تفسير القرآن العظيم - ج ٦

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

تفسير القرآن العظيم - ج ٦

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2221-5

الصفحات: ٥٤٣

وقوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي أغشينا أبصارهم عن الحق (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه. قال ابن جرير (١) : وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ «فأعشيناهم» بالعين المهملة من العشا ، وهو داء في العين ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] ثم قال : من منعه الله تعالى لا يستطيع. وقال عكرمة : قال أبو جهل : لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً ـ إلى قوله ـ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) قال : وكانوا يقولون هذا محمد ، فيقول : أين هو أين هو؟ لا يبصره ، رواه ابن جرير.

وقال محمد بن إسحاق : حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال : قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكا فإذا متم بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن ، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ، ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها. وخرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله تعالى على أعينهم دونه ، فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ـ حتى انتهى إلى قوله تعالى ـ وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) وانطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحاجته ، وباتوا رصدا على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار ، فقال : ما لكم؟ قالوا : ننتظر محمدا ، قال : قد خرج عليكم فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه ترابا ، ثم ذهب لحاجته ، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب. قال : وقد بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول أبي جهل فقال : «وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحا وإنه أحدهم».

وقوله تبارك وتعالى : (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي فقد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به ، وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة ، وكما قال تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس : ٩٦ ـ ٩٧] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر وهو القرآن العظيم (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) أي لذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي كثير واسع حسن جميل ، كما قال تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك : ١٢] ثم قال عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٢٨.

٥٠١

يوم القيامة ، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار ، الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق ، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الحديد : ١٧].

وقوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي من الأعمال ، وفي قوله تعالى : (وَآثارَهُمْ) قولان : [أحدهما] نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم ، وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضا إن خيرا فخير وإن شرا فشر ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها ، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» (١) رواه مسلم من رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه ، وفيه قصة مجتابي النّمار المضريين ، ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي ، عن أبي المحياة يحيى بن يعلى عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله ، ثم تلا هذه الآية (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره.

وهكذا الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده» (٢) ، وقال سفيان الثوري عن أبي سعيد رضي الله عنه ، قال : سمعت مجاهدا يقول في قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) قال : ما أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) يعني ما أثروا ، يقول : ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم ، فإن كانت خيرا فلهم مثل أجورهم لا ينقص من أجر من عمل به شيئا ، وإن كانت شرا فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئا ، ذكرهما ابن أبي حاتم ، وهذا القول هو اختيار البغوي.

[والقول الثاني] أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية ، قال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد (ما قَدَّمُوا) أعمالهم (وَآثارَهُمْ) قال : خطاهم بأرجلهم ، وكذا قال الحسن وقتادة (وَآثارَهُمْ) يعني خطاهم. وقال قتادة : لو كان الله عزوجل مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار ، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته ، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزكاة حديث ٧٠.

(٢) أخرجه مسلم في الوصية حديث ١٤.

٥٠٢

في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد وردت في هذا المعنى أحاديث :

[الحديث الأول] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لهم : «إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد؟» قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني سلمة ، دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم» ، وهكذا رواه مسلم (٢) من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن ، كلاهما عن أبي نضرة واسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي ، عن جابر رضي عنه به.

[الحديث الثاني] قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي ، حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد ، فنزلت (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا ، تفرد بإخراجه الترمذي (٣) عند تفسيره هذه الآية الكريمة عن محمد بن الوزير به ، ثم قال : حسن غريب من حديث الثوري ، ورواه ابن جرير عن سليمان بن عمر بن خالد الرقي ، عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن طريف ـ وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي ـ عن أبي نضرة به.

وقد روي من غير طريق الثوري فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا عباد بن زياد الساجي، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا شعبة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد رضي الله عنه ، قال : إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد منازلهم من المسجد ، فنزلت (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فأقاموا في مكانهم. وحدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحوه ، وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية ، والسورة بكمالها مكية ، فالله أعلم.

[الحديث الثالث] قال ابن جرير (٤) : حدثنا نصر بن علي الجهضمي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد ، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد ، فنزلت (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فقالوا : نثبت مكاننا ، هكذا رواه ، وليس فيه شيء مرفوع. ورواه الطبراني عن

__________________

(١) المسند ٣ / ٣٣٢ ، ٣٣٣.

