تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١)

هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركين وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيان قال :

بلغنا ـ والله أعلم ـ أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرشدة كانت في محل لها في بني حارثة ، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء : ما أقبح هذا فأنزل الله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) الآية ، فقوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن ، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا.

واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان مولى أم سلمة أنه حدث أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وميمونة قالت فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعد ما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «احتجبا منه» فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أو عميا وان أنتما؟ ألستما تبصرانه» (١) ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة كما ثبت في الصحيح أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت (٢).

وقوله (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) قال سعيد بن جبير : عن الفواحش. وقال قتادة وسفيان : عما لا يحل لهن. وقال مقاتل : عن الزنا ، وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الآية (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) أن لا يراها أحد ، وقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه. قال ابن مسعود : كالرداء والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب. فلا حرج عليها فيه لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه

__________________

(١) أخرجه أبو داود في اللباس باب ٣٤ ، والترمذي في الأدب باب ٢٩ ، وأحمد في المسند ٦ / ٢٩٦.

(٢) أخرجه البخاري في العيدين باب ٢ ، ومسلم في العيدين حديث ١٩.

٤١

ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه. وقال بقول ابن مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم.

وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) قال : وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك ، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها ، كما قال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) الزينة القرط والدملج والخلخال والقلادة. وفي رواية عنه بهذا الإسناد قال : الزينة زينتان : فزينة لا يراها إلا الزوج : الخاتم والسوار ، وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب. وقال الزهري لا يبدين لهؤلاء الذين سمى الله ممن لا تحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر وأما عامة الناس فلا يبدين منها إلا الخواتم.

وقال مالك عن الزهري (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) الخاتم والخلخال. ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا : حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال «يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا» (١) وأشار إلى وجهه وكفيه ، لكن قال أبو داود وأبو حاتم الرازي هذا مرسل ؛ خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها ، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب : ٥٩] وقال في هذه الآية الكريمة (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) والخمر جمع خمار وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع.

قال سعيد بن جبير (وَلْيَضْرِبْنَ) وليشددن (بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء وقال البخاري (٢) : حدثنا أحمد بن شبيب حدثنا أبي عن يونس عن

__________________

(١) أخرجه أبو داود في اللباس باب ٣١.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٢٤ ، باب ١٢ ، في الترجمة.

٤٢

ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) شققن مروطهن فاختمرن بها (١). وقال أيضا : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا إبراهيم بن نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول : لما نزلت هذه الآية (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن ، فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلا وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. ورواه أبو داود من غير وجه عن صفية بنت شيبة به.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرة بن عبد الرحمن أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها ، ورواه أبو داود (٣) من حديث ابن وهب به.

وقوله تعالى (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) أي أزواجهن (أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير اقتصاء وتبهرج. وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَ) حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال ، فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره.

وقوله (أَوْ نِسائِهِنَ) يعني تظهر بزينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن. وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع وأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه ، وقد قال

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٤ ، باب ١٢.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٣٠٦.

(٣) كتاب اللباس باب ٣٣.

٤٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها» (١) أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود وقال سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن قيس قال : كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة : أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وقال مجاهد في قوله (أَوْ نِسائِهِنَ) قال نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن ، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة ، وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (أَوْ نِسائِهِنَ) قال هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم.

وروى سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول : (أَوْ نِسائِهِنَ) فليست من نسائهن ، وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة ، فأما ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمير حدثنا ضمرة قال : قال ابن عطاء عن أبيه قال : لما قدم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات ، فهذا إن صح فمحمول على حال الضرورة أو أن ذلك من باب الامتهان ، ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين ، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها ، وإن كانت مشركة لأنها أمتها ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب ، وقال الأكثرون : بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء ، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود (٢) : حدثنا محمد بن عيسى ، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت ، عن أنس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تلقى ، قال «إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك».

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة حديج الحمصي مولى معاوية : أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان أسود شديد الأدمة ، وأنه قد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبه لابنته فاطمة ، فربته ثم أعتقته ، ثم قد كان بعد ذلك كله برز مع معاوية أيام صفين ، وكان من أشد الناس على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ١١٨ ، وأبو داود في النكاح باب ٤٣.

(٢) كتاب اللباس باب ٣٢.

