، فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك يا عمر؟ لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر فقال «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».

فأنزل الله عزوجل في حاطب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) ـ إلى قوله ـ (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) إلى آخر القصة.

وروى معمر عن الزهري عن عروة نحو ذلك ، وهكذا ذكر مقاتل بن حيان أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة أنه بعث سارة مولاة بني هاشم ، وأنه أعطاها عشرة دراهم ، وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث في أثرها عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما فأدركاها بالجحفة وذكر تمام القصة كنحو ما تقدم ، وعن السدي قريبا منه ، وهكذا قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزلت في حاطب بن أبي بلتعة.

فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) يعني المشركين والكفار الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة : ٥١] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٥٧] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً)؟ [النساء : ١٤٤] وقال تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨] ولهذا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عذر حاطب ، لما

١١٤

ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد.

ويذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا مصعب بن سلام ، حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن خراش سمعت حذيفة يقول : ضرب لنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمثالا واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر ، قال فضرب لنا منها مثلا وترك سائرها قال : «إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداء فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم ، فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه» وقوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ، ولهذا قال تعالى : (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله رب العالمين كقوله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج : ٨] وكقوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الحج : ٤٠].

وقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء ، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي باغين لمرضاتي عنكم ، فلا توالوا أعدائي وأعداءكم وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم حنقا عليكم وسخطا لدينكم. وقوله تعالى : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ) أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيرا فهم عداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضا.

وقوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله إذا أراد الله بكم سوءا ، ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم فقد خاب وخسر وضل عمله ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد ، ولو كان قريبا إلى نبي من الأنبياء. قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد عن ثابت عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي؟ قال «في النار» فلما قفّى دعاه فقال «إن أبي وأباك في النار» (٣) ورواه مسلم وأبو داود من حديث حماد بن سلمة به.

__________________

(١). ٥ / ٤٠٧.

(٢) المسند ٣ / ١١٩.

(٣) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٣٤٧ ، وأبو داود في السنة باب ١٧.

١١٥

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٦)

يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين وعداوتهم ومجانبتهم والتبري منهم : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) أي وأتباعه الذين آمنوا معه (إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) أي تبرأنا منكم (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ) أي بدينكم وطريقكم (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء من الآن بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم فنحن أبدا نتبرأ منكم ونبغضكم (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد.

وقوله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة تتأسون بها إلا في استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ويقولون إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله عزوجل (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٣ ـ ١١٤].

وقال تعالى في هذه الآية : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) ـ إلى قوله ـ (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين هكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومقاتل بن حيان والضحاك وغير واحد.

ثم قال تعالى مخبرا عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرؤوا منهم ، فلجؤوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك وإليك المصير أي المعاد في الدار الآخرة (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) قال مجاهد : معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا ، وكذا قال الضحاك ، وقال قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه ، واختاره ابن جرير ، وقال

١١٦

علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا.

وقوله تعالى : (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي واستر ذنوبنا عن غيرك واعف عنها فيما بيننا وبينك (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك (الْحَكِيمُ) في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ثم قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب : ٢١] وهذا تأكيد لما تقدم ومستثنى منه ما تقدم أيضا لأن هذه الأسوة المثبتة هاهنا هي الأولى بعينها ، وقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي عما أمر الله به (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) كقوله تعالى : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) [إبراهيم : ٨] وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الغني الذي قد كمل في غناه وهو الله ، هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شيء سبحان الله الواحد القهار الحميد المستحمد إلى خلقه أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله لا إله غيره ولا رب سواه.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(٩)

يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي محبة بعد البغضة ومودة بعد النفرة وألفة بعد الفرقة (وَاللهُ قَدِيرٌ) أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمتباينة والمختلفة فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة فتصبح مجتمعة متفقة ، كما قال تعالى ممتنا على الأنصار (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] الآية.

وكذا قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟» (١) وقال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [الأنفال : ٦٣] وفي الحديث «أحبب حبيبك هونا ما فعسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا ما فعسى أن يكون حبيبك يوما ما» (٢)

__________________

(١) أخرجه البخاري في المغازي باب ٥٦ ، ومسلم في الزكاة حديث ١٣٩ ، وأحمد في المسند ٣ / ٥٧ ، ٧٦ ، ١٠٤ ، ٢٥٣ ، ٤ / ٤٢.

(٢) أخرجه الترمذي في البر باب ٦٠.

١١٧

وقال الشاعر : [الطويل]

وقد يجمع الله الشتيتين بعد ما

يظنّان كل الظنّ أن لا تلاقيا (١)

وقوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي يغفر للكافرين كفرهم إذا تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له ، وهو الغفور الرّحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان.

