تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

ويتعقلوها ، لعلهم يعقلون.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦٢)

وهذا أيضا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه ، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول ، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك ، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته وإن من يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين ، ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء ، ولهذا قال (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ) الآية.

وقد قال أبو داود : حدثنا أحمد بن حنبل ومسدد قالا : حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة» (١) وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به. وقال الترمذي : حديث حسن.

(لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٦٣)

قال الضحاك عن ابن عباس : كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عزوجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : فقولوا يا نبي الله ، يا رسول الله ، وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود. وقال مقاتل في قوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) يقول : لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله ، ولكن شرفوه فقولوا : يا نبي الله يا رسول الله.

وقال مالك عن زيد بن أسلم في قوله (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) قال : أمرهم الله أن يشرفوه ، هذا قول ، وهو الظاهر من السياق ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤] إلى آخر الآية. وقوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ـ إلى قوله ـ إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الأدب با ١٣٩ ، والترمذي في الاستئذان باب ١٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٠ ، ٢٨٧ ، ٤٣٩.

٨١

صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [الحجرات : ٤ ـ ٥] الآية ، فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته. والقول الثاني في ذلك أن المعنى في (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) اي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا ، حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي ، والله أعلم.

وقوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قال مقاتل بن حيان : هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة ، ويعني بالحديث الخطبة ، فيلوذون ببعض أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يخرجوا من المسجد ، وكان لا يصلح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في يوم الجمعة بعد ما يأخذ في الخطبة ، وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بإصبعه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل ، لأن الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب بطلت جمعته. وقال السدي : كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم ، وقال قتادة في قوله (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) يعني لواذا عن نبي الله وعن كتابه. وقال سفيان (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) قال : من الصف ، وقال مجاهد في الآية (لِواذاً) خلافا.

وقوله (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي عن أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته ، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله ، فما وافق ذلك قبل ، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (١) أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا. (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة (أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك. كما روى الإمام أحمد (٢) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن همام بن منبه ، قال : هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويقتحمن فيها ـ قال ـ فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار ، فتغلبوني وتقتحمون فيها» (٣) أخرجاه من حديث عبد الرزاق.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتصام باب ٢٠ ، والبيوع باب ٦٠ ، والصلح باب ٥ ، ومسلم في الأقضية حديث ١٧ ، ١٨ ، وأبو داود في السنة باب ٥ ، وابن ماجة في المقدمة باب ٢. وأحمد في المسند ٦ / ١٤٦.

(٢) المسند ٢ / ٣١٢.

(٣) أخرجه البخاري في الأنبياء باب ٤٠ ، والرقاق باب ٢٦ ، ومسلم في الفضائل حديث ١٧ ، ١٨ ، ١٩ ، والترمذي في الأدب باب ٨٢.

٨٢

(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ، وأنه عالم الغيب والشهادة ، وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم ، فقال (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) وقد للتحقيق ، كما قال قبلها (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) وقال تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) [الأحزاب : ١٨] الآية ، وقال تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ) [المجادلة : ١] الآية ، وقال (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣] وقال (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) [البقرة : ١٤٤] الآية ، فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد ، كقول المؤذن تحقيقا وثبوتا : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة. فقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة.

كما قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ـ إلى قوله ـ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [السجدة : ٢١٧ ـ ٢٢٠] وقوله (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [يونس : ٦١] وقال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر.

وقال تعالى : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) [هود : ٥] وقال تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) [الرعد : ١٠] الآية ، وقال تعالى: (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [هود : ٦] وقال (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [الأنعام : ٥٩] والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا.

وقوله (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ) أي ويوم ترجع الخلائق إلى الله وهو يوم القيامة (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير ، كما قال تعالى : (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة : ١٣] وقال (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ولهذا قال هاهنا (وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام.

آخر تفسير سورة النور ولله الحمد والمنة.