٤٤

وقال الإمام أحمد (١) : حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري ، عن نبهان ، عن أم سلمة ، ذكرت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا كان لإحداكن مكاتب ، وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه» ورواه أبو داود (٢) عن مسدد ، عن سفيان به. وقوله تعالى : (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء ، وهم مع ذلك في عقولهم وله وخوث ، ولا هم لهم إلى النساء ولا يشتهونهن ، قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له.

وقال مجاهد : هو الأبله ، وقال عكرمة : هو المخنث الذي لا يقوم ذكره ، وكذلك قال غير واحد من السلف ، وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة ، عن عائشة ، أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ينعت امرأة يقول : إنها إذا أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم» فأخرجه ، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة ليستطعم(٣).

وروى الإمام أحمد (٤) : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه ، عن زينب بنت أبي سلمة ، عن أم سلمة أنها قالت : دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعندها (أخوها) مخنث ، وعندها عبد الله بن أبي أمية ، والمخنث يقول : يا عبد الله ، إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، قال : فسمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لأم سلمة «لا يدخلن هذا عليك» (٥) أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام بن عروة.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا معمر عن الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، فدخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة ، فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم هذا» فحجبوه (٧) ، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة.

وقوله تعالى : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن ، فإذا

__________________

(١) المسند ٦ / ٢٨٩.

(٢) كتاب العتاق باب ١ ، وأخرجه الترمذي في البيوع باب ٣٥ ، وابن ماجة في العتق باب ٣.

(٣) أخرجه أبو داود في اللباس باب ٣٣.

(٤) المسند ٦ / ٢٩٠.

(٥) أخرجه البخاري في المغازي باب ٥٦ ، ومسلم في السلام حديث ٣٣.

(٦) المسند ٦ / ١٥٢.

(٧) أخرجه مسلم في السلام حديث ٣٢ ، وأبو داود في اللباس باب ٨٤.

٤٥

كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك : فلا بأس بدخوله على النساء ، فأما إن كان مراهقا ، أو قريبا منه ، بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء ، فلا يمكن من الدخول على النساء ، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «إياكم والدخول على النساء» قيل : يا رسول الله ، أفرأيت الحمو؟ قال «الحمو الموت» (١).

وقوله تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) الآية ، كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوته ، ضربت برجلها الأرض ، فيعلم الرجال طنينه ، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك ، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي لقوله تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَ) إلى آخره ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ليشتم الرجال طيبها ، فقد قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ثابت بن عمارة الحنفي ، عن غنيم بن قيس ، عن أبي موسى رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا» (٢) يعني زانية ، قال وفي الباب عن أبي هريرة : وهذا حسن صحيح ، رواه أبو داود والنسائي من حديث ثابت بن عمارة به.

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله ، عن عبيد مولى أبي رهم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لقيته امرأة وجد منها ريح الطيب ولذيلها إعصار ، فقال : يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت : نعم. قال لها : وله تطيبت؟ قالت : نعم ، قال : إني سمعت حبي أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يقبل الله صلاة امرأة تطيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغتسل غسلها من الجنابة» (٣). ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضا من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد ، عن ميمونة بنت سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها» (٤) ، ومن ذلك أيضا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج.

قال أبو داود (٥) : حدثنا القعنبي ، حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن ابن أبي اليمان عن شداد بن أبي عمرو بن حماس ، عن أبيه ، عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع

__________________

(١) أخرجه البخاري في النكاح باب ١١١ ، ومسلم في السلام حديث ٢٠.

(٢) أخرجه أبو داود في الترجل باب ٧ ، والترمذي في الأدب باب ٣٥ ، والنسائي في الزينة باب ٣٥ ، والدارمي في الاستئذان باب ١٨.

(٣) أخرجه أبو داود في الترجل باب ٧ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٩.

(٤) أخرجه الترمذي في الرضاع باب ١٣ ، وابن ماجة في الفتن باب ١٩.

(٥) كتاب الأدب باب ١٦٨.

٤٦

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للنساء «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق ، عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به.

وقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه ، والله تعالى هو المستعان.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤)

اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة ، فقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) إلى آخره ، هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه‌السلام «يا معشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (١) ، أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود.

وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تزوجوا توالدوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» (٢). وفي رواية : «حتى بالسقط» ، الأيامى جمع أيم ، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له ، سواء كان قد تزوج ثم فارق أو لم يتزوج واحد منهما ، حكاه الجوهري عن أهل اللغة ، يقال رجل أيم وامرأة أيم.