(٢) كتاب المساجد حديث ٢٨٠.

(٣) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٦ ، باب ١.

(٤) تفسير الطبري ١٠ / ٤٢٩.

٥٠٣

عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل ، عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد ، فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد ، فنزلت (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) فثبتوا في منازلهم.

[الحديث الرابع] قال الإمام أحمد (١) : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال : توفي رجل في المدينة فصلى عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقال «يا ليته مات في غير مولده» ، فقال رجل من الناس : ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل إذا توفي في غير مولده ، قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة» (٢) ، ورواه النسائي عن يونس بن عبد الأعلى وابن ماجة عن حرملة ، كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به. وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا أبو نميلة ، حدثنا الحسين عن ثابت قال : مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويدا ، فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي ، فقال :

يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول ، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى ، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب ، فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ ، والإمام المبين هاهنا هو أم الكتاب ، قاله مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وكذا في قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١] أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر ، كما قال عزوجل : (وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [الزمر : ٦٩] وقال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩].

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (١٧)

ويقول تعالى : واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك (مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن

__________________

(١) المسند ٢ / ٧٧.

(٢) أخرجه النسائي في الجنائز باب ٨ ، وابن ماجة في الجنائز باب ٦١.

٥٠٤

منبه : إنها مدينة أنطاكية وكان بها ملك يقال له أنطيخس بن أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام ، فبعث الله إليه ثلاثة من الرسل ، وهم صادق وصدوق وشلوم ، فكذبهم (١) ، وهكذا روي عن بريدة بن الحصيب وعكرمة وقتادة والزهري أنها أنطاكية ، وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما سنذكره بعد تمام القصة إن شاء الله تعالى.

وقوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما) أي بادروهما بالتكذيب (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قويناهما وشددنا إزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي قال : كان اسم الرسولين الأولين شمعون ويوحنا ، واسم الثالث بولص ، والقرية أنطاكية (فَقالُوا) أي لأهل تلك القرية (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له ، قاله أبو العالية ، وزعم قتادة بن دعامة أنهم كانوا رسل المسيح عليه‌السلام إلى أهل أنطاكية (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر ، فلم لا أوحي إلينا مثلكم ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة ، وهذه شبة كثير من الأمم المكذبة ، كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عزوجل : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) [التغابن : ٦] أي استعجبوا من ذلك وأنكروه.

وقوله تعالى : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) [إبراهيم : ١٠]. وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله جل وعلا : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤] وقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ولهذا قال هؤلاء (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام ، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار ، كقوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [العنكبوت : ٥٢] (وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) يقولون : إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم ، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة ، وإن لم تجيبوا فستعلمون غبّ ذلك ، والله أعلم.

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)

فعند ذلك قال لهم أهل القرية (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي لم نر على وجوهكم خيرا في عيشنا. وقال قتادة : يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم. وقال مجاهد : يقولون لم يدخل مثلكم

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٣١.

٥٠٥

إلى قرية إلا عذب أهلها (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ) قال قتادة : بالحجارة. وقال مجاهد : بالشتم ، (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي عقوبة شديدة ، فقالت لهم رسلهم (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي مردود عليكم ، كقوله تعالى في قوم فرعون (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٣١] وقال قوم صالح (اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) [النمل : ٤٧] وقال قتادة ووهب بن منبه : أي أعمالكم معكم. وقال عزوجل : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) [النساء : ٧٨] وقوله تعالى : (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا ، بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة : أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا بل أنتم قوم مسرفون.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) (٢٥)

قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه : إن أهل القربة هموا بقتل رسلهم ، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى ، أي لينصرهم من قومه ، قالوا : وهو حبيب ، وكان يعمل الجرير وهو الحبال وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة. وقال ابن إسحاق عن رجل سماه عن الحكم عن مقسم أو عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : اسم صاحب يس حبيب ، وكان الجذام قد أسرع فيه. وقال الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز : كان اسمه حبيب بن مري.

وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : اسم صاحب يس حبيب النجار ، فقتله قومه. وقال السدي : كان قصارا. وقال عمر بن الحكم : كان إسكافا. وقال قتادة : كان يتعبد في غار هناك ، (قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) أي على إبلاغ الرسالة وهم مهتدون فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي يوم المعاد ، فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) أي هذه الآلهة

٥٠٦

التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئا ، فإن الله تعالى لو أرادني بسوء (فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) [يونس : ١٠٧] وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه ، ولا ينقذونني مما أنا فيه (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي إن اتخذتها آلهة من دون الله.

وقوله تعالى : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب : يقول لقومه (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) الذي كفرتم به (فَاسْمَعُونِ) أي فاسمعوا قولي ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) أي الذي أرسلكم (فَاسْمَعُونِ) أي فاشهدوا لي بذلك عنده ، وقد حكاه ابن جرير فقال : وقال آخرون : بل خاطب بذلك الرسل ، وقال لهم : اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي ، إني آمنت بربكم واتبعتكم ، وهذا القول الذي حكاه عن هؤلاء أظهر في المعنى ، والله أعلم. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب رضي الله عنهما : فلما قال ذلك ، وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه ، ولم يكن له أحد يمنع عنه. وقال قتادة : جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، فلم يزالوا به حتى أقعصوه ، وهو يقول كذلك ، فقتلوهرحمه‌الله.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (٢٩)

قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه ، أنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره (١) ، وقال الله له : (ادْخُلِ الْجَنَّةَ) فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها. وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة ، وذلك أنه قتل فوجبت له ، فلما رأى الثواب (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحا لا تلقاه غاشا. لما عاين من كرامة الله تعالى : (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) تمنى على الله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه (٢). وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وبعد مماته في قوله (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) رواه ابن أبي حاتم.

وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ومقصودة أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب والجزاء والنعيم المقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل فرحمه‌الله ورضي عنه ، فلقد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٣٦.

(٢) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٣٦.

٥٠٧

كان حريصا على هداية قومه.

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله ، حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال : قال عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الإسلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني أخاف أن يقتلوك» فقال : لو وجدوني نائما ما أيقظوني ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انطلق» فانطلق ، فمر على اللات والعزى ، فقال : لأصبحنك غدا بما يسوؤك ، فغضبت ثقيف ، فقال : يا معشر ثقيف إن اللات لا لات وإن العزى لا عزى ، أسلموا تسلموا ، يا معشر الأحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لا لات ، أسلموا تسلموا ، قال ذلك ثلاث مرات ، فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «هذا مثله كمثل صاحب يس» (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ).

وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار ، أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل يقول له : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع ، فيقول له مسيلمة لعنه الله : أتسمع هذا ، ولا تسمع ذاك؟ فيقول : نعم ، فجعل يقطعه عضوا عضوا كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه ، فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب : وكان والله صاحب يس اسمه حبيب.

وقوله تبارك وتعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى عليهم ، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه ، ويذكر عزوجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم ، بل الأمر كان أيسر من ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه عنه أنه قال في قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي ما كاثرناهم بالجموع ، الأمر كان أيسر علينا من ذلك (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) قال : فأهلك الله تعالى ذلك الملك الجبار ، وأهلك أهل أنطاكية ، فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية (١).

وقيل (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذابا يدمرهم ، وقيل المعنى في قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) أي من رسالة أخرى إليهم ، قاله مجاهد وقتادة. قال قتادة : فلا والله ما عاتب الله قومه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٣٧.

٥٠٨

بعد قتله (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (١).

قال ابن جرير (٢) : والأول أصح ، لأن الرسالة لا تسمى جندا. قال المفسرون. بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام ، فأخذ بعضادتي باب بلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة ، فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تتردد في جسد وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي أنطاكية ، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ، كما نص عليه قتادة وغيره ، وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره ، وفي ذلك نظر من وجوه :

[أحدها] أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عزوجل ، لا من جهة المسيحعليه‌السلام كما قال تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ـ إلى أن قالوا ـ رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [يس : ١٤ ـ ١٧] ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه‌السلام. والله تعالى أعلم ، ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا).

[الثاني] أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة ، وهن : القدس لأنها بلد المسيح ، وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، والإسكندرية لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين ، ثم رومية لأنها مدنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده ، ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها ، كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم ، كسعيد بن بطريق وغيره من أهل الكتاب والمسلمين ، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم ، والله أعلم.