٨٣

سورة الفرقان

وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢)

يقول تعالى حامدا لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ، كما قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) [الكهف : ١ ـ ٢] الآية ، وقال هاهنا (تَبارَكَ) وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة (الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) نزل فعل من التكرر والتكثر كقوله (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) [النساء : ١٣٦] لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن نزل منجما مفرقا مفصلا آيات بعد آيات ، وأحكاما بعد أحكام ، وسورا بعد سور ، وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه ، كما قال في أثناء هذه السورة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) [الفرقان : ٣٢] ولهذا سماه هاهنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال ، والغي والرشاد والحلال والحرام.

وقوله (عَلى عَبْدِهِ) هذه صفة مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته ، كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء ، فقال (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) [الإسراء : ١] وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) [الجن : ١٩] وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه ، فقال (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً). وقوله (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] الذي جعله فرقانا عظيما إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء.

كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بعثت إلى الأحمر والأسود» (١) وقال «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من

__________________

(١) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٣ ، والدارمي في السير باب ٢٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٥٠ ، ٣٠١ ، ـ

٨٤

الأنبياء قبلي» فذكر منهن أنه «كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» (١) كما قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف : ١٥٨] الآية ، أي الذي أرسلني هو مالك السموات والأرض الذي يقول للشيء كن فيكون وهو الذي يحيي ويميت ، وهكذا قال هاهنا (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك. ثم أخبر أنه (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣)

يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق لكل شيء ، المالك لأزمة الأمور ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة ، بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، فكيف يملكون لعابديهم؟ (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزوجل الذي هو يحيي ويميت ، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان : ٢٨] كقوله (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] وقوله (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣ ـ ١٤] (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) [الصافات : ١٩] (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) [يس : ٥٣] فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، ولا تنبغي العبادة إلا له لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وهو الذي لا ولد ولا والد له ولا عديل ولا نديد ، ولا وزير ولا نظير ، بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٦)

يقول تعالى مخبرا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ) أي كذب (افْتَراهُ) يعنون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) أي واستعان على جمعه

__________________

ـ ٤ / ٤١٦ ، ٥ / ١٤٥ ، ١٤٨ ، ١٦٢.

(١) أخرجه البخاري في التيمم باب ١ ، والصلاة باب ٥٦ ، والغسل باب ٢٦.

٨٥

بقوم آخرين ، فقال الله تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) أي فقد افتروا هم قولا باطلا ، وهم يعلمون أنه باطل ، ويعرفون كذب أنفسهم فيما يزعمون (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها) يعنون كتب الأوائل أي استنسخها (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ) أي تقرأ عليه (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي في أول النهار وآخره.

وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه ، فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة أن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعاني شيئا من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره ، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته وبعده عن الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره وإلى أن بعث الأمين ، لما يعلمون من صدقه وبره ، فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها ، وحاروا فيما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون ساحر ، وتارة يقولون شاعر ، وتارة يقولون مجنون ، وتارة يقولون كذاب ، وقال الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ١٨] وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية ، أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين إخبارا حقا صدقا مطابقا للواقع في الخارج ماضيا ومستقبلا (الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي الله الذي يعلم غيب السموات والأرض ، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر.

وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) دعاء لهم إلى التوبة والإنابة وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم وأن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة : ٧٣ ـ ٧٤] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) [البروج : ١٠] قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ

٨٦

قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤)

يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم ، وإنما تعللوا بقولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج إليه (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) أي يتردد فيها وإليها طلبا للتكسب والتجارة (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) يقولون : هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهدا على صدق ما يدعيه ، وهذا كما قال فرعون (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف : ٥٣] وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم ، ولهذا قالوا (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ) أي علم كنز ينفق منه (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي تسير معه حيث سار ، وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

قال الله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر ، وكلها أقوال باطلة ، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ، ولهذا قال (فَضَلُّوا) عن طريق الهدى (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى ، فإنه ضال حيثما توجه ، لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضا.