وقوله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الآية ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى ، فقال (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد الأزرق ، حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال : بلغني أن أبا بكر الصديق

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصوم باب ١٠ ، ومسلم في النكاح حديث ١.

(٢) أخرجه أبو داود في النكاح باب ٣.

٤٧

رضي الله عنه قال : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وعن ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) رواه ابن جرير ، وذكر البغوي عن عمر بنحوه.

وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله» (١) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة. وقد زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره ، ولم يقدر على خاتم من حديد ، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله ، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث «تزوجوا فقراء يغنكم الله» فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن ، وفي القرآن غنية عنه ، وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ، ولله الحمد والمنة.

وقوله تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا بالتعفف عن الحرام كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الحديث ، وهذه الآية مطلقة ، والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ ـ إلى قوله ـ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [النساء: ٢٥] أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم ، لأن الولد يجيء رقيقا (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال عكرمة في قوله (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه ، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة ، إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح : إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري ، وذهب آخرون إلى

__________________

(١) أخرجه الترمذي في فضائل الجهاد باب ٢٠ ، والنسائي في الجهاد باب ١٢ ، والنكاح باب ٥ ، وابن ماجة في العتق باب ٣ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥١ ، ٤٣٧.

٤٨

أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذا بظاهر هذا الأمر.

وقال البخاري : وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه ، قال : ما أراه إلا واجبا. وقال عمرو بن دينار : قلت لعطاء : أتأثره عن أحد؟ قال : لا ، ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسا المكاتبة ، وكان كثير المال فأبى ، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : كاتبه ، فأبى فضربه بالدرة ، ويتلو عمر رضي الله عنه (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) فكاتبه (١) هكذا ذكره البخاري تعليقا ، ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال : قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال : ما أراه إلا واجبا.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا محمد بن بكر ، حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك : أن سيرين أراد أن يكاتبه ، فتلكأ عليه فقال له عمر : لتكاتبنه ، إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال : هي عزمة ، وهذا القول القديم من قولي الشافعي ، وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه‌السلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه». وقال ابن وهب : قال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أحدا من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده. قال مالك : وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم ، واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية.

وقوله تعالى : (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) قال بعضهم : أمانة ، وقال بعضهم : صدقا ، وقال بعضهم : مالا ، وقال بعضهم : حيلة وكسبا. وروى أبو داود في المراسيل ، عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) قال «إن علمتم فيهم حرفة ، ولا ترسلوهم كلا على الناس» ، وقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) اختلف المفسرون فيه ، فقال بعضهم : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، ثم قال بعضهم : مقدار الربع ، وقيل الثلث ، وقيل النصف ، وقيل جزء من الكتابة من غير حد.

وقال آخرون : بل المراد من قوله (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة ، وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان ، واختاره ابن جرير ، وقال إبراهيم النخعي في قوله (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) قال : حث الناس عليه مولاه وغيره ، وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة ، وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) أخرجه البخاري في المكاتب باب ١.

(٢) تفسير الطبري ٩ / ٣١٢.

٤٩

أنه قال «ثلاثة حق على الله عونهم» فذكر منهم المكاتب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر : أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية ، فجاء بنجمه حين حل فقال : يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ولو تركته حتى يكون من آخر نجم؟ قال : أخاف أن لا أدرك ذلك ، ثم قرأ (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) قال عكرمة : فكان أول نجم أدي في الإسلام.

وقال ابن جرير (١) : حدثنا ابن حميد ، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته ، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) قال : يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم ، وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي ، وقال محمد بن سيرين في قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته.

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا الفضل بن شاذان المقرئ ، أخبرنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن السائب : أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ربع الكتابة» وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه‌الله.

وقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية ، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني ، وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت ، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك ، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، فإنه كان له إماء ، فكان يكرههن على البغاء طلبا لخراجهن ، ورغبة في أولادهن ورئاسة منه فيما يزعم.

ذكر الآثار الواردة في ذلك

قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه‌الله في مسنده : حدثنا أحمد بن داود الواسطي ، حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج ، حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال : كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول ، يقال لها معاذة يكرهها على الزنا ، فلما جاء الإسلام نزلت (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية ، وقال الأعمش عن أبي

__________________

(١) تفسير الطبري ٩ / ٣١٦.