[الثالث] أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية ، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا. أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة ، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٣٧.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٣٧.

٥٠٩

الملة النصرانية ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا الحسين بن أبي السري العسقلاني ، حدثنا حسين الأشقر ، حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس ، والسابق إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه» فإنه حديث منكر ، لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر ، وهو شيعي متروك ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) (٣٢)

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) أي يا ويل العباد (١). وقال قتادة (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله ، وفرطت في جنب الله ، وفي بعض القراءات : يا حسرة العباد على أنفسهم ، ومعنى هذا يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، كيف كذبوا رسل الله ، وخالفوا أمر الله ، فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي يكذبونه ويستهزئون به ويمجدون ما أرسل به من الحق.

ثم قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل ، كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة ، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) [المؤمنون : ٣٧] وهم القائلون بالدور من الدهرية ، وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا ، كما كانوا فيها ، فرد الله تبارك وتعالى عليهم باطلهم ، فقال تبارك وتعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ).

وقوله عزوجل : (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا ، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها ، ومعنى هذا كقوله جل وعلا : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١١١] وقد اختلف القراء في أداء هذا الحرف ، فمنهم من قرأ وإن كلا لما بالتخفيف فعنده أن إن للإثبات ، ومنهم من شدد (لَمَّا) وجعل أن نافية ، ولما بمعنى إلا ، تقديره وما كل إلا جميع لدينا محضرون ، ومعنى القراءتين واحد ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٣٨.

٥١٠

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) (٣٦)

يقول تبارك وتعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ) أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات ، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء ، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ولهذا قال تعالى : (أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم (وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) أي جعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة يحتاجون إليها ليأكلوا من ثمره ، لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم ، عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها.

وقوله جل وعلا : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : ولهذا قال تعالى : (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى ، واختار ابن جرير ـ بل جزم به ، ولم يحك غيره إلا احتمالا ـ أن (ما) في قوله تعالى : (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) بمعنى الذي تقديره ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي غرسوه ونصبوه ، قال : وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه (لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ) ، ثم قال تبارك وتعالى : (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) أي من زروع وثمار ونبات (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) فجعلهم ذكرا وأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها ، كما قال جلت عظمته : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [الذاريات : ٤٩]

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠)

يقول تعالى ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة ، خلق الليل والنهار هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وجعلهما يتعاقبان يجيء هذا فيذهب هذا ، ويذهب هذا فيجيء هذا ، كما قال تعالى : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) [الأعراف : ٥٤] ولهذا قال عزوجل هاهنا : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي نصرمه منه ، فيذهب فيقبل الليل ، ولهذا قال تبارك وتعالى : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) كما جاء في الحديث «إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت

٥١١

الشمس ، فقد أفطر الصائم» (١) هذا هو الظاهر من الآية ، وزعم قتادة أنها كقوله تعالى : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج : ٦١] وقد ضعف ابن جرير قول قتادة هاهنا ، وقال : إنما معنى الإيلاج الأخذ من هذا في هذا ، وليس هذا مرادا في هذه الآية ، وهذا الذي قاله ابن جرير حق.

وقوله جل جلاله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) في معنى قوله : (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قولان [أحدهما] أن المراد مستقرها المكاني ، وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب ، وهي أينما كانت فهي تحت العرش هي وجميع المخلوقات ، لأنه سقفها ، وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة ، وإنما هو قبة ذات قوائم تحمله الملائكة ، وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس ، فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما تكون إلى العرش ، فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام وهو وقت نصف الليل ، صارت أبعد ما تكون إلى العرش ، فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث.

قال البخاري (٢) : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : كنت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في المسجد عند غروب الشمس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ، حدثنا وكيع ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه : قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله تبارك وتعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مستقرها تحت العرش» هكذا أورده هاهنا ، وقد أخرجه في أماكن متعددة ، ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن الأعمش به.

وقال الإمام أحمد (٣) : حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال : كنت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد حين غربت الشمس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عزوجل ، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها ، وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت ، فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها ـ ثم قرأ ـ (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها).