ثم قال تعالى مخبرا نبيه أنه إن شاء لآتاه خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن ، فقال (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) الآية ، قال مجاهد : يعني في الدنيا ، قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا كبيرا كان أو صغيرا (١) ، قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة : قيل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيا قبلك ، ولا نعطي أحدا من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله ، فقال «اجمعوها لي في الآخرة» فأنزل الله عزوجل في ذلك (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) (٢) الآية.

وقوله (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيبا وعنادا لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال (وَأَعْتَدْنا) أي أرصدنا (لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) أي عذابا أليما حارا لا يطاق في نار

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٦٩.

(٢) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٦٩.

٨٧

جهنم. قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير (السعير) واد من قيح جهنم. وقوله (إِذا رَأَتْهُمْ) أي جهنم (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يعني في مقام المحشر. قال السدي : من مسيرة مائة عام (سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) أي حنقا عليهم ، كما قال تعالى : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي يكاد ينفصل بعضها عن بعض من شدة غيظها على من كفر بالله.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا إدريس بن حاتم بن الأحنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير ، عن خالد بن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قال رسول الله : «من يقل علي ما لم أقل ، أو ادعى إلى غير والديه ، أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار ـ وفي رواية ـ فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا» قيل: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال «أما سمعتم الله يقول (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) الآية ، ورواه ابن جرير (١) عن محمد بن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به.

وقال أيضا : حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم ، فمروا على حداد ، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار ، ونظر الربيع بن خيثم إليها ، فتمايل الربيع ليسقط ، فمر عبد الله على أتون على شاطئ الفرات ، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه ، قرأ هذه الآية (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) فصعق ، يعني الربيع ، وحملوه إلى أهل بيته ، فرابطه عبد الله إلى الظهر ، فلم يفق رضي الله عنه.

وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رجاء ، حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن العبد ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ، ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف ، هكذا رواه ابن أبي حاتم بأسناده مختصرا ، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير (٢) : حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن : ما لك؟ قالت : إنه يستجير مني ، فيقول : أرسلوا عبدي ، وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول : يا رب ما كان هذا الظن بك ، فيقول : فما كان ظنك؟ فيقول : أن تسعني رحمتك ، فيقول : أرسلوا عبدي ، وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف ، وهذا إسناد صحيح.

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٣٧٠.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٣٧٠.

٨٨

لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) قال : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ لوجهه ترتعد فرائصه ، حتى إن إبراهيم عليه‌السلام ليجثو على ركبتيه ويقول : رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وقوله (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال : مثل الزج في الرمح ، أي من ضيقه ، وقال عبد الله بن وهب : أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سئل عن قول الله (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) قال «والذي نفسي بيده ، إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط»

وقوله (مُقَرَّنِينَ) قال أبو صالح : يعني مكتفين (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) أي بالويل والحسرة والخيبة (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) الآية. روى الإمام أحمد (١) : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده ، وهو ينادي يا ثبوراه ، وينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار ، فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم ، فيقال لهم لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ، وادعوا ثبورا كثيرا» لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.

ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سنان عن عفان به ، ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً) الآية ، أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا ، وادعوا ويلا كثيرا ، وقال الضحاك : الثبور الهلاك ، والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار ، كما قال موسى لفرعون (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي هالكا. وقال عبد الله بن الزبعرى [الخفيف] :

إذ أجاري الشيطان في سنن الغي

ومن مال ميله مثبور

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) (١٦)

يقول تعالى : يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، فتتلقاهم بوجه عبوس وبغيظ وزفير ، ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكا ولا استنصارا ولا فكاكا مما هم فيه ، أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ، التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيرا على ما أطاعوه في الدنيا ، وجعل مآلهم إليها (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب ومناظر ، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب أحد ، وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها

__________________

(١) المسند ٣ / ١٥٢.

٨٩

حولا ، وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم ، ولهذا قال (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي لا بد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض علماء العربية أن معنى قوله (وَعْداً مَسْؤُلاً) أي وعدا واجبا.

وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) يقول : سلوا الذي وعدتكم ـ أو قال وعدناكم ـ ننجز وعدهم وتنجزوه ، وقال محمد بن كعب القرظي في قوله (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) إن الملائكة تسأل لهم ذلك (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة ، قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا ، فذلك قوله (وَعْداً مَسْؤُلاً) وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار ، ثم التنبيه على حال أهل الجنة ، كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور ، ثم قال (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ) [الصافات : ٦٢ ـ ٧٠].

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩)

يقول تعالى مخبرا عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم ، فقال (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال مجاهد : هو عيسى والعزيز والملائكة (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) الآية ، أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين : أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني ، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم؟ كما قال الله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ) [المائدة : ١١٦] الآية.

ولهذا قال تعالى مخبرا عما يجيب به المعبودون يوم القيامة (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله (نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك ، بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ، ونحن برآء منهم ومن

٩٠

عبادتهم ، كما قال تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ) [سبأ : ٤٠ ـ ٤١] الآية ، وقرأ آخرون (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي ما ينبغي لأحد أن يعبدنا فإنا عبيد لك فقراء إليك ، وهي قريبة المعنى من الأولى.

(وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ) أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر ، أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك (وَكانُوا قَوْماً بُوراً) قال ابن عباس : أي هلكى ، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري : أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعرى حين أسلم [الخفيف] :

يا رسول المليك إن لساني

راتق ما فتقت إذ أنا بور (١)

إذ أجاري الشيطان في سنن الغي

ومن مال ميله مثبور

وقال الله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ) أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى ، كقوله تعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف : ٥ ـ ٦] وقوله (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) أي يشرك بالله (نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً).

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠)

يقول تعالى مخبرا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين : أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به ، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة ، ما يستدل به كل ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاءوا به من الله ، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) [يوسف : ١٠٩] وقوله (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الأنبياء : ٨] الآية. وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ

__________________

(١) البيتان لعبد الله بن الزبعرى السهمي في ديوانه ص ٣٦ ، والبيت الأول في لسان العرب (بور) ، وجمهرة اللغة ص ١٠٢٠ ، والمخصص ٣ / ٤٨ ، ٧ / ٣٠ ، ٣١١ ، ١٤ / ٣٣ ، وتاج العروس (ملك) ، ومقاييس اللغة ١ / ٣١٦ ، وسمط اللآلي ص ٣٨٨ ، والبيت لعبد الله بن رواحة في ديوانه ص ٩٥ ، ولعبد الله بن رواحة أو لعبد الله بن الزبعرى في تاج العروس (بور) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص ٣٣٠ ، وتهذيب اللغة ١٥ / ٢٦٧

٩١

لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أي اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم من يطيع ممن يعصي ، ولهذا قال (أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك.

وقال محمد بن إسحاق في قوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتل بك» (١) وفي المسند عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا ، فاختار أن يكون عبدا رسولا.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤)

يقول تعالى مخبرا عن تعنت الكفار في كفرهم ، وعنادهم في قولهم (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء ، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى (قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ) [الأنعام : ١٢٤] ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول الله ، كقولهم (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) [الإسراء : ٩٢] وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان ، ولهذا قالوا : (أَوْ نَرى رَبَّنا) ولهذا قال الله تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) وقد قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) [الأنعام : ١١١] الآية.

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي هم لا يرون الملائكة في يوم خير لهم ، بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم ، وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين تبشرهم الملائكة بالنار ، والغضب من الجبار ، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه ، اخرجي أيتها النفس الخبيثة في الجسد الخبيث ، اخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم ، فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه ، كما قال الله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [الأنفال : ٥٠] الآية ، وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجنة حديث ٦٣.