٥٠

سفيان عن جابر في هذه الآية ، قال : نزلت في أمة لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها مسيكة ، كان يكرهها على الفجور ، وكانت لا بأس بها فتأبى ، فأنزل الله هذه الآية (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ـ إلى قوله ـ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا علي بن سعيد ، حدثنا الأعمش ، حدثني أبو سفيان عن جابر قال : كان لعبد الله بن أبيّ ابن سلول ، جارية يقال لها مسيكة ، وكان يكرهها على البغاء ، فأنزل الله (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ـ إلى قوله ـ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع ، فدل على بطلان قول من قال : لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار. وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس : أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولادا من الزنا ، فقال لها مالك : لا تزنين ، قالت : والله لا أزني ، فضربها فأنزل الله عزوجل (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ).

وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلا من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبيّ أسيرا ، وكانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبيّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).

وقال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فهيم هذا ، وقال مقاتل بن حيان : بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار ، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبيّ وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة ، فأتت مسيكة وأمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرتا ذلك له ، فأنزل الله في ذلك (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) يعني الزنا.

وقوله تعالى : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، وقوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن (١) ، وفي رواية «مهر البغي خبيث وكسب الحجام

__________________

(١) أخرجه البخاري في البيوع باب ١١٣ ، والإجارة ، باب ٢٠ ، والطب باب ٤٦ ، ومسلم في المساقاة ـ

٥١

خبيث ، وثمن الكلب خبيث» (١) وقوله تعالى : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم ، وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة.

وقال أبو عبيد : حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذه الآية (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات ، حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده ، وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا يحيى بن عبد الله ، حدثني ابن لهيعة ، حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود (فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لهن وإثمهن على من أكرههن ، وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (٢).

ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي خبرا عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) ... (وَمَوْعِظَةً) أي زاجرا عن ارتكاب المآثم والمحارم (لِلْمُتَّقِينَ) أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول هادي أهل السموات والأرض. قال ابن جريج : قال مجاهد وابن عباس في قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما. وقال ابن جرير : حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، حدثنا وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بن مالك قال : إن الله يقول نوري

__________________

ـ حديث ٣٩.

(١) أخرجه مسلم في المساقاة حديث ٤١ ، وأبو داود في البيوع باب ٣٨ ، والترمذي في البيوع باب ٤٦ ، وأحمد في المسند ٤٦٤ ، ٤٦٥.

(٢) أخرجه ابن ماجة في الطلاق باب ١٦.

٥٢

هداي واختار هذا القول ابن جرير.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) قال هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال : مثل نور من آمن به ، قال : فكان أبيّ بن كعب يقرؤها مثل نور من آمن به فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره ، وهكذا قال سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك مثل نور من آمن بالله وقرأ بعضهم الله نور السماوات والأرض وعن الضحاك (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وقال السدي في قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فبنوره أضاءت السموات والأرض. وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله».

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قام من الليل يقول : اللهم لك الحمد ، أنت قيّم السموات والأرض أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ومن فيهن» (١) الحديث ، وعن ابن مسعود قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه.

وقوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) في هذا الضمير قولان [أحدهما] أنه عائد إلى الله عزوجل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس (كَمِشْكاةٍ) [والثاني] أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة ، فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) [هود : ١٧] فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف ، فقوله (كَمِشْكاةٍ) قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد : هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده (فِيها مِصْباحٌ) وهو الذبالة التي تضيء.

وقال العوفي عن ابن عباس قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كيف يخلص نور الله من دون السماء؟ فضرب الله مثل [ذلك] لنوره فقال (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) والمشكاة كوة في

__________________

(١) أخرجه البخاري في التهجد باب ١ ، والتوحيد باب ٨ ، ٣٥ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٥٨.

٥٣

البيت ، قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نورا ثم سماها أنواعا شتى (١) ، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : هن الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال : المشكاة الكوة التي لا منفذ لها ، وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل ، والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال (فِيها مِصْباحٌ) وهو النور الذي في الذبالة.

قال أبيّ بن كعب : المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره ، وقال السدي : هو السراج (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية ، وقال أبيّ بن كعب وغير واحد : وهي نظير قلب المؤمن (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من درّ ، وقرأ آخرون دريء ودريء بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع ، وذلك أن النجم إذا رمي به يكون أشد استنارة من سائر الأحوال.

والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراري ، قال أبيّ بن كعب : كوكب مضيء ، وقال قتادة : مضيء مبين ضخم (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة (زَيْتُونَةٍ) بدل أو عطف بيان (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي ليست في شرقى بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ولا في غربيها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تفرعه الشمس من أول النهار إلى آخره فيجيء زيتها صافيا معتدلا مشرقا.