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصوم باب ٣٣ ، ٤٣ ، ٤٥ ، ومسلم في الصيام حديث ٥١ ، ٥٣ ، ومسلم في الصيام حديث ٥١ ، ٥٣. وأحمد في المسند ٤ / ٣٨٠.

(٢) كتاب التفسير ، تفسير سورة ٣٦ ، باب ١.

(٣) المسند ٥ / ١٥٢.

٥١٢

وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس : «أتدري أين تذهب؟» قلت : الله ورسوله أعلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد ، فلا يقبل منها؟ وتستأذن فلا يؤذن لها ، ويقال لها ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها ، فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال في قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) قال : إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم ، حتى إذا غربت سلمت وسجدت واستأذنت يؤذن لها ، حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها ، فتقول إن المسير بعيد ، وإني إن لا يؤذن لي لا أبلغ فتحبس ما شاء الله أن تحبس ، ثم يقال لها اطلعي من حيث غربت ، قال : فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت في إيمانها خيرا.

وقيل : المراد بمستقرها هو انتهاء سيرها ، وهو غاية ارتفاعها في السماء في الصيف وهو أوجها ، ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض.

[والقول الثاني] أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة ، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور ، وينتهي هذا العالم إلى غايته ، وهذا هو مستقرها الزماني. قال قتادة (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي لوقتها ولأجل لا تعدوه ، وقيل : المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها ، ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها ، يروى هذا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي لا قرار لها ولا سكون ، بل هي سائرة ليلا ونهارا ، لا تفتر ولا تقف ، كما قال تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ) أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) أي الذي لا يخالف ولا يمانع (الْعَلِيمِ) بجميع الحركات والسكنات ، وقد قدر ذلك ووقته على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس ، كما قال عزوجل : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [الأنعام : ٩٦] وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله تعالى : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [فصلت : ١٢].

ثم قال جل وعلا : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي جعلناه يسير سيرا آخر يستدل به على مضي الشهور ، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار ، كما قال عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [البقرة : ١٨٩]. وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] الآية ، وقال تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ

٥١٣

رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) [الإسراء : ١٢] فجعل الشمس لها ضوء يخصها ، والقمر له نور يخصه ، وفاوت بين سير هذه وهذا ، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد ، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ، ثم يطول الليل ويقصر النهار ، وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري.

وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور ، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية ويرتفع منزلة ، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. قال ابن عباس رضي الله عنهما : وهو أصل العذق.

وقال مجاهد : العرجون القديم أي العذق اليابس يعني ابن عباس رضي الله عنهما أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى ، وكذا قال غيرهما ، ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديدا أول الشهر الآخر ، والعرب تسمي كل ثلاث ليال من الشهر باسم باعتبار القمر ، فيسمون الثلاث الأول غرر ، واللواتي بعدها نقل واللواتي بعدها تسع ، لأن أخراهن التاسعة واللواتي بعهدها عشر ، لأن أولاهن العشرة ، واللواتي بعدها البيض ، لأن ضوء القمر فيهن إلى آخرهن ، واللواتي بعدهن درع جمع درعاء ، لأن أولهن أسود لتأخر القمر في أولهن منه ، ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود ، وبعدهن ثلاث ظلم ، ثم ثلاث حنادس ، وثلاث دآدئ ، وثلاث محاق لانمحاق القمر أو الشهر فيهن. وكان أبو عبيدة رضي الله عنه ينكر التسع والعشر. كذا قال في كتاب غريب المصنف.

وقوله تبارك وتعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قال مجاهد : لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه ، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا ، وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن الحسن في قوله تعالى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) قال : ذلك ليلة الهلال. وروى ابن أبي حاتم هاهنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال : إن للريح جناحا ، وإن القمر يأوي إلى غلاف من الماء. وقال الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح : لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا. وقال عكرمة في قوله عزوجل : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) يعني أن لكل منهما سلطانا! فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل.

وقوله تعالى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يقول : لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار ، فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل. وقال الضحاك : لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجيء النهار من هاهنا ، وأومأ بيده إلى المشرق. وقال مجاهد (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يطلبان حثيثين ينسلخ أحدهما من الآخر ، والمعنى في هذا أنه لا فترة بين الليل

٥١٤

والنهار ، بل كان منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ ، لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثيثا.