٩٢

تَسْتَكْبِرُونَ) [الأنعام : ٩٣] ولهذا قال في هذه الآية الكريمة (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم ، فإنهم يبشرون بالخيرات ، وحصول المسرات ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت : ٣٠ ـ ٣٢]. وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب : أن الملائكة تقول لروح المؤمن : اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب إن كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) [إبراهيم : ٢٧].

وقال آخرون : بل المراد بقوله (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى) يعني يوم القيامة ، قاله مجاهد والضحاك وغيرهما ، ولا منافاة بين هذا وما تقدم ، فإن الملائكة في هذين اليومين : يوم الممات ويوم المعاد ، تتجلى للمؤمنين وللكافرين ، فتبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان ، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران ، فلا بشرى يومئذ للمجرمين (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) أي وتقول الملائكة للكافرين : حرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف ، إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك ، ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام ، لأنه يمنع الطواف أن يطوفوا فيه ، وإنما يطاف من ورائه ، ومنه يقال للعقل حجر ، لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق ، والغرض أن الضمير في قوله (وَيَقُولُونَ) عائد على الملائكة ، هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا موسى يعني ابن قيس ، عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في الآية (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) قال : حراما محرما أن يبشر بما يبشر به المتقون. وقد حكى ابن جرير عن ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) أي يتعوذون من الملائكة ، وذلك أن العرب كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول (حِجْراً مَحْجُوراً) وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه ، ولكنه بالنسبة إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه ، ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله (حِجْراً مَحْجُوراً) أي عوذا معاذا فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج ، ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال (حِجْراً مَحْجُوراً) عوذا معاذا الملائكة تقول ذلك ، فالله أعلم.

وقوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) الآية ، هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر ، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي

٩٣

ظنوا أنها منجاة لهم شيء ، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله. فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو باطل ، فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين ، وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ ، ولهذا قال تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) قال مجاهد والثوري (وَقَدِمْنا) أي عمدنا ، وكذا قال السدي ، وبعضهم يقول : أتينا عليه.

وقوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله (هَباءً مَنْثُوراً) قال : شعاع الشمس إذا دخل الكوة ، وكذا روي من غير هذا الوجه عن علي وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك وغيرهم ، وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدهم ، ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (هَباءً مَنْثُوراً) قال : هو الماء المهراق. وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي (هَباءً مَنْثُوراً) قال : الهباء رهج الدواب ، وروي مثله عن ابن عباس أيضا والضحاك ، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

وقال قتادة في قوله (هَباءً مَنْثُوراً) قال : أما رأيت يبيس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق. وقال عبد الله بن وهب : أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن يعلى بن عبيد قال : وإن الهباء الرماد إذا ذرته الريح ، وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها على شيء ، فلما عرضت على الملك الحكيم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا إذا إنها لا شيء بالكلية ، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية ، كما قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) [إبراهيم : ١٨] الآية. وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ـ إلى قوله ـ لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) [البقرة : ٢٦٤] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً). [النور : ٣٩] وتقدم الكلام على تفسير ذلك ، ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي يوم القيامة (لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) [الحشر : ٢٠] وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات الآمنات ، فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام (خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٧٦] وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات ، والحسرات المتتابعات ، وأنواع العذاب والعقوبات (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) [الفرقان : ٦٦] أي بئس المنزل منظرا ، وبئس المقيل مقاما ، ولهذا قال تعالى: (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا

٩٤

ما نالوا ، وصاروا إلى ما صاروا إليه ، بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار ، فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء ، وأنه لا خير عندهم بالكلية ، فقال تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) قال الضحاك عن ابن عباس : إنما هي ضحوة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين.

وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، قال الله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً). وقال عكرمة : إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا انقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة ، فينصرف أهل النار إلى النار ، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة ، وأطعموا كبد حوت فأشبعهم كلهم ، وذلك قوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : لا ينتصف النهار حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء ، ثم قرأ (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) وقرأ (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) [الصافات : ٦٨].