وروى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد ، أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها. وقال يحيى بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى: (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : هي بصحراء وذلك أصفى لزيتها. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : تلك بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها ، فذلك أصفى ما يكون من الزيت. وقال مجاهد في قوله تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت.

وعن سعيد بن جبير في قوله (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) قال هو أجود الزيت ، قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس ، فالشمس تصيبها بالغداة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية. وقال السدي قوله (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) يقول ليست بشرقية يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ٩ / ٣٢٢ ، ولفظه : ثم سماها أنوارا شتى.

٥٤

دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس النهار كله. وقيل المراد بقوله تعالى : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا للمغرب.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قول الله تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال ، إن قال صدق ، وإن حكم عدل ، وإن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال : حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال هي وسط الشجر لا تصيبها شرقا ولا غربا ، وقال عطية العوفي (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها ، وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدشتكي ، حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) ليست شرقية ليس فيها غرب ، ولا غربية ليس فيها شرق ، ولكنها شرقية غربية ، وقال محمد بن كعب القرظي (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال هي القبلية ، وقال زيد بن أسلم (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال الشام ، وقال الحسن البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره ، وقال الضحاك توقد من شجرة مباركة قال رجل صالح (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : لا يهودي ولا نصراني ، وأولى هذه الأقوال القول الأول ، وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس تفرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم ، ولهذا قال تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لضوء إشراق الزيت.

وقوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله ، وقال مجاهد والسدي : يعني نور النار ونور الزيت ، وقال أبيّ بن كعب (نُورٌ عَلى نُورٍ) فهو يتقلب في خمسة من النور : فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله تعالى : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) قال : يكاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء. وقال السدي في قوله تعالى (نُورٌ عَلى نُورٍ) قال : نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا ، فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.

٥٥

وقوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (١) : حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ ، فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول : جف القلم على علم اللهعزوجل».

[طريق أخرى عنه] قال البزار : حدثنا أيوب عن سويد عن يحيى بن أبي عمرو السيباني ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نورا من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه وحروفه. وقوله تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في قلب المؤمن ختم الآية بقوله (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.

قال الإمام أحمد (٢) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد : فقلب المؤمن سراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق ، عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» إسناده جيد ولم يخرجوه.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨)

لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل ، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال

__________________

(١) المسند ٢ / ١٧٦.

(٢) المسند ٣ / ١٧.

٥٦

التي لا تليق فيها. كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها ، وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير وأبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين.

وقال قتادة : هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وأخر بعمارتها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول : مكتوب في التوراة ألا إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور كرامة الزائر رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في تفسيره.

وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءا على حدة ، ولله الحمد والمنة ، ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفا من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان ، فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة» (١) أخرجاه في الصحيحين.

وروى ابن ماجة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة» (٢) وللنسائي عن عمرو بن عنبسة مثله ، والأحاديث في هذا كثيرة جدا ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب (٣). رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي ، ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه ، وقال البخاري : قال عمر : ابن للناس ما يكنهم ، وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس (٤) ، وروى ابن ماجة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ساء عمل قوم قط إلا زخرفوا مساجدهم» (٥) وفي إسناده ضعف.

وروى أبو داود عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما أمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى (٦). وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٦٥ ، ومسلم في المساجد حديث ٢٤ ، ٢٥.

(٢) أخرجه ابن ماجة في المساجد باب ١.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٣ ، والترمذي في الجمعة باب ٦٥ ، وابن ماجة في المساجد باب ٩ ، وأحمد في المسند ٥ / ١٧.

(٤) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٦٢ ، ولفظه : «أكنّ الناس من المطر».

(٥) أخرجه ابن ماجة في المساجد باب ٢.

(٦) أخرجه البخاري في الصلاة باب ٦٢ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٢.

٥٧

المساجد» (١). رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلا أنشد في المسجد فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له» (٢) رواه مسلم ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد (٣). رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد ، فقولوا لا أربح الله تجارتك ، وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا لا ردّ الله عليك» (٤) رواه الترمذي وقال حسن غريب ، وقد روى ابن ماجة وغيره من حديث ابن عمر مرفوعا قال : خصال لا تنبغي في المسجد : لا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ولا يمر فيه بلحم نيئ ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقا (٥) ، وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع» ورواه ابن ماجة (٦) أيضا وفي إسنادهما ضعف ، أما أنه لا يتخذ طريقا فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه.