وقوله تبارك وتعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يعني الليل والنهار والشمس والقمر ، كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء ، قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في فلك بين السماء والأرض ، ورواه ابن أبي حاتم ، وهو غريب جدا بل منكر. قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من السلف : في فلكة كفلكة المغزل. وقال مجاهد : الفلك كحديدة الرحى أو كفلكة المغزل ، لا يدور المغزل إلا بها ، ولا تدور إلا به.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (٤٤)

يقول تبارك وتعالى : ودلالة لهم أيضا على قدرته تبارك وتعالى تسخيره البحر ليحمل السفن ، فمن ذلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم عليه الصلاة والسلام غيرهم ، ولهذا قال عزوجل : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أي آباءهم (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما : المشحون الموقر ، وكذا قال سعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي. وقال الضحاك وقتادة وابن زيد : وهي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام.

وقوله جل وعلا : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما : يعني بذلك الإبل ، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة في رواية ، وعبد الله بن شداد وغيرهم : وقال السدي في رواية : هي الأنعام. وقال ابن جرير (١) : حدثنا الفضل بن الصباح ، حدثنا محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : أتدرون ما قوله تعالى : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) قلنا : لا ، قال : هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها ، وكذا قال أبو مالك والضحاك وقتادة وأبو صالح والسدي أيضا المراد بقوله تعالى : (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي السفن ، ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١١ ـ ١٢].

وقوله عزوجل : (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) يعني الذين في السفن (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي لا مغيث

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٤٥.

٥١٥

لهم مما هم فيه (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي مما أصابهم (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) وهذا استثناء منقطع تقديره ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر ، ونسلمكم إلى أجل مسمى ، ولهذا قال تعالى : (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) أي إلى وقت معلوم عند الله عزوجل.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤٧)

يقول تعالى مخبرا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها ، وما هم يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) قال مجاهد : من الذنوب ، وقال غيره بالعكس ، (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه ، وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه ، واكتفى عن ذلك بقوله تعالى : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) أي على التوحيد وصدق الرسل (إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها.

وقوله عزوجل : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) أي إذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي عن الذين آمنوا من الفقراء أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) أي هؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة الله تعالى فيهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في أمركم لنا بذلك. قال ابن جرير (١) : ويحتمل أن يكون من قول الله عزوجل للكفار حين ناظروا المؤمنين وردوا عليهم ، فقال لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وفي هذا نظر ، والله أعلم.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) (٥٠)

يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم : (مَتى هذَا الْوَعْدُ)(يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١١٨] قال الله عزوجل : (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهذه والله أعلم ـ نفخة الفزع ، ينفخ في الصور نفخة الفزع ، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم ، فبينما هم كذلك إذ أمر الله عزوجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها ، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ، وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٤٨

٥١٦

قبل السماء ، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم ، ولهذا قال تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي على من يملكونه ، الأمر أهم من ذلك (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر ، ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ، ثم بعد ذلك نفخة البعث.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٤)

هذه هي النفخة الثالثة ، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور ، ولهذا قال تعالى : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) والنسلان هو المشي السريع كما قال تعالى : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) ... (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [المعارج : ٤٣] يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم (قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد. قال أبي بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة : ينامون نومة قبل البعث. قال قتادة : وذلك بين النفختين ، فلذلك يقولون من بعثنا من مرقدنا ، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون ، قاله غير واحد من السلف (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) وقال الحسن : إنما يجيبهم بذلك الملائكة ، ولا منافاة إذ الجمع ممكن ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد : الجميع من قول الكفار (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) نقله ابن جرير ، واختار الأول ، وهو أصح ، وذلك لقوله تبارك وتعالى في الصافات : (وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [الصافات : ٢٠ ـ ٢١] وقال الله عزوجل : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [الروم : ٥٥ ـ ٥٦].

وقوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) كقولهعزوجل: (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) [النازعات : ١٣] وقال جلت عظمته : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] وقال جل جلاله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢] أي إنما نأمرهم أمرا واحدا ، فإذا الجميع محضرون (فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) أي من عملها (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٥١٧

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (٥٧) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨)

يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات ، فنزلوا في روضات الجنات ، أنهم في شغل عن غيرهم بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم. قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد : في شغل عما فيه أهل النار من العذاب. وقال مجاهد (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي في نعيم معجبون أي به ، وكذا قال قتادة ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : فاكهون أي فرحون. قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد المسيب وعكرمة والحسن وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) قالوا : شغلهم افتضاض الأبكار ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه (فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) أي بسماع الأوتار ، وقال أبو حاتم : لعله غلط من المستمع ، وإنما هو افتضاض الأبكار.

وقوله عزوجل : (هُمْ وَأَزْواجُهُمْ) قال مجاهد : وحلائلهم ، (فِي ظِلالٍ) أي في ظلال الأشجار (عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ). قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والسدي وخصيف (الْأَرائِكِ) هي السرر تحت الحجال.

[قلت] نظيره في الدنيا هذه التخوت تحت البشاخين ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

وقوله عزوجل : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ) أي من جميع أنواعها (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف الحمصي ، حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار ، حدثنا محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى. حدثني كريب أنه سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها ، هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سلامة ، وفاكهة خضرة وخيرة ونعمة في محلة عالية بهية» قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قولوا إن شاء الله» فقال القوم : إن شاء الله ، وكذا رواه ابن ماجة (١) في كتاب الزهد من سننه من حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به.

وقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال ابن جرير : قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة ، وهذا

__________________

(١) كتاب الزهد باب ٣٩.

٥١٨

الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، كقوله تعالى : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب: ٤٤]. وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثا ، وفي إسناده نظر ، فإنه قال : حدثنا موسى بن يوسف ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا أبو عاصم العباداني ، حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) قال : فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم». ورواه ابن ماجة (١) في كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب به.

وقال ابن جرير (٢) : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا حرملة عن سليمان بن حميد قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : إذا فرغ الله تعالى من أهل الجنة والنار ، أقبل في ظلل من الغمام والملائكة ، قال : فيسلم على أهل الجنة ، فيردون عليه‌السلام ، قال القرظي ، وهذا في كتاب الله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) فيقول الله عزوجل : سلوني ، فيقولون : ماذا نسألك أي رب؟ قال : بلى سلوني ، قالوا : نسألك أي رب رضاك ، قال : رضائي أحلكم دار كرامتي ، قالوا : يا رب فما الذي نسألك ، فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك لو قسمت علينا رزق الثقلين لأطعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم ولأخدمناهم لا ينقصنا ذلك شيئا. قال تعالى إن لدي مزيدا ، قال : فيفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه ، قال : ثم تأتيهم التحف من الله عزوجل ، تحملهم إليهم الملائكة ، ثم ذكر نحوه.

وهذا خبر غريب ، أورده ابن جرير من طرق ، والله أعلم.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (٦٢)

يقول تعالى مخبرا عما يؤول إليه الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) [يونس : ٢٨] وقال عزوجل : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣] أي يصيرون صدعين فرقتين (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ)

__________________

(١) كتاب المقدمة باب ١٣.

(٢) تفسير الطبري ١٠ / ٤٥٦.

٥١٩

[الصافات : ٢٢ ـ ٢٣].

وقوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم ، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين ، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم ، ولهذا قال تعالى : (وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان ، وأمرتكم بعبادتي ، وهذا هو الصراط المستقيم ، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ولهذا قال عزوجل : (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً) يقال : جبلا بكسر الجيم وتشديد اللام ، ويقال جبلا بضم الجيم والباء وتخفيف اللام ، ومنهم من يسكن الباء ، والمراد بذلك الخلق الكثير ، قاله مجاهد وقتادة والسدي وسفيان بن عيينة.

وقوله تعالى : (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له ، وعدو لكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج (١) : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا كان يوم القيامة ، أمر الله تعالى جهنم ، فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) فيتميز الناس ويجثون ، وهي التي يقول الله عزوجل : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٨].

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٦٥) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) (٦٧)

يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعا وتوبيخا (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذه التي حذرتكم الرسل ، فكذبتموهم (اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) كما قال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) [الطور : ١٣ ـ ١٥]. وقوله تعالى : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترحوه في الدنيا ، ويحلفون ما فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ويستنطق

__________________

(١) تفسير الطبري ١٠ / ٤٥٦.

٥٢٠