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) قال : قالوا في الغرف من الجنة ، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة ، وذلك الحساب اليسير ، وهو مثل قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) [الانشقاق : ٨]. وقال قتادة (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) مأوى ومنزلا.

وقال قتادة : وحدث صفوان بن محرز أنه قال : يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكا في الدنيا إلى الحمرة والبياض ، فيحاسب فإذا عبد لم يعمل خيرا قط فيؤمر به إلى النار ، والآخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول : يا رب ما أعطيتني من شيء فتحاسبني به ، فيقول الله : صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة ، ثم يتركان ما شاء الله ، ثم يدعى صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء ، فيقال له : كيف وجدت؟ فيقول : شر مقيل ، فيقال له : عد ، ثم يدعى بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر ، فيقال له : كيف وجدت؟ فيقول : رب خير مقيل ، فيقال له : عد. رواها ابن أبي حاتم كلها.

وقال ابن جرير (١) : حدثني يونس أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٣٨٢.

٩٥

الشمس ، وإنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وذلك قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩)

يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة ، فمنها انشقاق السماء وتفطرها ، وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار ، ونزول ملائكة السموات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ، ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. قال مجاهد: وهذا كما قال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة : ٢١٠] الآية.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار بن الحارث ، حدثنا مؤمل ، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) قال ابن عباس رضي الله : عنهما يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد : الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق ، فتنشق السماء الدنيا ، فينزل أهلها وهم أكثر من الجن والإنس ومن جميع الخلق ، فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق ، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع الخلق ، فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن والإنس وجميع الخلق ، ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق ، ثم كذلك كل سماء على ذلك التضعيف ، حتى تنشق السماء السابعة فينزل أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السموات ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق ، فيحطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم من أهل السموات وبالجن والإنس وجميع الخلق كلهم ، وينزل ربنا عزوجل في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السموات السبع ومن الجن والإنس ، وجميع الخلق لهم قرون كأكعب القنا ، وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عزوجل ، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام ، وما بين كعبه إلى ركبته مسيرة خمسمائة عام ، وما بين ركبته إلى حجزته (١) مسيرة خمسمائة عام ، وما بين حجزته إلى ترقوته (٢) مسيرة خمسمائة عام ، وما بين ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام. وما فوق ذلك مسيرة

__________________

(١) الحجزة : موضع شد الإزار.

(٢) الترقوة : العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق.

٩٦

خمسمائة عام وجهنم مجنبته (١) ، وهكذا رواه ابن حاتم بهذا السياق.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني الحجاج عن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول : إن هذه السماء إذا انشقت ينزل منها من الملائكة أكثر من الإنس والجن ، وهو يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء وأهل الأرض ، فيقول أهل الأرض : جاء ربنا؟ فيقولون : لم يجيء وهو آت ، ثم تنشق السماء الثانية ، ثم سماء سماء على قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة ، فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السموات ومن الجن والإنس. قال : فتنزل الملائكة الكروبيون ، ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة سبعين سنة ، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة.

قال : وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه ، وكل ملك منهم واضع رأسه بين ثدييه ، يقول : سبحان الملك القدوس ، وعلى رؤوسهم شيء مبسوط كأنه القباء ، والعرش فوق ذلك ، ثم وقف ، فمداره على علي بن زيد بن جدعان ، وفيه ضعف وفي سياقاته غالبا ، وفيها نكارة شديدة ، وقد ورد في حديث الصور المشهور قريب من هذا ، والله أعلم ، وقد قال الله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٥ ـ ١٧] قال شهر بن حوشب : حملة العرش ثمانية ، أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ورواه ابن جرير عنه.