وفي الأثر إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه ، وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ، فلما يخشى من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه ، ولهذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا مر أحد بسهام أن يقبض على نصالها لئلا يؤذي أحدا (٧) ، كما ثبت ذلك في الصحيح ، وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث ، وأما أنه لا يضرب فيه حد أو يقتص فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع.

وأما أنه لا يتخذ سوقا فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٢ ، والنسائي في المساجد باب ٢ ، وابن ماجة في المساجد باب ٢ ، وأحمد في المسند ٣ / ١٣٤ ، ١٤٥ ، ١٥٢ ، ٢٣٠ ، ٢٨٣.

(٢) أخرجه مسلم في المساجد حديث ٧٩ ، ٨١ ، وابن ماجة في المساجد باب ١١.

(٣) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ١٢٣ ، والنسائي في المساجد باب ٢٣ ، وابن ماجة في المساجد باب ٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧٩ ، ٢١٢.

(٤) أخرجه الترمذي في البيوع باب ٧٥.

(٥) أخرجه ابن ماجة في المساجد باب ٥ ، ولفظه : «ولا ينشر فيه نبل».

(٦) كتاب المساجد باب ٥.

(٧) أخرجه أحمد في المسند ٤ / ٣٩٢.

٥٨

والصلاة فيه كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد «إن المساجد لم تبن لهذا ، إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها» ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله (١) ، وفي الحديث الثاني «جنبوا مساجدكم صبيانكم» (٢) وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبيانا يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة ، وكان يعد المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحدا «ومجانينكم» يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك «وبيعكم وشراءكم» كما تقدم «وخصوماتكم» يعني التحاكم والحكم فيه ، ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والعياط الذي لا يناسبه ، ولهذا قال بعده «ورفع أصواتكم».

وقال البخاري (٣) : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن قال : حدثني يزيد بن حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال : كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال النسائي : حدثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت؟ وهذا أيضا صحيح. وقوله «وإقامة حدودكم وسل سيوفكم» تقدما. وقوله «واتخذوا على أبوابها المطاهر» يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد كانت قريبا من مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضؤون وغير ذلك.

وقوله «وجمروها في الجمع» يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ ، وقد قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا عبيد الله ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل جمعة. إسناده حسن لا بأس به والله أعلم ، وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «صلاة الرجل في

__________________

(١) أخرجه البخاري في الوضوء باب ٥٧ ، ٥٨ ، والأدب باب ٣٥ ، ٨٠ ، ومسلم في الطهارة حديث ٩٨ ، ١٠٠ ، وأبو داود في الطهارة باب ١٣٦ ، والترمذي في الطهارة باب ١١٢ ، والنسائي في الطهارة باب ٤٤ ، وابن ماجة في الطهارة باب ٧٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٣٩ ، ٢٨٢ ، ٥٠٣ ، ٣ / ١١٠ ، ١١٤.

(٢) أخرجه ابن ماجة في المساجد باب ٥.

(٣) كتاب الصلاة باب ٨٣.

٥٩

الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا» (١) وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا للصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه. ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدار قطني مرفوعا «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد».

وفي السنن «بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة» (٢) ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم ، وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم» [قال : أقط قال نعم] قال فإذا قال ذلك قال الشيطان : حفظ مني سائر اليوم (٣).

وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك : وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك فضلك» (٤) ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم» (٥) ورواه ابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.

وقال الإمام أحمد (٦) : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسن عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال : «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج صلى على محمد وسلم ثم قال «اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك» (٧) ورواه الترمذي وابن ماجة ، وقال الترمذي هذا حديث حسن ، وإسناده ليس بمتصل

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأذان باب ٣٠ ، وأحمد في المسند ١ / ٣٧٦ ، ٤٦٥.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ٤٩ ، والترمذي في المواقيت باب ٥١ ، وابن ماجة في المساجد باب ١٤.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة باب ١٨ ، ولم نجده في صحيح البخاري.

(٤) أخرجه مسلم في المسافرين حديث ٦٨ ، وأبو داود في الصلاة باب ١٨ ، والنسائي في المساجد باب ٣٦ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤٩٧ ، ٥ / ٤٢٥.

(٥) أخرجه ابن ماجة في المساجد باب ١٣.

(٦) المسند ٦ / ٢٨٢.

(٧) أخرجه الترمذي في الصلاة باب ١١٧ ، وابن ماجة في المساجد باب ١٣.

٦٠