وقد قال مقاتل بن حيان : إن هذه الآية نزلت في أبي سفيان صخر بن حرب ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ابنته ، فكانت هذه مودة ما بينه وبينه ، وفي هذا الذي قاله مقاتل نظر ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان قبل الفتح ، وأبو سفيان إنما أسلم ليلة الفتح بلا خلاف ، وأحسن من هذا ما رواه ابن أبي حاتم حيث قال : قرئ على محمد بن عزيز ، حدثني سلامة ، حدثني عقيل ، حدثني ابن شهاب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل فلقي ذا الخمار مرتدا فقاتله ، فكان أول من قاتل في الردة وجاهد عن الدين ، قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل الله فيه (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) الآية. وفي صحيح مسلم (٢) عن ابن عباس أن أبا سفيان قال : يا رسول الله ثلاث أعطنيهن قال : «نعم» قال : تأمرني أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين ، قال : «نعم» قال : ومعاوية تجعله كاتبا بين يديك ، قال : «نعم» قال : وعندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجكها ـ الحديث ـ وقد تقدم الكلام عليه.

وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي يعاونوا على إخراجكم أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة الذين لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم (أَنْ تَبَرُّوهُمْ) أي تحسنوا إليهم (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي تعدلوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية حدثنا هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال : «نعم صلي أمك» (٣) أخرجاه.

__________________

(١) البيت للمجنون في ديوانه ص ٢٤٣ ، وشرح التصريح ١ / ٣٢٨ ، والمقاصد النحوية ٣ / ٤٢ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٢ / ٢١٣ ، والخصائص ٢ / ٤٤٨ ، وشرح الأشموني ١ / ٢١٠ ، ولسان العرب (شتت)

(٢) كتاب فضائل الصحابة حديث ١٦٨.

(٣) أخرجه البخاري في الهبة باب ٢٩ ، والجزية باب ١٨ ، والأدب باب ٨ ، ومسلم في الزكاة حديث ٥٠ ، وأبو داود في الزكاة باب ٣٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٤٤ ، ٣٤٧ ، ٣٥٥.

١١٨

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال : قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا صناب وأقط وسمن وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. فسألت عائشة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) إلى آخر الآية. فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها.

وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث مصعب بن ثابت به ، وفي رواية لأحمد ولابن جرير قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد من بني مالك بن حسل ، وزاد ابن أبي حاتم في المدة التي كانت بين قريش ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار : حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن الزهري عن عروة عن عائشة وأسماء أنهما قالتا : قدمت علينا أمنا المدينة وهي مشركة في الهدنة التي كانت بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش فقلنا يا رسول الله إن أمنا قدمت علينا المدينة وهي راغبة أفنصلها؟ قال : «نعم فصلاها؟» ثم قال : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن الزهري عن عروة عن عائشة إلا من هذا الوجه.

(قلت) : وهو منكر بهذا السياق لأن أم عائشة هي أم رومان وكانت مسلمة مهاجرة وأم أسماء غيرها كما هو مصرح باسمها في هذه الأحاديث المتقدمة والله أعلم. وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) قد تقدم تفسير ذلك في سورة الحجرات وأورد الحديث الصحيح «المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا» (٢).

وقوله تعالى : (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم ينهاكم الله عزوجل عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم ، ثم أكد الوعيد على موالاتهم فقال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٥١].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا

__________________

(١) المسند ٤ / ٤.

(٢) أخرجه مسلم في الإمارة حديث ١٨ ، والنسائي في آداب القضاة باب ١ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠.

١١٩

آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ)(١١)

تقدم في سورة الفتح في ذكر صلح الحديبية الذي وقع بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفار قريش فكان فيه : على أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وفي رواية : على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وهذا قول عروة والضحاك وعبد الرّحمن بن زيد والزهري ومقاتل بن حيان والسدي ، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصصة للسنة ، وهذا من أحسن أمثلة ذلك وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله عزوجل أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن.

وقد ذكرنا في ترجمة عبد الله بن أبي أحمد بن جحش من المسند الكبير من طريق أبي بكر بن أبي عاصم عن محمد بن يحيى الذهلي عن يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن عمران عن مجمع بن يعقوب عن حنين بن أبي لبانة عن عبد الله بن أبي أحمد قال : هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط في الهجرة فخرج أخواها عمارة والوليد حتى قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلماه فيها أن يردها إليهما فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آيات الامتحان.

قال ابن جرير (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير عن قيس بن الربيع عن الأغر بن الصباح عن خليفة بن حصين عن أبي نصر الأسدي قال سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النساء ، قال : كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ولرسوله ، ثم رواه من وجه آخر عن الأغر بن الصباح به ، وكذا رواه البزار من طريقه وذكر فيه أن الذي كان يحلفهن عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم له عمر بن الخطاب ، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) وكان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله ، وقال مجاهد : (فَامْتَحِنُوهُنَ) فاسألوهن عما جاء بهن ، فإذا كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمن فأرجعوهن إلى أزواجهن ، وقال عكرمة : يقال لها ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ولا فرار من زوجك فذلك قوله : (فَامْتَحِنُوهُنَ) وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز وما أخرجكن إلا حب الإسلام وأهله وحرص عليه ، فإذا

__________________

(١) تفسير الطبري ١٢ / ٦٤.

١٢٠