وقال أبو بكر بن عبد الله : إذا نظر أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم ، شخصت إليه أبصارهم ، ورجفت كلاهم في أجوافهم ، وطارت قلوبهم من مقرها من صدورهم إلى حناجرهم. قال ابن جرير (٣) : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا المعتمر بن سليمان عن عبد الجليل عن أبي حازم عن عبد الله بن عمرو قال : يهبط الله عزوجل حين يهبط ، وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب ، منها النور والظلمة فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب ، وهذا موقوف على عبد الله بن عمرو من كلامه ، ولعله من الزاملتين ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) الآية ، كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦]. وفي الصحيح أن الله تعالى يطوي السموات بيمينه ، ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ، ثم يقول : أنا الملك أنا الديان ، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون،

__________________

(١) انظر الدر المنثور ٥ / ١٢٤.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٣٨٦.

(٣) تفسير الطبري ٩ / ٣٨٣.

٩٧

أين المتكبرون؟ (١) وقوله (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) أي شديدا صعبا ، لأنه يوم عدل وقضاء فصل ، كما قال تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر : ٩ ـ ١٠] فهذا حال الكافرين في هذا اليوم ، وأما المؤمنون فكما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) [الأنبياء : ١٠٣] الآية.

وروى الإمام أحمد (٢) : حدثنا حسين بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قيل يا رسول الله (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والذي نفسي بيده ، إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا».

وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) ، يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جاء به من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه ، وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول ، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم ، وعض على يديه حسرة وأسفا ، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء ، فإنها عامة في كل ظالم ، كما قال تعالى : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [الأحزاب : ٦٦ ـ ٦٨] الآيتين ، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ، ويعض على يديه قائلا (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة ، وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما ، (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ) وهو القرآن (بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) أي بعد بلوغه إليّ ، قال الله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه ، ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) (٣١)

يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا» وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه ، كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] الآية ، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه وترك الإيمان به وترك

__________________

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٤ ، وأبو داود في السنة باب ١٩ ، وابن ماجة في المقدمة باب ١٤ ، والزهد باب ٣٣.

(٢) المسند ٣ / ٧٥.

٩٨

تصديقه من هجرانه ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره ، من هجرانه ، فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء ، أن يخلصنا مما يسخطه ، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ كتابه وفهمه ، والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، إنه كريم وهاب.

وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن ، كذلك كان في الأمم الماضين ، لأن الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين ، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢ ـ ١١٣] الآيتين ، ولهذا قال تعالى هاهنا : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة ، وإنما قال (هادِياً وَنَصِيراً) لأن المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد به ، ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن ، فلهذا قال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الآية.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٣٤)

يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم ، حيث قالوا (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة ، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة ، كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية ، فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث ، وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به ، كقوله (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] الآية ، ولهذا قال (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ، قال قتادة : بيناه تبيينا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وفسرناه تفسيرا (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي بحجة وشبهة (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي ولا يقولون قولا يعارضون به الحق ، إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) الآية ، أي إلا نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير شرف للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث كان يأتيه الوحي من الله عزوجل بالقرآن صباحا ومساء ، وليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال كتاب مما

٩٩

قبله من الكتب المتقدمة ، فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى ، وقد جمع الله للقرآن الصفتين معا ، ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث.

وقال أبو عبد الرحمن النسائي أخبرنا أحمد بن سليمان حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا داود عن عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة ، قال الله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) وقال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً).

ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة ، وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً). وفي الصحيح عن أنس أن رجلا قال : يا رسول الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال «إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» (١) وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٤٠)

يقول تعالى متوعدا من كذب رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مشركي قومه ومن خالفه ، ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله ، فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا ، أي نبيا موازرا ومؤيدا وناصرا ، فكذبهما فرعون وجنوده ف (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحاعليه‌السلام ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل ، إذ لا فرق بين رسول ورسول ، ولو فرض أن الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون ، ولهذا قال تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) ولم يبعث إليهم إلا نوح فقط ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى اللهعزوجل ، ويحذرهم نقمه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٥ ، باب ١ ، ومسلم في المنافقين حديث ٥٤ ، والترمذي في تفسير سورة ١٧ ، باب ١٢ ، وأحمد في المسند ٢ / ٣٥٤ ، ٣٦٣.

١٠٠